شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

محمّد بن أبي بكر الدماميني

شرح الدماميني على المغني اللبيب - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أبي بكر الدماميني


المحقق: الشيخ أحمد عزّو عناية
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٢
الجزء ١ الجزء ٢

والثالث : الاستعلاء ، ذكره الأخفش والكوفيّون ، وأن بعضهم قيل له : «كيف أصبحت؟» فقال : «كخير» ، أي : على خير ، وقيل : المعنى : بخير ، ولم يثبت مجيء الكاف بمعنى الباء ، وقيل : هي للتشبيه على حذف مضاف ، أي : كصاحب خير.

وقيل في «كن كما أنت» : إن المعنى : على ما أنت عليه ، وللنحويّين في هذا المثال أعاريب :

أحدها : هذا ، وهو أن «ما» موصولة ، و «أنت» : مبتدأ حذف خبره.

والثاني : أنها موصولة ، و «أنت» خبر حذف مبتدؤه ، أي : كالذي هو أنت ، وقد قيل بذلك في قوله تعالى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] ، أي : كالذي هو لهم آلهة.

والثالث : أن «ما» زائدة ملغاة ، والكاف أيضا جارّة كما في قوله [من الطويل]:

٨١ ـ وننصر مولانا ونعلم أنّه

كما النّاس مجروم عليه وجارم (١)

و «أنت» : ضمير مرفوع أنيب عن المجرور ، كما في قولهم : «ما أنا كأنت» ، والمعنى : كن فيما يستقبل مماثلا لنفسك فيما مضى.

والرابع : أن «ما» كافّة ، و «أنت» : مبتدأ حذف خبره ، أي : عليه أو كائن ، وقد قيل في : (كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] : إن «ما» كافة ، وزعم صاحب المستوفى أن الكاف لا تكفّ بـ «ما» ، وردّ عليه بقوله [من الوافر] :

٨٢ ـ وأعلم أنني وأبا حميد

كما النّشوان والرّجل الحليم (٢)

وقوله [من الطويل] :

٨٣ ـ أخ ماجد لم يخزني يوم مشهد ،

كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه (٣)

وإنما يصحّ الاستدلال بهما إذا لم يثبت أنّ «ما» المصدريّة توصل بالجملة الاسمية.

الخامس : أن «ما» كافة أيضا ، و «أنت» : فاعل ، والأصل : كما كنت ، ثم حذف

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لعمر بن براقة في أمالي القالي ٢ / ١٢٢ ، والدرر ٤ / ٢١٠ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ١٣ ، وخزانة الأدب ١٠ / ٢٠٧ ، والدرر ٦ / ٨١.

(٢) البيت من البحر الوافر ، وهو لزياد الأعجم في ديوانه ص ٩٧ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٣٤٨.

(٣) البيت من البحر الطويل ، وهو لنهشل بن حري في الدرر ٤ / ٢٠٩ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ٦٨ ، وجواهر الأدب ص ١٣٢.

١٠١

«كان» فانفصل الضمير ، وهذا بعيد ، بل الظاهر أن «ما» على هذا التقدير مصدريّة.

تنبيه ـ تقع «كما» بعد الجمل كثيرا صفة في المعنى ؛ فتكون نعتا لمصدر أو حالا ، ويحتملهما قوله تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء : ١٠٤] ، فإن قدّرته نعتا لمصدر فهو إما معمول لـ «نعيده» ، أي : نعيد أول خلق إعادة مثل ما بدأناه ، أو لـ «نطوي» ، أي : نفعل هذا الفعل العظيم كفعلنا هذا الفعل ؛ وإن قدّرته حالا فذو الحال مفعول نعيده ، أي : نعيده مماثلا للذي بدأنا ، وتقع كلمة «كذلك» أيضا كذلك.

فإن قلت : فكيف اجتمعت مع «مثل» في قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) [البقرة : ١١٨] ، و «مثل» في المعنى نعت لمصدر قال المحذوف ، أي : كما أن كذلك نعت له ، ولا يتعدّى عامل واحد لمتعلّقين بمعنى واحد ، لا تقول : «ضربت زيدا عمرا» ؛ ولا يكون «مثل» تأكيدا لكذلك ، لأنه أبين منه ، كما لا يكون «زيد» من قولك : «هذا زيد يفعل كذا» توكيدا لهذا لذلك ، ولا خبرا لمحذوف بتقدير : الأمر كذلك ، لما يؤدّي إليه من عدم ارتباط ما بعده بما قبله.

قلت : «مثل» بدل من «كذلك» ، أو بيان ، أو نصب بـ «يعلمون» ، أي : لا يعلمون اعتقاد اليهود والنصارى ، فـ «مثل» بمنزلتها في «مثلك لا يفعل كذا» أو نصب بقال ، أو الكاف مبتدأ والعائد محذوف ، أي : قاله. وردّ ابن الشجري ذلك على مكي بأن قال : قد استوفى معموله وهو «مثل» ، وليس بشيء ، لأن «مثل» حينئذ مفعول مطلق أو مفعول به لـ «يعلمون» والضمير المقدّر مفعول به لقال.

والمعنى الرابع : المبادرة ، وذلك إذا تّصلت بـ «ما» في نحو : «سلّم كما تدخل» ، و «صلّ كما يدخل الوقت» ، ذكره ابن الخبّاز في النهاية ، وأبو سعيد السيرافي ، وغيرهما ، وهو غريب جدا.

والخامس : التوكيد ، وهي الزائدة نحو : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١]. قال الأكثرون : التقدير : ليس شيء مثله ؛ إذ لو لم تقدّر زائدة صار المعنى : ليس شيء مثل مثله ، فيلزم المحال ، وهو إثبات المثل ، وإنما زيدت لتوكيد نفي المثل ؛ لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة ثانيا ، قاله ابن جني ، ولأنهم إذا بالغوا في نفي الفعل عن أحد قالوا : «مثلك لا يفعل كذا» ، ومرادهم إنما هو النفي عن ذاته ، ولكنهم إذا نفوه عمن هو على أخصّ أوصافه فقد نفوه عنه.

١٠٢

وقيل : الكاف في الآية غير زائدة ، ثم اختلف ؛ فقيل : الزائد «مثل» ، كما زيدت في (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) [البقرة : ١٣٧] قالوا : وإنما زيدت هنا لتفصل الكاف من الضمير ، ا ه.

والقول بزيادة الحرف أولى من القول بزيادة الاسم ، بل زيادة الاسم لم تثبت ، وأما (بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ) [البقرة : ١٣٧] فقد يشهد للقائل بزيادة «مثل» فيها قراءة ابن عباس بما آمنتم به ، وقد تؤوّلت قراءة الجماعة على زيادة الباء في المفعول المطلق ، أي : إيمانا مثل إيمانكم به ، أي بالله سبحانه ، أو بمحمد عليه الصلاة والسّلام ، أو بالقرآن. وقيل : «مثل» للقرآن ، و «ما» للتوراة ، أي : فإن آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم ، وفي الآية الأولى قول ثالث ، وهو أن الكاف و «مثلا» لا زائد منهما ، ثم اختلف ، فقيل : «مثل» بمعنى الذات ، وقيل : بمعنى الصّفة ، وقيل : الكاف اسم مؤكّد بـ «مثل» ، كما عكس ذلك من قال [من الرجز] :

٨٤ ـ [ولعبت طير بهم أبابيل]

فصيّروا مثل كعصف مأكول (١)

وأما الكاف الاسميّة الجارّة فمرادفة لـ «مثل» ، ولا تقع كذلك عند سيبويه والمحقّقين إلا في الضرورة ، كقوله [من الرجز] :

٨٥ ـ بيض ثلاث كنعاج جمّ

يضحكن عن كالبرد المنهمّ (٢)

وقال كثير منهم الأخفش والفارسيّ : يجوز في الاختيار ، فجوزوا في نحو : «زيد كالأسد» أن تكون الكاف في موضع رفع ، و «الأسد» مخفوضا بالإضافة.

