شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢
الجزء ١ الجزء ٢

٧٨٢ ـ ألا رجلا جزاه الله خيرا

[يدلّ على محصّلة تبيت](١)

إن التقدير «ألا تروني رجلا» مع إمكان أن يكون من باب الاشتغال ، وهو أولى من تقدير فعل غير مذكور ، وقد يجاب عن هذا بثلاثة أمور :

أحدها : أنّ «رجلا» نكرة ، وشرط المنصوب على الاشتغال أن يكون قابلا للرفع بالابتداء ، ويجاب بأن النكرة هنا موصوفة بقوله :

يدلّ على محصّلة تبيت

الثاني : أن نصبه على الاشتغال يستلزم الفصل بالجملة المفسّرة بين الموصوف والصفة ، ويجاب بأنّ ذلك جائز كقوله تعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) [النساء : ١٧٦].

الثالث : أن طلب رجل هذه صفته أهمّ من الدعاء له ؛ فكان الحمل عليه أولى.

وأما قول سيبويه في قوله [من البسيط] :

٧٨٣ ـ آليت حبّ العراق الدّهر أطعمه

[والحبّ يأكله في القرية السّوس](٢)

إن أصله : آليت على حب العراق ، مع إمكان جعله على الاشتغال وهو قياسيّ ، بخلاف حذف الجار ، فجوابه أن «أطعمه» بتقدير : لا أطعمه ، و «لا» النافية في جواب القسم لها الصدر ؛ لحلولها محلّ أدوات الصدور ، كلام الابتداء و «ما» النافية ، وما له الصدر لا يعمل ما بعده فيما قبله ، وما لا يعمل لا يفسّر عاملا.

وإنما قال في (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الزمر : ٤٦] : إنه على تقدير «يا» ، ولم يجعله صفة على المحل ؛ لأن عنده أن اسم الله سبحانه وتعالى لما اتصل به الميم المعوّضة عن حرف النداء أشبه الأصوات ؛ فلم يجز نعته.

وإنما قال في قوله [من البسيط] :

٧٨٤ ـ اعتاد قلبك من سلمى عوائده

وهاج أحزانك المكنونة الطّلل

٧٨٥ ـ ربع قواء أذاع المعصرات به

وكل حيران سار ماؤه خضل (٣)

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لعمرو بن قعاس المرادي في خزانة الأدب ٣ / ٥١ ، وشرح شواهد المغني ص ٢١٤ ، وبلا نسبة في الأزهية ص ١٦٤ ، وخزانة الأدب ٤ / ٨٩.

(٢) تقدم.

(٣) البيتان من البسيط ، وهما بلا نسبة في شرح شواهد المغني ٢ / ٩٢٤ ، والكتاب ١ / ٢٨١ ، ولسان العرب ٨ / ٩٩ مادة / ذيع / والبيت الأول في الخصائص ١ / ٢٩٦.

٤٨١

إن التّقدير : هو ربع ، ولم يجعله على البدل من الطّلل ، لأن الربع أكثر منه ، فكيف يبدل الأكثر من الأقلّ؟ ولئلا يصير الشعر معيبا لتعلّق أحد البيتين بالآخر ، إذ البدل تابع للمبدل منه ، ويسمّي ذلك علماء القوافي تضمينا ، ولأن أسماء الديار قد كثر فيها أن تحمل على عامل مضمر ، يقال : دار مية ، وديار الأحباب ، رفعا بإضمار «هي» ، ونصبا بإضمار «اذكر» ، فهذا موضع ألف فيه الحذف.

وإنما قال الأخفش في «ما أحسن زيدا» إن الخبر محذوف ، بناء على أن «ما» معرفة موصولة أو نكرة موصوفة ، وما بعدها صلة أو صفة ، مع أنه إذا قدر «ما» نكرة تامّة والجملة بعدها خبرا ـ كما قال سيبويه ـ لم يحتج إلى تقدير خبر ، لأنه رأى أن «ما» التامّة غير ثابتة أو غير فاشية ، وحذف الخبر فاش ؛ فترجّح عنده الحمل عليه.

وإنما أجاز كثير من النحويّين في نحو قولك : «نعم الرجل زيد» كون «زيد» خبرا لمحذوف مع إمكان تقديره مبتدأ والجملة قبله خبرا ، لأن «نعم» و «بئس» موضوعان للمدح والذم العامّين ؛ فناسب مقامهما الإطناب بتكثير الجمل ، ولهذا يجيزون في نحو : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٢ ـ ٣] أن يكون (الَّذِينَ) نصبا بتقدير : «أمدح» ، أو رفعا بتقدير : «هم» ، مع إمكان كونه صفة تابعة ، على أنّ التحقيق الجزم بأن المخصوص مبتدأ وما قبله خبر ، وهو اختيار ابن خروف وابن الباذش ، وهو ظاهر قول سيبويه.

وأما قولهم : «نعم الرّجل عبد الله» فهو بمنزلة «ذهب أخوه عبد الله» ، مع قوله : وإذا قال «عبد الله نعم الرجل» ، فهو «عبد الله ذهب أخوه» فسوّى بين تأخير المخصوص وتقديمه. والذي غرّ أكثر النحويين أنه قال : كأنه قال : «نعم الرجل» ، فقيل له : من هو؟ فقال : عبد الله ؛ ويردّ عليهم أنه قال أيضا : وإذا قال «عبد الله» فكأنه قيل له : ما شأنه؟ فقال : نعم الرجل ، فقال مثل ذلك مع تقدّم المخصوص ، وإنما أراد أنّ تعلّق المخصوص بالكلام تعلّق لازم ؛ فلا تحصل الفائدة إلا بالمجموع قدّمت أو أخّرت.

وجوّز ابن عصفور في المخصوص المؤخّر أن يكون مبتدأ حذف خبره ، ويردّه أن الخبر لا يحذف وجوبا إلا إن سدّ شيء مسدّه ، وذلك وارد على الأخفش في «ما أحسن زيدا».

وأما قول الزمخشري في قول الله عزوجل : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) [فصلت : ٤٤] : إنه يجوز أن يكون تقديره : هو في آذانهم

٤٨٢

وقر ؛ فحذف المبتدأ ، أو في آذانهم منه وقر ، والجملة خبر «الذين» ، مع إمكان أن يكون لا حذف فيه ؛ فوجهه أنّه لما رأى ما قبل هذه الجملة وما بعدها حديثا في القرآن قدّر ما بينهما كذلك ، ولا يمكن أن يكون حديثا في القرآن إلا على ذلك ، اللهمّ إلّا أن يقدر عطف «الذين» على «الذين» ، و «وقر» على «هدى» ؛ فيلزم العطف على معمولي عاملين ، وسيبويه لا يجيزه ، وعليه فيكون (فِي آذانِهِمْ) نعتا لـ «وقر» قدّم عليه فصار حالا.

وأما قول الفارسي في «أوّل ما أقول إنّي أحمد الله» فيمن كسر الهمزة : إن الخبر محذوف تقديره : ثابت ؛ فقد خولف فيه ، وجعلت الجملة خبرا ، ولم يذكر سيبويه المسألة ، وذكرها أبو بكر في أصوله ، وقال : الكسر على الحكاية ، فتوهّم الفارسي أنه أراد الحكاية بالقول المذكور ، فقدّر الجملة منصوبة المحل ، فبقي له المبتدأ بلا خبر فقدّره ، وإنما أراد أبو بكر أنه حكي لنا اللفظ الذي يفتتح به قوله.

