شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢
الجزء ١ الجزء ٢

ذلك ، لأن المعنى : بكلمة «ضرب» ؛ فقلت له : وكيف وقع «ضرب» مضافا إليه مع أنه في ذلك ليس باسم في زعمك؟ فإن قلت فإذا كان اسما فكيف أخبرت عنه بأنه فعل؟ قلت هو نظير الإخبار في قولك : «زيد قائم» ؛ ألا ترى أنك أخبرت عن «زيد» باعتبار مسمّاه ، لا باعتبار لفظه؟ وكذلك أخبرت عن «ضرب» باعتبار مسمّاه ، وهو «ضرب» الدال على الحدث والزمان ، فهذا في أنه لفظ مسماه لفظ كأسماء السّور وأسماء حروف المعجم ؛ ومن هنا قلت : حرف التعريف «أل» ، فقطعت الهمزة ، وذلك لأنك لما نقلت اللفظ من الحرفيّة إلى الاسمية أجريت عليه قياس همزات الأسماء ، كما أنك إذا سمّيت بـ «اضرب» قطعت همزته ؛ وأما قول ابن مالك : إن الإسناد اللفظيّ يكون في الأسماء والأفعال والحروف ، وإن الذي يختصّ به الاسم هو الإسناد المعنويّ ؛ فلا تحقيق فيه.

وقال لي بعضهم : كيف تتوهّم أن ابن مالك اشتبه عليه الأمر في الاسم والفعل والحرف؟ فقلت : كيف توهّم ابن مالك أن النّحويّين كافة غلطوا في قولهم : إن الفعل يخبر به ولا يخبر عنه ، وإن الحرف لا يخبر به ولا عنه ؛ وممّن قلّد ابن مالك في هذا الوهم أبو حيان.

ولا بد للمتكلّم على الاسم أن يذكر ما يقتضي وجه إعرابه كقولك : مبتدأ ، خبر ، فاعل ، مضاف إليه ؛ وأمّا قول كثير من المعربين مضاف أو موصول أو اسم إشارة فليس بشيء ؛ لأنّ هذه الأشياء لا تستحقّ إعرابا مخصوصا ، فالاقتصار في الكلام عليها على هذا القدر لا يعلم به موقعها من الإعراب.

وإن كان المبحوث فيه مفعولا عيّن نوعه ؛ فقيل : مفعول مطلق ، أو مفعول به ، أو لأجله ، أو معه ، أو فيه ، وجرى اصطلاحهم على أنه إذا قيل : «مفعول» وأطلق لم يرد إلّا المفعول به ، لما كان أكثر المفاعيل دورا في الكلام خفّفوا اسمه ؛ وإنما كان حق ذلك أن لا يصدق إلّا على المفعول المطلق ، ولكنّهم لا يطلقون على ذلك اسم المفعول إلا مقيّدا بقيد الإطلاق ؛ وإن عيّن المفعول فيه ـ فقيل : زمان أو مكان ـ فحسن ، ولا بدّ من بيان متعلّقه كما في الجارّ والمجرور الذي له متعلّق ؛ وإن كان المفعول به متعدّدا عينت كلّ واحد فقلت : مفعول أول ، أو ثان ، أو ثالث.

وينبغي أن تعيّن للمبتدىء نوع الفعل ؛ فتقول : فعل ماض ، أو فعل مضارع ، أو فعل أمر ، وتقول في نحو : «تلظّى» : فعل مضارع أصله : «تتلظّى» ؛ وتقول في الماضي : مبنيّ على الفتح ؛ وفي الأمر : مبني على ما يجزم به مضارعه ؛ وفي نحو : (يَتَرَبَّصْنَ) مبني

٥٤١

على السكون لاتصاله بنون الإناث ؛ وفي نحو (لَيُنْبَذَنَّ :) مبني على الفتح لمباشرته لنون التوكيد ؛ وتقول في المضارع المعرب : مرفوع لحلوله محلّ الاسم ؛ وتقول : منصوب بكذا ، أو بإضمار «أن» ، ومجزوم بكذا ، ويبيّن علامة الرفع والنصب والجزم ؛ وإن كان الفعل ناقصا نصّ عليه فقال مثلا : «كان» فعل ماض ناقص يرفع الاسم وينصب الخبر ؛ وإن كان المعرب حالّا في غير محلّه عيّن ذلك : فقيل في «قائم» مثلا من نحو : «قائم زيد» : خبر مقدّم ، ليعلم أنه فارق موضعه الأصليّ ، وليتطلب مبتدأه ؛ وفي نحو : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) [الأنفال : ٥٠] : «الذين» مفعول مقدّم ، ليتطلب فاعله ، وإن كان الخبر مثلا غير مقصود لذاته قيل : خبر موطىء ؛ ليعلم أن المقصود ما بعده ، كقوله تعالى : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [النمل : ٥٥] ، وقوله [من البسيط] :

٨٩٣ ـ كفى بجسمي نحولا أنّني رجل

لولا مخاطبتي إيّاك لم ترني (١)

ولهذا أعيد الضمير بعد «قوم» و «رجل» إلى ما قبلهما ، ومثله الحال الموطّئة في نحو : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [يوسف : ٢].

وإن كان المبحوث فيه حرفا بيّن نوعه ومعناه وعمله إن كان عاملا ، فقال مثلا : «إنّ» حرف توكيد تنصب الاسم وترفع الخبر ؛ «لن» : حرف نفي ونصب واستقبال ؛ «أن» : حرف مصدريّ ينصب الفعل المضارع ؛ «لم» : حرف نفي يجزم المضارع ويقلبه ماضيا ، ثم بعد الكلام على المفردات يتكلم عن الجمل ، ألها محلّ من الإعراب أم لا؟

فصل

وأول ما يحترز منه المبتدىء في صناعة الإعراب ثلاثة أمور :

أحدها : أن يلتبس عليه الأصليّ بالزائد ، ومثاله أنه إذا سمع أنّ «أل» من علامات الاسم ، وأن أحرف «نأيت» من علامات المضارع ، وأنّ تاء الخطاب من علامات الماضي ، وأنّ الواو والفاء من أحرف العطف ، وأنّ الباء واللام من أحرف الجرّ ، وأن فعل ما لم يسمّ فاعله مضموم الأول ، سبق وهمه إلى أن «ألفيت» و «ألهبت» اسمان ، وأن «أكرمت» و «تعلّمت» مضارعان ، وأن «وعظ» و «فسخ» عاطفان ومعطوفان ، وأن نحو : «بيت» و «بين» و «لهو» و «لعب» كل منهما جارّ ومجرور ، وأن نحو : «أدحرج» مبنيّ لم

__________________

(١) البيتان من البحر الخفيف ، ولم أجدهما.

(٢) البيت من البسيط ، وهو للمتنبي في ديوانه ٤ / ٣١٩ ، والجنى الداني ص ٥٣ ، وخزانة الأدب ٦ / ٦٢ ، ورصف المباني ص ١٤٩.

