دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
المطبعة: دار النهضة العربية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٠

وهكذا ، وعن طريق القصص القرآني ، يقدم لنا كتاب الله العزيز ، معلومات هامة عن عصور ما قبل الإسلام وأخبار دولها ، أيدتها الكشوف الحديثة كل التأييد ، فيقدم لنا ـ عن طريق قصة موسى ـ كثيرا من المعلومات عن الملكية الإلهية في مصر الفرعونية ، وعن الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيها (١) ، والأمر كذلك بالنسبة إلى قصة إبراهيم ، حيث تقدم لنا الكثير عن العراق القديم (٢).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن أبرز قصص الأنبياء في القرآن الكريم ، إنما هما قصتا إبراهيم وموسى عليهما‌السلام ، فهما قصتان مسهبتان في أجزائه ، ربما لأنهما ترويان نبأ الرسالة بين أعرق أمم الحضارة الإنسانية وهما أمة وادي النهرين وأمة وادي النيل ، ومن أجل ذلك كانت القصتان أو في القصص بين جميع قصص الأنبياء ، وكانت الثورة فيهما على ضلال العقل في العبادة جامعة لأكثر العبادات المستنكرة في الزمن القديم (٣).

وأما عن بني إسرائيل ، فليس هناك من شك في أنه ليس هناك كتاب سماوي ـ حتى التوراة نفسها ـ قد فصل الحديث عن بني إسرائيل ، وأفاض في وصف يهود وأحوالهم وأخلاقهم ، وأبان مواقفهم من الأنبياء ، كما فعل القرآن الكريم ، وصدق الله العظيم ، حيث يقول : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٤).

__________________

(١) انظر عن قصة موسى (البقرة : آية ٤٧ ـ ٧٤ ، الأعراف : آية ١٠٣ ـ ١٥٥ ، يونس : آية ٧٥ ـ ٩٣ ، طه : آية ٩ ـ ٩٩ ، الشعراء : آية ١٠ ـ ٦٨ ، القصص : آية ٣ ـ ٤٤ ، غافر : آية ٢٣ ـ ٥٤)

(٢) أنظر عن قصة إبراهيم (البقرة : آية ٢٥٨ ، الإنعام : آية ٧٤ ـ ٨٣ ، مريم : آية ٤١ ـ ٥٠ ، الأنبياء : آية ٥١ ـ ٧٣ ، الشعراء : آية ٦٩ ـ ٨٩ ، الصافات : آية ٨٣ ـ ١١٣

(٣) عباس العقاد : المرجع السابق ص ٢١٨

(٤) سورة النمل : آية ٧٦

٤١

وأما عن بلاد العرب ، فإنك تجد في كتاب الله الكريم سورة تحمل اسم مملكة في جنوب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام ـ وأعني بها سورة سبأ ـ هذا إلى أن القرآن الكريم قد انفرد ـ دون غيره من الكتب المقدسة ـ بذكر أقوام عربية بادت ، كقوم عاد (١) وثمود (٢) ، فضلا عن قصة أصحاب الكهف (٣) وسيل العرم (٤) ، وقصة أصحاب الأخدود (٥) إلى جانب قصة أصحاب الفيل (٦) ، وهجرة الخليل وولده إسماعيل عليهما‌السلام إلى الأرض الطاهرة في الحجاز ، ثم إقامة إسماعيل هناك (٧) ، وصدق الله العظيم ، حيث يقول (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا ، فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» (٨) ، ويقول : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ» (٩) ، ويقول : «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ» (١٠) ، ويقول : «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ، وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ، وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ، وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ، وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ، وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً

__________________

(١) الاعراف : آية ٦٥ ، هود : آية ٥٠ ـ ٦٠ ، الشعراء : آية ١٢٣ ـ ١٤٠

(٢) الاعراف : آية ٧٣ ـ ٧٩ ، هود : آية ٦١ ـ ٦٨ ، الشعراء : آية ١٤١ ـ ١٥٩

(٣) سورة الكهف : آية ٩ ـ ٢٦

(٤) سورة سبأ : آية ١٥ ـ ١٩

(٥) سورة البروج : آية ٤ ـ ١٠

(٦) سورة الفيل

(٧) سورة البقرة : آية ١٢٤ ـ ١٣١ ، سورة إبراهيم : آية ٣٥ ـ ٤١

(٨) سورة هود : آية ٤٩

(٩) سورة يوسف آية ١٠٢

(١٠) سورة آل عمران : آية ٤٤

٤٢

ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» (١) ويقول : «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» (٢) ويقول «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ» (٣) ويقول «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (٤).

وصدق رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) حيث يقول في وصف القرآن : «كتاب الله تبارك وتعالى ، فيه نبأ من قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، هو حبل الله المتين ونوره المبين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا يزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا تتشعب معه الآراء ، ولا يشبع منه العلماء ، ولا يمله الأتقياء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا ، من علم علمه سبق ، ومن قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أجر ، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم (٥)».

