شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢
الجزء ١ الجزء ٢

وعلى الثاني فالفتحة للتركيب ، والأصل : ولا تضجرن بنون التوكيد الخفيفة فحذفت للضرورة ، و «لا» ناهية ، والعطف مثله في قوله تعالى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [النساء : ٣٦].

الثاني : أنه يجوز تصديرها بدليل استقبال ، كالتنفيس في قوله [من الوافر] :

٥٠٧ ـ وما أدري وسوف إخال أدري

[أقوم آل حصن أم نساء](١)

وأما قول الحوفي في (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات : ٩٩] : إن الجملة حاليّة فمردود ، وك «لن» في (وَلَنْ تَفْعَلُوا) [البقرة : ٢٤] ، وكالشّرط في (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) [محمد : ٢٢] ، (قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) [البقرة : ٢٤٦] ، (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) [النساء : ١٠٢] ، (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الأنعام : ١٥] ، (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً) [المزمل : ١٧] ، (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها) [الواقعة : ٨٦ ـ ٨٧] ، وإنما جاز «لأضربنه إن ذهب وإن مكث» ؛ لأن المعنى لأضربنه على كلّ حال ، إذ لا يصحّ أن يشترط وجود الشيء وعدمه لشيء واحد.

والثالث : أنه يجوز اقترانها بالفاء ، كقوله [من الكامل] :

٥٠٨ ـ واعلم فعلم المرء ينفعه

أن سوف يأتي كلّ ما قدرا (٢)

وكجملة (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) [النساء : ١٣٥] في قول وقد مضى ، وكجملة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٣) [الرحمن : ٣٨] الفاصلة بين (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً) [الرحمن : ٣٧] وبين الجواب وهو (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ) [الرحمن : ٣٩] ، والفاصلة بين (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) (٦٢) [الرحمن : ٦٢] وبين (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) (٧٠) [الرحمن : ٧٠] وبين صفتيهما ، وهي (مُدْهامَّتانِ) (٦٤) [الرحمن : ٧٤] في الأولى (حُورٌ مَقْصُوراتٌ) [الرحمن : ٧٢] في الثانية ، ويحتملان تقدير مبتدأ ، فتكون الجملة إما صفة وإما مستأنفة.

الرابع : أنه لا يجوز اقترانها بالواو مع تصديرها بالمضارع المثبت ، كقول المتنبي [من المنسرح] :

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في الدرر ٤ / ٣٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٢٨٨ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٣٧٧ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٣١٣.

٣٠١

٥٠٩ ـ يا حاديي عيرها ، وأحسبني

أوجد ميتا قبيل أفقدها (١)

٥١٠ ـ قفا قليلا بها عليّ ، فلا

أقلّ من نظرة أزوّدها (٢)

قوله «أفقدها» على إضمار «أن» ، وقوله : «أقل» يروى بالرفع والنصب.

تنبيه ـ للبيانيّين في الاعتراض اصطلاحات مخالفة لاصطلاح النحويين ، والزمخشريّ يستعمل بعضها ، كقوله تعالى : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٣] : يجوز أن يكون حالا من فاعل (نَعْبُدُ) [البقرة : ١٣٣] أو من مفعوله ؛ لاشتمالها على ضميريهما ، وأن تكون معطوفة على (نَعْبُدُ ،) وأن تكون اعتراضيّة مؤكّدة ، أي : من حالنا أنا مخلصون له التوحيد ، ويردّ عليه مثل ذلك من لا يعرف هذا العلم كأبي حيّان توهّما منه أنه لا اعتراض إلّا ما يقوله النحويّ ، وهو الاعتراض بين شيئين متطالبين.

الجملة الثالثة : التفسيرية ، وهي الفضلة الكاشفة لحقيقة ما تليه ، وسأذكر لها أمثلة توضحها :

أحدها : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [الأنبياء : ٣] فجملة الاستفهام مفسّرة للنجوى ، و «هل» هنا للنفي ، ويجوز أن تكون بدلا منها إن قلنا : إن ما فيه معنى القول يعمل في الجمل ، وهو قول الكوفيين ، وأن تكون معمولة لقول محذوف ، وهو حال مثل : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤].

الثاني : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٥٩) [آل عمران : ٥٩] ، فـ «خلقه» وما بعده تفسير لـ «مثل آدم» ، لا باعتبار ما يعطيه ظاهر لفظ الجملة من كونه قدّر جسدا من طين ثم كون ، بل باعتبار المعنى ، أي : إن شأن عيسى كشأن آدم في الخروج عن مستمر العادة وهو التولّد بين أبوين.

والثالث : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [الصف : ١٠ ـ ١١] ، فجملة «تؤمنون» تفسير لـ «التجارة» ، وقيل : مستأنفة معناها الطلب ، أي آمنوا ، بدليل (يَغْفِرْ) [الصف : ١٢] بالجزم ، كقولهم : «اتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه» أي : ليتق الله وليفعل يثب ، وعلى الأول فالجزم في جواب الاستفهام ، تنزيلا للسبب وهو الدلالة منزلة المسبب وهو الامتثال.

__________________

(١) البيت من المنسرح ، وهو للمتنبي في ديوانه ٢ / ١٨.

(٢) البيت من المنسرح ، وهو للمتنبي في ديوانه ٢ / ١٩ ، وتاج العروس مادة / لا /.

٣٠٢

الرابع : (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) [البقرة : ٢١٤] وجوّز أبو البقاء كونها حاليّة على إضمار «قد» ، والحال لا تأتي من المضاف إليه في مثل هذا.

الخامس : (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنعام : ٢٥] إن قدّرت «إذا» غير شرطيّة ، فجملة القول تفسير لـ «يجادلونك» ، وإلا فهي جواب ، «إذا» ، وعليهما فـ «يجادلونك» حال.

* * *

تنبيه ـ المفسّرة ثلاثة أقسام : مجرّدة من حرف التفسير كما في الأمثلة السابقة ، ومقرونة بـ «أي» ، كقوله [من الطويل] :

٥١١ ـ وترمينني بالطّرف أي أنت مذنب

[وتقلينني لكنّ إيّاك لا أقلي](١)

ومقرونة بـ «أن» نحو : (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ) [المؤمنون : ٢٧] ، وقولك : «كتبت إليه أن افعل» إن لم تقدّر الباء قبل «أن».

السادس : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) [يوسف : ٣٥] فجملة «ليسجننّه» قيل : هي مفسّرة للضمير في «بدا» الراجع إلى البداء المفهوم منه ، والتحقيق أنها جواب لقسم مقدّر ، وأنّ المفسّر مجموع الجملتين ، ولا يمنع من ذلك كون القسم إنشاء ؛ لأنّ المفسّر هنا هو المعنى المتحصّل من الجواب ، وهو خبريّ لا إنشائيّ ، وذلك المعنى هو سجنه عليه الصلاة والسّلام ؛ فهذا هو البداء الذي بدا لهم.

ثم اعلم أنه لا يمتنع كون الجملة الإنشائيه مفسّرة بنفسها ، ويقع ذلك في موضعين : أحدهما : أن يكون المفسّر إنشاء أيضا ، نحو : «أحسن إلى زيد أعطه ألف دينار».