٥٤٢

يسمّ فاعله ؛ وقد سمعت من يعرب (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) (١) [التكاثر : ١] مبتدأ وخبرا ، فظنهما مثل قولك : «المنطلق زيد». ونظير هذا الوهم قراءة كثير من العوام نار حامية (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) بحذف الألف كما تحذف أول السورةفي الوصل فيقال «لخبير القارعة ،» وذكر لي عن رجل كبير من الفقهاء ممن يقرأ علم العربية أنه استشكل قول الشريف المرتضى [من الكامل] :

٨٩٤ ـ أتبيت ريّان الجفون من الكرى

وأبيت منك بليلة الملسوع (١)

وقال : كيف ضمّ التاء من «تبيت» وهي للمخاطب لا للمتكلم؟ وفتحها من أبيت وهو للمتكلّم لا للمخاطب ، فبيّنت للحاكي أن الفعلين مضارعان ، وأن التاء فيهما لام الكلمة ، وأن الخطاب في الأول مستفاد من تاء المضارعة ، والتكلّم في الثاني مستفاد من الهمزة ، والأول مرفوع لحلوله محل الاسم ، والثاني منصوب بـ «أن» مضمرة بعد واو المصاحبة على حدّ قول الحطيئة [من الوافر] :

٨٩٥ ـ ألم أك جاركم ويكون بيني

وبينكم المودّة والإخاء (٢)

وحكى العسكريّ في كتاب التّصحيف أنه قيل لبعضهم : ما فعل أبوك بحماره؟ فقال : باعه ، فقيل له : لم قلت باعه؟ قال : فلم قلت أنت بحماره؟ فقال : أنا جررته بالباء ، فقال : فلم تجرّ باؤك وبائي لا تجر؟

ومثله من القياس الفاسد ما حكاه أبو بكر التاريخي في كتاب «أخبار النحويّين» أن رجلا قال لسمّاك بالبصرة : بكم هذه السّمكة؟ فقال : بدرهمان ، فضحك الرجل ، فقال السمّاك : أنت أحمق ، سمعت سيبويه يقول : ثمنها درهمان.

وقلت يوما : ترد الجملة الاسمية الحالية بغير واو في فصيح الكلام ، خلافا للزمخشري ، كقوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر : ٦٠] فقال بعض من حضر : هذه الواو في أوّلها.

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو للشريف الرضي في ديوانه ١ / ٤٩٧ ، وحاشية الشيخ ياسين ١ / ١٨٤ ، والدرر ٤ / ٨٧ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني.

(٢) البيت من الوافر ، وهو للحطيئة في ديوانه ص ٥٤ ، والدرر ٤ / ٨٨ ، وشرح شواهد المغني ص ٥٩٠ ، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص ١٦٨.

٥٤٣

وقلت يوما : الفقهاء يلحنون في قولهم «البايع» بغير همز ، فقال قائل : فقد قال الله تعالى (فَبايِعْهُنَ) [الممتحنة : ١٢].

وقال الطبري في قوله تعالى : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ) [يونس : ٥١]. إن «ثمّ» بمعنى : هنالك.

وقال جماعة من المعربين في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء : ٨٨] في قراءة ابن عامر وأبي بكر بنون واحدة : إنّ الفعل ماض ، ولو كان كذلك لكان آخره مفتوحا ، و «المؤمنين» مرفوعا.

فإن قيل : سكنت الياء للتّخفيف ، كقوله [من البسيط] :

٨٩٦ ـ هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم

[ماضي العزيمة ما في حكمه جنف](١)

وأقيم ضمير المصدر مقام الفاعل.

قلنا : الإسكان ضرورة ، وإقامة غير المفعول به مقامه مع وجوده ممتنعة ، بل إقامة ضمير المصدر ممتنعة ، ولو كان وحده ؛ لأنه مبهم.

ومما يشتبه نحو : (تُوَلُّوا) بعد الجازم والنّاصب ، والقرائن تبين ؛ فهو في نحو : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ) [التوبة : ١٢٩] ماض ؛ وفي نحو : (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) [هود : ٣] ، (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) [النور : ٥٤] مضارع ؛ وقوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) [المائدة : ٢] الأول أمر ، والثاني مضارع ، لأن النهي لا يدخل على الأمر ، و (تَلَظَّى) في (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) (١٤) [الليل : ١٤] مضارع ، وإلّا لقيل : «تلظّت» ، وكذا «تمنّى» من قوله [من الطويل] :

٨٩٧ ـ تمنّى ابنتاي أن يعيش أبوهما

[وهل أنا إلّا من ربيعة أو مضر](٢)

ووهم ابن مالك فجعله ماضيا من باب [من المتقارب] :

٨٩٨ ـ [فلا مزنة ودقت ودقها]

ولا أرض أبقل إبقالها (٣)

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لجرير في ديوانه ص ١٧٥ ، ولسان العرب ٨ / ١٩٥ مادة / صدع /.

(٢ و ٣) البيت من الطويل ، وهو للبيد بن ربيعة وفي ديوانه ص ٢١٣ ، والأزهية ص ١١٧ ، والأغاني ١٥ / ٣٠٥ ، وخزانة الأدب ٤ / ٣٤٠ والدرر ٦ / ٢٧٠.

٥٤٤

وهذا حمل على الضّرورة من غير ضرورة.

ومما يلتبس على المبتدىء أن يقول في نحو : «مررت بقاض» إن الكسرة علامة الجرّ ، حتى إنّ بعضهم يستشكل قوله تعالى : (لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) [النور : ٣] ، وقد سألني بعضهم عن ذلك ، فقال : كيف عطف المرفوع على المجرور؟ فقلت : فهلا استشكلت ورود الفاعل مجرورا ، وبينت له أن الأصل : «زاني» بياء مضمومة ، ثم حذفت الضمة للاستثقال ، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة هي والتنوين ؛ فيقال فيه : فاعل ، وعلامة رفعه ضمّة مقدرة على الياء المحذوفة ؛ ويقال في نحو : «مررت بقاض» : جار ومجرور ، وعلامة جرّه كسرة مقدّرة على الياء المحذوفة ، وفي نحو : (وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ) [الفجر : ١ ـ ٢] : و «الفجر» : جارّ ومجرور ، و «ليال» عاطف ومعطوف ، وعلامة جرّه فتحة مقدّرة على الياء المحذوفة ، وإنما قدّرت الفتحة مع خفّتها لنيابتها عن الكسرة ، ونائب الثقيل ثقيل ؛ ولهذا حذفت الواو في «يهب» كما حذفت في «يعد» ، ولم تحذف في «يوجل» ، لأن فتحته ليست نائبة عن الكسرة ، لأن ماضيه «وجل» بالكسر ، فقياس مضارعه الفتح ، وماضيها «فعل» بالفتح ، فقياس مضارعهما الكسر ، وقد جاء «يعد» على ذلك ، وأما «يهب» فإن الفتحة فيه عارضة لحرف الحلق.

ومن هنا أيضا قال أبو الحسن في : «يا غلاما» : يا غلام ، بحذف الألف وإن كانت أخفّ الحروف ، لأن أصلها الياء.