ويقع مثل هذا في كتب المعربين كثيرا ، قال الزمخشري في : (فَأَنْفُخُ فِيهِ) [آل عمران : ٤٩] : إن الضمير راجع للكاف من (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) [آل عمران : ٤٩] ، أي : فأنفخ في ذلك الشيء المماثل فيصير كسائر الطيور ، انتهى. ووقع مثل ذلك في كلام غيره.

ولو كان كما زعموا لسمع في الكلام مثل «مررت بكالأسد».

وتتعيّن الحرفية في موضعين ؛ أحدهما : أن تكون زائدة ، خلافا لمن أجاز زيادة الأسماء ، والثاني : أن تقع هي ومخفوضها صلة كقوله [من الرجز] :

__________________

(١) البيت من الرجز ، وهو بلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ٥٢ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٢٩٦.

(٢) البيت من الرجز ، وهو بلا نسبة في جمهرة اللغة مادة (همم) ، ولسان العرب مادة (همم) ، وأوضح المسالك ٣ / ٥٤.

١٠٣

٨٦ ـ ما يرتجى وما يخاف جمعا ،

فهو الذي كاللّيث والغيث معا (١)

خلافا لابن مالك في إجازته أن يكون مضافا ومضافا إليه على إضمار مبتدأ ، كما في قراءة بعضهم : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) [الأنعام : ١٥٤] ، وهذا تخريج للفصيح على الشاذّ ، وأما قوله [من مشطور السريع] :

٨٧ ـ [لم يبق من آي بها يحلّين

غير رماد وخطام كنفين

٨٨ ـ وغير ودّ جازل أو ودّين]

وصاليات ككما يؤثفين (٢)

فيحتمل أن الكافين حرفان أكّد أوّلهما بثانيهما كما قال [من الوافر] :

٨٩ ـ فلا والله لا يلفى لما بي

ولا للما بهم أبدا دواء (٣)

وأن يكونا اسمين أكّد أيضا أولهما بثانيهما ، وأن تكون الأولى حرفا والثانية اسما.

وأما الكاف غير الجارّة فنوعان : مضمر منصوب أو مجرور نحو : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) [الضحى : ٣] ، وحرف معنى لا محلّ له ومعناه الخطاب ، وهي اللاحقة لاسم الإشارة ، نحو «ذلك» ، و «تلك» ، وللضمير المنفصل المنصوب في قولهم : «إيّاك» ، و «إيّاكما» ونحوهما ، هذا هو الصحيح ، ولبعض أسماء الأفعال ، نحو : «حيهلك» ، و «رويدك» ، و «النّجاءك» ، ول «أرأيت» بمعنى : أخبرني ، نحو : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) [الإسراء : ٦٢] فالتاء فاعل ، والكاف حرف خطاب ، هذا هو الصحيح ، وهو قول سيبويه ، وعكس ذلك الفراء فقال : التاء حرف خطاب ، والكاف فاعل ، لكونها المطابقة للمسند إليه ، ويردّه صحّة الاستغناء عن الكاف ، وأنها لم تقع قطّ مرفوعة. وقال الكسائي : التاء فاعل ، والكاف مفعول ، ويلزمه أن يصحّ الاقتصار على المنصوب في نحو : «أرأيتك زيدا ما صنع» لأنه المفعول الثاني ، ولكنّ الفائدة لا تتمّ عنده ، وأما (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) [الإسراء : ٦٢] فالمفعول الثاني محذوف ، أي : لم كرّمته علي وأنا خير منه؟ وقد تلحق ألفاظا أخر شذوذا ، وحمل على ذلك الفارسيّ قوله [من الوافر] :

__________________

(١) لم أجده.

(٢) البيتان من مشطور السريع ، وهو لحطام المجاشعي في تهذيب اللغة مادة (ثفا) ، ولسان العرب مادة (ثفا).

(٣) البيت من البحر الوافر ، وهو لمسلم بن معبد الوالبي في خزانة الأدب ٢ / ٣٠٨ ـ ٣١٢ والدرر ٥ / ١٤٧ ، وشرح شواهد المغني ص ٧٧٣ ، وبلا نسبة في الإنصاف ص ٥٧١ ، وأوضح المسالك ٣ / ٣٤٣ ، وسر صناعة الإعراب ص ٢٨٢ ـ ٣٣٢.

١٠٤

٩٠ ـ لسان الشّوء تهديها إلينا

وحنت ، وما حسبتك أن تحينا (١)

لئلّا يلزم الإخبار عن اسم العين بالمصدر ، وقيل : يحتمل كون «أن» وصلتها بدلا من الكاف سادّا مسدّ المفعولين كقراءة حمزة (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ) [آل عمران : ١٧٨] بالخطاب.

* (كي) على ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون اسما مختصرا من «كيف» كقوله [من البسيط] :

٩١ ـ كي تجنحون إلى سلم ، وما ثئرت

قتلاكم ، ولظى الهيجاء تضطرم (٢)؟

أراد : كيف ، فحذف الفاء كما قال بعضهم «سو أفعل» يريد : سوف.

الثاني : أن تكون بمنزلة لام التعليل معنى وعملا ، وهي الداخلة على «ما» الاستفهامية في قولهم في السؤال عن العلة : «كيمة» بمعنى : لمه ، وعلى «ما» المصدريّة في قوله [من الطويل] :

٩٢ ـ إذا أنت لم تنفع فضرّ ، فإنّما

يرجّى الفتى كيما يضرّ وينفع (٣)

وقيل : «ما» كافّة ، وعلى «أن» المصدريّة مضمرة نحو : «جئتك كي تكرمني» إذا قدّرت النّصب بـ «أن».

الثالث : أن تكون بمنزلة «أن» المصدرية معنى وعملا ، وذلك في نحو : (لِكَيْلا تَأْسَوْا) [الحديد : ٢٣] ويؤيّده صحّة حلول «أن» محلّها ، ولأنها لو كانت حرف تعليل لم يدخل عليها حرف تعليل ، ومن ذلك : «جئتك كي تكرمني» ، وقوله تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً) [الحشر : ٧] إذا قدّرت اللام قبلها ، فإن لم تقدّر فهي تعليليّة جارّة ، ويجب حينئذ إضمار «أن» بعدها. ومثله في الاحتمالين قوله [من الطويل] :

٩٣ ـ أردت لكيما أن تطير بقربتي

[فتتركها شنّا ببيداء بلقع](٤)

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وهو بلا نسبة في جواهر الأدب ص ١٢٥ ، والدرر ١ / ٢٤٠ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٥٠٦.

(٢) البيت من البحر البسيط ، وهو بلا نسبة في جواهر الأدب ص ٢٣٣ ، وخزانة الأدب ٧ / ١٠٦ ، والدرر ٣ / ١٣٥ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٥٠٧.