والثاني : أن يكون مفردا مؤدّيا معنى جملة ، نحو : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [الأنبياء : ٣] الآية.

وإنما قلنا فيما مضى إنّ الاستفهام مراد به النفي تفسيرا لما اقتضاه المعنى وأوجبته الصّناعة لأجل الاستثناء المفرّغ ، لا أن التفسير أوجب ذلك. ونظيره : «بلغني عن زيد كلام والله لأفعلنّ كذا».

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في تذكرة النحاة ص ٢٣ ، والجنى الداني ص ٢٣٣ ، وجواهر الأدب ص ٢١٨ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٥٥ ، والدرر ٤ / ٣١.

٣٠٣

ويجوز أن يكون (لَيَسْجُنُنَّهُ) [يوسف : ٣٥] جوابا لـ «بدا» ، لأنّ أفعال القلوب لإفادتها التحقيق تجاب بما يجاب به القسم ، قال [من الكامل] :

٥١٢ ـ ولقد علمت لتأتينّ منيّتي

[إنّ المنايا لا تطيش سهامها](١)

وقال الكوفيّون : الجملة فاعل ، ثم قال هشام وثعلب وجماعة : يجوز ذلك في كلّ جملة نحو : «يعجبني تقوم». وقال الفراء وجماعة : جوازه مشروط بكون المسند إليها قلبيّا ، وباقترانها بأداة معلّقة ، نحو : «ظهر لي أقام زيد» ، و «علم هل قعد عمرو» وفيه نظر ؛ لأن أداة التّعليق بأن تكون مانعة أشبه من أن تكون مجوّزة ، وكيف تعلق الفعل عما هو منه كالجزء؟ وبعد فعندي أن المسألة صحيحة ، ولكن مع الاستفهام خاصّة دون سائر المعلّقات ، وعلى أن الإسناد إلى مضاف محذوف لا إلى الجملة الأخرى ؛ ألا ترى أنّ المعنى ظهر لي جواب «أقام زيد» ، أي جواب قول القائل ذلك؟ وكذلك في «علم أقعد عمرو» وذلك لا بدّ من تقديره دفعا للتناقض ؛ إذ ظهور الشيء والعلم به منافيان للاستفهام المقتضي للجهل به.

فإن قلت : ليس هذا مما تصحّ فيه الإضافة إلى الجمل.

قلت : قد مضى لنا عن قريب أن الجملة التي يراد بها اللفظ يحكم لها بحكم المفردات.

السّابع : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) [البقرة : ١١] زعم ابن عصفور أن البصريّين يقدّرون نائب الفاعل في «قيل» ضمير المصدر ، وجملة النهي مفسّرة لذلك الضمير ، وقيل : الظّرف نائب عن الفاعل ؛ فالجملة في محل نصب ، ويردّ بأنه لا تتم الفائدة بالظّرف ، وبعدمه في (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) [الجاثية : ٣٢] والصواب أن النائب الجملة ؛ لأنها كانت قبل حذف الفاعل منصوبة بالقول ؛ فكيف انقلبت مفسرة؟ والمفعول به متعيّن للنيابة ، وقولهم الجملة لا تكون فاعلا ولا نائبا عن جوابه أنّ التي يراد بها لفظها يحكم لها بحكم المفردات ، ولهذا تقع مبتدأ ، نحو : «لا حول ولا قوّة إلّا بالله كنز من كنوز الجنّة» ، وفي المثل «زعموا مطيّة الكذب» ومن هنا لم يحتج الخبر إلى رابط في نحو : «قولي لا إله إلا الله» كما لا يحتاج إليه الخبر المفرد الجامد.

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ٣٠٨ ، وتخليص الشواهد ص ٤٥٣ ، وخزانة الأدب ٩ / ١٥٩ ـ ١٦١ ، والدرر ٢ / ٢٦٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٢٨.

٣٠٤

الثامن : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (٩) [المائدة : ٩] لأنّ «وعد» يتعدّى لاثنين ، وليس الثاني هنا : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) [المائدة : ٩] لأن ثاني مفعولي «كسا» لا يكون جملة ، بل هو محذوف ، والجملة مفسّرة له ، وتقديره : خيرا عظيما أو الجنة ؛ وعلى الثّاني فوجه التّفسير إقامة السّبب مقام المسبّب ، إذ الجنّة مسببّة عن استقرار الغفران والأجر.

وقولي في الضابط «الفضلة» احترزت به عن الجملة المفسّرة لضمير الشأن ، فإنها كاشفة لحقيقة المعنى المراد به ، ولها موضع بالإجماع ، لأنها خبر في الحال أو في الأصل ، وعن الجملة المفسّرة في باب الاشتغال في نحو : «زيدا ضربته» ، فقد قيل : إنها تكون ذات محلّ كما سيأتي ، وهذا القيد أهملوه ولا بدّ منه.

مسألة ـ قولنا إنّ الجملة المفسّرة لا محلّ لها خالف فيه الشّلوبين ، فزعم أنها بحسب ما تفسّره ؛ فهي في نحو : «زيدا ضربته» لا محلّ لها ، وفي نحو : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٤٩) [القمر : ٤٩] ، ونحو : «زيد الخبز يأكله» بنصب «الخبز» ـ في محل رفع ، ولهذا يظهر الرفع إذا قلت آكله ، وقال [من الطويل] :

٥١٣ ـ فمن نحن نؤمنه يبت وهو آمن

[ومن لا نجره يمس منّا مفزّعا](١)

فظهر الجزم ، وكأن الجملة المفسّرة عنده عطف بيان أو بدل ، ولم يثبت الجمهور وقوع البيان والبدل جملة ، وقد بيّنت أن جملة الاشتغال ليست من الجمل التي تسمّى في الاصطلاح جملة مفسّرة وإن حصل فيها تفسير ، ولم يثبت جواز حذف المعطوف عليه عطف البيان ، واختلف في المبدل منه. وفي البغداديات لأبي علي أن الجزم في ذلك بأداة شرط مقدّرة ، فإنه قال ما ملخّصه : إن الفعل المحذوف والفعل المذكور في نحو قوله [من الكامل] :

٥١٤ ـ لا تجزعي إن منفسا أهلكته

[فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي](٢)

مجزومان في التقدير ، وإنّ انجزام الثاني ليس على البدليّة ، إذ لم يثبت حذف المبدل منه ، بل على تكرير «إن» ، أي : إن أهلكت منفسا إن أهلكته ؛ وساغ إضمار «إن» ،

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لهشام المري في خزانة الأدب ٩ / ٣٨ ، والدرر ٥ / ٧٧ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٨٩ ، وبلا نسبة في الإنصاف ٢ / ٦١٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٢٩.

(٢) البيت من الكامل ، وهو للنمر بن تولب في ديوانه ص ٧٢ ، وتخليص الشواهد ص ٤٩٩ ، وخزانة الأدب ١ / ٣١٤ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٧٢ ، ولة نسبة في الأزهية ص ٢٤٨.