على أنه يجب أن نلاحظ جيدا ، أن هدف القرآن من قصصه ، ليس التأريخ لهذا القصص ، وإنما عبرا تفرض الاستفادة بما حل بالسابقين ،

__________________

(١) سورة القصص : آية ٤٤ ـ ٤٦

(٢) سورة هود : آية ١٢٠

(٣) سورة الكهف : آية ١٣

(٤) سورة يوسف : آية ١١١

(٥) الاتقان ٢ / ١٥١ ، سنن الترمذي ٢ / ١٤٩ ، مقومتان في علوم القرآن ص ٥٩ ، تفسير القرطبي ١ / ٥ ، محمد ابو زهرة : القرآن ص ١٥

٤٣

وزجرا لخصوم الإسلام من قريش ، ثم تثبيتا لقلب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أمام أذى الكافرين ، حيث شاءت رحمة الله بالمصطفى المختار ، أن تخفف عنه الشدائد والآلام ، عن طريق قصص الأنبياء والمرسلين ، حيث يذكره الله ـ جل وعلا ـ بما لاقاه أخوة كرام له من عنت الضالين ، وبغي الكافرين ، فما وهنوا وما استكانوا ، وما ضعفوا وما تخاذلوا ، ولكنهم صبروا وصابروا ، ومن هنا يخاطب الله رسوله الكريم في كتابه العزيز : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» (١) ، كما أن في هذا القصص بيان ما نزل بالأقوياء الذين غرهم الغرور ، والجبابرة الذين طغوا في البلاد ، وأكثروا فيها الفساد ، والله من ورائهم محيط (٢) ، ومع ذلك فيجب ألا يغيب عن بالنا ـ دائما وأبدا ـ أن هذا القصص إن هو إلا الحق الصراح ، وصدق الله حيث يقول (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً» (٣) ، ويقول (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ» (٤) ، ويقول : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» (٥) ، ويقول : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» (٦) ، ويقول : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ» (٧) ، ويقول : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ» (٨) ، ويقول : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» (٩) ، ويقول (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ

__________________

(١) سورة هود : آية ١٢٠

(٢) محمد أبو زهرة : القرآن ص ٢٠٣

(٣) سورة النساء : آية ٨٧

(٤) سورة آل عمران : آية ٦٢

(٥) سورة البقرة : آية ٢٥٢

(٦) سورة آل عمران : آية ٣

(٧) سورة الكهف : آية ١٣

(٨) سورة فاطر : آية ٣١

(٩) سورة الرمز : آية ٢ وأنظر الآية ٤١

٤٤

يُؤْمِنُونَ) (١) ويقول (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» (٢).

ومن هنا فليس صحيحا ما ذهب إليه البعض ، من أن المنطق العاطفي هو الذي يسود القصة التاريخية في القرآن الكريم ، ومعنى هذا أن القصص التاريخي في القرآن ، إنما هو قصص أدبي أولا وأخيرا ، وأن الأساس الذي كان يلحظه القرآن دائما في نفوس المعاصرين للنبي عليه الصلاة والسلام ، إنما هو القدرة على التأثير (٣) وأن مقابلة القصص القرآني وأحداثه وشخصياته بالحقائق التاريخية يكشف عن مفارقات كبيرة تفتح المجال لمن يريدون أن ينالوا من القرآن وأن يشككوا في صحته ، وفي صدق النبي ، وأنه تلقى القرآن من السماء (٤) ، ذلك لأنك إن قرأت ما ورد في القرآن الكريم من قصص ، فإنك لن تجد شيئا من المبالغات التي وصلت إلينا في كتب التاريخ ، أو في توراة اليهود المتداولة اليوم ، فضلا عن أن ما ذكره القرآن الكريم صحيحا تؤيده الاكتشافات الحديثة (٥) ومن عجب أن المستشرقين إنما قد سبقوا أصحاب هذا الإتجاه ، إلى الشك فيما جاء في القرآن الكريم ، وليس له نظير في التوراة ـ كقصة عاد وثمود ـ ثم سرعان ما تبيّن لهم أن عادا وثمودا مذكورتان في جغرافية بطليموس ، وأن هناك الكثير من النصوص التاريخية التي تتحدث عن ثمود ـ كما سنرى فيما بعد ـ فضلا عن أن الكتاب اليونان والرومان ، إنما ذكروا اسم عاد مقرونا باسم إرم ، كما جاء في القرآن الكريم (٦) وصدق الله العظيم ، حيث

__________________

(١) سورة الجاثية : آية ٦

(٢) سورة محمد : آية ٢

(٣) محمد احمد خلف الله : الفن القصصي في القرآن ص ١٣٧ ـ ١٣٨ ، ٢٤٨ ، ٣٠٥ ، ٣٣٧

(٤) مقدمة كتاب الفن القصصي في القرآن ، وكذا ص ١٧٤ ـ ١٧٧ ، عبد الكريم الخطيب : القصص القرآني ص ٢٩٥ ، ٣٢٠ ـ ٣٣٩. وراجع : محمود شلتوت : تفسير القرآن الكريم ، القاهرة ١٩٧٣ ص ٤٥ ـ ٥٠ ، ٢٧٣ (رأيه في الأمثال المضروبة في القرآن).S. Tisdall, The Sources of the Koran, P. ٦ IFF

(٥) جرجي زيدان : العرب قبل الإسلام ص ١٣

(٦) عباس العقاد : مطلع النور ، أو طوالع البعثة المحمدية ص ٦١

٤٥

يقول : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (١) ، وحيث يقول (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» (٢) ، وحيث يقول (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» (٣).

وليس صحيحا كذلك ما ذهب إليه البعض من أنه لا شك أن إشارات القرآن الكريم إلى كثير من القصص ، إنما هو دليل على أنها كانت من القصص الشعبي السائد الذي كان يتداوله الناس في بلاد العرب (٤) ، ذلك لأن العرب ما كانوا يعرفون شيئا عن كثير من قصص القرآن ، وعلى سبيل المثال ، فإن القرآن الكريم يختم قصة نوح بقوله تعالى (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا» ، فلو كان العرب يعرفون هذه القصة مثلا ، وأنها كانت من قصصهم الشعبي الذي يتداولونه في أسمارهم ، أفكان العرب ـ وفيهم أشد أعداء النبي ـ من يسكت على قوله تعالى (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا»؟ أليس من المنطق أن أعداء المصطفى ، (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ـ وقد كانوا دائما على يقظة يتمنون أقل ثغرة ، ليوجهوا من خلالها ضرباتهم ، ويحولوها إلى سخرية واستهزاء ـ سوف يجيبونه أنهم يعرفون القصة ، بل وأنها من أساطيرهم التي تفيض بها مجالسهم ونواديهم ، ولكن التاريخ لم يحدثنا عمن أنكر على الرسول هذه الآية الكريمة ، مما يدل على أن ما جاء به القرآن الكريم