(٣) البيت من البحر الطويل ، وهو لرشيد بن رميض الغنوي في لسان العرب ٨ / ٤١٤ مادة (يفع) ، وتاج العروس ٢٢ / ٤٣٢ مادة (ديفع).

(٤) البيت من البحر الطويل ، وهو بلا نسبة في الإنصاف ٢ / ٥٨٠ ، وأوضح المسالك ٤ / ١٥٤ ، وخزانة الأدب ١ / ١٦ ، ٨ / ٤٨١ ، ورصف المباني ص ٢١٦ ـ ٣١٦.

١٠٥

فكي إما تعليليّة مؤكّدة للّام ، أو مصدريّة مؤكّدة بـ «أن» ، ولا تظهر «أن» بعد «كي» إلّا في الضرورة كقوله [من الطويل] :

٩٤ ـ فقالت أكلّ النّاس أصبحت مانحا

لسانك كيما أن تغرّ وتخدعا؟ (١)

وعن الأخفش أن «كي» جارة دائما ، وأن النصب بعدها بـ «أن» ظاهرة أو مضمرة ، ويردّه نحو : (لِكَيْلا تَأْسَوْا) [الحديد : ٢٣] فإن زعم أن «كي» تأكيد للام كقوله [من الوافر] :

٩٥ ـ [فلا والله لا يلفى لما بي

ولا للما بهم أبدا دواء (٢)

ردّ بأن الفصيح المقيس لا يخرّج على الشاذّ ، وعن الكوفيّين أنها ناصبة دائما ، ويردّه قولهم «كيمه» كما يقولون : «لمه» ، وقول حاتم [من الطويل] :

٩٦ ـ وأوقدت ناري كي ليبصر ضوؤها ،

وأخرجت كلبي وهو في البيت داخله (٣)

لأن لام الجرّ لا تفصل بين الفعل وناصبه ، وأجابوا عن الأول بأن الأصل : «كي يفعل ما ذا» ويلزمهم كثرة الحذف ، وإخراج «ما» الاستفهامية عن الصّدر ، وحذف ألفها في غير الجرّ ، وحذف الفعل المنصوب مع بقاء عامل النصب ، وكل ذلك لم يثبت ؛ نعم وقع في صحيح البخاري في تفسير : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) (٢٢) [القيامة : ٢٢] : «فيذهب كيما فيعود ظهره طبقا واحدا» ، أي : كيما يسجد ، وهو غريب جدا لا يحتمل القياس عليه.

تنبيه ـ إذا قيل «جئت لتكرمني» بالنصب فالنصب بـ «أن» مضمرة ، وجوّز أبو سعيد كون المضمر «كي» ، والأولى أولى ؛ لأنّ «أن» أمكن في عمل النصب من غيرها ؛ فهي أقوى على التجوّز فيها بأن تعمل مضمرة.

* (كم) على وجهين : خبرية بمعنى «كثير» ، واستفهاميّة بمعنى أي عدد.

ويشتركان في خمسة أمور : الاسمية ، والإبهام ، والافتقار إلى التمييز ، والبناء ، ولزوم التصدير ، وأما قول بعضهم في : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) (٣١) [يس : ٣١] : أبدلت «أنّ» وصلتها من «كم» فمردود ، بأن عامل البدل هو عامل المبدل منه ، فإن قدر عامل المبدل منه «يروا» فـ «كم» لها الصّدر فلا يعمل فيها ما قبلها ،

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لجميل بثينة في ديوانه ص ١٠٨ ، وخزانة الأدب ٨ / ٤٨١ ـ ٤٨٢ ، والدرر ٤ / ٦٧ وبلا نسبة في أوضح المسالك ٣ / ١١ ، وخزانة الأدب ص ١٢٥ ، ورصف المباني ص ٢١٧.

(٢) البيت من البحر الوافر ، وهو بلا نسبة في سر صناعة الإعراب ١ / ٢٨٢ ، والخصائص ٢ / ٢٨٢.

(٣) البيت من البحر الطويل ، انظر ديوان الحماسة ٢ / ٣٢٤.

١٠٦

وإن قدّر «أهلكنا» فلا تسلّط له في المعنى على البدل ؛ والصّواب أن «كم» مفعول لـ «أهلكنا» ، والجملة إما مفعولة لـ «يروا» على أنه علّق عن العمل في اللفظ ، و «أنّ» وصلتها مفعول لأجله ؛ وإما معترضة بين «يروا» وما سدّ مسدّ مفعوليه وهو «أنّ» وصلتها ؛ وكذلك قول ابن عصفور في : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا) [السجدة : ٢٦] : إن «كم» فاعل مردود بأن «كم» لها الصدر ، وقوله إن ذلك جاء على لغة رديئة حكاها الأخفش عن بعضهم أنه يقول «ملكت كم عبيد» فيخرجها عن الصدريّة خطأ عظيم ؛ إذ خرّج كلام الله سبحانه على هذه اللغة ، وإنما الفاعل ضمير اسم الله سبحانه ، أو ضمير العلم أو الهدى المدلول عليه بالفعل ، أو جملة (أَهْلَكْنا) على القول بأن الفاعل يكون جملة إما مطلقا أو بشرط كونها مقترنة بما يعلّق عن العمل والفعل قلبيّ ، نحو : «ظهر لي أقام زيد» ؛ وجوّز أبو البقاء كونه ضمير الإهلاك المفهوم من الجملة ، وليس هذا من المواطن التي يعود الضمير فيها على المتأخر.

ويفترقان في خمسة أمور :

أحدها : أن الكلام مع الخبريّة محتمل للتّصديق والتكذيب ، بخلافه مع الاستفهامية.

الثاني : أن المتكلّم بالخبريّة لا يستدعي من مخاطبه جوابا لأنه مخبر ، والمتكلم بالاستفهامية يستدعيه لأنه مستخبر.

الثالث : أن الاسم المبدل من الخبريّة لا يقترن بالهمزة ، بخلاف المبدل من الاستفهامية ، يقال في الخبرية : «كم عبيد لي خمسون بل ستون» ، وفي الاستفهامية : «كم مالك أعشرون أم ثلاثون».

الرابع : أن تمييز «كم» الخبريّة مفرد أو مجموع ، تقول : «كم عبد ملكت» و «كم عبيد ملكت» ، قال [من مجزوء المديد] :

٩٧ ـ كم ملوك باد ملكهم

ونعيم سوقة بادوا (١)

وقال الفرزدق [من الكامل] :

٩٨ ـ كم عمّة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت عليّ عشاري (٢)

__________________

(١) البيت من مجزوء المديد ، وهو بلا نسبة في الدرر ٤ / ٤٧ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٥١١ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٩٥.

(٢) البيت من البحر الكامل ، وهو للفرزدق في ديوانه ١ / ٣٦١ ، والأشباه والنظائر ٨ / ١٢٣ ، وأوضح المسالك ـ

١٠٧

ولا يكون تمييز الاستفهامية إلّا مفردا ، خلافا للكوفيين.

الخامس : أن تمييز الخبريّة واجب الخفض ، وتمييز الاستفهاميّة منصوب ، ولا يجوز جرّه مطلقا خلافا للفرّاء والزجاج وابن السرّاج وآخرين ، بل يشترط أن تجر «كم» بحرف جرّ ، فحينئذ يجوز في التمييز وجهان : النصب وهو الكثير ، والجرّ خلافا لبعضهم ، وهو بـ «من» مضمرة وجوبا ، لا بالإضافة خلافا للزجّاج.