خاتمة ـ وإذ قد انجرّ بنا القول إلى ذكر الحذف فلنوجه القول إليه ؛ فإنه من المهمات ، فنقول :

ذكر شروطه ـ وهي ثمانية :

أحدها : وجود دليل حاليّ ، كقولك لمن رفع سوطا : «زيدا» بإضمار «اضرب» ، ومنه (قالُوا سَلاماً) [هود : ٦٩ ، الفرقان : ٦٣] أي : سلّمنا سلاما ، أو مقاليّ ، كقولك لمن قال : من أضرب؟ «زيدا» ، ومنه (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) [النحل : ٣٠]. وإنما يحتاج إلى ذلك إذا كان المحذوف الجملة بأسرها كما مثّلنا ، أو أحد ركنيها نحو : (قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) [الذاريات : ٢٥] أي : سلام عليكم أنتم قوم منكرون ، فحذف خبر الأولى ومبتدأ الثانية ، أو لفظا يفيد معنى فيها هي مبنيّة عليه ، نحو : (تَاللهِ تَفْتَؤُا) [يوسف : ٨٥] أي : لا تفتؤ ؛ وأمّا إذا كان المحذوف فضلة فلا يشترط لحذفه وجدان الدليل ، ولكن يشترط أن لا يكون في حذفه ضرر معنويّ كما في قولك : «ما ضربت إلّا زيدا» أو صناعيّ كما في قولك : «زيد ضربته» ، وقولك : «ضربني وضربته زيد» ، وسيأتي شرحه.

ولاشتراط الدليل فيما تقدّم امتنع حذف الموصوف في نحو : «رأيت رجلا أبيض» بخلاف نحو : «رأيت رجلا كاتبا» ، وحذف المضاف في نحو : «جاءني غلام زيد» بخلاف نحو : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] ، وحذف العائد في نحو : «جاء الذي هو في الدار» بخلاف نحو : (لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ) [مريم : ٦٩] ، وحذف المبتدأ إذا كان ضمير الشأن ، لأنّ ما بعده جملة تامة مستغنية عنه ، ومن ثم جاز حذفه في باب «إنّ» ، نحو : «إنّ بك

٤٨٣

زيد مأخوذ» ، لأنّ عدم المنصوب دليل عليه ، وحذف الجارّ في نحو : «رغبت في أن تفعل» أو «عن أن تفعل» ، بخلاف «عجبت من أن تفعل» ؛ وأما (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) [النساء : ٢٧] فإنما حذف الجار فيها لقرينة ؛ وإنما اختلف العلماء في المقدّر من الحرفين في الآية لاختلافهم في سبب نزولها ؛ فالخلاف في الحقيقة في القرينة.

وكان مردودا قول أبي الفتح : إنه يجوز «جلست زيدا» بتقدير مضاف ، أي : جلوس زيد ، لاحتمال أن المقدر كلمة «إلى» ؛ وقول جماعة : إن بني تميم لا يثبتون خبر «لا» التبرئة ، وإنما ذلك عند وجود الدليل ؛ وأما نحو : «لا أحد أغير من الله» وقولك مبتدئا من غير قرينة : «لا رجل يفعل كذا» فإثبات الخبر فيه إجماع ؛ وقول الأكثرين : إن الخبر بعد «لولا» واجب الحذف ، وإنما ذلك إذا كان كونا مطلقا ، نحو : «لولا زيد لكان كذا» ، يريد : لولا زيد موجود أو نحوه ؛ وأمّا الأكوان الخاصة التي لا دليل عليها لو حذفت فواجبة الذكر ، نحو : «لولا زيد سالمنا ما سلم» ، ونحو قوله عليه الصلاة والسّلام : «لو لا قومك حديثوا عهد بالإسلام لأسّست البيت على قواعد إبراهيم». وقال الجمهور : لا يجوز «لا تدن من الأسد يأكلك» بالجزم ، لأن الشرط المقدّر إن قدّر مثبتا ـ أي فإن تدن ـ لم يناسب فعل النهي الذي جعل دليلا عليه ، وإن قدّر منفيّا ـ أي : فلا تدن ـ فسد المعنى ، بخلاف «لا تدن من الأسد تسلم» فإن الشّرط المقدّر منفيّ ، وذلك صحيح في المعنى والصناعة ؛ ولك أن تجيب عن الجمهور بأنّ الخبر إذا كان مجهولا وجب أن يجعل نفس المخبر عنه عند الجميع من باب «لولا» ، وعند تميم في باب «لا» ، فيقال : «لولا قيام زيد» و «لا قيام» أي : موجود ، ولا يقال «لولا زيد» ولا «لا رجل» ويراد : قائم ؛ لئلا يلزم المحذور المذكور ؛ وأما «لولا قومك حديثو عهد» فلعله مما يروى بالمعنى ؛ وعن الكسائي في إجازته الجزم بأنه يقدّر الشّرط مثبتا مدلولا عليه بالمعنى لا باللفظ ، ترجيحا للقرينة المعنويّة على القرينة اللفظية ، وهذا وجه حسن إذا كان المعنى مفهوما.

* * *

تنبيهان ـ أحدهما : أن دليل الحذف نوعان : أحدهما : غير صناعيّ ، وينقسم إلى حاليّ ومقاليّ كما تقدّم ؛ والثاني : صناعي ، وهذا يختص بمعرفته النّحويّون ، لأنه إنما عرف من جهة الصّناعة ، وذلك كقولهم في قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (١) [القيامة: ١] إن التقدير : لأنا أقسم ؛ وذلك لأن فعل الحال لا يقسم عليه في قول البصريّين ؛ وفي «قمت وأصكّ عينه» إن التقدير : وأنا أصك ، لأن واو الحال لا تدخل على المضارع

٤٨٤

المثبت الخالي من «قد» ؛ وفي «إنها لإبل أم شاء» إن التقدير : أم هي شاء ، لأن «أم» المنقطعة لا تعطف إلّا الجمل ؛ وفي قوله [من الخفيف] :

٧٨٦ ـ إنّ من لام في بني بنت حسّا

ن ألمه وأعصه في الخطوب (١)

إن التقدير : إنه أي الشأن ، لأن اسم الشّرط لا يعمل فيه ما قبله ، ومثله قول المتنبي [من الطويل] :

٧٨٧ ـ وما كنت ممّن يدخل العشق قلبه

ولكنّ من يبصر جفونك يعشق (٢)

وفي (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) [الأحزاب : ٤٠] إن التقدير : ولكن كان رسول الله ، لأن ما بعد لكن ليس معطوفا بها لدخول الواو عليها ، ولا بالواو لأنّه مثبت وما قبلها منفيّ ؛ ولا يعطف بالواو مفرد على مفرد إلا وهو شريكه في النّفي والإثبات ، فإذا قدّر ما بعد الواو جملة صحّ تخالفهما كما تقول «ما قام زيد وقام عمرو» ، وزعم سيبويه في قوله [من الطويل] :

٧٨٨ ـ ولست بحلّال التّلاع مخافة

ولكن متى يسترفد القوم أرفد (٣)

أن التقدير : ولكن أنا ، ووجّهوه بأنّ لكن تشبه الفعل فلا تدخل عليه ، وبيان كونها داخلة عليه أن «متى» منصوبة بفعل الشرط ، فالفعل مقدّم في الرتبة عليه ؛ وردّه الفارسي بأن المشبه بالفعل هو لكن المشدّدة لا المخفّفة ، ولهذا لم تعمل المخفّفة لعدم اختصاصها بالأسماء ، وقيل : إنما يحتاج إلى التقدير إذا دخلت عليها الواو لأنّها حينئذ تخلص لمعناها ، وتخرج عن العطف.