٣٠٥

وإن لم يجز إضمار لام الأمر إلا ضرورة لاتّساعهم فيها ، بدليل إيلائهم إيّاها الاسم ، ولأن تقدّمها مقوّ للدّلالة عليها ، ولهذا أجاز سيبويه «بمن تمرر أمرر» ، ومنع «من تضرب أنزل» لعدم دليل على المحذوف ، وهو عليه ، حتى تقول «عليه» ، وقال فيمن قال : «مررت برجل صالح إن لا صالح فطالح» بالخفض : إنه أسهل من إضمار «ربّ» بعد الواو ؛ وربّ شيء يكون ضعيفا ثم يحسن للضرورة كما في «ضرب غلامه زيدا» ، فإنه ضعيف جدّا ، وحسن في نحو : «ضربوني وضربت قومك» ، واستغن بجواب الأول عن جواب الثانية كما استغني في نحو : «أزيدا ظننته قائما» بثاني مفعولي «ظننت» المذكورة عن ثاني مفعولي «ظننت» المقدّرة.

الجملة الرابعة : المجاب بها القسم ، نحو : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [يس : ٢ ـ ٣] ، ونحو : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء : ٥٧] ، ومنه (لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) [الهمزة : ٤] ، (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) [الأحزاب : ١٥] ، يقدّر لذلك ولما أشبهه القسم.

وممّا يحتمل جواب القسم (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] وذلك بأن تقدر الواو عاطفة على (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ) [مريم : ٧٠] ، فإنّه وما قبله أجوبة لقوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) [مريم : ٦٨] ، وهذا مراد ابن عطيّة من قوله : هو قسم ، والواو تقتضيه ، أي : هو جواب قسم ، والواو هي المحصّلة لذلك لأنها عاطفة ؛ وتوهّم أبو حيان عليه ما لا يتوهّم على صغار الطّلبة ، وهو أن الواو حرف قسم ، فردّ عليه بأنه يلزم منه حذف المجرور وبقاء الجار ، وحذف القسم مع كون الجواب منفيّا بـ «إن».

تنبيه ـ من أمثلة جواب القسم ما يخفى ، نحو : (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) (٣٩) [القلم : ٣٩] ، (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) [البقرة : ٨٣] ، (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) [البقرة : ٨٤] ، وذلك لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف ، قاله كثيرون منهم الزجّاج ، ويوضحه (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١٨٧]. وقال الكسائي والفرّاء ومن وافقهما : التقدير : بأن لا تعبدوا إلا الله ، وبأن لا تسفكوا ، ثم حذف الجارّ ، ثم «أن» فارتفع الفعل ؛ وجوّز الفرّاء أن يكون الأصل النّهي ، ثم أخرج مخرج الخبر ، ويؤيّده أن بعده (وَقُولُوا) [البقرة : ٨٣] (وَأَقِيمُوا) [البقرة : ٨٣] (وَآتُوا) [البقرة : ٨٤].

ومما يحتمل الجواب وغيره قول الفرزدق [من الطويل] :

٣٠٦

٥١٥ ـ تعشّ فإن عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (١)

فجملة النفي إمّا جواب لعاهدتني كما قال [من الطويل] :

٥١٦ ـ أرى محرزا عاهدته ليوافقن

فكان كمن أغريته بخلاف (٢)

فلا محل لها ، أو حال من الفاعل أو المفعول أو كليهما فمحلّها النصب ، والمعنى شاهد للجوابيّة ، وقد يحتجّ للحاليّة بقوله أيضا [من الطويل] :

٥١٧ ـ ألم ترني عاهدت ربّي ، وإنني

لبين رتاج قائما ومقام

٥١٨ ـ على حلفة لا أشتم الدّهر مسلما

ولا خارجا من فيّ زور كلام (٣)

وذلك أنه عطف «خارجا» على محلّ جملة «لا أشتم» ، فكأنّه قال : «حلفت غير شاتم ولا خارجا» ، والذي عليه المحقّقون أن «خارجا» مفعول مطلق ، والأصل : ولا يخرج خروجا ، ثم حذف الفعل وأناب الوصف عن المصدر ، كما عكس في قوله تعالى : (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) [الملك : ٣٠] لأن المراد أنه حلف بين باب الكعبة وبين مقام إبراهيم أنه لا يشتم مسلما في المستقبل ولا يتكلّم بزور ، لا أنه حلف في حال اتّصافه بهذين الوصفين على شيء آخر.

مسألة ـ قال ثعلب : لا تقع جملة القسم خبرا ، فقيل في تعليله : لأن نحو «لأفعلنّ» لا محل له ، فإذا بني على مبتدأ فقيل : «زيد ليفعلن» صار له موضع ، وليس بشيء ، لأنه إنّما منع وقوع الخبر جملة قسميّة ، لا جملة هي جواب القسم ، ومراده أن القسم وجوابه لا يكونان خبرا ، إذ لا تنفكّ إحداهما عن الأخرى ؛ وجملتا القسم والجواب يمكن أن يكون لهما محلّ من الإعراب ، كقولك : «قال زيد أقسم لأفعلنّ» ، وإنما المانع عنده إمّا كون جملة القسم لا ضمير فيها فلا تكون خبرا ، لأنّ الجملتين ههنا ليستا كجملتي الشرط والجزاء ؛ لأن الجملة الثانية ليست معمولة لشيء من الجملة الأولى ، ولهذا منع بعضهم وقوعها صلة ؛ وإمّا كون الجملة ـ أعني جملة القسم ـ إنشائية ، والجملة الواقعة خبرا لا

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ٢ / ٣٢٩ ، وتخليص الشواهد ص ١٤٢ ، والدرر ١ / ٢٨٤ ، وبلا نسبة في الخصائص ٢ / ٤٢٢ ، وشرح الأشموني ١ / ٦٩ ، ولسان العرب مادة (منه).

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو للفرزدق في موصل الطلاب ص ٦٧.

(٣) البيتان من الطويل ، وهما للفرزدق في ديوانه ٢ / ٢١٢ ، وأمالي المرتضى ١ / ٦٣ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٢٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ١٧٠.

٣٠٧

بدّ من احتمالها للصّدق والكذب ، ولهذا منع قوم من الكوفيين ـ منهم ابن الأنباري ـ أن يقال : «زيد اضربه وزيد هل جاءك!».

وبعد فعندي أن كلّا من التعليلين ملغى.

أما الأول فلأنّ الجملتين مرتبطتان ارتباطا صارتا به كالجملة الواحدة وإن لم يكن بينهما عمل. وزعم ابن عصفور أن السّماع قد جاء بوصل الموصول بالجملة القسمية وجوابها ، وذلك قوله تعالى : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) [هود : ١١١] ، قال : فـ «ما» موصولة لا زائدة ، وإلّا لزم دخول اللّام على اللام ، انتهى. وليس بشيء ، لأن امتناع دخول اللام على اللام إنّما هو لأمر لفظيّ ، وهو ثقل التكرار ، والفاصل يزيله ولو كان زائدا ، ولهذا اكتفى بالألف فاصلة بين النونات في «اذهبنانّ» وبين الهمزتين في (أَأَنْذَرْتَهُمْ) [البقرة : ٦] وإن كانت زائدة ، وكان الجيد أن يستدلّ بقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ) [النساء : ٧٢] ، فإن قيل : تحتمل «من» الموصوفيّة ، أي : لفريقا ليبطئن ، قلنا : وكذا ما في الآية ، أي : لقوم ليوفينهم ؛ ثم إنه لا يقع صفة إلا ما يقع صلة فالاستدلال ثابت وإن قدّرت صفته ؛ فإن قيل : فما وجهه والجملة الأولى إنشائية؟ قلت : جاز لأنها غير مقصودة ، وإنّما المقصود جملة الجواب ، وهي خبريّة ، ولم يؤت بجملة القسم إلا لمجرّد التوكيد ، لا للتأسيس.