وتلخص أن في جرّ تمييزها أقوالا : الجواز ، والمنع ، والتّفصيل ، فإن جرّت هي بحرف جرّ نحو : «بكم درهم اشتريت» جاز وإلّا فلا.

وزعم قوم أن لغة تميم جواز نصب تمييز «كم» الخبريّة إذا كان الخبر مفردا ، وروي قول الفرزدق [من الكامل] :

٩٩ ـ كم عمّة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت عليّ عشاري

بالخفض على قياس تمييز الخبرية ، وبالنصب على اللغة التميميّة ، أو على تقديرها استفهامية استفهام تهكّم ، أي : أخبرني بعدد عمّاتك وخالاتك اللّاتي كنّ يخدمنني فقد نسيته ، وعليهما فـ «كم» : مبتدأ خبره «قد حلبت» وأفرد الضمير حملا على لفظ «كم» ، وبالرفع على أنه مبتدأ وإن كان نكرة لكونه قد وصف بـ «لك» وب «فدعاء» محذوفة مدلول عليها بالمذكورة ؛ إذ ليس المراد تخصيص «الخالة» بوصفها بـ «الفدع» كما حذف «لك» من صفة «خالة» استدلالا عليها بـ «لك» الأولى ، والخبر «قد حلبت» ولا بدّ من تقدير : قد حلبت أخرى ؛ لأن المخبر عنه في هذا الوجه متعدد لفظا ومعنى ، ونظيره : «زينب وهند قامت» ، و «كم» على هذا الوجه : ظرف أو مصدر ، والتمييز محذوف ، أي : كم وقت أو حلبة.

* (كأيّ): اسم مركّب من كاف التشبيه و «أيّ» المنوّنة ، ولذلك جاز الوقف عليها بالنون ؛ لأن التنوين لما دخل في التركيب أشبه النون الأصلية ، ولهذا رسم في المصحف نونا ، ومن وقف عليها بحذفه اعتبر حكمه في الأصل وهو الحذف في الوقف.

وتوافق «كأي» «كم» في خمسة أمور : الإبهام ، والافتقار إلى التمييز ، والبناء ، ولزوم

١٠٨

التصدير ، وإفادة التكثير تارة وهو الغالب ، نحو : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) [آل عمران : ١٤٦] ، والاستفهام أخرى ، وهو نادر ولم يثبته إلا ابن قتيبة وابن عصفور وابن مالك ، واستدلّ عليه بقول أبي كعب لابن مسعود رضي‌الله‌عنهما : «كأيّ تقرأ سورة الأحزاب آية» فقال : ثلاثا وسبعين.

وتخالفها في خمسة أمور :

أحدها : أنها مركّبة ، و «كم» بسيطة على الصحيح ، خلافا لمن زعم أنها مركبة من الكاف و «ما» الاستفهامية ، ثم حذفت ألفها لدخول الجار ، وسكنت ميمها للتخفيف لثقل الكلمة بالتركيب.

والثاني : أن مميّزها مجرور بمن غالبا ، حتى زعم ابن عصفور لزوم ذلك ، ويردّه قول سيبويه «وكأي رجلا رأيت» زعم ذلك يونس ، و «كأي قد أتانا رجلا» إلا أن أكثر العرب لا يتكلّمون به إلا مع «من» ، انتهى. ومن الغالب قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍ) [آل عمران : ١٤٦] ، و (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ) [يوسف : ١٠٥] ، و (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ) [العنكبوت : ٦٠] ومن النصب قوله [من الخفيف] :

١٠٠ ـ أطرد اليأس بالرّجا ، فكأيّ

آلما حمّ يسره بعد عسر (١)

وقوله [من الطويل] :

١٠١ ـ وكائن لنا فضلا عليكم ومنّة

قديما ، ولا تدرون ما منّ منعم (٢)

والثالث : أنها لا تقع استفهامية عند الجمهور ، وقد مضى.

والرابع : أنها لا تقع مجرورة ؛ خلافا لابن قتيبة وابن عصفور ، أجازا «بكأيّ تبيع هذا الثوب».

والخامس : أن خبرها لا يقع مفردا.

* * * *

(كذا) ترد على ثلاثة أوجه :

__________________

(١) البيت من البحر الخفيف ، وهو بلا نسبة في الدرر ٤ / ٥١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥١٣ ، وأوضح المسالك ٤ / ٢٧٦ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٩٥.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو بلا نسبة في الدرر ٤ / ٥١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥١٣ وشرح الأشموني ٣ / ٦٣٧.

١٠٩

أحدها : أن تكون كلمتين باقيتين على أصلهما ، وهما كاف التشبيه و «ذا» الإشارية ، كقولك : «رأيت زيدا فاضلا ورأيت عمرا كذا» ، وقوله [من مجزوء الوافر] :

١٠٢ ـ وأسلمني الزّمان كذا

فلا طرب ولا أنس (١)

وتدخل عليها ها التنبيه ، كقوله تعالى : (أَهكَذا عَرْشُكِ) [النمل : ٤٢].

الثاني : أن تكون كلمة واحدة مركبة من كلمتين مكنيّا بها عن غير عدد ، كقول أئمة اللغة : «قيل لبعضهم : أما بمكان كذا وكذا وجذ؟ فقال : بلى وجاذا» فنصب بإضمار «أعرف» ، وكما جاء في الحديث «أنه يقال للعبد يوم القيامة : أتذكر يوم كذا وكذا؟ فعلت فيه كذا وكذا».

الثالث : أن تكون كلمة واحدة مركبة مكنيّا بها عن العدد ، فتوافق «كأيّ» في أربعة أمور :

التركيب ، والبناء ، والإبهام ، والافتقار إلى التمييز.

وتخالفها في ثلاثة أمور :

أحدها : أنها ليس لها الصّدر ، تقول : «قبضت كذا وكذا درهما».

الثاني : أن تمييزها واجب النصب ، فلا يجوز جرّه بـ «من» اتفاقا ، ولا بالإضافة ، خلافا للكوفيّين ، أجازوا في غير تكرار ولا عطف أن يقال «كذا ثوب ، وكذا أثواب» قياسا على العدد الصريح ، ولهذا قال فقهاؤهم : إنه يلزم بقول القائل : «له عندي كذا درهم» مائة ، وبقوله «كذا دراهم» ثلاثة ، وبقوله : «كذا كذا درهما» أحد عشر ، وبقوله «كذا درهما» عشرون ، وبقوله : «كذا وكذا درهما» أحد وعشرون ، حملا على المحقّق من نظائرهنّ من العدد الصّريح ، ووافقهم على هذه التفاصيل ـ غير مسألتي الإضافة ـ المبرّد والأخفش وابن كيسان والسيرافي وابن عصفور. ووهم ابن السيّد فنقل اتّفاق النحويين على إجازة ما أجازه المبرد ومن ذكره معه.

الثالث : أنها لا تستعمل غالبا إلا معطوفا عليها ، كقوله [من الطويل] :

١٠٣ ـ عد النّفس نعمى ، بعد بؤساك، ذاكرا

كذا وكذا لطفا ، به نسي الجهد (٢)

__________________

(١) البيت من مجزوء الوافر ، وهو بلا نسبة في شرح الأشموني ٣ / ٦٤٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥١٤.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر ٧ / ٢٨١ ، والدرر ٤ / ٥٤ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥١٤ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٩٧.