التنبيه الثاني ـ شرط الدّليل اللفظي أن يكون طبق المحذوف ، فلا يجوز «زيد ضارب وعمرو» أي ضارب ، وتريد بضارب المحذوف معنى يخالف المذكور : بأن يقدر أحدهما بمعنى السّفر من قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) [النساء : ١٠١] ، والآخر بمعنى الإيلام بالمعروف ؛ ومن ثمّ أجمعوا على جواز «زيد قائم وعمرو ، وإن زيدا قائم وعمرو» ، وعلى منع «ليت زيدا قائم وعمرو» ، وكذا في لعلّ وكأنّ ، لأن الخبر المذكور

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو للأعشى في ديوانه ص ٣٨٥ ، والإنصاف ص ١٨٠ وخزانة الأدب ٥ / ٤٢٠ ، وشرح شواهد المغني ص ٩٢٤ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٨ / ٤٥ ، وخزانة الأدب ٩ / ٧٥.

(٢) البيت من الطويل ، وهو للمتنبي في ديوانه ٢ / ٤٨ ، والأشباه والنظائر ٨ / ٤٦.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لطرفة بن العبد في ديوانه ص ٢٩ ، وخزانة الأدب ٩ / ٦٦ ، وبلا نسبة في شرح شذور الذهب ٤٣٥.

٤٨٥

متمنّى أو مترجّى أو مشبّه به ، والخبر المحذوف ليس كذلك ، لأنه خبر المبتدأ.

فإن قلت : فكيف تصنع بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) [الأحزاب : ٥٦] في قراءة من رفع ، وذلك محمول عند البصريّين على الحذف من الأوّل لدلالة الثاني ، أي إن الله يصلي وملائكته يصلّون ؛ وليس عطفا على الموضع ويصلون خبرا عنهما ، لئلا يتوارد عاملان على معمول واحد ؛ والصلاة المذكورة بمعنى الاستغفار ، والمحذوفة بمعنى الرحمة ، وقال الفرّاء في قوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ) [القيامة : ٣ ـ ٤] إن التقدير : بلى ليحسبنا قادرين ، والحسبان المذكور بمعنى الظنّ ، والمحذوف بمعنى العلم ؛ إذ التردّد في الادّعاء كفر ، فلا يكون مأمورا به ، وقال بعض العلماء في بيت الكتاب [من الخفيف] :

٧٨٩ ـ لن تراها ـ ولو تأمّلت ـ إلّا

ولها في مفارق الرّأس طيبا (١)

إن «ترى» المقدّرة الناصبة لـ «طيبا» قلبيّة لا بصريّة ، لئلّا يقتضي كون الموصوفة مكشوفة الرأس ، وإنما تمدح النّساء بالخفر والتصوّن ، لا بالتبدّل ، مع أن رأى المذكورة بصريّة.

قلت : الصّواب عندي أن الصّلاة لغة بمعنى واحد ، وهو العطف ، ثم العطف بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى الرحمة ، وإلى الملائكة الاستغفار ، وإلى الآدميّين دعاء بعضهم لبعض ؛ وأما قول الجماعة فبعيد من جهات ، إحداها : اقتضاؤه الاشتراك والأصل عدمه لما فيه من الإلباس ، حتى إن قوما نفوه ، ثم المثبتون له يقولون : متى عارضه غيره مما يخالف الأصل كالمجاز قدّم عليه ؛ الثّانية : أنا لا نعرف في العربيّة فعلا واحدا يختلف معناه باختلاف المسند إليه إذا كان الإسناد حقيقيّا ؛ والثالثة : أن الرحمة فعلها متعدّ والصّلاة فعلها قاصر ، ولا يحسن تفسير القاصر بالمتعدّي ؛ والرابعة : أنه لو قيل مكان «صلّى عليه» دعا عليه انعكس المعنى ، وحقّ المترادفين صحة حلول كل منهما محلّ الآخر.

وأما آيةالقيامة فالصواب فيها قول سيبويه إن (قادِرِينَ) حال ، أي بلى نجمعها قادرين ، لأن فعل الجمع أقرب من فعل الحسبان ، ولأن بلى إيجاب للمنفيّ وهو في الآية

__________________

(١) البيت من الخفيف ، وهو لعبد الله بن قيس الرقيات في ملحق ديوانه ص ١٧٦ ، وبلا نسبة في شرح الأشباه والنظائر ٦ / ٣٥ ، والخصائص ٢ / ٤٢٩.

٤٨٦

فعل الجمع ؛ ولو سلم قول الفراء فلا يسلم أن الحسبان في الآية ظنّ ، بل اعتقاد وجزم ، وذلك لإفراط كفرهم.

وأمّا قول المعرب في البيت فمردود ، وأحوال الناس في اللباس والاحتشام مختلفة ، فحال أهل المدر يخالف حال أهل الوبر ، وحال أهل الوبر مختلف ، وبهذا أجاب الزمخشريّ عن إرسال شعيب عليه الصلاة والسّلام ابنتيه لسقي الماشية ؛ وقال : العادات في مثل ذلك متباينة ، وأحوال العرب خلاف أحوال العجم.

الشرط الثاني : أن لا يكون ما يحذف كالجزء ، فلا يحذف الفاعل ، ولا نائبه ، ولا مشبهه. وقد مضى الردّ على ابن مالك في مرفوع أفعال الاستثناء ؛ وقال الكسائي وهشام والسهيلي في نحو : «ضربني وضربت زيدا» : إن الفاعل محذوف لا مضمر ؛ وقال ابن عطية في (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا) [الجمعة : ٥] : إنّ التقدير : بئس المثل مثل القوم ، فإن أراد أن الفاعل لفظ المثل محذوفا فمردود ، وإن أراد تفسير المعنى وأن في «بئس» ضمير المثل مستترا فأين تفسيره ؛ وهذا لازم للزمخشري فإنه قال في تقديره : بئس مثلا! وقد نصّ سيبويه على أن تمييز فاعل «نعم» و «بئس» لا يحذف ، والصواب أن (مَثَلُ الْقَوْمِ) فاعل ، وحذف المخصوص ، أي مثل : هؤلاء ؛ أو مضاف ، أي : مثل الذين كذبوا ؛ ولا خلاف في جواز حذف الفاعل مع فعله ، نحو : (قالُوا خَيْراً) [النحل : ٣٠] و «يا عبد الله» ، و «زيدا ضربته».