ومن ذلك أن يبادر في نحو : «المصطفين» و «الأعلين» إلى الحكم بأنه مثنى ، والصواب أن ينظر أولا في نونه ، فإن وجدها مفتوحة كما في قوله تعالى : (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) (٤٧) [ص : ٤٧] حكم بأنه جمع ، وفي الآية دليل ثان ، وهو وصفه بالجمع ، وثالث وهو دخول «من» التبعيضيّة عليه بعد «وإن هم» ، ومحال أن يكون الجمع من الاثنين ، وقال الأحنف بن قيس [من الطويل] :

٨٩٩ ـ تحلّم عن الأذنين واستبق ودّهم

ولن تستطيع الحلم حتّى تحلّما (١)

ومن ذلك أن يعرب الياء والكاف والهاء في نحو : «غلامي أكرمني» ، و «غلامك أكرمك» ، و «غلامه أكرمه» إعرابا واحدا ، أو بعكس الصواب ؛ فليعلم أنهنّ إذا اتّصلن

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لحاتم الطائي في أدب الكاتب ص ٤٦٦ ، وشرح شواهد المغني ٣ / ٩٥١ ، والممتع في التصريف ١ / ٨٤.

٥٤٥

بالفعل كنّ مفعولات ، وإن اتصلن بالاسم كنّ مضافا إليهنّ ؛ ويستثنى من الأول ، نحو : «أرأيتك زيدا ما صنع» ، و «أبصرك زيدا» فإن الكاف فيهما حرف خطاب ؛ ومن الثاني نوعان : نوع لا محلّ فيه لهذه الألفاظ ، وذلك نحو قولهم : «ذلك» ، و «تلك» ، و «إيّاي» ، و «إيّاك» ، و «إيّاه» ، فإنهنّ أحرف تكلّم وخطاب وغيبة ؛ ونوع هي فيه في محل نصب ، وذلك نحو : «الضّاربك» و «الضّاربه» على قول سيبويه ؛ لأنه لا يضاف الوصف الذي بـ «أل» إلى عار منها ؛ ونحو قولهم : «لا عهد لي بألأم قفا منه ولا أوضعه» بفتح العين ، فالهاء في موضع نصب كالهاء في «الضاربه» إلّا أن ذلك مفعول ، وهذا مشبّه بالمفعول ؛ لأن اسم التفضيل لا ينصب المفعول إجماعا ، وليست مضافا إليها وإلا لخفض «أوضع» بالكسرة ، وعلى ذلك فإذا قلت : «مررت برجل أبيض الوجه لا أحمره» فإن فتحت الراء فالهاء منصوبة المحل ، وإن كسرتها فهي مجرورته ، ومن ذلك قوله [من الوافر] :

٩٠٠ ـ [فإن يكن النّكاح أحلّ شيء]

فإنّ نكاحها مطر حرام (١)

فيمن رواه بجرّ «مطر» ؛ فالضمير منصوب على المفعوليّة ، وهو فاصل بين المتضايفين.

تنبيه ـ إذا قلت : «رويدك زيد» فإن قدرت : «رويدا» اسم فعل فالكاف حرف خطاب ، وإن قدّرته مصدرا فهو اسم مضاف إليه ، ومحلّه الرفع ، لأنه فاعل.

والثاني : أن يجري لسانه على عبارة اعتادها فيستعملها في غير محلّها ، كأن يقول في «كنت» ، و «كانوا» في الناقصة : فعل وفاعل ؛ لما ألف من قول ذلك في نحو : «فعلت» و «فعلوا» ، وأما تسمية الأقدمين الاسم فاعلا والخبر مفعولا فهو اصطلاح غير مألوف ، وهو مجاز ، كتسميتهم الصّورة الجميلة دمية ، والمبتدىء إنما يقوله على سبيل الغلط ؛ فذلك يعاب عليه.

والثالث : أن يعرب شيئا طالبا لشيء ، ويهمل النظر في ذلك المطلوب ، كأن يعرب فعلا ولا يتطلب فاعله ، أو مبتدأ ولا يتعرّض لخبره ، بل ربما مرّ به فأعربه بما لا يستحقّه ونسي ما تقدّم له.

فإن قلت : فهل من ذلك قول الزمخشري في قوله تعالى : (وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وهو للأحوص في ديوانه ص ١٨٩ ، والأغاني ١٥ / ٢٣٤ ، وأمالي الزجاجي ص ٨١ ، وخزانة الأدب ٢ / ١٥١ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ١٩٢.

٥٤٦

أَنْفُسُهُمْ) [آل عمران : ١٥٤] الآية. «قد أهمّتهم» : صفة لـ «طائفة» ، و «يظنّون» : صفة أخرى ، أو حال بمعنى قد أهمتهم أنفسهم ظانّين ، أو استئناف على وجه البيان للجملة قبلها ، و «يقولون» : بدل من «يظنّون» ، فكأنه نسي المبتدأ ؛ فلم يجعل شيئا من هذه الجمل خبرا له.

قلت : لعلّه رأى أن خبره محذوف ، أي : ومعكم طائفة صفتهم كيت وكيت ، والظاهر أن الجملة الأولى خبر ، وأن الذي سوّغ الابتداء بالنكرة صفة مقدّرة ، أي : وطائفة من غيركم ، مثل «السّمن منوان بدرهم» أي : منه ، أو اعتماده على واو الحال كما جاء في الحديث : «دخل عليه الصّلاة والسّلام وبرمة على النّار».

وسألت كثيرا من الطلبة عن إعراب «أحقّ ما سأل العبد مولاه» فيقولون : «مولاه» مفعول ، فيبقى لهم المبتدأ بلا خبر ؛ والصّواب أنه الخبر ، والمفعول العائد المحذوف : أي سأله ؛ وعلى هذا فيقال : أحقّ ما سأل العبد ربّه ، بالرفع ؛ وعكسه «إنّ مصابك المولى قبيح» يذهب الوهم فيه إلى أن «المولى» خبر ، بناء على أن المصاب اسم مفعول ، وإنما هو مفعول ، والمصاب مصدر بمعنى الإصابة ، بدليل مجيء الخبر بعده ، ومن هنا أخطأ من قال في مجلس الواثق بالله في قوله [من الكامل] :

٩٠١ ـ أظلوم إنّ مصابكم رجلا

أهدى السّلام تحيّة ظلم (١)

إنه برفع «رجل» ، وقد مضت الحكاية.

تنبيه ـ قد يكون للشيء إعراب إذا كان وحده ؛ فإذا اتّصل به شيء آخر تغير إعرابه ، فينبغي التحرّز في ذلك.

من ذلك «ما أنت ، وما شأنك» فإنّهما مبتدأ وخبر ، إذا لم تأت بعدهما بنحو قولك : «وزيدا» فإن جئت به فـ «أنت» مرفوع بفعل محذوف ، والأصل : ما تصنع؟ أو ما تكون ، فلما حذف الفعل برز الضّمير وانفصل ، وارتفاعه بالفاعلية ، أو على أنه اسم لـ «كان» ، و «شأنك» بتقدير : ما يكون ، وما فيهما في موضع نصب خبرا لـ «يكون» ، أو مفعولا لـ «تصنع». ومثل ذلك «كيف أنت وزيدا» إلا أنك إذا قدرت تصنع كان «كيف» حالا ، إذ لا تقع مفعولا به.