__________________

(١) سورة المائدة : آية ٤٨ ، وأنظر تفسير أبي السعود ٣ / ٣٣ وتفسير الكشاف ١ / ٦٣٩ ـ ٦٤٠ ، تفسير روح المعاني ٦ / ١٥١ ـ ١٥٥ ، تفسير الطبرسي ٦ / ١١٠ ـ ١١٣ ، في ظلال القرآن ٦ / ١٧٨ ـ ١٨٢ (دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ١٩٦١) ، تفسير الطبري ١٠ / ٣٧٧ ـ ٣٩١ (دار المعارف ـ القاهرة ١٩٥٧)

(٢) سورة الإنعام : آية ٩٢

(٣) سورة فاطر : آية ٣١

(٤) الأدب العربي الحديث ص ٣٠٢ (من مقررات طلاب البكالوريا الأدبية السورية) ، محمد سعيد رمضان البوطي : من روائع القرآن ـ دمشق ١٩٧٢ ، ص ٢٣٧.

٤٦

من أخبار الأمم البائدة ، كان شيئا يكاد يجهله العرب جهلا تاما ، وإن كان يعلم بعضا منه أهل الكتاب الذين درسوا التوراة والإنجيل (١).

(٥) القصص القرآني والتوراة

وليس صحيحا كذلك ما ذهب إليه بعض المستشرقين من أن القرآن الكريم ، قد اعتمد إلى حد كبير في قصصه على التوراة والإنجيل (٢) ، وزاد بعض من تابعهم من الباحثين العرب على ذلك أن القرآن الكريم جعل هذه الأخبار مطابقة لما في الكتب السابقة ، أو لما يعرفه أهل الكتاب من أخبار ، حتى ليخيل إلينا أن مقياس صدقها وصحتها من الوجهة التاريخية ، ومن وجهة دلالتها على النبوة والرسالة ، أن تكون مطابقة لما يعرفه أهل الكتاب من أخبار (٣) ، وذهب «مالك بن نبي» أن هناك تشابها عجيبا بين القرآن والكتاب المقدس (التوراة والانجيل) ، وأن تاريخ الأنبياء يتوالى منذ إبراهيم إلى زكريا ويحيى ومريم والمسيح ، فأحيانا نجد القرآن يكرر نفس القصة ، وأحيانا يأتي بمادة تاريخية خاصة به مثل هود وصالح ولقمان وأهل الكهف وذي القرنين (٤) ، ومن عجب أن صاحب كتاب «من روائع القرآن» ينقل عنه ـ فيما يزعم ـ أن القرآن جاء بقصص الأنبياء السابقين والأمم الغابرة ، على نحو يتفق جملة وتفصيلا مع ما أثبتته التوراة والإنجيل من عرض تلك الأخبار والقصص ، وأن ذلك دليل لا يقبل الشك بأن هذا القرآن ما كان حديثا يفترى (٥) ، ولكنه وحي من الله

__________________

(١) نفس المرجع السابق ص ٢٣٨ ـ ٢٤٠

(٢) جولدتسهير : العقيدة والشريعة في الإسلام ، ترجمة الدكتور محمد يوسف موسى ص ١٢ ، ١٥ ، وكذا Alfred Guillaume, Islam, (Pelican Books) , ٤٦٩١, PP. ١٦ ـ ٢٦

(٣) محمد أحمد خلف الله : المرجع السابق ص ٢٢ ، وأنظر ص ٢٧ ـ ٢٨ ، ٤٥ ، ١٧٤ ـ ١٧٧ ، ١٨٢

(٤) مالك بن نبي : الظاهرة القرآنية ص ٢٥١

(٥) محمد سعيد البوطي : المرجع السابق ص ٢٢١

٤٧

عزوجل (١).

والحقيقة غير ذلك تماما لأسباب كثيرة ، منها (أولا) أن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لم يغادر مكة ، إلا في رحلة يحيط بها الشك ، صاحب فيها عمه أبا طالب ، وهو في التاسعة من عمره (٢) ، وثانية وهو في الخامسة والعشرين في فترة قصيرة كان لا يكاد ينفك فيها عن قومه ورفاقه ، وقد ذهب بعض المستشرقين ـ ومنهم جولدتسهير ـ (٣) إلى أن لهذه الرحلة أثرا في نظام النبي الإصلاحي ، غير أن بعضا آخر ، إنما يشك في ذلك لعدم وجود أية إشارة في القرآن الكريم عن المظاهر الخارجية للديانة المسيحية ، وإن كان يتوسع في الحديث عن أعماق روح المسيحية الشرقية (٤) ، والواقع أن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) حتى لو افترضنا جدلا بأنه قد اتصل بالمسيحية في ذلك الوقت ـ وهذا ما نرفضه ـ فإنه سوف لا يجد ـ فيما يرى سال ـ إلا ما ينفره من المسيحية ، بسبب أطماع رجال الدين ، والانشقاق بينهم والخلافات على أتفه الأسباب ، وكان المسيحيون في تحفزهم لإرضاء شهواتهم ، قد انتهوا تقريبا إلى طرد المسيحية ذاتها من الوجود ، بفضل جدالهم المستمر حول