الثالث : أن لا يكون مؤكّدا ، وهذا الشّرط أول من ذكره الأخفش ، منع في نحو : «الذي رأيت زيد» أن يؤكد العائد المحذوف بقولك : «نفسه» لأنّ المؤكّد مريد للطول ، والحاذف مريد للاختصار ؛ وتبعه الفارسيّ ، فرد في كتاب الأغفال قول الزجّاج في (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) [طه : ٦٣] إن التّقدير : إن هذان لهما ساحران ، فقال : الحذف والتوكيد باللام متنافيان ؛ وتبع أبا علي أبو الفتح ، فقال في الخصائص ، لا يجوز «الّذي ضربت نفسه زيد» كما لا يجوز إدغام نحو : «اقعنسس» ، لما فيها جميعا من نقض الغرض وهو الإلحاق بـ «احرنجم» ؛ وتبعهم ابن مالك فقال : لا يجوز حذف عامل المصدر المؤكّد كـ «ضربت ضربا» لأن المقصود به تقوية عامله وتقرير معناه ، والمحذوف مناف لذلك ؛ وهؤلاء كلهم مخالفون للخليل وسيبويه أيضا ، سأل الخليل عن نحو : «مررت بزيد وأتاني أخوه أنفسهما» : كيف ينطق بالتّوكيد؟ أجابه بأنه يرفع بتقدير : هما صاحباي أنفسهما ؛ وينصب بتقدير : أعنيهما أنفسهما ؛ ووافقهما على ذلك جماعة ، واستدلّوا بقول العرب [من المنسرح] :

٤٨٧

٧٩٠ ـ إنّ محلّا وإنّ مرتحلا

[وإنّ في السّفر إذ مضوا مهلا](١)

و «إنّ مالا وإنّ ولدا» فحذفوا الخبر مع أنه مؤكد بـ «إنّ» ، وفيه نظر ؛ فإن المؤكّد نسبة الخبر إلى الاسم ، لا نفس الخبر ؛ وقال الصفار : إنما فرّ الأخفش من حذف العائد في نحو : «الذي رأيته نفسه زيد» لأن المقتضي للحذف الطول ، ولهذا لا يحذف في نحو : «الذي هو قائم زيد» ، فإذا فرّوا من الطول فكيف يؤكدون؟ وأما حذف الشيء لدليل وتوكيده فلا تنافي بينهما ، لأن المحذوف لدليل كالثابت ، ولبدر الدين بن مالك مع والده في المسألة بحث أجاد فيه.

الرابع : أن لا يؤدّي حذفه إلى اختصار المختصر ؛ فلا يحذف اسم الفعل دون معموله ؛ لأنه اختصار للفعل ؛ وأما قول سيبويه في «زيدا فاقتله» وفي «شأنك والحجّ» وقوله [من الرجز] :

٧٩١ ـ يا أيّها الماتح ، دلوي دونكا

[إنّي رأيت النّاس يحمدونكا](٢)

إن التقدير : عليك زيدا ، وعليك الحجّ ، ودونك دلوي ، فقالوا : إنما أراد تفسير المعنى لا الإعراب ، وإنما التّقدير : خذ دلوي ، والزم زيدا ، والزم الحج ، ويجوز في «دلوي» أن يكون مبتدأ و «دونك» خبره.

الخامس : أن لا يكون عاملا ضعيفا ؛ فلا يحذف الجارّ والجازم والنّاصب للفعل ، إلّا في مواضع قويت فيها الدّلالة وكثر فيها استعمال تلك العوامل ، ولا يجوز القياس عليها.

السادس : أن يكون عوضا عن شيء ؛ فلا تحذف ما في «أمّا أنت منطلقا انطلقت» ، ولا كلمة «لا» من قولهم : «افعل هذا إمّا لا» ، ولا التاء من «عدة» و «إقامة» و «استقامة» ؛ فأمّا قوله تعالى : (وَإِقامِ الصَّلاةِ) [النور : ٣٧] فممّا يجب الوقوف عنده ، ومن هنا لم يحذف خبر «كان» لأنّه عوض أو كالعوض من مصدرها ، ومن ثمّ لا يجتمعان ؛ ومن هنا قال ابن مالك : إن العرب لم تقدّر أحرف النداء عوضا من «أدعو» و «أنادي» ، لإجازتهم حذفها.

__________________

(١) البيت من البحر المنسرح ، وهو للأعشى في ديوانه ص ٢٨٣ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٤٥٢ ، والخصائص ٢ / ٣٧٣ ، والدرر ٢ / ١٧٣ ، ولسان العرب مادة (رحل) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ٣٢٩ ، ورصف المباني ص ٢٩٨.

(٢) البيت من الرجز ، وهو لجارية من بني مازن في الدرر ٥ / ٣٠١ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٠٠ ، وبلا نسبة في لسان العرب مادة (ميح) ، والأشباه والنظائر ١ / ٣٤٤.

٤٨٨

السابع والثامن : أن لا يؤدّي حذفه إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه ، ولا إلى إعمال العامل الضعيف مع إمكان إعمال العامل القويّ ؛ وللأمر الأوّل منع البصريّون حذف المفعول الثاني من نحو : «ضربني وضربته زيد» لئلا يتسلّط على «زيد» ثم يقطع عنه برفعه بالفعل الأول ، ولاجتماع الأمرين امتنع عند البصريّين أيضا حذف المفعول في نحو : «زيد ضربته» لأن في حذفه تسليط «ضرب» على العمل في «زيد» مع قطعه عنه ، وإعمال الابتداء مع التمكّن من إعمال الفعل ؛ ثمّ حملوا على ذلك «زيد ما ضربته ، أو هل ضربته» ، فمنعوا الحذف وإن لم يؤدّ إلى ذلك ؛ وكذلك منعوا رفع رأسها في «أكلت السمكة حتّى رأسها» إلا أن يذكر الخبر ، فتقول : مأكول ؛ ولاجتماعهما مع الإلباس منع الجميع تقديم الخبر في نحو : «زيد قام» ؛ ولانتفاء الأمرين جاز عند البصريّين وهشام تقديم معمول الخبر على المبتدأ في نحو : «زيد ضرب عمرا» وإن لم يجز تقديم الخبر ، فأجازوا «زيدا أجله أحرز» ، وقال البصريّون في قوله [من الطويل] :

٧٩٢ ـ [قنافذ هدّاجون حول بيوتهم]

بما كان إيّاهم عطيّة عوّدا (١)

إن «عطية» مبتدأ ، و «إياهم» مفعول «عوّد» ، والجملة خبر «كان» ، واسمها ضمير الشأن. وقد خفيت هذه النكتة على ابن عصفور ، فقال : هربوا من محذور ـ وهو أن يفصلوا بين «كان» واسمها بمعمول خبرها ـ فوقعوا في محذور آخر ، وهو تقديم معمول الخبر حيث لا يتقدّم خبر المبتدأ وقد بينّا أن امتناع تقديم الخبر في ذلك لمعنى مفقود في تقديم معموله ، وهذا بخلاف علّة امتناع تقديم المفعول على «ما» النافية في نحو : «ما ضربت زيدا» ، فإنه لنفس العلّة المقتضية لامتناع تقديم الفعل عليها ، وهو وقوع «ما» النّافية فيه حشوا.

تنبيه ـ ربما خولف مقتضى هذين الشرطين أو أحدهما في ضرورة أو قليل من الكلام.

فالأول كقوله [من السريع] :

٧٩٣ ـ وخالد يحمد ساداتنا

[بالحقّ ، لا يحمد بالباطل](٢)

وقوله [من الرجز] :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ١ / ١٨١ ، وخزانة الأدب ٩ / ٦٢٨ ، والدرر ٢ / ٧١ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ٢٤٨ ، وشرح ابن عقيل ص ١٤٤.

(٢) البيت من السريع ، وهو بلا نسبة في المقرب ١ / ٨٤.

٤٨٩

٧٩٤ ـ [قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي

عليّ ذنبا] كلّه لم أصنع (١)

وقيل : هو في صيغ العموم أسهل ، ومنه قراءة ابن عامر (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [النساء : ٩٥ ، الحديد : ١٠].