وأما الثاني فلأن الخبر الذي شرطه احتمال الصّدق والكذب الخبر الذي هو قسيم الإنشاء ، لا خبر المبتدأ ، للاتفاق على أن أصله الإفراد ، واحتمال الصدق والكذب إنما هو من صفات الكلام ، وعلى جواز «أين زيد؟ وكيف عمرو؟» وزعم ابن مالك أن السّماع ورد بما منعه ثعلب ، وهو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) (٩) [العنكبوت : ٩] ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) [العنكبوت : ٥٨] ، (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ) [العنكبوت : ٦٩] ، وقوله [من الكامل] :

٥١٩ ـ جشأت فقلت: اللّذ خشيت ليأتين

[وإذا أتاك فلات حين مناص](١)

وعندي لما استدلّ به تأويل لطيف ، وهو أن المبتدأ في ذلك كلّه ضمن معنى الشرط ، وخبره منزل منزلة الجواب ؛ فإذا قدّر قبله قسم كان الجواب له ؛ وكان خبر

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٠.

٣٠٨

المبتدأ المشبه لجواب الشرط محذوفا ، للاستغناء بجواب القسم المقدّر قبله ؛ ونظيره في الاستغناء بجواب القسم المقدّر قبل الشرط المجرّد من لام التوطئة نحو : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَ) [المائدة : ٧٣] التقدير : والله ليمسّ لئن لم ينتهوا يمسّنّ.

تنبيه ـ وقع لمكي وأبي البقاء وهم في جملة الجواب فأعرباها إعرابا يقتضي أن لها موضعا.

فأما مكي فقال في قوله تعالى : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ) [الأنعام : ١٢] إنّ «ليجمعنكم» بدل من «الرحمة» ، وقد سبقه إلى هذا الإعراب غيره ، ولكنّه زعم أن اللام بمعنى «أن» المصدريّة ، وأنّ من ذلك : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) [يوسف : ٣٥] أي : أن يسجنوه ، ولم يثبت مجيء اللّام مصدريّة ؛ وخلط مكي فأجاز البدليّة مع قوله : إنّ اللام لام جواب القسم ، والصواب أنّها لام الجواب ، وأنها منقطعة مما قبلها إن قدّر قسم ، أو متّصلة به اتصال الجواب بالقسم إن أجري «بدا» مجرى «أقسم» كما أجري «علم» في قوله [من الكامل] :

٥٢٠ ـ ولقد علمت لتأتينّ منيّتي

إنّ المنايا لا تطيش سهامها (١)

وأمّا أبو البقاء فإنه قال في قوله : (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) [آل عمران : ٨١] الآية ، من فتح اللام ففي «ما» وجهان :

أحدهما : أنها موصولة مبتدأ ، والخبر إما (مِنْ كِتابٍ) أي : للذي آتيتكموه من الكتاب ، أو (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) [آل عمران : ٨١] ، واللام جواب القسم لأن أحد الميثاق قسم ، و (جاءَكُمْ) عطف على (آتَيْتُكُمْ ،) والأصل ثم جاءكم به ، فحذف عائد «ما» ، أو الأصل مصدّق له ، ثم ناب الظّاهر عن المضمر ، أو العائد ضمير «استقر» الذي تعلّقت به «مع».

والثاني : أنّها شرطيّة ، واللام موطّئة ، وموضع «ما» نصب بـ «آتيت» ، والمفعول الثاني ضمير المخاطب ، و (مِنْ كُتُبٍ) مثل : (مِنْ آيَةٍ) في (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦] ا ه. ملخصا ، وفيه أمور :

أحدها : أن إجازته كون (مِنْ كُتُبٍ) خبرا فيه الإخبار عن الموصول قبل كمال صلته ، لأن (ثُمَّ جاءَكُمْ) عطف على الصلة.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٣٠٩

الثاني : أن تجويزه كون (لَتُؤْمِنُنَ) خبرا مع تقديره إيّاه جوابا لأخذ الميثاق يقتضي أن له موضعا ، وأنه لا موضع له ، وإنما كان حقّه أن يقدّره جوابا لقسم محذوف ، ويقدر الجملتين خبرا ؛ وقد يقال : إنما أراد بقوله : «اللام جواب القسم لأن أخذ الميثاق قسم» أن أخذ الميثاق دالّ على جملة قسم مقدّرة ، ومجموع الجملتين الخبر ، وإنما سمّي (لَتُؤْمِنُنَ) خبرا لأنه الدالّ على المقصود بالأصالة ، لا أنه وحده هو الخبر بالحقيقة ، وأنه لا قسم مقدر ، بل أخذ ميثاق النبيّين هو جملة القسم ، وقد يقال : لو أراد هذا لم يحصر الدليل فيما ذكره ؛ للاتفاق على أنّ وجود المضارع مفتتحا بلام مفتوحة مختتما بنون مؤكّدة دليل قاطع على القسم ، وإن لم يذكر معه أخذ الميثاق أو نحوه.

والثالث : أن تجويزه كون العائد ضمير «استقر» يقتضي عود ضمير مفرد إلى شيئين معا ؛ فإنه عائد إلى الموصول.

والرابع : أنه جوّز حذف العائد المجرور مع أنّ الموصول غير مجرور ، فإن قيل : اكتفى بكلمة «به» الثانية فيكون كقوله [من الكامل] :

٥٢١ ـ ولو أنّ ما عالجت لين فؤادها

فقسا استلين به للان الجندل (١)

قلنا : قد جوّز على هذا الوجه عود «به» المذكورة إلى الرسول ، لا إلى ما.

والخامس : أنه سمّي ضمير (آتَيْتُكُمْ) [آل عمران : ٨١] مفعولا ثانيا ، وإنما هو مفعول أول.

مسألة ـ زعم الأخفش في قوله [من الطويل] :

٥٢٢ ـ إذا قال: قدني ، قال : بالله حلفة

لتغني عنّي ذا إنائك أجمعا (٢)

أنّ «لتغني» جواب القسم ، وكذا قال في : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [الأنعام : ١١٣] لأن قبله (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) [الأنعام : ١١٢] الآية ، وليس فيه ما يكون (وَلِتَصْغى) معطوفا عليه ، والصواب خلاف قوله ؛ لأن الجواب لا يكون إلا

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو للأحوص في ديوانه ص ١٦٧ ، وخزانة الأدب ٢ / ٤٩ ، وبلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٠.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لحريث بن عناب في خزانة الأدب ١١ / ٤٣٤ ، والدرر ٤ / ٢١٧ ، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ١٠٧ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٥٩.

٣١٠

جملة ، ولام «كي» وما بعدها في تأويل المفرد ، وأمّا ما استدلّ به فمتعلّق اللام فيه محذوف ، أي : لتشربنّ لتغني عني ، وفعلنا ذلك لتصغي.