__________________

(١) من عجب أن الدكتور البوطي ينقل كل ذلك دون تعليق ، والمستشرقون المبغضون للقرآن لم يقولوا اكثر من ذلك ، فضلا عن أن الجملة التي جاءت في كتاب «الظاهرة القرآنية» لا تعني ما ذهب إليه ، وإن اقتربت منه

(٢) يتفق الباحثون الآن على أن مقابلة بحيري الراهب ـ إن صحت ـ فهي لا تعدو نبوءة في مضمونها توقع بعثة هذا الشاب (أي محمد) رسولا في المستقبل (انظر : هيورات : مصدر جديد للقرآن ، الجريدة الأسيوية ، عدد يوليو ـ اغسطس ١٩٠٤)

(٣)Goldziher, le Dogme et la Loide L\'Islam, P. ٤ Sprenger, Cite Par Huart, one Nouvelle Source Du Koran, P. ٨٢١ وكذاT. Andrae, Mohomet, Sa vie et Sa Doctrine, P. P. ٧٣ ـ ٨. وكذا

٤٨

طريقة فهمها (١) ، وهكذا ـ وكما يقول تايلور ـ إن كل ما كان يقابله محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وأتباعه في كل اتجاه ، لم يكن إلا خرافات منفرة ، ووثنية منحطة ومخجلة ، ومذاهب كنسية مغرورة ، بحيث شعر العرب ذو العقول النيرة ، بأنهم رسل من قبل الله مكلفين بما ألم بالعالم من فساد ، وعند ما أراد «موشايم» وصف هذا العصر ، رسم صورة مقارنة ، أبرز فيها التعارض بين المسيحيين الأوائل والأواخر ؛ وخرج بأن الديانة الحقيقية في القرن السابع الميلادي ، كانت مدفونة تحت أكوام من الخرافات والأوهام ، حتى إنه لم يكن في مقدورها أن ترفع رأسها (٢) ، وكما يقول الدكتور محمد عبد الله دراز ، إن هذه الصفحات تبدو ، وكأنها كتبت لتفسر الآية الكريمة (٣) (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ ، فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ، فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» (٤) ، ولعل كل هذه الأسباب هي التي دفعت «هوارت» إلى أن يقرر في النهاية أنه مهما كان إغراء الفكرة التي تقول بأن تفكير المصلح الشاب (يعني رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم)) قد تأثر بقوة عند ما شاهد تطبيق الديانة المسيحية بسورية ، فإنه يتحتم استبعادها ، نظرا لضعف الوثائق والأسس التاريخية الصحيحة (٥).

__________________

(١) Georges Sale, Observations Historiques et Critiques sur le mahometisme, p. ٨٦ ـ ١٧

(٢) محمد عبد الله دراز : المرجع السابق ص ١٣٥ ـ ١٣٨

(٣) نفس المرجع السابق ص ١٣٨

(٤) سورة المائدة : آية ١٤ وانظر : تفسير الطبري ١٠ / ١٣٥ ـ ١٤٠ (دار المعارف ـ القاهرة ١٩٥٧) ، تفسير الكشاف ١ / ٦١٦ ـ ٦١٧ (دار الكاتب العربي ، بيروت) ، تفسير روح المعاني ٦ / ٩٥ ـ ٩٧ (دار احياء التراث العربي ، بيروت) ، تفسير مجمع البيان ٦ / ٥٤ ـ ٥٥ (دار مكتبة الحياة ، بيروت ١٩٦١) ، في ظلال القرآن ٦ / ١٠٤ ، ١٠٧ ـ ١٠٨ (دار احياء التراث العربي ، بيروت ١٩٦١) ، تفسير الجواهر (طنطاوي جوهري) ٣ / ١٥١ (المكتبة الاسلامية ـ طبعة ثالثة ١٩٧٤)

(٥) محمد عبد الله دراز : المرجع السابق ص ١٣٨ وكذا Huart, une nouvelle Source du Koran, ٤٠٩١, P. ٩٢١

٤٩

ومنها (ثانيا) أن النبي نشأ أميا لا يقرأ ولا يكتب (١) ، ولم تكن نشأته بين أهل الكتاب حتى يعلم بالتلقين علمهم ، والفئة القليلة المستضعفة التي وجدت في مكة منهم ، تكاد تعد على أصابع اليد الواحدة ، وكانت تعد من أجهل سكان المدينة المقدسة وأحطهم مقاما في المجتمع الانساني ، يحترفون بدنيء الحرف ، كخدمة بعض العرب ، أو الاتجار في أشياء حقيرة ، كبيع النبيذ ، وغير ذلك مما يقوم به المستضعفون الذين يقطنون الأحياء المنزوية (٢) ، ثم إن هؤلاء المطمورين لم يكونوا يجهلون دينهم فحسب ، ولكن بصفة خاصة ـ وهنا تتركز حجة القرآن (٣) كانت لغتهم الأجنبية حاجزا أمام النبي (٤) ، وفي نفس الوقت كان قوم محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، أميين ، لا يسود فيهم علم من أي طريق كان ، إلا أن يكون علم الفطرة والبيان ، ولم تكن عندهم مدرسة يتعلمون فيها ، ولا علماء يتلقونه عليهم ، لقد كانوا منزوين بشركهم عن أهل الكتاب ، والمعرفة في أي باب من أبوابها ، يقول سبحانه وتعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ ، وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (٥) ، وكانت رحلتا الصيف والشتاء إلى الشام واليمن تجاريتين لا تتصلان بالعلم في أي باب من أبوابه ، ولا منزع من منازعه (٦)