والثاني كقوله [من مجزوء الكامل] :

٧٩٥ ـ بعكاظ يعشي النّاظري

ن إذا هم لمحوا شعاعه (٢)

فإن فيه تهيئة «لمحوا» للعمل في «شعاعه» مع قطعه عن ذلك بإعمال «يعشي» فيه ، وليس فيه إعمال ضعيف دون قوي ، وذكر ابن مالك في قوله [من البسيط] :

٧٩٦ ـ عممتهم بالنّدى حتّى غواتهم

فكنت مالك ذي غيّ وذي رشد (٣)

إنه يروى «غواتهم» بالأوجه الثلاثة ؛ فإن ثبتت رواية الرفع ، فهو من الوارد في النّوع الأول في الشذوذ ؛ إذ لا ضرورة تمنع من الجرّ والنصب ، وقد رويا.

بيان أنه قد يظنّ أن الشيء من باب الحذف ، وليس منه

جرت عادة النحويّين أن يقولوا : يحذف المفعول اختصارا واقتصارا ، ويريدون بالاختصار الحذف لدليل ، وبالاقتصار الحذف لغير دليل ويمثّلونه بنحو : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) [البقرة : ٦٠] أي أوقعوا هذين الفعلين ، وقول العرب فيما يتعدّى إلى اثنين «من يسمع يخل» أي تكن منه خيلة.

والتّحقيق أن يقال : إنه تارة يتعلّق الغرض بالإعلام بمجرّد وقوع الفعل من غير تعيين من أوقعه أو من أوقع عليه ؛ فيجاء بمصدره مسندا إلى فعل كون عام ؛ فيقال : حصل حريق أو نهب.

وتارة يتعلّق بالإعلام بمجرّد إيقاع الفاعل للفعل ؛ فيقتصر عليهما ، ولا يذكر المفعول ، ولا ينوى ؛ إذ المنويّ كالثّابت ، ولا يسمّى محذوفا ، لأن الفعل ينزل لهذا القصد منزلة ما لا مفعول له ، ومنه : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] ، (هَلْ يَسْتَوِي

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) البيت من مجزوء الكامل ، وهو لعاتكة بنت عبد المطلب في الدرر ٥ / ٣١٥ ، وشرح التصريح ١ / ٣٢٠ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٥ / ٢٨٤ ، وأوضح المسالك ٢ / ١٩٩ ، وشرح الأشموني ١ / ٢٠٦.

(٣) البيت من البسيط ، ولم أجده.

٤٩٠

الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] ، (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) [الأعراف : ٣١] ، (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) [الإنسان : ٢٠] ، إذ المعنى : ربي الذي يفعل الإحياء والإماتة ، وهل يستوي من يتّصف بالعلم ومن ينتفي عنه العلم ، وأوقعوا الأكل والشرب ، وذروا الإسراف ، وإذا حصلت منك رؤية هنالك ؛ ومنه على الأصحّ (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) [القصص : ٢٣] الآية ، ألا ترى أنّه عليه الصلاة والسّلام إنّما رحمهما إذ كانتا على صفة الذّياد وقومهما على السّقي ، لا لكون مذودهما غنما ومسقيهم إبلا ، وكذلك المقصود من قولهم : (لا نَسْقِي) [القصص : ٢٣] السقي ، لا المسقي ، ومن لم يتأمل قدّر : يسقون إبلهم ، وتذودان غنمهما ، ولا نسقي غنمنا.

وتارة يقصد إسناد الفعل إلى فاعله وتعليقه بمفعوله ؛ فيذكران ، نحو : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) [آل عمران : ١٣٠] ، (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) [الإسراء : ٣٢] ، وقولك : «ما أحسن زيدا» ؛ وهذا النوع إذا لم يذكر مفعوله قيل : محذوف ، نحو : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) (٣) [الضحى : ٣] ، وقد يكون في اللفظ ما يستدعيه فيحصل الجزم بوجوب تقديره ، نحو : (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) [الفرقان : ٤١] ، (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [الحديد : ١٠] ، وقال [من الوافر] :

٧٩٧ ـ حميت حمى تهامة بعد نجد

وما شيء حميت بمستباح (١)

بيان مكان المقدّر

القياس أن يقدّر الشيء في مكانه الأصليّ ، لئلّا يخالف الأصل من وجهين : الحذف ، ووضع الشيء في غير محلّه.

فيجب أن يقدّر المفسر في نحو : «زيدا رأيته» مقدّما عليه ؛ وجوّز البيانيّون تقديره مؤخّرا عنه ، وقالوا : لأنه يفيد الاختصاص حينئذ ؛ وليس كما توهّموا ، وإنما يرتكب ذلك عند تعذّر الأصل ، أو عند اقتضاء أمر معنويّ لذلك.

فالأول نحو : «أيّهم رأيته» إذ لا يعمل في الاستفهام ما قبله ، ونحو : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) [فصلت : ١٧] فيمن نصب ، إذ لا يلي «أمّا» فعل ؛ وكنا قدّمنا في نحو : «في الدار زيد» أن متعلّق الظرف يقدّر مؤخّرا عن «زيد» ، لأنه في الحقيقة الخبر ، وأصل الخبر أن

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وهو لجرير في ديوانه ١ / ٨٩ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٦ / ٤٢ ، وسر صناعة الأعراب ١ / ٤٠٢.

٤٩١

يتأخّر عن المبتدأ ، ثم ظهر لنا أنه يحتمل تقديره مقدّما لمعارضة أصل آخر ، وهو أنه عامل في الظرف ، وأصل العامل أن يتقدّم على المعمول ، اللهمّ إلا أن يقدّر المتعلق فعلا فيجب التأخير ، لأن الخبر الفعليّ لا يتقدّم على المبتدأ في مثل هذا. وإذا قلت : «إنّ خلفك زيدا» وجب تأخير المتعلق ، فعلا كان أو اسما ، لأن مرفوع «إنّ» لا يسبق منصوبها ؛ وإذا قلت : «كان خلفك زيد» جاز الوجهان ، ولو قدّرته فعلا ، لأن خبر «كان» يتقدّم مع كونه فعلا على الصحيح ، إذ لا تلتبس الجملة الاسمية بالفعلية.

والثاني نحو متعلق باء البسملة الشريفة ، فإن الزمخشريّ قدّره مؤخّرا عنها ، لأن قريشا كانت تقول ، باسم اللات والعزّى نفعل كذا ، فيؤخّرون أفعالهم عن ذكر ما اتّخذوه معبودا لهم تفخيما لشأنه بالتّقديم ، فوجب على الموحّد أن يعتقد ذلك في اسم الله تعالى ، فإنّه الحقيق بذلك ، ثم اعترض بـ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١ ـ ٣] ، وأجاب بأنها أول سورةأنزلت ، فكان تقديم الأمر بالقراءة فيها أهمّ ؛ وأجاب عنه السكاكي بتقديرها متعلّقة بـ «اقرأ» الثاني. واعترضه بعض العصريّين باستلزامه الفصل بين المؤكّد وتأكيده بمعمول المؤكّد. وهذا سهو منه ، إذ لا توكيد هنا ، بل أمر أولا بإيجاد القراءة ، وثانيا بقراءة مقيّدة ، ونظيره : (الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ) [العلق : ١ ـ ٢] ومثل هذا لا يسمّيه أحد توكيدا. ثم هذا الإشكال لازم له على قوله إنّ الباء متعلّقة بـ «اقرأ» الأول لأنّ تقييد الثاني إذا منع من كونه توكيدا فكذا تقييد الأول ؛ ثم لو سلم ففصل الموصوف من صفته بمعمول الصّفة جائز باتّفاق ، كـ «مررت برجل عمرا ضارب» ؛ فكذا في التوكيد ، وقد جاء الفصل بين المؤكّد والمؤكّد في (وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) [الأحزاب : ٥١] مع أنّهما مفردان ، والجمل أحمل للفصل ، وقال الراجز :

٧٩٨ ـ [يا ليتني كنت صبيّا مرضعا ،

تحملني الذلفاء حولا أكتعا (١)

٧٩٩ ـ إذا بكيت قبّلتني أربعا]

، إذا ظللت الدّهر أبكي أجمعا (٢)

تنبيه ـ ذكروا أنه إذا اعترض شرط على آخر نحو : «إن أكلت إن شربت فأنت طالق» ، فإن الجواب المذكور للسّابق منهما ، وجواب الثاني محذوف مدلول عليه بالشرط الأوّل وجوابه ، كما قالوا في الجواب المتأخر عن الشّرط والقسم ؛ ولهذا قال محقّقو

__________________

(١) البيت من الرجز ، وهو بلا نسبة في الدرر ٦ / ٣٥ ، وخزانة الأدب ٥ / ١٦٩ ، ولسان العرب مادة (كتع).