الجملة الخامسة : الواقعة جوابا لشرط غير جازم مطلقا ، أو جازم ولم تقترن بالفاء ولا بـ «إذا» الفجائية ، فالأوّل جواب «لو» و «لولا» و «لمّا» و «كيف» ؛ والثاني ، نحو : «إن تقم أقم ، وإن قمت قمت». أما الأول فلظهور الجزم في لفظ الفعل ، وأما الثاني فلأن المحكوم لموضعه بالجزم الفعل ، لا الجملة بأسرها.

* * *

الجملة السادسة : الواقعة صلة لاسم أو حرف ، فالأول نحو : «جاء الّذي قام أبوه» فالذي في موضع رفع ، والصلة لا محل لها ؛ وبلغني عن بعضهم أنه كان يلقّن أصحابه أن يقولوا : إن الموصول وصلته في موضع كذا ، محتجّا بأنهما ككلمة واحدة ؛ والحق ما قدّمت لك ، بدليل ظهور الإعراب في نفس الموصول في نحو : «ليقم أيّهم في الدّار ، ولألزمنّ أيّهم عندك ، وامرر بأيّهم هو أفضل» وفي التنزيل (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) [فصلت : ٢٩] ، وقرىء (أَيُّهُمْ أَشَدُّ) [مريم : ٦٩] بالنصب ، وروي [من المتقارب] :

٥٢٣ ـ [إذا ما لقيت بني مالك]

فسلّم على أيّهم أفضل (١)

بالخفض ، وقال الطائي [من الطويل] :

٥٢٤ ـ [فإمّا كرام موسرون لقيتهم]

فحسبي من ذي عندهم ما كفانيا (٢)

وقال العقيلي [من الرجز] :

٥٢٥ ـ نحن الّذون صبّحوا الصّباحا

[يوم النّخيل غارة ملحاحا](٣)

وقال الهذلي [من الوافر] :

__________________

(١) البيت من المتقارب ، وهو لغسان بن وعلة في الدرر ١ / ٢٧٢ ، وشرح التصريح ١ / ١٣٥ ، وله أو لرجل من عسان في شرح شواهد المغني ١ / ٢٣٦ ، ولغسان في الإنصاف ٢ / ٧١٥ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ١٥٠ ، وتخليص الشواهد ص ١٥٨.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لمنظور بن سحيم في الدرر ١ / ٢٦٨ ، وشرح التصريح ١ / ٦٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١١٥٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٠.

(٣) البيت من الرجز ، وهو لرؤية في ملحق ديوانه ص ١٧٢ ، ولليلى الأخليلية في ديوانها ص ٦١ ، ولليلى أو لرؤبة أو لأبي حرب الأعلم في الدرر ١ / ٢٥٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٢.

٣١١

هم اللّاؤون فكّوا الغلّ عنّي (١)

والثاني نحو : «أعجبني أن ما قمت» إذا قلنا بحرفيّة «ما» المصدريّة ، وفي هذا النوع يقال : الموصول وصلته في موضع كذا ، لأن الموصول حرف فلا إعراب له لا لفظا ولا محلّا ، وأما قول أبي البقاء في (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة : ١٠] : إنّ «ما» مصدرية وصلتها (يَكْذِبُونَ) وحكمه مع ذلك بأن «يكذبون» في موضع نصب خبرا لـ «كان» ، فظاهره متناقض ، ولعل مراده أن المصدر إنما ينسبك من «ما» و «يكذبون» ، لا منها ومن «كان» ، بناء على قول أبي العباس وأبي بكر وأبي علي وأبي الفتح وآخرين : إن «كان» الناقصة لا مصدر لها.

* * *

الجملة السابعة : التابعة لما لا محلّ له ، نحو : «قام زيد ولم يقم عمرو» إذا قدرت الواو عاطفة ، لا واو الحال.

الجمل التي لها محل من الإعراب

الجملة الأولى : الواقعة خبرا ، وموضعها رفع في بابي المبتدأ و «إنّ» ، ونصب في بابي «كان» و «كاد» ؛ واختلف في نحو : «زيد اضربه» ، و «عمرو هل جاءك» فقيل : محل الجملة التي بعد المبتدأ رفع على الخبريّة ، وهو صحيح ، وقيل : نصب بقول مضمر هو الخبر ، بناء على أن الجملة الإنشائيّة لا تكون خبرا ، وقد مرّ إبطاله.

الجملة الثانية : الواقعة حالا ، وموضعها نصب ، ونحو : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (٦) [المدثر : ٦] ، ونحو : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] ، (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) (١١١) [الشعراء : ١١١] ، ومنها : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٢) [الأنبياء : ٢] ، فجملة «استمعوه» حال من مفعول «يأتيهم» ، أو من فاعل ، وقرىء (مُحْدَثٍ) لأن الذكر مختص بصفته مع أنه قد سبق بالنفي ؛ فالحالان على الأول ـ وهو أن يكون «استمعوه» حالا من مفعول «يأتيهم» ـ مثلها في قولك : «ما لقي الزّيدين عمرو مصعدا إلّا منحدرين» وعلى الثاني ـ وهو أن يكون جملة «استمعوه» حالا من فاعل «يأتيهم» ـ مثلهما في قولك : «ما لقي الزّيدين عمرو راكبا إلّا ضاحكا» ، وأما (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) فحال من فاعل (اسْتَمَعُوهُ ،) فالحالان متداخلتان ، و «لاهية» : حال من

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو للهذلي في الأزهية ص ٣٠٠ ، وبلا نسبة في الدرر ١ / ١٦٤.

٣١٢

فاعل (يَلْعَبُونَ ،) وهذا من التداخل أيضا ، أو من فاعل (اسْتَمَعُوهُ) ، فيكون من التعدّد لا من التداخل.

ومن مثل الحاليّة أيضا قوله عليه الصّلاة والسّلام : «أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد» ، وهو من أقوى الأدلّة على أن انتصاب «قائما» في «ضربي زيدا قائما» على الحال ، لا على أنه خبر لـ «كان» محذوفة ، إذ لا يقترن الخبر بالواو ؛ وقولك : «ما تكلّم فلان إلّا قال خيرا» ، كما تقول : «ما تكلّم إلا قائلا خيرا» ، وهو استثناء مفرّغ من أحوال عامّة محذوفة ، وقول الفرزدق [من الطويل] :

٥٢٦ ـ بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم

ولم تكثر القتلى بها حين سلّت (١)

لأن تقدير العطف مفسد للمعنى ، وقول كعب رضي‌الله‌عنه [من البسيط] :

٥٢٧ ـ [شجّت بذي شبم من ماء محنية]

ضاف بأبطح أضحى وهو مشمول (٢)

و «أضحى» تامة.

الجملة الثالثة : الواقعة مفعولا ، ومحلّها النّصب إن لم تنب عن فاعل ، وهذه النيابة مختصّة بباب القول ، نحو : (ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (١٧) [المطففين : ١٧] لما قدّمناه من أن الجملة التي يراد بها لفظها تنزل منزلة الأسماء المفردة.

قيل : وتقع أيضا في الجملة المقرونة بمعلّق ، نحو : «علم أقام زيد» ، وأجاز هؤلاء وقوع هذه فاعلا ، وحملوا عليه (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) [إبراهيم : ٤٥] ، (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا) [السجدة : ٢٦] ، (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) [يوسف : ٣٥] والصّواب خلاف ذلك ، وعلى قول هؤلاء فيزداد في الجمل التي لها محلّ الجملة الواقعة فاعلا.