ومنها (ثالثا) أنه لم يثبت أنه كان بمكة أو ضواحيها أي مركز ثقافي

__________________

(١) سورة العنكبوت : آية ٤٨

(٢) مؤتمر سورة يوسف ٢ / ١٣١٠ ، مدخل إلى القرآن الكريم ص ١٣٤ ، وكذاHuart وكذاop - cit.P.١٣١ Masse ,L\'Islam ,Paris ,٧٣٩١ ,P.١٢

(٣) سورة النحل : آية ١٠٣

(٤) محمد عبد الله دراز : المرجع السابق ص ١٣٥ ، وكذا Pere Lammens, L\'Islam Croyance et Institution, ٦٢٩١, P. ٨٢

(٥) سورة الجمعة : آية ٢

(٦) محمد أبو زهرة : القرآن ص ٣٦٣

٥٠

ديني ليقوم بنشر فكرة الكتاب المقدس التي عبر عنها القرآن (١) ، ومنها (رابعا) أنه لو كانت الفكرة اليهودية المسيحية قد تغلغلت حقا في الثقافة والبيئة الجاهلية ، لكانت هناك ترجمة عربية للكتاب المقدس ، الأمر الذي لم يثبت على الإطلاق ، بل إن الآية الكريمة (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (٢) ، نشير إلى أنه لم يكن بين العرب من يعرف العبرية ، فضلا عن عدم وجود ترجمة عربية للتوراة (٣) ، قبل عام ٧١٨ م ، وأما ترجمة الانجيل ، فلم تكن هناك حاجة إليها ، إلا في القرن التاسع والعاشر الميلادي ، بل إن القس «شيدياك» ليصرح بأنه لم يتمكن من الرجوع بتاريخ أقدم ترجمات العهد الجديد (الانجيل) باللغة العبرية إلى أبعد من القرن الحادي عشر الميلادي (٤).

ومنها (خامسا) الخلاف الجوهري بين القرآن والانجيل في أمور

__________________

(١) مالك بن نبي : المرجع السابق ص ٣١٠

(٢) سورة آل عمران : آية ٩٣

(٣) مالك بن نبي : المرجع السابق ص ٣١١ ـ ٣١٢ ، راجع ترجمات التوراة في كتابنا «إسرائيل» ص ٤٨ ـ ٥١

(٤) انظر : شيدياك : دراسة عن الغزالي الفصل السابع ، مقالة «مس بادويك» عن أصل الترجمة العربية للكتاب المقدس ، مجلة «العالم الاسلامي» عدد آبريل ١٩٣٩ ، مدخل إلى القرآن الكريم ص ١٣٨ ـ ١٤٢ ، وكذاLeblois ,op - cit ,P.٥٣ وكذاS.Tisdll ,op - cit ,P.٥٣

٥١

رئيسية ـ كألوهية المسيح وصلبه وعقيدة التثليث (١) ـ فضلا عما أشار إليه القرآن من تحريف النصارى لإنجيل المسيح عليه‌السلام ، ومنها (سادسا) أن السور المكية ـ وهي التي نزلت قبل هجرة الرسول ، (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، الى المدينة ، حيث يوجد اليهود ، هي التي تعرض أطوار قصص التوراة بتفاصيلها الدقيقة (٢) ، ولم تترك للسور المدنية سوى فرصة استخلاص الدروس منها وغالبا في تلميحات موجزة (٣) ، ومنها (سابعا) أن القرآن الكريم يختلف اختلافا جوهريا في أمور رئيسية مع التوراة كذلك ، ومن ثم فإن الخلاف بين قصص القرآن وحكايات التوراة واضح الى حد كبير.

__________________

(١) أنظر : النساء : آية ١٧١ ، المائدة ١٧ ، ٧٢ ـ ٧٥ ، ١١٦ والتوبة : آية ٣٠ ـ ٣١ ، النساء : آية ١٥٧ وانظر عن هذه الآيات الكريمة :

تفسير الطبري ٩ / ٣٦٧ ـ ٣٧٧ ، ٤١٥ ـ ٤٢٤ ، ١٠ / ١٤٦ ـ ١٥٠ ، ٤٨٠ ـ ٤٨٦ ، ١٤ / ٢٠١ ـ ٢١٢ ، ١١ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨ (طبعة دار المعارف) تفسير روح المعاني ٦ / ١٠ ـ ١٢ ، ٢٤ ـ ٤٠ ، ٩٨ ـ ١٠٣ ، ٢٠٧ ـ ٢١١ ، ٧ / ٦٤ ـ ٦٩ ، تفسير البحر المحيط ٣ / ٥٣٦ ـ ٥٤٠ ، تفسير المنار ٦ / ٨١ ـ ٩٨ ، ٤٧٩ ـ ٤٨٧ ، ٧ / ٢٦٠ ـ ٢٧٦ ، تفسير الكشاف ١ / ٥٨٤ ـ ٥٨٥ ، ٥٩٣ ـ ٥٩٤ ، ٦١٧ ـ ٦١٨ ، ٦٦٣ ـ ٦٦٤ ، ٦٩٤ ، تفسير مجمع البيان ٥ / ٢٧٩ ـ ٢٨٤ ، ٢٩٩ ـ ٣٠٣ ، ٦ / ٥٧ ـ ٦٠ ، ١٦١ ـ ١٦٨ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٤٥٨ ـ ٤٦١ ، ٦١٥ ـ ٦١٧ ، تفسير أبي السعود ٢ / ٤٩ ـ ٥١ ، تفسير القرطبي ٦ / ٢٠ ـ ٢٥ ، ٢٤٩ ـ ٢٥١ ، ٣٧٤ ـ ٣٧٧ (دار الكتب المصرية ـ القاهرة ١٩٣٨)