١١٠

وزعم ابن خروف أنهم لم يقولوا : «كذا درهما» ، ولا «كذا وكذا درهما» وذكر ابن مالك أنه مسموع ولكنّه قليل.

* * * *

(كلّا) مركبة عند ثعلب من كاف التشبيه ولا النافية ، قال وإنما شدّدت لامها لتقوية المعنى ، ولدفع توهم بقاء معنى الكلمتين ، وعند غيره هي بسيطة.

وهي عند سيبويه والخليل والمبرد والزجاج وأكثر البصريين حرف معناه الرّدع والزّجر ، لا معنى لها عندهم إلا ذلك ، حتى إنهم يجيزون أبدا الوقف عليها ، والابتداء بما بعدها ، وحتى قال جماعة منهم : متى سمعت «كلّا» في سورةفاحكم بأنها مكّية ، لأن فيها معنى التّهديد والوعيد ، وأكثر ما نزل ذلك بمكة ، لأن أكثر العتوّ كان بها ، وفيه نظر ؛ لأن لزوم المكيّة إنما يكون عن اختصاص العتوّ بها ، لا عن غلبته ، ثم لا تمتنع الإشارة إلى عتوّ سابق ، ثم لا يظهر معنى الزّجر في «كلّا» المسبوقة بنحو : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٨) [الانفطار : ٨] ، (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٦) [المطففون : ٦] ، (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (١٩) [القيامة : ١٩] ، وقولهم : المعنى : انته عن ترك الإيمان بالتصوير في أي صورة ما شاء الله ، وبالبعث ، وعن العجلة بالقرآن ، تعسّف ، إذ لم يتقدّم في الأوّلين حكاية نفي ذلك عن أحد ، ولطول الفصل في الثالثة بين «كلّا» وذكر العجلة ، وأيضا فإن أوّل ما نزل خمس آيات من أول سورةالعلق ثم نزل : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) (٦) [العلق : ٦] ، فجاءت في افتتاح الكلام ، والوارد منها في التنزيل ثلاثة وثلاثون موضعا كلّها في النصف الأخير.

ورأى الكسائي وأبو حاتم ومن وافقهما أنّ معنى الرّدع والزّجر ليس مستمرّا فيها ، فزادوا فيها معنى ثانيا يصحّ عليه أن يوقف دونها ويبتدأ بها ، ثم اختلفوا في تعيين ذلك المعنى على ثلاثة أقوال ، أحدها للكسائي ومتابعيه ، قالوا : تكون بمعنى «حقّا» ؛ والثاني لأبي حاتم ومتابعيه ، قالوا : تكون بمعنى «ألا» الاستفتاحيّة ؛ والثالث للنّضر بن شميل والفرّاء ومن وافقهما ، قالوا : تكون حرف جواب بمنزلة «إي» ، و «نعم» ، وحملوا عليه (كَلَّا وَالْقَمَرِ) (٣٢) [المدثر : ٣٢] ، فقالوا : معناه : إي والقمر.

وقول أبي حاتم عندي أولى من قولهما ، لأنه أكثر اطّرادا ؛ فإنّ قول النّضر لا يتأتّى في آيتي المؤمنين والشّعراء على ما سيأتي ؛ وقول الكسائي لا يتأتّى في نحو : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ) [المطففون : ١٨] ، (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) [المطففون : ٧] ، (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (١٥) [المطففون : ١٥] ، لأن «أنّ» تكسر بعد «ألا» الاستفتاحيّة ، ولا تكسر بعد

١١١

«حقّا» ، ولا بعد ما كان بمعناها ، ولأنّ تفسير حرف بحرف أولى من تفسير حرف باسم ؛ وأما قول مكي : إنّ «كلّا» على رأي الكسائي اسم إذا كانت بمعنى «حقّا» فبعيد ؛ لأن اشتراك اللفظ بين الاسميّة والحرفيّة قليل ، ومخالف للأصل ، ومحوج لتكلّف دعوى علّة لبنائها ، وإلا فلم لا نوّنت؟

وإذا صلح الموضع للرّدع ولغيره جاز الوقف عليها والابتداء بها على اختلاف التقديرين ، والأرجح حملها على الرّدع لأنه الغالب فيها ، وذلك نحو : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ؛ كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) [مريم : ٧٨ ـ ٧٩] ، (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) [مريم : ٨١ ـ ٨٢].

وقد تعيّن للرّدع أو الاستفتاح ، نحو : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ) [المؤمنون : ١٠٠] ، لأنها لو كانت بمعنى «حقّا» لما كسرت همزة «إنّ» ، ولو كانت بمعنى «نعم» لكانت للوعد بالرجوع لأنّها بعد الطلب ، كما يقال : «أكرم فلانا» ، فتقول : «نعم» ، ونحو : (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) (٦٢) [الشعراء : ٦١ ـ ٦٢] ، وذلك لكسر «إن» ، ولأن «نعم» بعد الخبر للتّصديق.

وقد يمتنع كونها للزّجر ، نحو : (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ كَلَّا وَالْقَمَرِ) (٣٢) [المدثر : ٣١ ـ ٣٢] إذ ليس قبلها ما يصحّ ردّه.

وقول الطبري وجماعة إنّه لما نزل في عدد خزنة جهنم : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) (٣٠) [المدثر : ٣٠] قال بعضهم : اكفوني اثنين وأنا أكفيكم سبعة عشر ؛ فنزل (كَلَّا) زجرا له قول متعسّف ؛ لأن الآية لم تتضمّن ذلك.

* * *

تنبيه ـ قرىء (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) [مريم : ٨٢] بالتّنوين ، إما على أنه مصدر «كلّ» إذا أعيا ، أي : كلوا في دعواهم وانقطعوا ، أو من «الكلّ» وهو الثقل ، أي : حملوا كلّا ؛ وجوّز الزمخشري كونه حرف الردع ونوّن كما في (سلسلا) [الإنسان : ٤] ؛ وردّه أبو حيان بأن ذلك إنما صحّ في (سلسلا) لأنه اسم أصله التنوين فرجع به إلى أصله للتّناسب ، أو على لغة من يصرف ما لا ينصرف مطلقا ، أو بشرط كونه «مفاعل» أو «مفاعيل» ، ا ه.

وليس التوجيه منحصرا عند الزمخشري في ذلك ، بل جوّز كون التنوين بدلا من حرف الإطلاق المزيد في رأس الآية ، ثم إنه وصل بنيّة الوقف ، وجزم بهذا الوجه في

١١٢

(قَوارِيرَا) [الإنسان : ١٦] وفي قراءة بعضهم (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) (٤) [الفجر : ٤] بالتنوين ، وهذه القراءة مصحّحة لتأويله في «كلا» ، إذ الفعل ليس أصله التّنوين.

*(كأنّ) : حرف مركب عند أكثرهم ، حتى ادّعى ابن هشام وابن الخباز الإجماع عليه ، وليس كذلك ، قالوا : والأصل في «كأنّ زيدا أسد» : إن زيدا كأسد ، ثم قدّم حرف التشبيه اهتماما به ، ففتحت همزة «أنّ» لدخول الجار عليه ، ثم قال الزجّاج وابن جنّي : ما بعد الكاف جرّ بها.

قال ابن جنّي : وهي حرف لا يتعلّق بشيء ، لمفارقته الموضع الذي تتعلّق فيه بالاستقرار ، ولا يقدّر له عامل غيره ، لتمام الكلام بدونه ، ولا هو زائد ، لإفادته التشبيه.