فإن قلت : وينبغي زيادتها على ما قدّمت اختياره من جواز ذلك مع الفعل القلبيّ المعلّق بالاستفهام فقط ، نحو : «ظهر لي أقام زيد».

قلت : إنما أجزت ذلك على أن المسند إليه مضاف محذوف ، لا الجملة.

وتقع الجملة مفعولا في ثلاثة أبواب :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ص ٣١٩ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٢٢ ، وشرح شواهد المغني ص ٧٧٨ ، ولسان العرب ١٢ / ٣٣٠ مادة / شيم /.

(٢) البيت من البسيط ، وهو لكعب بن زهير في ديوانه ص ٦١ ، ولسان العرب ١١ / ٣٦٧ مادة / شمل /.

٣١٣

أحدها : باب الحكاية بالقول أو مرادفه :

فالأول نحو : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ) [مريم : ٣٠] ، وهل هي مفعول به أو مفعول مطلق نوعيّ كـ «القرفصاء» في «قعد القرفصاء» ، إذ هي دالّة على نوع خاصّ من القول؟ فيه مذهبان ، ثانيهما اختيار ابن الحاجب ، قال : والذي غرّ الأكثرين أنهم ظنّوا أن تعلّق الجملة بـ «القول» كتعلّقها بـ «علم» في «علمت لزيد منطلق» ، وليس كذلك ، لأن الجملة نفس القول ، والعلم غير المعلوم فافترقا ، ا ه.

والصواب قول الجمهور ، إذ يصحّ أن يخبر عن الجملة بأنها مقولة كما يخبر عن زيد من «ضربت زيدا» بأنه مضروب ، بخلاف «القرفصاء» في المثال ، فلا يصحّ أن يخبر عنها بأنها مقعودة ؛ لأنها نفس القعود وأما تسمية النحويّين الكلام قولا فكتسميتهم إيّاه لفظا ، وإنما الحقيقة أنه مقول وملفوظ.

والثاني : نوعان : ما معه حرف التفسير ، كقوله [من الطويل] :

٥٢٨ ـ وترمينني بالطّرف أي أنت مذنب

وتقلينني ، لكنّ إيّاك لا أقلي (١)

وقولك : «كتبت إليه أن أفعل» إذا لم تقدّر باء الجرّ ، والجملة في هذا النوع مفسّرة للفعل فلا موضع لها ؛ وما ليس معه حرف التفسير ، نحو : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ) [البقرة : ١٣٢] ، ونحو : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) [هود : ٤٢] ، وقراءة بعضهم : (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ) [القمر : ١٠] بكسر الهمزة ، وقوله [من الرجز] :

٥٢٩ ـ رجلان من مكّة أخبرانا

إنّا رأينا رجلا عريانا (٢)

روي بكسر «إنّ» فهذه الجمل في محلّ نصب اتّفاقا ، ثم قال البصريّون : النصب بقول مقدّر ، وقال الكوفيون : بالفعل المذكور ؛ ويشهد للبصريّين التصريح بالقول في نحو : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) [هود : ٤٥] ، ونحو : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) [مريم : ٣ ـ ٤] ؛ وقول أبي البقاء في قوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١] إن الجملة الثانية في موضع

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في تذكرة النحاة ص ٢٣ ، والجنى الداني ص ٢٣٣ ، وجواهر الأدب ص ٢١٨ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٥٥ ، والدرر ٤ / ٣١.

(٢) الرجز بلا نسبة في خزانة الأدب ٩ / ١٨٣ ، والخصائص ٢ / ٣٣٨ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٣.

٣١٤

نصب بـ «يوصي» ، قال : لأن المعنى : يفرض لكم أو يشرع لكم في أمر أولادكم ، وإنما يصحّ هذا على قول الكوفيّين ؛ وقال الزمخشري : إن الجملة الأولى إجمال ، والثانية تفصيل لها ، وهذا يقتضي أنها عنده مفسّرة ولا محلّ لها ، وهو الظاهر.

تنبيهات ـ الأول : من الجمل المحكيّة ما قد يخفى ؛ فمن ذلك في المحكيّة بعد القول : (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) (٣١) [الصافات : ٣١] ، والأصل : إنكم لذائقون عذابي ، ثم عدل إلى التكلّم ، لأنهم تكلموا بذلك عن أنفسهم ، كما قال [من الطويل] :

٥٣٠ ـ ألم تر أنّي ، يوم جوّ سويقة ،

بكيت فنادتني هنيدة ما ليا (١)

والأصل ما لك ؛ ومنه في المحكيّة بعد ما فيه معنى القول : (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) (٣٨) [القلم : ٣٧ ـ ٣٨] ، أي : تدرسون فيه هذا اللفظ ، أو تدرسون فيه قولنا هذا الكلام ، وذلك إما على أن يكونوا خوطبوا بذلك في الكتاب على زعمهم ، أو الأصل : إن لهم لما يتخيرون ، ثم عدل إلى الخطاب عند مواجهتهم ، وقد قيل في قوله تعالى : (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) [الحج : ١٣] إن «يدعو» في معنى يقول ، مثلها في قول عنترة [من الكامل] :

٥٣١ ـ يدعون عنتر والرّماح كأنّها

أشطان بئر في لبان الأدهم (٢)

فيمن رواه «عنتر» بالضمّ على النّداء ، وإن (مِنْ) مبتدأ ، و (لَبِئْسَ الْمَوْلى) خبره ، وما بينهما جملة اسميّة صلة ، وجملة (مِنْ) وخبرها محكيّة بـ «يدعو» ، أي : أن الكافر يقول ذلك في يوم القيامة ؛ وقيل : «من» مبتدأ حذف خبره : أي إلهه ، وإن ذلك حكاية لما يقول في الدّنيا ، وعلى هذا فالأصل يقول : الوثن إلهه ، ثم عبّر عن الوثن بمن ضرّه أقرب من نفعه تشنيعا على الكافر.

الثاني : قد يقع بعد القول ما يحتمل الحكاية وغيرها ، نحو : «أتقول موسى في الدّار» ، فلك أن تقدّر «موسى» مفعولا أول و «في الدار» مفعولا ثانيا على إجراء القول مجرى الظن ، ولك أن تقدّرهما مبتدأ وخبرا على الحكاية كما في قوله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ٢ / ٣٦٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٣ والمنصف ٣ / ١١٧ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٨٥٣.

(٢) البيت من الكامل ، وهو لعنترة في ديوانه ص ٢١٦ ، والأغاني ٩ / ٢١٢ ، والدرر ٣ / ٥٦ وسر صناعة الإعراب ١ / ٤٠٣ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٨١.

٣١٥

وَإِسْحاقَ) [البقرة : ١٤٠] الآية ، ألا ترى أن القول قد استوفى شروط إجرائه مجرى الظنّ ومع هذا جيء بالجملة بعده محكيّة.