(٢) البيت من الرجز ، وهو لأعرابي في خزانة الأدب ٥ / ١٦٨ ، وبلا نسبة في الدرر ٦ / ٣٦ ، وتاج العروس مادة (كتع).

٤٩٢

الفقهاء في المثال المذكور : إنها لا تطلق حتى تقدّم المؤخّر وتؤخّر المقدم ، وذلك لأن التقدير حينئذ إن شربت فإن أكلت فأنت طالق ، وهذا كلّه حسن ، ولكنهم جعلوا منه قوله تعالى : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) [هود : ٣٤] ، وفيه نظر : إذ لم يتوال شرطان وبعدهما جواب كما في المثال ، وكما في قول الشاعر [من البسيط] :

٨٠٠ ـ إن تستغيثوا بنا تذعروا تجدوا

منّا معاقل عزّ زانها كرم (١)

وقول ابن دريد [من الرجز] :

٨٠١ ـ فإن عثرت بعدها إن وألت

نفسي من هاتا فقولا لا لعا (٢)

إذ الآية الكريمةلم يذكر فيها جواب ، وإنما تقدّم على الشرطين ما هو جواب في المعنى للشرط الأول ؛ فينبغي أن يقدّر إلى جانبه ، ويكون الأصل : إن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم ؛ وأمّا أن يقدّر الجواب بعدهما ثم يقدّر بعد ذلك مقدّما إلى جانب الشرط الأوّل فلا وجه له ، والله أعلم.

بيان مقدار المقدّر

ينبغي تقليله ما أمكن ، لتقلّ مخالفة الأصل.

ولذلك كان تقدير الأخفش في «ضربي زيدا قائما» : ضربه قائما ، أولى من تقدير باقي البصريّين : حاصل إذا كان ـ أو إذ كان ـ قائما ، لأنه قدّر اثنين وقدّروا خمسة ، ولأنّ التقدير من اللفظ أولى.

وكان تقديره في «أنت منّي فرسخان» بعدك مني فرسخان ، أولى من تقدير الفارسي : أنت منّي ذو مسافة فرسخين ؛ لأنه قدّر مضافا لا يحتاج معه إلى تقدير شيء آخر يتعلّق به الظرف ، والفارسيّ قدر شيئين يحتاج معهما إلى تقدير ثالث.

وضعف قول بعضهم في (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٩٣] إن التقدير: حبّ عبادة العجل ، والأولى تقدير الحب فقط.

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر ٧ / ١١٢ ، وخزانة الأدب ١١ / ٣٥٨ ، والدرر ٥ / ٩٠ وشرح الأشموني ٣ / ٥٩٦.

(٢) البيت من الرجز ، ولم أجده.

٤٩٣

وضعف قول الفارسي ومن وافقه (وَاللَّائِي يَئِسْنَ) [الطلاق : ٤] الآية : إن الأصل : واللاء لم يحضن فعدّتهن ثلاثة أشهر ، والأولى أن يكون الأصل : واللاء لم يحضن كذلك.

وكذلك ينبغي أن يقدّر في نحو : «زيد صنع بعمرو جميلا وبخالد سوءا وبكر» أي كذلك ، ولا يقدّر عين المذكور ، تقليلا للمحذوف ، ولأن الأصل في الخبر الإفراد ، ولأنّه لو صرّح بالخبر لم يحسن إعادة ذلك المتقدّم لثقل التكرار.

ولك أن لا تقدّر في الآية شيئا ألبتة ؛ وذلك بأن تجعل الموصول معطوفا على الموصول ، فيكون الخبر المذكور لهما معا ؛ وكذا تصنع في نحو : «زيد في الدّار وعمرو». ولا يتأتّى ذلك في المثال السابق ، لأن إفراد فاعل الفعل يأباه ؛ نعم ، لك أن تسلم فيه من الحذف ، بأن تقدّر العطف على ضمير الفعل لحصول الفصل بينهما.

فإن قلت : لو صحّ ما ذكرته في الآية والمثال السّابق ، لصحّ «زيد قائمان وعمرو» بتقدير : زيد وعمرو قائمان.

قلت : إن سلّم منعه فلقبح اللفظ ، وهو منتف فيما نحن بصدده ، ولكن يشهد للجواز قوله [من الطويل] :

٨٠٢ ـ ولست مقرّا للرّجال ظلامة

أبى ذاك عمّي الأكرمان وخاليا (١)

وقد جوّزوا في «أنت أعلم وزيد» كون «زيد» مبتدأ حذف خبره ، وكونه عطفا على «أنت» ؛ فيكون خبرا عنهما.

باب كيفيّة التّقدير

إذا استدعى الكلام تقدير أسماء متضايفة أو موصوفة ، وصفة مضافة ، أو جارّ ومجرور مضمر عائد على ما يحتاج إلى الرّابط ، فلا تقدّر أنّ ذلك حذف دفعة واحدة ، بل على التدريج.

فالأول نحو : (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ) [الأحزاب : ١٩] أي : كدوران عين الذي.

والثاني كقوله [من الطويل] :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في الدرر ٦ / ١٧ ، وشرح الأشموني ص ٣٩٢.

٤٩٤

٨٠٣ ـ إذا قامتا تضوّع المسك منهما

نسيم الصّبا جاءت بريّا القرنفل (١)

أي : تضوّعا مثل تضوّع نسيم الصّبا.

والثالث كقوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) [البقرة : ٤٨ ، ١٢٣] أي : لا تجزي فيه ، ثم حذفت «في» ، فصار لا تجزيه ، ثم حذف الضمير منصوبا لا مخفوضا.

هذا قول الأخفش ؛ وعن سيبويه أنهما حذفا دفعة واحدة. ونقل ابن الشجري القول الأوّل عن الكسائي ، واختاره. قال : والثاني قول نحويّ آخر ، وقال أكثر أهل العربيّة منهم سيبويه والأخفش : يجوز الأمران ، ا ه. وهو نقل غريب.

ينبغي أن يكون المحذوف من لفظ المذكور مهما أمكن

فيقدّر في «ضربي زيدا قائما» ضربه قائما ، فإنه من لفظ المبتدأ وأقلّ تقديرا ، دون «إذ كان ، أو إذا كان» ؛ ويقدّر «اضرب» دون أهن في «زيدا اضربه».

فإن منع من تقدير المذكور معنى أو صناعة قدّر ما لا مانع له.

فالأول نحو : «زيدا اضرب أخاه» يقدّر فيه «أهن» دون «اضرب» ، فإن قلت : «زيدا أهن أخاه» قدرت : «أهن».