وكذلك يختلف إعراب الشيء باعتبار المحلّ الذي يحل فيه ، وسألت طالبا : ما

٥٤٧

حقيقة «كان» إذا ذكرت في قولك : «ما أحسن زيدا؟» فقال : زائدة ، بناء منه على أن المثال المسؤول عنه «ما كان أحسن زيدا» ، وليس في السؤال تعيين ذلك ، والصواب الاستفصال ؛ فإنها في هذا الموضع زائدة كما ذكر ، وليس لها اسم ولا خبر ؛ لأنها قد جرت مجرى الحروف ، كما أن «قلّ» في «قلّما يقوم زيد» لمّا استعملت استعمال «ما» النافية لم تحتج لفاعل ؛ هذا قول الفارسي والمحققّين ؛ وعند أبي سعيد هي تامّة وفاعلها ضمير الكون ؛ وعند بعضهم هي ناقصة ، واسمها ضمير «ما» ، والجملة بعدها خبرها.

وإن ذكرت بعد فعل التعجّب وجب الإتيان قبلها بـ «ما» المصدريّة ، وقيل : «ما أحسن ما كان زيد» و «كان» تامة ؛ وأجاز بعضهم أنها ناقصة على تقدير «ما» اسما موصولا ، وأن ينصب «زيد» على أنه الخبر ، أي أنه الخبر ، أي : ما أحسن الذي كان زيدا ، وردّ بأن «ما أحسن زيدا» مغن عنه.

٥٤٨

الباب الثامن من الكتاب

في ذكر أمور كليّة يتخرج عليها

ما لا ينحصر من الصّور الجزئية

وهي إحدى عشرة قاعدة.

القاعدة الأولى

قد يعطى الشيء حكم ما أشبهه : في معناه ، أو في لفظه ، أو فيهما.

فأما الأول فله صور كثيرة :

إحداها : دخول الباء في خبر «أنّ» في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ) [الأحقاف : ٣٣] لأنه في معنى : أو ليس الله بقادر ، والذي سهّل ذلك التقدير تباعد ما بينهما ، ولهذا لم تدخل في (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [الإسراء : ٩٩].

ومثله إدخال الباء في (كَفى بِاللهِ شَهِيداً) [الرعد : ٤٣] وغيرها لما دخله من معنى اكتف بالله شهيدا ، بخلاف قوله [من الوافر] :

٩٠٢ ـ قليل منك يكفيني ، ولكن

[قليلك لا يقال له قليل](١)

وفي قوله [من البسيط] :

٩٠٣ ـ [هنّ الحرائر لا ربّات أخمرة]

سود المحاجر لا تقرأن بالسّور (٢)

لما دخله من معنى : لا يتقربن بقراءة السور ، ولهذا قال السهيلي : لا يجوز أن تقول : «وصل إليّ كتابك فقرأت به» على حد قوله :

* لا يقرأن بالسّور*

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة في مغني اللبيب ١ / ١٠٧.

(٣) البيت من البسيط ، وهو للراعي النميري ص ١٢٢ ، وأدب الكاتب ص ٥٢١ ولسان العرب ٤ / ٣٨٦ مادة / سور / ، والمعاني الكبير ص ١١٣٨ ، وللقتال الكلابي في ديوانه ص ٥٣ ، وللراعي أو للقتال في خزانة الأدب ٩ / ١٠٧.

٥٤٩

لأنه عار عن معنى التقرّب.

والثانية : جواز حذف خبر المبتدأ في نحو : «إنّ زيدا قائم وعمرو» اكتفاء بخبر «إنّ» ، لما كان «إنّ زيدا قائم» في معنى : «زيد قائم» ؛ ولهذا لم يجز «ليت زيدا قائم وعمرو».

والثالثة : جواز «أنا زيدا غير ضارب» لما كان في معنى : أنا زيدا لا أضرب ، ولو لا ذلك لم يجز ؛ إذ لا يتقدّم المضاف إليه على المضاف ؛ فكذا لا يتقدّم معموله ، لا تقول : «أنا زيدا أوّل ضارب ، أو مثل ضارب» ودليل المسألة قوله تعالى : (وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) [الزخرف : ١٨] ، وقول الشاعر [من الطويل] :

٩٠٤ ـ فتى هو حقّا غير ملغ تولّه

ولا تتّخذ يوما سواه خليلا (١)

وقوله [من البسيط] :

٩٠٥ ـ إنّ امرأ خصّني يوما مودّته

على التّنائي لعندي غير مكفور (٢)

ويحتمل أن يكون منه (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) [المدثر : ٩ ـ ١٠] ؛ ويحتمل تعلق «على» بـ «عسير» ، أو بمحذوف هو نعت له ، أو حال من ضميره.

ولو قلت : «جاءني غير ضارب زيدا» لم يجز التقديم ؛ لأن النافي هنا لا يحلّ مكان غيره.

والرابعة : جواز «غير قائم الزّيدان» لما كان في معنى : ما قائم الزيدان ، ولو لا ذلك لم يجز ؛ لأن المبتدأ إما أن يكون ذا خبر أو ذا مرفوع يغني عن الخبر. ودليل المسألة قوله [من الخفيف] :

٩٠٦ ـ غير لاه عداك فاطّرح الله

و، ولا تغترر بعارض سلم (٣)

وهو أحسن ما قيل في بيت أبي نواس [من الرمل] :

٩٠٧ ـ غير مأسوف على زمن

ينقضي بالهمّ والحزن (٤)

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في الدرر ٥ / ١٧ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٥٣.

(٢) البيت من البحر البسيط ، وهو لأبي زبيد الطائي في الدرر ٢ / ١٨٣ ، ولسان العرب مادة (خصص) ، وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ٤٠٤ ، ورصف المباني ص ١٢١.

(٣) البيت من الخفيف ، وهو بلا نسبة في تذكرة النحاة ص ٣٦٦ ، وشرح ابن عقيل ص ١٠١.

(٤) البيت من المديد ، وهو لأبي نواس في الدرر ٢ / ٦ ، وامالي ابن الحاجب ص ٦٣٧ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٤٥ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٣ / ٩٤ ، وشرح الأشموني ١ / ٨٩.

٥٥٠

والخامسة : إعطاؤهم «ضارب زيد الآن أو غدا» حكم «ضارب زيدا» في التّنكير ؛ لأنه في معناه ، ولهذا وصفوا به النكرة ، ونصبوه على الحال ، وخفضوه بـ «ربّ» ، وأدخلوا عليه «أل» ، وأجاز بعضهم تقديم حال مجروره عليه ، نحو : «هذا ملتوتا شارب السّويق» كما يتقدّم عليه حال منصوبه ، ولا يجوز شيء من ذلك إذا أريد المضيّ ، لأنه حينئذ ليس في معنى الناصب.

والسادسة : وقع الاستثناء المفرّغ في الإيجاب في نحو : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة : ٤٥] ، (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة : ٣٢] لما كان المعنى : وإنها لا تسهل إلّا على الخاشعين ، ولا يريد الله إلّا أن يتمّ نوره.