الثالث : قد يقع بعد القول جملة محكيّة ولا عمل للقول فيها ، وذلك نحو : «أوّل قولي إنّي أحمد الله» إذا كسرت «إنّ» ؛ لأن المعنى : أوّل قولي هذا اللفظ ، فالجملة خبر لا مفعول ، خلافا لأبي علي ، زعم أنّها في موضع نصب بالقول ، فبقي المبتدأ بلا خبر ، فقدّر «موجود» أو «ثابت» ، وهذا المقدّر يستغنى عنه ، بل هو مفسد للمعنى ؛ لأنّ «أول قولي إني أحمد الله» باعتبار الكلمات «إن» وباعتبار الحروف الهمزة ، فيفيد الكلام على تقديره الإخبار بأن ذلك الأوّل ثابت ، ويقتضي بمفهومه أن بقيّة الكلام غير ثابت ، اللهم إلا أن يقدّر «أول» زائدا ، والبصريّون لا يجيزونه ؛ وتبع الزمخشريّ أبا علي في التقدير المذكور ، والصّواب خلاف قولهما ، فإن فتحت فالمعنى حمد الله ، يعني بأي عبارة كانت.

الرابع : قد تقع الجملة بعد القول غير محكيّة به ، وهي نوعان :

(١) محكيّة بقول آخر محذوف ، كقوله تعالى : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) [الأعراف : ١٠٩ ـ ١١١] بعد (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) (١٠٩) [الأعراف : ١٠٩] ، لأنّ قولهم تمّ عند قوله : (مِنْ أَرْضِكُمْ) [الأعراف : ١١٠] ، ثم التقدير : «فقال فرعون» ، بدليل (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ) [الأعراف : ١١١] ، وقول الشاعر [من الرجز] :

٥٣٢ ـ قالت له ، وهو بعيش ضنك ،

لا تكثري لومي وخلّي عنك (١)

التقدير : قالت له : أتذكر قولك لي إذ ألومك في الإسراف في الإنفاق ، لا تكثري لومي ، فحذف المحكيّة بالمذكور ، وأثبت المحكيّة بالمحذوف.

(٢) وغير محكيّة ، وهي نوعان : دالّة على المحكيّة ، كقولك : «قال زيد لعمرو في حاتم أتظنّ حاتما بخيلا» فحذف المقول ، وهو «حاتم بخيل» مدلولا عليه بجملة الإنكار التي هي من كلامك دونه ؛ وليس من ذلك قوله تعالى : (قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا) [يونس : ٧٧] وإن كان الأصل ، والله أعلم : أتقولون للحقّ لما جاءكم هذا سحر ، ثم حذفت مقالتهم مدلولا عليها بجملة الإنكار ؛ لأن جملة الإنكار هنا محكيّة بالقول الأول ، وإن لم تكن محكية بالقول الثاني ، وغير دالّة عليه نحو : (وَلا يَحْزُنْكَ

__________________

(١) الرجز بلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٤.

٣١٦

قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [يونس : ٦٥] ، وقد مرّ البحث فيها.

الخامس : قد يوصل بالمحكيّة غير محكيّ ، وهو الذي يسمّيه المحدّثون مدرجا ، ومنه (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل : ٣٤] بعد حكاية قولها ، وهذه الجملة ونحوها مستأنفة لا يقدّر لها قول.

الباب الثاني من الأبواب التي تقع فيها الجملة مفعولا : باب «ظنّ» و «أعلم» ؛ فإنها تقع مفعولا ثانيا لـ «ظنّ» وثالثا لـ «أعلم» ، وذلك لأن أصلهما الخبر ، ووقوعه جملة سائغ كما مرّ ، وقد اجتمع وقوع خبري «كان» و «إنّ» والثاني من مفعولي باب «ظنّ» جملة في قول أبي ذؤيب [من الطويل] :

٥٣٣ ـ فإن تزعميني كنت أجهل فيكم

فإنّي شريت الحلم بعدك بالجهل (١)

الباب الثالث : باب التّعليق ، وذلك غير مختص بباب «ظنّ» ، بل هو جائز في كلّ فعل قلبيّ ، ولهذا انقسمت هذه الجملة إلى ثلاثة أقسام :

أحدها : أن تكون في موضع مفعول مقيّد بالجار ، نحو : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) [الأعراف : ١٨٤] ، (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً) [الكهف : ١٩] ، (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) (١٢) [الذاريات : ١٢] ، لأن يقال : فكرت فيه ، وسألت عنه ، ونظرت فيه ، ولكن علقت هنا بالاستفهام عن الوصول في اللفظ إلى المفعول ، وهي من حيث المعنى طالبة له ، على معنى ذلك الحرف.

وزعم ابن عصفور أنه لا يعلّق فعل غير «علم» و «ظنّ» حتى يضمّن معناهما ، وعلى هذا فتكون هذه الجملة سادّة مسدّ المفعولين.

واختلف في قوله تعالى : (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [آل عمران : ٤٤] فقيل : التّقدير : ينظرون أيّهم يكفل مريم ، وقيل : يتعرّفون ، وقيل : يقولون ، فالجملة على التقدير الأول مما نحن فيه ، وعلى الثاني في موضع المفعول به المسرّح ، أي : غير المقيّد بالجارّ ، وعلى الثالث ليست من باب التعليق ألبتّة.

والثاني : أن تكون في موضع المفعول المسرح ، نحو : «عرفت من أبوك» ، وذلك لأنك تقول : «عرفت زيدا» ، وكذا «علمت من أبوك» إذا أردت «علم» بمعنى «عرف» ،

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في الأضداد ص ١٠٧ ، وتخليص الشواهد ص ٤٢٨ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٤٩ ، والدرر ٢ / ٢٤٢ ، وشرح أشعار الهذليين ١ / ٩٠.

٣١٧

ومنه قول بعضهم : «أما ترى أيّ برق ههنا» ، لأنّ «رأى» البصرية وسائر أفعال الحواسّ إنما تتعدّى لواحد بلا خلاف ، إلا «سمع» المعلّقة باسم عين ، نحو : «سمعت زيدا يقرأ» فقيل : «سمع» متعدّية لاثنين ثانيهما الجملة ، وقيل : إلى واحد والجملة حال ، فإن علّقت بمسموع فمتعدّية لواحد اتفاقا ، نحو : (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) [ق : ٤٢].

وليس من الباب (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) [مريم : ٦٩] خلافا ليونس ، لأن «ننزع» ليس بفعل قلبيّ ، بل «أيّ» موصولة لا استفهاميّة ، وهي المفعول ، وضمّتها بناء لا إعراب ، و «أشد» : خبر لـ «هو» محذوفا ، والجملة صلة.

والثالث : أن تكون في موضع المفعولين ، نحو : (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً) [طه : ٧١] ، (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) [الكهف : ١٢] ، ومنه (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء : ٢٢٧] لأن «أيّا» مفعول مطلق لـ «ينقلبون» ، لا مفعول به لـ «يعلم» ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، ومجموعة الجملة الفعليّة في محل نصب بفعل العلم.

ومما يوهمون في إنشاده وإعرابه [من الطويل] :

٥٣٤ ـ ستعلم ليلى أيّ دين تداينت

وأيّ غريم للتّقاضي غريمها (١)

والصواب فيه نصب «أيّ» الأولى على حد انتصابها في (أَيَّ مُنْقَلَبٍ) إلا أنها مفعول به ، لا مفعول مطلق ، ورفع «أيّ» الثانية مبتدأ ، وما بعدها الخبر ، والعلم معلّق عن الجملتين المتعاطفتين الفعلية والاسمية.