والثاني نحو : «زيدا امرر به» تقدّر فيه «جاوز» دون «امرر» ، لأنه لا يتعدّى بنفسه ؛ نعم ، إن كان العامل مما يتعدّى تارة بنفسه وتارة بالجار نحو «نصح» في قولك : «زيدا نصحت له» جاز أن يقدّر : نصحت زيدا ؛ بل هي أولى من تقدير غير الملفوظ به.

ومما لا يقدّر فيه مثل المذكور لمانع صناعيّ قوله [من الرجز] :

٨٠٤ ـ يا أيّها الماتح دلوي دونكا

[إنّي رأيت النّاس يحمدونكا](٢)

إذا قدّر «دلوي» منصوبا فالمقدّر : خذ ، لا دونك ، وقد مضى ، وقوله [من الطويل] :

٨٠٥ ـ [أكرّ وأحمى للحقيقة منهم]

وأضرب منّا بالسّيوف القوانسا (٣)

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١٥ بلفظ : (إذا التفتت نحوي تضوع ريحها ...) وخزانة الأدب ٣ / ١٦٠ ، ورصف المباني ص ٣١٢ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ٣٤٣ ، ولسان العرب مادة (ضوع).

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) البيت من الطويل ، وهو لعباس بن مرداس في ديوانه ص ٦٩ ، والأصمعيات ص ٢٠٥ ، وخزانة الأدب ٧ / ١٠ ، وشرح الأشموني.

٤٩٥

الناصب فيه للقوانس فعل محذوف ، لا اسم تفضيل محذوف ، لأنّا فررنا بالتقدير من إعمال اسم التفضيل المذكور في المفعول ، فكيف يعمل فيه المقدّر؟ وقولك : «هذا معطي زيد أمس درهما» التقدير : أعطاه ، ولا يقدّر اسم فاعل ، لأنك إنما فررت بالتقدير من إعمال اسم الفاعل الماضي المجرّد من «أل». وقال بعضهم في قوله تعالى : (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا) [طه : ٧٢] : إن الواو للقسم ، فعلى هذا دليل الجواب المحذوف جملة النفي السّابقة ، ويجب أن يقدر : والذي فطرنا لا نؤثرك ، لأن القسم لا يجاب بـ «لن» إلّا في الضرورة كقول أبي طالب [من الكامل] :

٨٠٦ ـ والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتّى أوسّد في التّراب دفينا (١)

وقال الفارسي ومتابعوه في (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) [الطلاق : ٤] التقدير : فعدتهنّ ثلاثة أشهر ، وهذا لا يحسن وإن كان ممكنا ، لأنه لو صرّح به اقتضت الفصاحة أن يقال :كذلك ، ولا تعاد الجملة الثانية.

إذا دار الأمر بين كون المحذوف مبتدأ

وكونه خبرا فأيهّما أولى؟

قال الواسطي : الأولى كون المحذوف المبتدأ ، لأن الخبر محطّ الفائدة. وقال العبدي : الأولى كونه الخبر ، لأن التجوّز في أواخر الجملة أسهل ، نقل القولين ابن إياز.

ومثال المسألة (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف : ١٨ ، ٨٣] أي : شأني صبر جميل ، أو صبر جميل أمثل من غيره ؛ ومثله (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) [النور : ٥٣] أي : الذي يطلب منكم طاعة معلومة لا يرتاب فيها ، لا إيمان باللسان لا يواطئه القلب ؛ أو طاعتكم معروفة ، أي : عرف أنها بالقول دون الفعل ؛ أو طاعة معروفة أمثل بكم من هذه الأيمان الكاذبة.

ولو عرض ما يوجب التعيين عمل به ، كما في «نعم الرّجل زيد» على القول بأنّهما جملتان ؛ إذ لا يحذف الخبر وجوبا إلا سدّ شيء مسدّه ؛ ومثله «حبّذا زيد» إذا حمل على الحذف ؛ وجزم كثير من النحويّين في نحو «عمرك» «لأفعلنّ» ، و «أيمن الله لأفعلنّ» بأنّ

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو لأبي طالب في الجنى الداني ص ٢٧٠ ، وخزانة الأدب ٣ / ٢٩٦ ، والدرر ٤ / ٢٢٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٨٦.

٤٩٦

المحذوف الخبر ؛ وجوّز ابن عصفور كونه المبتدأ ، ولذلك لم يعدّه فيما يجب فيه حذف الخبر ، لعدم تعيّنه عنده لذلك ، قال : والتقدير إمّا قسمي أيمن الله ، أو أيمن الله قسم لي ، ا ه. ولو قدرت أيمن الله قسمي ، لم يمتنع ؛ إذ المعرفة المتأخّرة عن معرفة يجب كونها الخبر على الصّحيح.

إذا دار الأمر بين كون المحذوف فعلا والباقي فاعلا

وكونه مبتدأ والباقي خبرا ، فالثاني أولى

لأن المبتدأ عين الخبر ؛ فالمحذوف عين الثابت ؛ فيكون الحذف كلا حذف ، فأما الفعل فإنه غير الفاعل.

اللهم إلا أن يعتضد الأول برواية أخرى في ذلك الموضع ، أو بموضع آخر يشبهه ، أو بموضع آت على طريقته.

فالأول كقراءة شعبة : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها) [النور : ٣٦] بفتح الباء ؛ وكقراءة ابن كثير : يسبح له فيها كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم [الشورى : ٣] بفتح الحاء ؛ وكقراءة بعضهم : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) [الأنعام : ١٣٧] ببناء «زيّن» للمفعول ، ورفع «القتل» و «الشركاء» ـ وكقوله [من الطويل] :

٨٠٧ ـ ليبك يزيد ، ضارع لخصومة

[ومختبط ممّا تطيح الطّوائح](١)

فيمن رواه مبنيّا للمفعول ، فإن التقدير : يسبّحه رجال ، ويوحيه الله ، وزيّنه شركاؤهم ، ويبكيه ضارع ، ولا تقدر هذه المرفوعات مبتدآت حذفت أخبارها ، لأن هذه الأسماء قد ثبتت فاعليتها في رواية من بنى الفعل فيهنّ للفاعل.

والثاني كقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [الزخرف : ٨٧] ، فلا يقدّر : ليقولن الله خلقهم ، بل : خلقهم الله ؛ لمجيء ذلك في شبه هذا الموضع ، وهو : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) [الزخرف : ٩] ، وفي مواضع

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للحارث بن نهيك في خزانة الأدب ١ / ٣٠٣ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٩٤ ، وللبيد بن ربيعة في ملحق ديوانه ص ٣٦٢ ، ولنهشل بن حري في خزانة الأدب ١ / ٣٠٣ ، ولضرار بن نهشل في الدرر ٢ / ٢٨٦.

٤٩٧

آتية على طريقته ، نحو : (قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) [التحريم : ٣] ، (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها) [يس : ٧٨ ـ ٧٩].

إذا دار الأمر بين كون المحذوف أولا ، أو ثانيا فكونه ثانيا أولى

وفيه مسائل :

إحداها : نون الوقاية في نحو : (أَتُحاجُّونِّي) [الأنعام : ٨٠] ، و (تَأْمُرُونِّي) [الزمر : ٦٤] فيمن قرأ بنون واحدة وهو قول أبي العباس وأبي سعيد وأبي علي وأبي الفتح وأكثر المتأخّرين ؛ وقال سيبويه واختاره ابن مالك : إن المحذوف الأولى.