(٢) انظر مثلا : الأعراف عن آدم (١١ ـ ٢٥) وموسى (١٠٢ ـ ١٧٦) يونس عن موسى (٧٥ ـ ٩٢) وهود عن نوح (٢٥ ـ ٤٩) وإبراهيم ولوط (٦٩ ـ ٨٢) وسورة يوسف عن يوسف ، وسورة الحجر عن آدم وإبراهيم ولوط (٢٦ ـ ٧٧) وسورة الإسراء عن بني اسرائيل (٤ ـ ٨) وسورة الكهف عن أهل الكهف (٩ ـ ٢٥) وموسى (٦٠ ـ ٨٢) وسورة مريم عن زكريا ويحيى ومريم وعيسى .. الخ (١ ـ ٣٣) وسورة طه عن موسى (٩ ـ ٩٨) وسورة الأنبياء عن إبراهيم (٥١ ـ ٧٠) وداود وسليمان (٧٨ ـ ٨٢) وسورة الشعراء عن موسى وإبراهيم ونوح .. الخ (١٠ ـ ١٨٩) وسورة النمل عن موسى وداود وسليمان (٧ ـ ٤٤) وسورة القصص عن موسى (٣ ـ ٤٣) وقارون (٧٦ ـ ٨٢) وسورة العنكبوت عن نوح وإبراهيم ولوط (١٤ ـ ٣٥) وسورة سبأ عن داود وسليمان (١٠ ـ ١٤) وسورة ص عن داود وسليمان وأيوب (١٧ ـ ١٤) وسورة الذاريات عن إبراهيم (٢٤ ـ ٣٧)

(٣) محمد عبد الله دراز : المرجع السابق ص ١٥٦ ـ ١٥٧

٥٢

وأخيرا (ثامنا) فإن محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، لم يكن له معلم من قومه الأميين قط ، بل لم يكن له ـ عليه الصلاة والسلام ـ معلم من غيرهم من أمم الأرض قاطبة ، وحسب الباحث في ذلك أن نحيله على التاريخ ، وندعه يقلب صفحات القديم منه والحديث ، والإسلامي منه والعالمي ، ثم نسأله : هل قرأ فيه سطرا واحدا يقول : إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، لقي قبل إعلان نبوته فلانا من العلماء ، فجلس إليه يستمع من حديثه عن علوم الدين ، ومن قصصه عن الأولين والآخرين (١).

وأما الذين لقوه بعد النبوة ، فقد سمع منهم وسمعوا منه ، ولكنهم كانوا له سائلين ، وعنه آخذين ، وكان هو لهم معلما وواعظا ، ومنذرا ومبشرا (٢).

على أنه يجب أن نلاحظ أن قصص التوراة إن كانت تحمل أوجه شبه بالقصص القرآني ، فربما يرجع ذلك إلى أن التوراة ـ في الأصل ـ كتاب مقدس ، وأن الإسلام الحنيف ، إنما يؤمن بموسى ـ كنبي وكرسول وككليم لله عزوجل ـ ثم يقرر بعد ذلك ـ دونما لبس أو غموض ـ أن موسى جاءته صحف وأنزلت عليه توراة ، إلا أن توراة موسى هذه ، سرعان ما امتدت إليها أيد أثيمة ، فحرفت وبدلت ، ثم كتبت سواها ، بما يتلاءم مع يهود ، ويتواءم مع مخططاتهم ، ثم زعموا ـ بعد كل هذا ـ أنها هي التوراة التي أنزلها الله على موسى (٣) ، (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» (٤).

والذي تولى هذا التصحيف والتأويل والتعمية ، إنما هي طائفة

__________________

(١) محمد عبد الله دراز : النبأ العظيم ص ٥٦ ـ ٥٧

(٢) نفس المرجع السابق ص ٥٧

(٣) راجع كتابنا إسرائيل ص ٢١ ـ ٢٣

(٤) سورة الكهف : آية ٥

٥٣

متخصصة من أحبارهم ، بغية الحفاظ على مكانتها ومكاسبها ، وعن هذا يقول القرآن الكريم (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» (١) ويقول (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» (٢) ، ويقول : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» (٣).

هذا وقد عمد لفيف من رؤسائهم الدينيين إلى إخفاء بعض الأسفار في الهيكل ـ وهي التي عرفت بالأسفار الخفية (٤) ـ ثم اختلفت نظرتهم إليها ، إذ كان بعضها ـ فيما يعتقدون ـ غير مقدس ، بينما بعضها الآخر موحى به من عند الله ، وإن رأي الأحبار إخفاءه في الهيكل حتى لا يطلع عليه العامة من القوم ، كما رأوا عدم إدراجه بين أسفار التوراة ، ربما

__________________

(١) سورة النساء : آية ٤٦

(٢) سورة البقرة : آية ٧٩

(٣) سورة المائدة : آية ١٣

(٤) انظر عنها كتابنا إسرائيل ص ٩٥ ـ ٩٧

٥٤

لأن ما بها من حقائق لا تتفق وأهواءهم ، وربما لأن ما بها من بشارات لا يتلاءم وميولهم العنصرية وعن هذا يقول القرآن الكريم (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً» (١) ، ومن ثم فقد كان حكم الإسلام على كتاب اليهود هذا ، أنه يحمل بعض لمحات من توراة موسى ، ذلك لأن اليهود ، إنما قد أوتوا نصيبا منها ، ونسوا نصيبا وحظا ، فلم يحفظوها كلها ، ولم يضيعوها كلها ، وأنهم قد حرفوا ما أوتوه عن مواضعه تحريفا لفظيا ومعنويا (٢).