واختلف في نحو : «عرفت زيدا من هو» فقيل جملة الاستفهام حال ، وردّ بأن الجمل الإنشائية لا تكون حالا ؛ وقيل : مفعول ثان على تضمين «عرف» معنى «علم» ، وردّ بأن التضمين لا ينقاس ، وهذا التركيب مقيس ؛ وقيل : بدل من المنصوب ، ثم اختلف ؛ فقيل : بدل اشتمال ، وقيل : بدل كلّ ، والأصل : عرفت شأن زيد ؛ وعلى القول بأن «عرف» بمعنى «علم» فهل يقال : إن الفعل معلّق أم لا؟

قال جماعة من المغاربة : إذا قلت : «علمت زيدا لأبوه قائم» أو «ما أبوه قائم» ، فالعامل معلّق عن الجملة ، وهو عامل في محلّها النصب على أنها مفعول ثان ، وخالف في ذلك بعضهم ، لأن الجملة حكمها في مثل هذا أن تكون في موضع نصب ، وأن لا يؤثّر العامل في لفظها وإن لم يوجد معلّق ، وذلك نحو : «علمت زيدا أبوه قائم» ؛

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٣٨٤ ـ ٨٨٢.

٣١٨

واضطرب في ذلك كلام الزمخشري ، فقال في قوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود : ٧] في سورةهود : إنما جاز تعليق فعل البلوى لما في الاختبار من معنى العلم ، لأنه طريق إليه ، فهو ملابس له ، كما تقول : «انظر أيّهم أحسن وجها ، واستمع أيّهم أحسن صوتا» ، لأنّ النظر والاستماع من طريق العلم ، ا ه.

ولم أقف على تعليق النظر البصري والاستماع إلّا من جهته ؛ وقال في تفسير الآية في سورةالملك : ولا يسمّى هذا تعليقا ، وإنما التعليق أن يوقع بعد العامل ما يسدّ مسدّ منصوبيه جميعا كـ «علمت أيّهما عمرو» ألا ترى أنه لا يفترق الحال ـ بعد تقدّم أحد المنصوبين ـ بين مجيء ما له الصّدر وغيره؟ ولو كان تعليقا لافترقا كما افترقا في «علمت زيدا منطلقا» ، و «علمت أزيد منطلق».

* * *

تنبيه ـ فائدة الحكم على محلّ الجملة في التعليق بالنصب ظهور ذلك في التابع ، فتقول : «عرفت من زيد وغير ذلك من أموره». واستدلّ ابن عصفور بقول كثير [من الطويل] :

٥٣٥ ـ وما كنت أدري قبل عزّة ما البكا

ولا موجعات القلب حتّى تولّت (١)

بنصب «موجعات» ولك أن تدّعي أن «البكى» مفعول ، وأن «ما» زائدة ، أو أن الأصل «ولا أدري موجعات» ، فيكون من عطف الجمل ، أو أن الواو للحال و «موجعات» اسم «لا» ، أي : وما كنت أدري قبل عزّة والحال أنه لا موجعات للقلب موجودة ما البكاء ؛ ورأيت بخط الإمام بهاء الدين بن النحّاس رحمه‌الله : أقمت مدة أقول : القياس جواز العطف على محل الجملة المعلّق عنها بالنصب ، ثم رأيته منصوصا ، ا ه.

وممن نصّ عليه ابن مالك ، ولا وجه للتوقّف فيه مع قولهم : إن المعلّق عامل في المحل.

* * *

الجملة الرابعة : المضاف إليها ، ومحلّها الجر ، ولا يضاف إلى الجملة إلا ثمانية :

أحدها : أسماء الزمان ، ظروفا كانت أو أسماء ، نحو : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لكثير عزة في ديوانه ص ٩٥ ، وخزانة الأدب ٩ / ١٤٤ ، وشرح التصريح ١ / ٢٥٧ ، وشرح شذور الذهب ص ٤٧٥ ، وشرح شواهد المغني ص ٨١٣ ـ ٨٢٤.

٣١٩

[مريم : ٣٣] ، ونحو : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) [إبراهيم : ٤٤] ، ونحو : (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) [غافر : ١٥ ـ ١٦] ، ونحو : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) (٣٥) [المرسلات : ٣٥] ألا ترى أن «اليوم» ظرف في الأولى ، ومفعول ثان في الثانية ، وبدل منه في الثالثة ، وخبر في الرابعة ، ويمكن في الثالثة أن يكون ظرفا لـ «يخفى» من قوله تعالى : (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) [غافر : ١٦].

ومن أسماء الزمان ثلاثة إضافتها إلى الجملة واجبة : «إذ» باتّفاق ، و «إذا» عند الجمهور ، و «لمّا» عند من قال باسميّتها ، وزعم سيبويه أن اسم الزمان المبهم إن كان مستقبلا فهو كـ «إذا» في اختصاصه بالجملة الفعلية ، وإن كان ماضيا فهو كـ «إذ» في الإضافة إلى الجملتين ، فتقول «آتيك زمن يقدم الحاج» ، ولا يجوز «زمن الحاجّ قادم» ؛ وتقول «أتيتك زمن قدم الحاجّ ، وزمن الحاجّ قادم» ، وردّ عليه دعوى اختصاص المستقبل بالفعليّة بقوله تعالى : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ ،) وبقول الشاعر [من الطويل] :

٥٣٦ ـ وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة

بمغن فتيلا عن سواد بن قارب (١)

وأجاب ابن عصفور عن الآية بأنه إنّما يشترط حمل الزّمان المستقبل على «إذا» ، إذا كان ظرفا ، وهي في الآية بدل من المفعول به لا ظرف ، ولا يأتي هذا الجواب في البيت ، والجواب الشامل لهما أن يوم القيامة لما كان محقّق الوقوع جعل كالماضي ؛ فحمل على «إذ» ، لا على «إذا» ، على حد (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) [الكهف : ١٠٠].

الثاني : «حيث» ، وتختصّ بذلك عن سائر أسماء المكان ، وإضافتها إلى الجملة لازمة ، ولا يشترط لذلك كونها ظرفا ، وزعم المهدويّ شارح الدّريديّة ـ وليس بالمهدوي المفسّر المقرىء ـ أن حيث في قوله [من الرجز] :

٥٣٧ ـ ثمّت راح في الملبّين إلى

حيث تحجّى المأزمان ومنى (٢)

لما خرجت عن الظرفيّة بدخول «إلى» عليها خرجت عن الإضافة إلى الجمل ، وصارت الجملة بعدها صفة لها ، وتكلّف تقدير رابط لها ، وهو فيه ، وليس بشيء ؛ لما قدّمنا في أسماء الزمان.

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لسواد بن قارب في الجنى الداني ص ٥٤ ، والدرر ٢ / ١٢٦ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ١٢٥ ، وأوضح المسالك ١ / ٢٩٤ ، وهمع الهوامع ١ / ١٢٧.

(٢) البيت من الرجز ، وهو لابن دريد في ديوانه ص ١٢٠.

٣٢٠