وليس قوله بأبعد من قول أبي الحسن : إن كاف التشبيه لا تتعلّق دائما.

ولمّا رأى الزجاج أن الجارّ غير الزائد حقّه التعلّق قدّر الكاف هنا اسما بمنزلة «مثل» ، فلزمه أن يقدّر له موضعا ، فقدّره مبتدأ ، فاضطر إلى أن قدّر له خبرا لم ينطق به قطّ ، ولا المعنى مفتقر إليه ، فقال : معنى «كأنّ زيدا أخوك» : مثل أخوّة زيد إيّاك كائن.

وقال الأكثرون : لا موضع لـ «أنّ» وما بعدها ؛ لأن الكاف و «أنّ» صارا بالتركيب كلمة واحدة ، وفيه نظر ، لأن ذاك في التركيب الوضعي ، لا في التركيب الطارىء في حال التركيب الإسنادي.

والمخلّص عندي من الإشكال أن يدّعى أنها بسيطة ، وهو قول بعضهم.

وفي شرح الإيضاح لابن الخبّاز : ذهب جماعة إلى أن فتح همزتها لطول الحرف بالتركيب ، لا لأنها معمولة للكاف كما قال أبو الفتح ، وإلا لكان الكلام غير عام ، والإجماع على أنه تامّ ، ا ه. وقد مضى أن الزجّاج يراه ناقصا.

وذكروا لـ «كأنّ» أربعة معان :

أحدها ـ وهو الغالب عليها ، والمتفق عليه ـ التشبيه ، وهذا المعنى أطلقه الجمهور لـ «كأنّ» ، وزعم جماعة منهم ابن السيّد البطليوسيّ أنه لا يكون إلا إذا كان خبرها اسما جامدا ، نحو «كأنّ زيدا أسد» بخلاف «كأنّ زيدا قائم ، أو في الدار ، أو عندك ، أو يقوم» فإنّها في ذلك كله للظّنّ.

والثاني : الشك والظن ، وذلك فيما ذكرنا ، وحمل ابن الأنباري عليه «كأنّك بالشتاء مقبل» ، أي : أظنّه مقبلا.

١١٣

والثالث : التّحقيق ، ذكره الكوفيّون والزجّاجي ، وأنشدوا عليه [من الوافر] :

١٠٤ ـ فأصبح بطن مكّة مقشعرّا

كأنّ الأرض ليس بها هشام (١)

أي : لأنّ الأرض ؛ إذ لا يكون تشبيها ، لأنه ليس في الأرض حقيقة.

فإن قيل : فإن كانت للتحقيق فمن أين جاء معنى التعليل؟

قلت : من جهة أن الكلام معها في المعنى جواب عن سؤال عن العلّة مقدّر ، ومثله : (اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج : ١].

وأجيب بأمور ، أحدها : أن المراد بالظرفيّة الكون في بطنها ، لا الكون على ظهرها ، فالمعنى أنه كان ينبغي أن لا يقشعرّ بطن مكة مع دفن هشام فيه لأنه له كالغيث.

الثاني : أنه يحتمل أن هشاما قد خلّف من يسدّ مسدّه ، فكأنه لم يمت.

الثالث : أن الكاف للتعليل ، و «أنّ» للتوكيد ، فهما كلمتان لا كلمة ، ونظيره : (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [القصص : ٨٢] ، أي : أعجب لعدم فلاح الكافرين.

والرابع : التقريب ، قاله الكوفيون ، وحملوا عليه «كأنك بالشتاء مقبل ، وكأنك بالفرج آت ، وكأنك بالدّنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل» وقول الحريري [من الهزج] :

١٠٥ ـ كأنّي بك تنحطّ

[إلى اللحد وتنغط](٢)

وقد اختلف في إعراب ذلك ؛ فقال الفارسي : الكاف حرف خطاب ، والباء زائدة في اسم «كأنّ». وقال بعضهم : الكاف اسم «كأنّ» ، وفي المثال الأول حذف مضاف ، أي كأن زمانك مقبل بالشّتاء ، ولا حذف في «كأنك بالدنيا لم تكن» بل الجملة الفعليّة خبر ، والباء بمعنى «في» ، وهي متعلّقة بـ «تكن» ، وفاعل «تكن» ضمير المخاطب. وقال ابن عصفور : الكاف والياء في «كأنك» و «كأنّي» زائدتان كافّتان لـ «كأنّ» عن العمل كما تكفّها «ما» ، والباء زائدة في المبتدأ. وقال ابن عمرون : المتّصل بـ «كأنّ» اسمها ، والظرف خبرها ، والجملة بعده حال ، بدليل قولهم : «كأنّك بالشّمس وقد طلعت» بالواو ، ورواية

__________________

(١) البيت من البحر الوافر ، وهو للحارث بن خالد في ديوانه ص ٩٣ ، والاشتقاق ص ١٠١ ، وبلا نسبة في الدرر ٢ / ١٦٣ ، وفي الجنى الداني ص ٥٧١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥١٥ ، ولسان العرب ١٢ / ٤٦١ مادة (قثم).

(٢) البيت من البحر الهزج ، انظر : خلاصته الأثر ٤ / ٢٥٠.

١١٤

بعضهم : «ولم تكن ، ولم تزل» بالواو ؛ وهذه الحال متممة لمعنى الكلام كالحال في قوله تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٤٩) [المدثر : ٤٩] ، وك «حتى» وما بعدها في قولك : «ما زلت بزيد حتى فعل». وقال المطرزي : الأصل كأني أبصرك تنحطّ ، وكأني أبصر الدنيا لم تكن ، ثم حذف الفعل وزيدت الباء.

مسألة ـ زعم قوم أن «كأنّ» قد تنصب الجزأين ، وأنشدوا [من الرجز] :

١٠٦ ـ كأنّ أذنيه إذا تشوّفا

قادمة أو قلما محرّفا (١)

فقيل : الخبر محذوف ، أي : يحكيان ؛ وقيل : إنما الرواية : «تخال أذنيه» ؛ وقيل : للرواية «قادمتا أو قلما محرّفا» بألفات غير منوّنة ، على أن الأسماء مثنّاة ، وحذفت النون للضّرورة. وقيل : أخطأ قائله ، وهو أبو نخيلة ، وقد أنشده بحضرة الرشيد فلحّنه أبو عمرو والأصمعي ، وهذا وهم ، فإن أبا عمرو توفّي قبل الرشيد.

* * *

(كلّ) : اسم موضوع لاستغراق أفراد المنكّر ، نحو : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥ ؛ والأنبياء : ٣٥ ؛ والعنكبوت : ٥٧] ، والمعرّف المجموع ، نحو : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (٩٥) [مريم : ٩٥] ، وأجزاء المفرد المعرّف ، نحو : «كلّ زيد حسن» فإذا قلت : «أكلت كلّ رغيف لزيد» كانت لعموم الأفراد ، فإن أضفت الرغيف إلى «زيد» صارت لعموم أجزاء فرد واحد.

ومن هنا وجب في قراءة غير أبي عمرو وابن ذكوان (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر : ٣٥] بترك تنوين (قَلْبِ) تقدير «كل» بعد قلب ليتم أفراد القلوب كما عمّ أجزاء القلب.

وترد «كلّ» ـ باعتبار كل واحد مما قبلها وما بعدها ـ على ثلاثة أوجه.