السابعة : العطف بـ «ولا» بعد الإيجاب في نحو [من الطويل] :

٩٠٨ ـ [فما سوّدتني عامر عن وراثة]

أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب (١)

لما كان معناه : قال الله لي : لا تسم بأمّ ولا أب.

الثامنة : زيادة «لا» في قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف : ١٢] قال ابن السيد : المانع من الشيء آمر للممنوع أن لا يفعل ، فكأنه قيل : ما الذي قال لك لا تسجد ؛ والأقرب عندي أن يقدّر في الأول : لم يرد الله لي ، وفي الثاني : ما الذي أمرك ، يوضّحه في هذا أن الناهية لا تصاحب الناصبة ، بخلاف النافية.

التاسعة : تعدّي «رضي» بـ «على» في قوله [من الوافر] :

٩٠٩ ـ إذا رضيت عليّ بنو قشير

[لعمر الله أعجبني رضاها](٢)

لما كان «رضي عنه» بمعنى : أقبل عليه بوجه ودّه ؛ وقال الكسائي : إنما جاز هذا حملا على نقيضه وهو «سخط».

العاشرة : رفع المستثنى على إبداله من الموجب في قراءة بعضهم : (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً) [البقرة : ٢٤٩] ؛ وقيل : «إلا» وما بعدها صفة ؛ فقيل : إن الضمير يوصف في هذا الباب ، وقيل : مرادهم بالصفة عطف البيان ، وهذا لا يخلص من الاعتراض إن كان

__________________

(١ و ٢) البيت من البحر الطويل ، وهو لعامر بن الطفيل في خزانة الأدب ٨ / ٣٤٣ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ١٨٥ ، والخصائص ٢ / ٣٤٢.

٥٥١

لازما ، لأن عطف البيان كالنعت فلا يتبع الضمير ؛ وقيل : «قليل» مبتدأ حذف خبره ، أي : لم يشربوا.

الحادية عشرة : تذكير الإشارة في قوله تعالى : (فَذانِكَ بُرْهانانِ) [القصص : ٣٢] مع أن المشار إليه «اليد» و «العصا» وهما مؤنّثان ، ولكن المبتدأ عين الخبر في المعنى والبرهان مذكّر ؛ ومثله (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [الأنعام : ٢٣] فيمن نصب «الفتنة» وأنّث الفعل.

الثانية عشرة : قولهم : «علمت زيد من هو» برفع «زيد» جوازا ، لأنه نفس «من» في المعنى.

الثالثة عشرة : قولهم : إنّ أحدا لا يقول ذلك» فأوقع «أحدا» في الإثبات لأنه نفس الضمير المستتر في «يقول» ، والضمير في سياق النفي فكان أحد كذلك ، وقال [من المنسرح] :

٩١٠ ـ في ليلة لا نرى بها أحدا

يحكي علينا إلّا كواكبها (١)

فرفع «كواكبها» بدلا من ضمير «يحكي» ، لأنه رجع إلى «أحدا» ، وهو واقع في سياق غير الإيجاب ، فكان الضمير كذلك.

وهذا الباب واسع ، ولقد حكى أبو عمرو بن العلاء أنه سمع شخصا من أهل اليمن يقول : «فلان لغوب أتته كتابي فاحتقرها» ، فقال له : كيف قلت : أتته كتابي؟ فقال : أليس الكتاب في معنى الصحيفة؟

وقال أبو عبيدة لرؤبة بن العجّاج لما أنشد [من الرجز] :

٩١١ ـ فيها خطوط من سواد وبلق

كأنّه في الجلد توليع البهق (٢)

إن أردت الخطوط فقل : كأنها ، أو السّواد والبلق فقل : كأنهما ؛ فقال : أردت ذلك ، ويلك.

وقالوا : «مررت برجل أبي عشرة نفسه ، وبقوم عرب كلّهم ، وبقاع عرفج كلّه» برفع

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) البيت من المنسرح ، وهو لعدي بن زيد في ملحق ديوانه ص ١٩٤ ، والدرر ٣ / ١٦٤ ، ولعدي بن زيد أو لبعض الأنصار في شرح شواهد المغني ص ٤١٧ ، ولأحيحة بن الجلاح في الأغاني ١٥ / ٣١ ، وخزانة الأدب ٣ / ٣٤٨.

(٣) البيت من الرجز ، وهو لرؤبة في ديوانه ص ١٠٤ ، والأشباه والنظائر ٥ / ٦٣ ، ولسان العرب ٨ / ٤١١ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٣٧٦.

٥٥٢

التوكيد فيهنّ ؛ فرفعوا الفاعل بالأسماء الجامدة ؛ وأكدوه لما لحظوا فيها المعنى ، إذ كان العرب بمعنى الفصحاء ، والعرفج بمعنى الخشن ، والأب بمعنى الوالد.

تنبيهان ـ الأول : أنه وقع في كلامهم أبلغ ممّا ذكرنا من تنزيلهم لفظا موجودا منزلة لفظ آخر لكونه بمعناه ، وهو تنزيلهم اللفظ المعدوم الصالح للوجود بمنزلة الموجود كما في قوله [من الطويل] :

٩١٢ ـ بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا (١)

وقد مضى ذلك.

والثاني : أنه ليس بلازم أن يعطى الشيء حكم ما هو في معناه ؛ ألا ترى أنّ المصدر قد لا يعطى حكم «أن» أو «أنّ» وصلتهما ، وبالعكس ؛ دليل الأوّل أنهم لم يعطوه حكمهما في جواز حذف الجارّ ، ولا في سدّهما مسدّ جزءي الإسناد ؛ ثم إنهم شركوا بين «أنّ» و «أن» في هذه المسألة في باب «ظنّ» ، وخصّوا «أن» الخفيفة وصلتها بسدّها مسدهما في باب «عسى» ، وخصّوا الشديدة بذلك في باب «لو» ، ودليل الثاني أنهما لا يعطيان حكمه في النيابة عن ظرف الزمان ، تقول : «عجبت من قيامك» ، و «عجبت أن تقوم ، وأنك قائم» ، ولا يجوز : «عجبت قيامك» ، وشذّ قوله [من الطويل] :

٩١٣ ـ فإيّاك إيّاك المراء فإنّه

إلى الشّرّ دعّاء وللشّرّ جالب (٢)

فأجرى المصدر مجرى «أن يفعل» في حذف الجار ؛ وتقول : «حسبت أنه قائم ، أو أن قام» ولا تقول : «حسبت قيامك» حتى تذكر الخبر ؛ وتقول : «عسى أن تقوم» ، ويمتنع : «عسى أنّك قائم» ؛ ومثلها في ذلك «لعلّ» ، وتقول : «لو أنك تقوم» ، ولا تقول : «لو أن تقوم» : وتقول : «جئتك صلاة العصر» ، ولا يجوز «جئتك أن تصلّي العصر» خلافا لابن جنّي والزمخشري.