الثانية : نون الوقاية مع نون الإناث في نحو قوله [من الوافر] :

٨٠٨ ـ [تراه كالثّغام يعلّ مسكا]

يسوء الفاليات إذا فليني (١)

هذا هو الصحيح ، وفي البسيط أنه مجمع عليه ؛ لأن نون الفاعل لا يليق بها الحذف ، ولكن في التسهيل أنّ المحذوف الأولى ، وأنّه مذهب سيبويه.

الثالثة : تاء الماضي مع تاء المضارع في نحو : (ناراً تَلَظَّى) [الليل : ١٤] ، وقال أبو البقاء في قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)) [آل عمران : ٦٣] يضعف كون (تَوَلَّوْا) فعلا مضارعا ؛ لأن أحرف المضارعة لا تحذف ، ا ه. وهذا فاسد؟ لأن المحذوف الثانية ، وهو قول الجمهور ، والمخالف في ذلك هشام الكوفي ، ثم إن التنزيل مشتمل على مواضع كثيرة من ذلك لا شك فيها نحو : (ناراً تَلَظَّى) [الليل : ١٤] ، (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) [آل عمران : ١٤٣].

الرابعة : نحو : «مقول» و «مبيع» ، المحذوف منهما واو «مفعول» ، والباقي عين الكلمة ، خلافا للأخفش.

الخامسة : نحو : «إقامة» و «استقامة» ، المحذوف منهما ألف الإفعال والاستفعال والباقي عين الكلمة ، خلافا للأخفش أيضا.

السادسة : نحو [من الرجز] :

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لعمرو بن معد يكرب في ديوانه ص ١٨٠ ، وخزانة الأدب ٥ / ٣٧١ ، والدرر ١ / ٢١٣ ، ولسان العرب ١٥ / ١٦٣ مادة مادة / فلا / ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ٨٥ ، وجمهرة اللغة ص ٤٥٩ ، ولسان العرب ٢ / ٢٤٦.

٤٩٨

٨٠٩ ـ يا زيد زيد اليعملات الذّبّل

[تطاول اللّيل عليك فانزل](١)

بفتحهما ، و [من المنسرح] :

٨١٠ ـ [يا من رأى عارضا أسرّ به]

بين ذراعي وجبهة الأسد (٢)

وهذا هو الصحيح ، خلافا للمبرد.

السابعة : نحو : «زيد وعمرو قائم» ، ومذهب سيبويه أن الحذف فيه من الأول لسلامته من الفصل ، ولأنّ فيه إعطاء الخبر للمجاور ، مع أن مذهبه في نحو [من الرجز]:

يا زيد زيد اليعملات

أن الحذف من الثاني. قال ابن الحاجب : إنما اعترض بالمضاف الثاني بين المتضايفين ليبقى المضاف إليه المذكور في اللفظ عوضا ممّا ذهب ؛ وأمّا هنا فلو كان «قائم» خبرا عن الأول لوقع في موضعه ، إذ لا ضرورة تدعو إلى تأخيره ؛ إذ كان الخبر يحذف بلا عوض ، نحو : «زيد قائم وعمرو» من غير قبح في ذلك ، ا ه. وقيل أيضا : كلّ من المبتدأين عامل في الخبر ؛ فالأولى إعمال الثاني لقربه ، ويلزم من هذا التعليل أن يقال بذلك في مسألة الإضافة.

تنبيه ـ الخلاف إنما هو عند التردّد ، وإلا فلا تردّد في أن الحذف من قوله [من المنسرح] :

٨١١ ـ نحن بما عندنا ، وأنت بما

عندك راض ، والرّأي مختلف (٣)

وقوله [من الطويل] :

٨١٢ ـ خليليّ هل طبّ؟ فإنّي وأنتما ،

وإن لم تبوحا بالهوى ، دنفان (٤)

ومن الثاني في قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ

__________________

(١) البيت من الرجز ، وهو لعبد الله بن رواحة في ديوانه ص ٩٩ ، ولسان العرب مادة (عمل) ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٠٢ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ١٠٠.

(٢) البيت من المنسرح ، وهو للفرزدق في ديوانه ص ٢١٥ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣١٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٧٩٩ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١ / ١٠٠ ، وخزانة الأدب ١٠ / ١٨٧.

(٣) البيت من المنسرح ، وهو لقيس بن الخطيم في ملحق ديوانه ص ٢٣٩ ، وتخليص الشواهد ص ٢٠٥ ، والدرر ٥ / ٣١٤ ، ولعمرو بن امرىء القيس الخزرجي في الدرر ١ / ١٤٧.

(٤) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ٣٦٢ ، وتخليص الشواهد ص ٣٧٤ وشرح الأشموني ١ / ١٤٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٦٦.

٤٩٩

لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) [الإسراء : ٨٨] ، إذ لو كان الجواب للثاني لجزم ، فقلنا بذلك في نحو : «إن أكلت إن شربت فأنت طالق» ، وفي (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ) [الواقعة : ٨٨ ـ ٨٩] ، ونحو : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ) [الفتح : ٢٥] ، ثم قال تعالى : (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا) [الفتح : ٢٥] ، وانبنى على ذلك في المثال أنها لا تطلق حتى تؤخّر المقدّم وتقدّم المؤخّر ، إذ التقدير : إن أكلت فأنت طالق إن شربت ؛ وجواب الثاني في هذا الكلام من حيث المعنى هو الشرط الأول وجوابه ؛ كما أن الجواب من حيث المعنى في «أنت ظالم إن فعلت» ما تقدم على اسم الشرط ، بل قال جماعة : إنه الجواب في الصناعة أيضا.

ومن ذلك قوله [من الطويل] :

٨١٣ ـ [فمن يك أمسى بالمدينة رحله]

فإنّي وقيّار بها لغريب (١)

وقد تكلّف بعضهم في البيت الأول ، فزعم أن «نحن» للمعظّم نفسه ، وأنّ «راض» خبر عنه ، ولا يحفظ مثل «نحن قائم» بل يجب في الخبر المطابقة نحو : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦)) [الصافات : ١٦٥ ـ ١٦٦] ، وأما (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) [المؤمنون : ٩٩] فأفرد ، ثم جمع لأن غير المبتدأ والخبر لا يجب لهما من التطابق ما يجب لهما.

ذكر أماكن من الحذف يتمرّن بها المعرب

حذف الاسم المضاف ـ (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] ، (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ) [النحل : ٢٦] أي : أمره ، لاستحالة الحقيقي ؛ فأما (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة : ١٧] فالباء للتّعدية ، أي : أذهب الله نورهم.

ومن ذلك ما نسب فيه حكم شرعيّ إلى ذات ، لأن الطلب لا يتعلّق إلا بالأفعال ، نحو : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النساء : ٢٣] أي : استمتاعهنّ ، (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] ، أي : أكلها ، (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ) [النساء : ١٦٠] أي : تناولها ، لا أكلها ، ليتناول شرب ألبان الإبل ، (حُرِّمَتْ ظُهُورُها) [الأنعام : ١٣٨] أي : منافعها ، ليتناول الركوب والتّحميل ، ومثله (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ) [الحج : ٣٠].

ومن ذلك ما علق فيه الطلب بما قد وقع ، نحو : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١] ، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) [النحل : ٩١] ، فإنهما قولان قد وقعا فلا يتصوّر فيهما نقض ولا وفاء ،

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لضابىء بن الحارث البرجمي في الأصمعيات ص ١٨٤ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣٢٦ والدرر ٦ / ١٨٢ ، وشرح شواهد المغني ص ٨٦٧ ، ولسان العرب ٥ / ١٢٥ مادة / قير /.

٥٠٠