فأما أوجهها باعتبار ما قبلها :

فأحدها : أن تكون نعتا لنكرة أو معرفة ؛ فتدلّ على كماله ، وتجب إضافتها إلى اسم ظاهر يماثله لفظا ومعنّى ، نحو : «أطعمنا شاة كلّ شاة» ، وقوله [من الطويل] :

__________________

(١) الرجز ينسب للعماني الراجز ، انظر : خزانة الأدب ، الشاهد / ٨٤٢ /.

١١٥

١٠٧ ـ وإنّ الّذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد (١)

والثاني : أن تكون توكيدا لمعرفة ، قال الأخفش والكوفيّون : أو لنكرة محدودة ، وعليهما ففائدتها العموم ، وتجب إضافتها إلى اسم مضمر راجع إلى المؤكد ، نحو : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ) [الحجر : ٣٠]. قال ابن مالك : وقد يخلفه الظاهر كقوله [من البسيط] :

١٠٨ ـ كم قد ذكرتك ، لو أجزى بذكركم

يا أشبه النّاس كلّ النّاس بالقمر (٢)

وخالفه أبو حيان ، وزعم أن «كل» في البيت نعت مثلها في «أطعمنا شاة كل شاة» وليست توكيدا ، وليس قوله بشيء ؛ لأن التي ينعت بها دالة على الكمال ، لا على عموم الأفراد.

ومن توكيد النّكرة بها قوله [من السريع] :

١٠٩ ـ نلبث حولا كاملا كلّه

لا نلتقي إلّا على منهج (٣)

وأجاز الفرّاء والزمخشري أن تقطع «كل» المؤكّد بها عن الإضافة لفظا تمسّكا بقراءة بعضهم : (إِنَّا كُلٌّ فِيها) [غافر : ٤٨]. وخرّجها ابن مالك على أن «كلّا» حال من ضمير الظرف ، وفيه ضعف من وجهين : تقديم الحال على عامله الظرف ، وقطع «كل» عن الإضافة لفظا وتقديرا لتصير نكرة فيصحّ كونه حالا ؛ والأجود أن تقدّر «كلّا» بدلا من اسم «إنّ» ، وإنما جاز إبدال الظاهر من ضمير الحاضر بدل كلّ لأنه مفيد للإحاطة مثل «قمتم ثلاثتكم».

والثالث : أن لا تكون تابعة ، بل تالية للعوامل ؛ فتقع مضافة إلى الظاهر ، نحو :

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو للأشهب بن رميلة في خزانة الأدب ٦ / ٧ ، وشرح المغني ٢ / ٥١٧ ، وللأشهب أو لحريث بن مخفض في الدرر ١ / ١٤٨ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٢ / ٣١٥ ، والدرر ٥ / ١٣١ ، ورصف المباني ص ٣٤٢.

(٢) البيت من البحر البسيط ، وهو لعمر بن أبي ربيعة في ديوانه ص ١٤٥ ، وخزانة الأدب ٩ / ٣٥ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥١٨ ، ولكيثر عزة في الدرر ٦ / ٣٣ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٨٨.

(٣) البيت من البحر السريع ، وهو للعرجي في الأغاني ٢ / ٣٢٥ ، وخزانة الأدب ٥ / ٢٣٥ ، وشرح شواهد المغني ص ٥١٩.

١١٦

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر : ٣٨] ، وغير مضافة ، نحو : (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) [الفرقان : ٣٩].

وأما أوجهها الثلاثة التي باعتبار ما بعدها فقد مضت الإشارة إليها.

الأول : أن تضاف إلى الظّاهر ، وحكمها أن يعمل فيها جميع العوامل ، نحو : «أكرمت كلّ بني تميم».

والثاني : أن تضاف إلى ضمير محذوف ، ومقتضى كلام النحويين أن حكمها كالتي قبلها ، ووجهه أنهما سيّان في امتناع التأكيد بهما. وفي تذكرة أبي الفتح أنّ تقديم «كل» في قوله تعالى : (كُلًّا هَدَيْنا) [الأنعام : ٨٤] أحسن من تأخيرها ، لأن التقدير كلهم ، فلو أخرت لباشرت العامل مع أنها في المعنى منزّلة منزلة ما لا يباشره ، فلما قدّمت أشبهت المرتفعة بالابتداء في أن كلّا منهما لم يسبقها عامل في اللفظ.

الثالث : أن تضاف إلى ضمير ملفوظ به ، وحكمها أن لا يعمل فيها غالبا إلا الابتداء ، نحو : (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [آل عمران : ١٥٤] فيمن رفع «كلّا» ، ونحو : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ) [مريم : ٩٥] لأن الابتداء عامل معنويّ ، ومن القليل قوله [من الطويل] :

١١٠ ـ يميد إذا مادت عليه دلاؤهم

فيصدر عنه كلّها وهو ناهل (١)

ولا يجب أن يكون منه قول علي رضي‌الله‌عنه [من الطويل] :

١١١ ـ فلمّا تبيّنا الهدى كان كلّنا

على طاعة الرّحمن والحقّ والثّقى (٢)

بل الأولى تقدير «كان» شأنيّة.

واعلم أن لفظ «كلّ» حكمه الإفراد والتّذكير ، وأن معناها بحسب ما تضاف إليه ، فإن كانت مضافة إلى منكرّ وجب مراعاة معناها ؛ فلذلك جاء الضمير مفردا ومذكرا في نحو : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) (٥٢) [القمر : ٥٢] ، (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) [الإسراء : ١٣] ، وقول أبي بكر وكعب ولبيد رضي‌الله‌عنهم [من الرجز] :

١١٢ ـ كلّ امرىء مصبّح في أهله ،

والموت أدنى من شراك نعله (٣)

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لكيثر عزة في ديوانه ص ٥٠٦ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٥٧٥ ، وبلا نسبة في الدرر ٥ / ١٣٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٢١ ، وهمع الهوامع ٢ / ٧٣.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو للإمام علي بن أبي طالب في ديوانه ١١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٢١.

(٣) البيت من بحر الرجز ، انظر : البيان والتبيين ١ / ٤٧٧ ، والمستقصى في أمثال العرب ١ / ١٢١.

١١٧

[من البسيط] :

١١٣ ـ كلّ ابن أنثى وإن طالت سلامته

يوما على آلة حدباء محمول (١)

[من الطويل] :

١١٤ ـ ألا كلّ شيء ، ما خلا الله ، باطل

وكلّ نعيم لا محالة زائل (٢)

وقول السموأل [من الطويل] :

١١٥ ـ إذا المرء لم يدنس من اللّؤم عرضه

فكل رداء يرتديه جميل (٣)

ومفردا مؤنّثا في قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٣٨) [المدثر : ٣٨] ، (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥ ؛ والأنبياء : ٣٥ ؛ والعنكبوت : ٥٧] ومثنى في قول الفرزدق [من الطويل] :

١١٦ ـ وكلّ رفيقي كلّ رحل ـ وإن هما

تعاطى القنا قوماهما ـ أخوان (٤)

وهذا البيت من المشكلات لفظا ومعنى وإعرابا ، فلنشرحه.