والثاني ـ وهو ما أعطي حكم الشيء المشبه له في لفظه دون معناه ـ له صور كثيرة أيضا :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٢٨٧ ، وتخليص الشواهد ص ٥١٢ ، وخزانة الأدب ٨ / ٤٩٢ ، والدرر ٦ / ١٦٣ ، وشرح شواهد المغني ٨ / ٢٨٢ ولسان العرب ٦ / ٣٦٠ مادة / نمش /.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للفضل بن عبد الرحمن في إنباه الرواة ٤ / ٧٦ ، وخزانة الأدب ٣ / ٦٣ ، وله أو للعرزمي في حماسة البحتري ص ٢٥٣ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ص ٦٨٦ ، وأوضح المسالك ٣ / ٣٣٦.

٥٥٣

أحدهما : زيادة «إن» بعد «ما» المصدرية الظرفيّة ، وبعد «ما» التي بمعنى «الذي» ، لأنهما بلفظ «ما» النافية ، كقوله [من الطويل] :

٩١٤ ـ ورجّ الفتى للخير ما إن رأيته

على السّنّ خيرا لا يزال يزيد (١)

وقوله [من الوافر] :

٩١٥ ـ يرجّي المرء ما إن لا يراه ،

وتعرض دون أدناه الخطوب (٢)

فهذان محمولان على نحو قوله [من الكامل] :

٩١٦ ـ ما إن رأيت ولا سمعت بمثله

كاليوم هانيء أينق جرب (٣)

الثانية : دخول لام الابتداء على «ما» النافية ، حملا لها في اللفظ على «ما» الموصولة الواقعة مبتدأ ، كقوله [من الوافر] :

٩١٧ ـ لما أغفلت شكرك فاصطنعني

فكيف ومن عطائك جلّ مالي؟ (٤)

فهذا محمول في اللفظ على نحو قولك : «لما تصنعه حسن».

الثالثة : توكيد المضارع بالنّون بعد «لا» النافية حملا لها في اللفظ على «لا» الناهية ، نحو : (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) [النمل : ١٨] ، ونحو : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] ، فهذا محمول في اللفظ على نحو : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً) [ابراهيم : ٤٢] ، ومن أوّلها على النهي لم يحتج إلى هذا.

الرابعة : حذف الفاعل في نحو قوله تعالى : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) [مريم : ٣٨] لما كان «أحسن بزيد» مشبها في اللفظ لقولك : «امرر بزيد».

الخامسة : دخول لام الابتداء بعد «إنّ» التي بمعنى «نعم» ، لشبهها في اللفظ بـ «إنّ»

__________________

(١) البيت من الطويل ، هو للمعلوط القريعي في شرح التصريح ١ / ١٨٩ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٥ ، ولسان العرب ١٣ / ٣٥ مادة / أنن / ، وبلا نسبة في الأزهية ص ٥٢ ، والأشباه والنظائر ٢ / ١٨٧ ، وأوضح المسالك ١ / ٢٤٦ ، وخزانة الأدب ٨ / ٤٤٣.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لجابر بن رألان الطائي أو لإياس بن الأرت في الخزانة ٨ / ٤٤٠ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٥ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ١٨٨.

(٣) البيت من الكامل ، وهو لدريد بن الصمة في ديوانه ص ٣٤ ، والأغاني ١٠ / ٢٢ ، وإصلاح المنطق ص ١٢٧ ، وشرح شواهد المغني ص ٩٥٥ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ١٨٨.

(٤) البيت من الوافر ، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص ١٥١ ، وتذكرة النحاة ص ٦٢٥ ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ٢٤٣ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٢٧٧ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٥٦.

٥٥٤

المؤكّدة ، قاله بعضهم في قراءة من قرأ (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه : ٦٣] ، وقد مضى البحث فيها.

السادسة : قولهم : «اللهمّ اغفر لنا أيّتها العصابة» بضم «أيّة» ورفع صفتها كما يقال : «يا أيّتها العصابة» وإنما كان حقّهما وجوب النصب ، كقولهم : «نحن العرب أقرى النّاس للضّيف» ، ولكنها لما كانت في اللفظ بمنزلة المستعملة في النداء أعطيت حكمها وإن انتفى موجب البناء ؛ وأما «نحن العرب» في المثال فإنه لا يكون منادى لكونه بـ «أل» ، فأعطي الحكم الذي يستحقّه في نفسه ؛ وأما نحو : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» فواجب النصب ، سواء اعتبر حاله أو حال ما يشبهه وهو المنادى.

السابعة : بناء باب «حذام» في لغة الحجاز على الكسر ، تشبيها لها بـ «دراك» و «نزال» ، وذلك مشهور في المعارف ، وربّما جاء في غيرها ، وعليه وجّه قوله [من الرجز] :

٩١٨ ـ يا ليت حظّي من جداك الصّافي

والفضل أن تتركني كفاف (١)

فالأصل : كفافا ، فهو حال ، أو : ترك كفاف ، فمصدر ؛ ومنه عند أبي حاتم قوله [من الكامل] :

٩١٩ ـ [جاءت لتصرعني، فقلت لها:اقصري]

إنّي امرؤ صرعي عليك حرام (٢)

وليس كذلك ؛ إذ ليس لفعله فاعل أو فاعلة ، فالأولى قول الفارسي : إن أصله «حراميّ» ، كقوله [من الرجز] :

٩٢٠ ـ [أطربا وأنت قنّسريّ]

والدّهر بالإنسان دوّاريّ (٣)

ثم خفّف ، ولو أقوى لكان أولى ، وأما قوله [من الخفيف] :

٩٢١ ـ طلبوا صلحنا ولات أوان

فأجبنا أن ليس حين بقاء (٤)

__________________

(١) البيت من الرجز ، وهو لرؤبة في ديوانه ص ١٠٠ ، وخزانة الأدب ٢ / ٤٢ ، وتاج العروس مادة (كفف) ، ولسان العرب مادة (كفف).

(٢) البيت من البحر الكامل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١١٦ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٥٩.

(٣) البيت من الرجز ، وهو للعجاج في ديوانه ١ / ٤٨٠ ، ولسان العرب مادة (دور) ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٧٤ ، وبلا نسبة في الخصائص ٣ / ١٠٤ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣٠٥.

(٤) البيت من الخفيف ، وهو لأبي زبيد الطائي في ديوانه ص ٣٠ ، والإنصاف ص ١٠٩ ، وتخليص الشواهد ص ٢٩٥ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٨٣ ، والدرر ٢ / ١١٩ ، وشرح شواهد المغني ص ٧٣٤.

٥٥٥

فعلّة بنائه قطعه عن الإضافة ، ولكن علّة كسره وكونه لم يسلك به في الضم مسلك «قبل» و «بعد» شبهه بـ «نزال».

الثامن : بناء «حاشا» في (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) [يوسف : ٣١] لشبهها في اللفظ بـ «حاشا» الحرفيّة ، والدليل على اسميّتها قراءة بعضهم : حش بالتنوين على إعرابها ، كما تقول : «تنزيها لله» ، وإنما قلنا إنها ليست حرفا لدخولها على الحرف ، ولا فعلا إذ ليس بعدها اسم منصوب بها ؛ وزعم بعضهم أنها فعل لدخولها على الحرف ، ولا فعلا إذ ليس بعدها اسم منصوب بها ؛ وزعم بعضهم أنها فعل حذف مفعوله ، أي : جانب يوسف المعصية لأجل الله ، وهذا التأويل لا يتأتّى في كل موضع ؛ يقال لك : «أتفعل كذا؟» أو «أفعلت كذا؟» فتقول : «حاشا لله» ، فإنما هذه بمعنى : تبرّأت لله براءة من هذا الفعل ، ومن نوّنها أعربها على إلغاء هذا الشبه ، كما أن بني تميم أعربوا باب «حذام» لذلك.