(٦) مقارنة بين القصص القرآني وروايات التوراة

والرأي عندي أن خير ما نفعله لنثبت الخلاف الجوهري بين قصص القرآن وروايات التوراة ، وأن المصدر الأول لم يعتمد على الثاني ، بل إن محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) كما يؤكد الباحثون من المستشرقين ـ حتى المتعصبين منهم ـ لم يقرأ التوراة ، أو أي كتاب آخر من كتب أهل الكتاب (٣) ، هو أن نقدم مقارنة بين بعض قصص القرآن ، ونظائرها في التوراة.

وإذا بدأنا بقصة نوح ـ عليه‌السلام ـ وجدنا أنها في القرآن (٤) ، غيرها

__________________

(١) سورة الانعام : آية ٩١

(٢) تفسير المنار ١ / ٢١٣

(٣) T.Noeldeke ,op - cit ,I ,P.٦١

(٤) ذكر القرآن قصة نوح في سور كثيرة منها الأعراف (٥٩ ـ ٦٤) ويونس (٧١ ـ ٧٣) وهود (٢٥ ـ ٤٩) والانبياء (٧٦ ـ ٧٧) والمؤمنون (٢٣ ـ ٣٠) والشعراء (١٠٥ ـ ١٢٢) والعنكبوت (١٤ ـ ١٥) والصافات (٧٥ ـ ٨٢) والقمر (٩ ـ ١٧) ثم سورة كاملة هي سورة نوح ، كما ذكر في مواضع متفرقة من النساء والأنعام والتوبة وإبراهيم والإسراء والاحزاب وص وغافر والشورى وق والذاريات والنجم والحديد والتحريم

٥٥

في التوراة ، وعلى سبيل المثال ، لا الحصر ، فإن القرآن وحده هو الذي يذكر أن نوحا ـ عليه‌السلام ـ إنما كان رسولا من رب العالمين ، وأنه قد قضى من الوقت ـ ما شاء الله له أن يقضي ـ في دعوة قومه إلى عبادة الله الواحد القهار ، وأن الله ـ جل وعلا ـ لم يأت بالطوفان إلا بعد أن تحمل النبي الكريم في سبيل دعوته كل صنوف الأذى والاضطهاد ، وإلا بعد أن جرب النبي الكريم كل سبل الإقناع دونما أية نتيجة ، وإلا بعد أن يئس النبي من أن يؤمن به قومه (١) ، وإلا بعد أن أوحى إليه (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) (٢) ، وهكذا اتبع النبي الكريم كل ما يمكن اتباعه ، تصديقا لقوله تعالى (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٣) ، والأمر غير ذلك تماما في التوراة (٤).

هذا فضلا عن أن القرآن الكريم هو وحده الذي يؤكد ـ التأكيد كل التأكيد ـ أن الناجين من الطوفان ، إنما نجوا لأنهم آمنوا بالله العزيز الحكيم ، بل إن القرآن ليقص علينا ـ من بين ما يقص من أحداث ـ ما وقع مع ابن النبي الكريم ، وكيف كان من الغارقين (٥) ، عملا بالمبدإ الإسلامي العظيم ، (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» (٦).

__________________

(١) سورة نوح : آية ١ ـ ٢٧

(٢) سورة هود : آية ٣٦

(٣) سورة الاسراء : آية ١٥

(٤) أنظر مقالنا «قصة الطوفان بين الآثار والكتب المقدسة» مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية ـ العدد الخامس ـ الرياض ١٩٧٥ ص ٤٤٨

(٥) سورة هود : آية ٢٥ ـ ٤٨

(٦) سورة فصلت : آية ٤٦

٥٦

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١) ، (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) (٢) ، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٣).

والقرآن الكريم وحده هو الذي لا نجد فيه نصا قطعيا على أن الطوفان قد شمل الأرض كلها ـ وهذا ما نميل إليه ونرجحه (٤) ـ أضف إلى ذلك أن القرآن الكريم ـ بعكس التوراة ـ إنما ينزه الله سبحانه وتعالى عن الندم على إحداث الطوفان ، بل أن التوراة لتذهب إلى أبعد من ذلك ، حين تزعم أن الله ـ تعالى عن ذلك علوا كبيرا ـ قد عزم على ألا يحدث طوفانا بعد ذلك وأنه قد وضع علامة ، هي القوس في السماء ، ليتذكر وعده ، فلا يكون طوفان يغرق الأرض أبدا (٥) ، كما تذهب التوراة

__________________

(١) سورة فاطر : آية ١٨ وانظر : تفسير الطبري ٢٢ / ١٢٦ ـ ١٢٨ ، تفسير البيضاوي ٢ / ٢٧٠ ، تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ١٤ ـ ١٥ ، تفسير القرطبي ١٤ / ٣٣٧ ـ ٣٣٨ ، تفسير روح المعاني ٢٢ / ١٨٦ ـ ١٨٥ ، تفسير مجمع البيان ٢٢ / ٢٣٥ ـ ٢٣٧ ، تفسير وجدي (وانظر نفس الآية : الأنعام : ١٦٤ ، الإسراء : ١٥)

وانظر قوله تعالى (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) من سورة البقرة : آية ١٤١ ، وانظر عنها : تفسير المنار ١ / ٤٠٠ ـ ٤٠٤ ، تفسير القرطبي ص ٥٣١ (دار الشعب ـ القاهرة ١٩٦٩) تفسير ابن كثير ١ / ٢٧٢ ـ ٢٧٣ (دار الشعب ـ ١٩٧١ م) ، تفسير الطبري ٣ / ١٢٨ ـ ١٢٩ (دار المعارف) الدرر المنثور في التفسير بالمأثور ١ / ١٤٠ ـ ١٤١ ، تفسير أبي السعود ١ / ٢٦٥ ـ ٢٦٦ ، في ظلال القرآن ١ / ١١٩ ، تفسير الكشاف ١ / ٣١٦ ، تفسير روح المعاني ١ / ٤٠١ ، تفسير الفخر الرازي ٤ / ١٠٠ ، تفسير مجمع البيان ١ / ٤٩٨ ، تفسير القاسمي (محاسن التأويل لمحمد جمال الدين القاسمي ـ طبعة الحلبي ١٩٥٧) ٢ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨ ، تفسير وجدي ص ٢٧ ، وانظر : محمود أبو ريدة : دين الله واحد ، القاهرة ١٩٧٠ ص ٦٥ ـ ٦٧.