قوله : «كل رحل» «كلّ» هذه زائدة ، وعكسه حذفها في قوله تعالى : (عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر : ٣٥] فيمن أضاف ، و «رحل» : بالحاء المهملة ، و «تعاطى» : أصله : «تعاطيا» فحذف لامه للضرورة ، وعكسه إثبات اللام للضرورة فيمن قال [من المتقارب] :

١١٧ ـ لها متنتان خظاتا كما

[أكبّ على ساعديه النّمر](٥)

إذا قيل : إن «خظاتا» فعل وفاعل ، أو الألف من «تعاطى» لام الفعل ، ووحّد الضمير لأن الرفيقين ليسا باثنين معيّنين ، بل هما كثير كقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا)

__________________

(١) البيت من البحر البسيط ، وهو لكعب بن زهير في ديوانه ص ٦٥ ، وشرح المغني ٢ / ٥٢٤ ، ولسان العرب ١ / ٣٠١ مادة (حدب).

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ٢٥٦ ، وجواهر الأدب ص ٣٨٢ وخزانة الأدب ٢ / ٢٥٥ ـ ٢٥٧ ، والدرر ١ / ٧١ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ٢٨٩ ، والدرر ٣ / ١٦٦ ، ورصف المباني ص ٢٦٩.

(٣) البيت من البحر الطويل ، وهو للسموأل في ديوانه ص ٩٠ ، وشرح شواهد المغنى ٢ / ٥٣١ ، وله أو لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي المعروف بالجلاح الحارثي في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١١٠ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٧٦.

(٤) البيت من البحر الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ٢ / ٣٢٩ ، وخزانة الأدب ٧ / ٥٧٢ ، ٥٧٣ ، والدرر ٥ / ١٣٢ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٣٦.

(٥) البيت من البحر المتقارب ، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص ١٦٤ ، والأشباه والنظائر ٥ / ٤٦ ، وخزانة الأدب ٧ / ٥٠٠ ـ ٥٧٣ ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ٣٤٢ وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٨٠.

١١٨

[الحجرات : ٩] ، ثم حمل على اللفظ ، إذ قال : «هما أخوان» كما قيل : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) [الحجرات : ٩] ، وجملة «هما أخوان» خبر «كلّ» ، وقوله : «قوما» إمّا بدل من «القنا» لأن قومهما من سببهما إذ معناه : تقاومهما ، فحذفت الزّوائد ، فهو بدل اشتمال ، أو مفعول لأجله ، أي : تعاطيا القنا لمقاومة كلّ منهما الآخر ، أو مفعول مطلق من باب (صُنْعَ اللهِ) [النمل : ٨٨] لأن تعاطي القنا يدلّ على تقاومهما.

ومعنى البيت أن كلّ الرفقاء في السفر إذا استقروا رفيقين رفيقين فهما كالأخوين لاجتماعهما في السّفر والصحبة ، وإن تعاطى كلّ واحد منهما مغالبة الآخر.

ومجموعا مذكرا في قوله تعالى : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون : ٥٣].

وقول لبيد [من الطويل] :

١١٨ ـ وكلّ أناس سوف تدخل بينهم

دويهية تصفرّ منها الأنامل (١)

ومؤنثا في قول الآخر [من الطويل] :

١١٩ ـ وكلّ مصيبات الزّمان وجدتها ،

سوى فرقة الأحباب ، هيّنة الخطب (٢)

ويروى :

وكل مصيبات تصيب فإنّها

وعلى هذا فالبيت مما نحن فيه.

وهذا الذي ذكرناه ـ من وجوب مراعاة المعنى مع النكرة ـ نصّ عليه ابن مالك ، وردّه أبو حيّان بقول عنترة [من الكامل] :

١٢٠ ـ جادت عليه كلّ عين ثرّة

فتركن كلّ حديقة كالدّرهم (٣)

فقال : «تركن» ولم يقل : «تركت» ؛ فدلّ على جواز «كلّ رجل قائم ، وقائمون».

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ٢٥٦ ، وجمهرة اللغة ص ٢٣٢ ، وخزانة الأدب ٦ / ١٥٩ ـ ١٦٠ ، والدرر ٦ / ٢٨٣ ، وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ١٣٩ ، وخزانة الأدب ١ / ٩٤ وشرح شواهد المغني ١ / ٤٠٢ ـ ٢ / ٥٣٧.

(٢) البيت من البحر الطويل ، وهو لقيس بن ذريح في ديوانه ص ٦٦ ، والدرر ٥ / ١٣٦ ، وشرح شواهد المغني ص ٥٣٨ ، وبلا نسبة في همع الهوامع ٢ / ٧٤.

(٣) البيت من البحر الكامل ، وهو لعنترة في ديوانه ص ١٩٦ ، وجمهرة اللغة ٨٢ ـ ٩٧ ، والدرر ٥ / ١٣٦ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ١٨١ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٤٢٥ ، وشرح الأشموني ٢ / ٣١٠.

١١٩

والذي يظهر لي خلاف قولهما ، وأن المضافة إلى المفرد إن أريد نسبة الحكم إلى كل واحد وجب الإفراد ، نحو : «كلّ رجل يشبعه رغيف» ، أو إلى المجموع واجب الجمع كبيت عنترة ؛ فإن المراد أن كل فرد من الأعين جاد ، وأن مجموع الأعين تركن ، وعلى هذا فتقول «جاد عليّ كلّ محسن فأغناني» أو «فأغنوني» بحسب المعنى الذي تريده.

وربما جمع الضمير مع إرادة الحكم على كل واحد ، كقوله [من الرجز] :

من كلّ كوماء كثيرات الوبر

وعليه أجاز ابن عصفور في قوله [من الطويل] :

١٢١ ـ وما كلّ ذي لبّ بمؤتيك نصحه

وما كلّ مؤت نصحه بلبيب (١)

أن يكون «مؤتيك» جمعا حذفت نونه للإضافة ، ويحتمل ذلك قول فاطمة الخزاعية تبكي إخوتها [من المديد] :

١٢٢ ـ إخوتي ، لا تبعدوا أبدا ،

وبلى والله قد بعدوا (٢)

١٢٣ ـ كلّ ما حيّ ، وإن أمروا ،

وارد الحوض الّذي وردوا

وذلك في قولها : «أمروا» ، فأما قولها : «وردوا» فالضّمير لـ «إخوتها» ، هذا إن حملت «الحيّ» على نقيض «الميت» وهو ظاهر ، فإن حملته على مرادف القبيلة فالجمع في «أمروا» واجب مثله في : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون : ٥٣] ، وليس من ذلك (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) [غافر : ٥] لأن القرآن لا يخرّج على الشاذ ، وإنما الجميع باعتبار معنى الأمّة ؛ ونظيره الجمع في قوله تعالى : (أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ) [آل عمران : ١١٣] ، ومثل ذلك قوله تعالى : (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ) [الحج : ٢٧] ، فليس الضّامر مفردا في المعنى لأنّه قسيم الجمع وهو : (رِجالاً) [الحج : ٢٧] ، بل هو اسم جمع كـ «الجامل» و «الباقر» أو صفة لجمع محذوف أي كل نوع ضامر ؛ ونظيره (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ

__________________

(١) البيت من البحر الطويل ، وهو لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص ٤٥ ، والحيوان ٥ / ٦٠١ ، وشرح الإيضاح ص ٦٣٦ ، ولأبي الأسود أو لمودود العنبري في شرح شواهد المغني ص ٥٤٢ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٦ / ٢٦٩ والدرر ٥ / ٢٦٦.

(٢) البيتان من البحر المديد ، وهما لفاطمة بنت أحجم أو الأحزم الخزاعية في شرح شواهد المغني ٢ / ٥٤٣ وبلا نسبة في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٩١٢.

١٢٠