التاسعة : قول بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم : «قصرنا الصلاة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر ما كنّا قطّ وآمنه» فأوقع «قطّ» بعد «ما» المصدريّة كما تقع بعد «ما» النافية.

العاشرة : إعطاء الحرف حكم مقاربه في المخرج حتى أدغم فيه ، نحو : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠١] و [الفرقان : ١٠] ، و (لَكَ قُصُوراً) [الفرقان : ١٠] وحتى اجتمعا رويّين ، كقوله [من الرجز] :

٩٢٢ ـ بنيّ إنّ البرّ شيء هيّن

المنطق الطّيّب والطّعيّم (١)

وقول أبي جهل [من الرجز] :

٩٢٣ ـ ما تنقم الحرب العوان منّي

بازل عامين حديث سنّي (٢)

لمثل هذا ولدتني أمّي

وقول آخر [من الرجز] :

٩٢٤ ـ إذا ركبت فاجعلوني وسطا

إنّي كبير لا أطيق العنّدا (٣)

__________________

(١) البيت من الرجز ، وهو لامرأة قالته لابنها في نوادر أبي زيد ص ١٣٤ ، ولجدة سفيان في تهذيب اللغة ١٥ / ٣٧٠ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ١٩٠ ، وخزانة الأدب ١١ / ٣٢٥.

(٢ و ٣) البيت من الرجز ، وهو لعلي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه في ديوانه ص ١٩٢ ، ولسان العرب مادة (نقم) ولأبي جهل في جمهرة اللغة ص ٦١٦ ، وخزانة الأدب ١١ / ٣٢٥ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٦ / ١٩٧.

٥٥٦

ويسمّى ذلك إكفاء.

والثالث ـ وهو ما أعطي حكم الشيء لمشابهته له لفظا ومعنى ، نحو اسم التفضيل و «أفعل» في التعجّب ؛ فإنهم منعوا أفعل التفضيل أن يرفع الظّاهر لشبهه بـ «أفعل» في التعجّب وزنا وأصلا وإفادة للمبالغة ، وأجازوا تصغير «أفعل» في التعجّب لشبهه بـ «أفعل» التفضيل فيما ذكرنا ، قال [من البسيط] :

٩٢٥ ـ يا ما أميلح غزلانا شدنّ لنا

[من هؤليّائكنّ الضّال والسّمر](١)

ولم يسمع ذلك إلا في «أحسن» و «أملح» ، ذكره الجوهريّ ، ولكن النحويّين مع هذا قاسوه ، ولم يحك ابن مالك اقتياسه إلا عن ابن كيسان ، وليس كذلك ، قال أبو بكر الأنباريّ : ولا يقال إلّا لمن صغر سنّه.

القاعدة الثانية

أن الشيء يعطى حكم الشيء إذا جاوره ، كقول بعضهم : «هذا حجر ضبّ خرب» بالجر ، والأكثر الرفع ، وقال [من الطويل] :

٩٢٦ ـ كأنّ أبانا في عرانين وبله

[كبير أناس في بجاد مزمّل](٢)

وقيل به في (وَحُورٌ عِينٌ) (٢٢) فيمن جرّهما ، فإن العطف على (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) [الواقعة : ١٧] لا على (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ) [الواقعة : ١٨] ، إذ ليس المعنى أنّ الولدان يطوفون عليهم بالحور ؛ وقيل : العطف على «جنات» وكأنه قيل : المقرّبون في جنات وفاكهة ولحم طير وحور ؛ وقيل : على «وأكواب» باعتبار المعنى ؛ إذ معنى (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ) [الواقعة : ١٧ ـ ١٨] : ينعمون بأكواب ؛ وقيل في «وأرجلكم» بالخفض : إنه عطف على «أيديكم» لا على «رؤسكم» ؛ إذ «الأرجل» مغسولة لا ممسوحة ، ولكنّه خفض لمجاورة «رؤسكم» ؛ والّذي عليه المحقّقون أن خفض الجوار يكون في النعت قليلا كما مثّلنا ، وفي التوكيد نادرا ، كقوله [من البسيط] :

__________________

(١) البيت من الرجز ، وهو بلا نسبة في لسان العرب مادة (عند) ، وتاج العروس مادة (كفأ).

(٢) البيت من البسيط ، وهو للمجنون في ديوانه ص ١٣٠ ، وله أو للعرجي أو لبدوي اسمه كامل الثقفي أو لذي الرمة أو للحسين بن عبد الله في خزانة الأدب ١ / ٩٣ ، والدرر ١ / ٢٣٤ ، ولكامل الثقفي أو للعرجي في شرح المغني ٢ / ٩٦٢ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ١١٥ ، وخزانة الأدب ١ / ٤٣٧.

٥٥٧

٩٢٧ ـ يا صاح بلّغ ذوي الزّوجات كلّهم

أن ليس وصل إذا انحلّت عرى الذّنب (١)

قال الفرّاء : أنشدنيه أبو الجرّاح بخفض «كلّهم» ، فقلت له : هلا قلت : «كلّهم» ـ يعني بالنّصب ـ فقال : هو خير من الذي قلته أنا ، ثم استنشدته إيّاه ، فأنشدنيه بالخفض ، ولا يكون في النسق ؛ لأن العاطف يمنع من التجاور ؛ وقال الزمخشري : لما كانت «الأرجل» من بين الأعضاء الثلاثة مغسولة تغسل بصبّ الماء عليها كانت مظنّة الإسراف المذموم شرعا ، فعطف على الممسوح لا لتمسح ، ولكن لينبّه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها ؛ وقيل (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فجيء بالغاية إماطة لظنّ من يظنّ أنها ممسوحة ؛ لأن المسح لم تضرب له غاية في الشريعة ، انتهى.

تنبيه ـ أنكر السيرافي وابن جنّي الخفض على الجوار ، وتأوّلا قولهم : «خرب» بالجرّ على أنه صفة لـ «ضبّ».

ثم قال السيرافي : الأصل : خرب الجحر منه ، بتنوين «خرب» ، ورفع «الجحر» ، ثم حذف الضمير للعلم به ؛ وحوّل الإسناد إلى ضمير «الضبّ» ، وخفض «الجحر» كما تقول : «مررت برجل حسن الوجه» بالإضافة ، والأصل : حسن الوجه منه ، ثم أتي بضمير «الجحر» مكانه لتقدّم ذكره فاستتر.

وقال ابن جنّي : الأصل : خرب جحره ، ثم أنيب المضاف إليه عن المضاف ، فارتفع واستتر.

ويلزمهما استتار الضمير مع جريان الصّفة على غير من هي له ، وذلك لا يجوز عند البصريّين وإن أمن اللبس ، وقول السيرافي : إن هذا مثل «مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين» مردود ؛ لأن ذلك إنما يجوز في الوصف الثاني دون الأول على ما سيأتي.

ومن ذلك قولهم : «هنأني ومرأني» والأصل : أمرأني ، وقولهم : «هو رجس نجس» بكسر النون وسكون الجيم ، والأصل نجس بفتحة فكسرة ، كذا قالوا : وإنما يتمّ هذا أن لو كانوا لا يقولون هذا نجس بفتحة فكسرة ، وحينئذ فيكون محلّ الاستشهاد إنما هو الالتزام للتناسب ، وأمّا إذا لم يلتزم فهذا جائز بدون تقدّم رجس ؛ إذ يقال «فعل» بكسرة فسكون في كل «فعل» بفتحة فكسرة ، نحو : «كتف» ، و «لبن» ، و «نبق» ، وقولهم : «أخذه

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) البيت من البسيط ، وهو لأبي الغريب النصري في خزانة الأدب ٥ / ٩٠ ، والدرر ٥ / ٦٠ ، وبلا نسبة في الأشباه ـ والنظائر ٢ / ١١ ، وشرح شواهد المغني ص ٩٦٢ ، ولسان العرب ٢ / ٢٩٢ مادة / زوج /.

٥٥٨

ما قدم وما حدث» بضم دال «حدث» ، وقراءة جماعة : سلاسلا وأغلالا [الفرقان : ٤] بصرف «سلاسل» ، وفي الحديث : «ارجعن مأزورات غير مأجورات» ، والأصل : موزورات بالواو لأنه من «الوزر» ، وقراءة أبي حبة (يُوقِنُونَ) [البقرة : ٤] بالهمزة ، وقوله [من الوافر] :

٩٢٨ ـ أحبّ المؤقدين إليّ مؤسى

وجعدة ، إذ أضاءهما الوقود (١)

بهمز «المؤقدين» ، و «مؤسى» على إعطاء الواو المجاورة للضمة حكم الواو المضمومة ، فهمزت كما قيل في «وجوه» : «أجوه» : وفي «وقّتت» : «أقّتت» ، ومن ذلك قولهم في «صوّم» : «صيّم» ، حملا على قولهم في «عصوّ» : «عصيّ» ، وكان أبو علي ينشد في مثل ذلك [من الرجز] :

قد يؤخذ الجار بجرم الجار

القاعدة الثالثة

قد يشربون لفظا معنى لفظ فيعطونه حكمه ، ويسمّى ذلك تضمينا.

وفائدته : أن تؤدّي كلمة مؤدّى كلمتين. قال الزمخشري : ألا ترى كيف رجع معنى (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) [الكهف : ٢٨] إلى قولك : ولا تقتحم عيناك مجاوزين إلى غيرهم (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢] ، أي : ولا تضمّوها إليها آكلين ، ا ه.

ومن مثل ذلك قوله تعالى : (الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) [البقرة : ١٨٧] ضمّن الرفث معنى الإفضاء ، فعدّي بـ «إلى» مثل (وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) [النساء : ٢١] ، وإنما أصل الرّفث أن يتعدّى بالباء ، يقال : «أرفث فلان بامرأته» ؛ وقوله تعالى : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) [آل عمران : ١١٥] أي : فلن تحرموه ، أي : فلن تحرموا ثوابه ، ولهذا عدّي إلى اثنين لا إلى واحد ؛ وقوله تعالى : (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) [البقرة : ٢٣٥] أي : لا تنووا ، ولهذا عدّي بنفسه لا بـ «على» ؛ وقوله تعالى : (يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) [الصافات : ٨] ، أي : لا يصغون ؛ وقولهم : «سمع الله لمن حمده» أي : استجاب ، فعدّي «يسمع» في الأوّل بـ «إلى» وفي الثاني باللام ؛ وإنما أصله أن يتعدّى بنفسه مثل : (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ) [ق : ٤٢] ، وقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة : ٢٢٠] أي يميز ،

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لجرير في ديوانه ص ٢٨٨ ، والأشباه والنظائر ٢ / ١٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٩٦٢ ، ـ وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب ١ / ٧٩ ، وشرح شافية ابن الحاجب ص ٢٠٦.

٥٥٩

ولهذا عدّي بمن لا بنفسه ، وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) [البقرة : ٢٢٦] أي يمتنعون من وطء نسائهم بالحلف ؛ فلهذا عدّي بمن ، ولما خفي التضمين على بعضهم في الآية ، ورأى أنه لا يقال «حلف من كذا» بل حلف عليه ـ قال : «من» متعلّقة بمعنى : للذين ، كما تقول : لي منك مبرّة ، قال : وأما قول الفقهاء : «آلى من امرأته» فغلط أوقعهم فيه عدم فهم المتعلّق في الآية ، وقال أبو كبير الهذلي [من الكامل] :

٩٢٩ ـ حملت به في ليلة مزؤودة

كرها ، وعقد نطاقها لم يحلل (١)

وقال قبله [من الكامل] :

٩٣٠ ـ ممّن حملن به وهنّ عواقد

حبك النّطاق فشبّ غير مهبّل (٢)

مزؤودة : أي : مذعورة ، ويروى بالجر صفة لـ «ليلة» مثل (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) (٤) [الفجر : ٤] ، وبالنصب حالا من «المرأة» ، وليس بقويّ ، مع أنه الحقيقة ، لأن ذكر «الليلة» حينئذ لا كبير فائدة فيه. والشاهد فيهما أنه ضمّن «حمل» معنى «علق» ، ولو لا ذلك لدّي بنفسه مثل (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً) [الأحقاف : ١٥] ، وقال الفرزدق [من الرجز] :

٩٣١ ـ كيف تراني قالبا مجنّي

قد قتل الله زيادا عنّي (٣)

أي : صرفه عني بالقتل.

وهو كثير ، قال أبو الفتح في كتاب التمام : أحسب لو جمع ما جاء منه لجاء منه كتاب يكون مئين أوراقا.

القاعدة الرابعة

أنهم يغلّبون على الشّيء ما لغيره ، لتناسب بينهما أو اختلاط.

فلهذا قالوا : «الأبوين» في الأب والأمّ ، ومنه (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) [النساء : ١١] ، وفي الأب والخالة ، ومنه : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) [يوسف : ١٠٠] ،

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لأبي كبير الهذلي في شرح أشعار الهذليين ٣ / ١٠٧٢ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٨٧ ، ولسان العرب ١١ / ١٧٦ مادة / حمل / وله أو لابن جمرة في شرح شواهد المغني ١ / ٢٢٦.

(٢) البيت من الكامل ، وهو لأبي كبير الهذلي في الإنصاف ٢ / ٤٨٩ ، وخزانة الأدب ٨ / ١٩٢ ، وشرح أشعار الهذليين ٣ / ١٠٧٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٢٧ ، ولسان العرب ١١ / ٦٨٨ مادة / هبل /.

(٣) البيت من الرجز ، وهو للفرزدق في لسان العرب مادة (ظهر) ، والخصائص ٢ / ٣١٠ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ٢٤٧.

٥٦٠