(٢) سورة النجم : آية ٣٩ ـ ٤٠

(٣) سورة الزلزلة : آية ٧ ـ ٨

(٤) راجع مقالنا : قصة الطوفان بين الآثار والكتب المقدسة ص ٣٨٣ ـ ٤٥٧ ، تفسير المنار ١٢ / ١٠٦ ـ ١٠٩

(٥) تكوين ٩ : ١ ـ ١٧

٥٧

كذلك إلى أن نوحا إنما قدم الأضاحي للرب بعد نجاته ، وأن الرب ما لبث أن شمّ رائحة الشواء ، فسكن غضبه ، وتنسم رائحة الرضا (١) ، ويرد القرآن الكريم على فحش يهود هذا ، بقوله تعالى (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها ، وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ» (٢) ، ويقول تعالى (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) (٣) ، وما أصدق القرآن الكريم حيث يختم هذه القصة بقوله تعالى (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا ، فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (٤).

وفي قصة أبي الأنبياء ، إبراهيم الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ قد تفرد القرآن الكريم ـ دون غيره من الكتب المقدسة ـ بأن يقدم لنا الخليل ـ عليه‌السلام ـ في صورة المجاهد بنفسه وولده وماله لله ، والذي حطم الأصنام ، وتحدى الجبابرة الطغام ، وألقى من أجل دعوته في النار ، فأنجاه الله في كفاح طويل وجهاد موصول ، كان للناس إماما ، وعلى مدارجه أو من نسله درج الأنبياء (٥) ، ومن أسف أن إبراهيم العظيم هذا ، لم تصوره التوراة إلا رجلا لا همّ له ، إلا جمع البقر والغنم ، والأتن والجمال ، والإماء والعبيد ، متخذا من الوسائل أحطها ، ومن الطرق أحقرها ، بل إن التوراة لم تجد وسيلة لجمع المال ، إلا أن تجعل أبا الأنبياء ـ وحاشاه أن يكون كذلك ـ وكأنما هو يتاجر بامرأته سارة ، متنقلا بها من بلد إلى بلد (٦).

ومن الغريب المؤلم أن مفسري التوراة لم يحاولوا رد هذه الروايات

__________________

(١) تكوين ٨ : ٢٠ ـ ١٢ ، وأنظر عن رأى التوراة في نوح (تكوين ٩ : ٢٠ ـ ٢٧)

(٢) سورة الحج : آية ٣٧

(٣) سورة الحج : آية ٢٨

(٤) سورة هود : آية ٤٩

(٥) كمال عون : اليهود من كتابهم المقدس ص ١٠٧

(٦) تكوين ١٢ : ١٠ ـ ٢٠ ، ٢٠ : ١ ـ ١٨

٥٨

الكذوب ، وإنما جهدوا ـ قدر طاقتهم ـ لإثباتها ، وهم أول من يعلم أن التوراة ـ أو العهد القديم ـ غير موثوقة السند ، وراح بعضهم يتطاول على المقام السامي ، دونما أي حذر أو حيطة ، إثباتا لصحة نصوص التوراة ، فيما يزعمون (١) ، وكأن التوراة لا تكون كتابا مقدسا ، إلا اذا صورت المصطفين الأخيار ، من أنبياء الله الكرام في صورة مشوهة (٢).

ويقدم لنا القرآن الكريم ـ بعكس التوراة تماما ـ خليل الرحمن ، وهو يترك موطنه الأصلي في حاران (٣) ، مبشرا بدعوة التوحيد ، في مكان غير هذه الأرض ، التي لم تتقبل دعوته بقبول حسن ، وتقص علينا الآيات الكريمة من سورة مريم ، كيف بدأ إبراهيم دعوته مع أبيه ، يهديه بها صراطا مستقيما ، غير أن أباه قد رفض الدعوة ، بل وهدده إن لم ينته عنها ، ليرجمنه وليهجرنه مليا ، فما كان من الخليل ، تأدبا مع أبيه وحدبا عليه ، إلا أن يدعو له بالمغفرة ، وأن ينتظر إجابة دعوته إلى حين ، ولنقرأ هذه الآيات الكريمة : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً ، يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا ، يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا ، يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا ، قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ ، لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ، قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا ، وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ

__________________

(١) ف. ب. ماير : حياة إبراهيم ص ٦٥ ، ٢٢١ ، حبيب سعيد : خليل الله في اليهودية والمسيحية والاسلام ص ٤٧ ، القس منيس عبد النور : إبراهيم السائح الروحي ص ٢٦

(٢) انظر رحله في كتابنا اسرائيل ص ٦٩ ـ ٨٦

(٣) انظر وجهات نظر مختلفة عن موطن الخليل وهجراته ، في كتابنا «اسرائيل» ص ١٦٥ ـ ١٩٦

٥٩

وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (١).

وهذه الآيات الكريمة تدل بوضوح على أن هناك حلافا عميق الجذور بين إبراهيم وأبيه ، تأدي بالوالد أن يأمر ابنه بالهجرة ، حيث لا أمل في اتفاق ، ولكن الأمور سرعان ما تتأزم كذلك بين إبراهيم وقومه ، إلى الحد الذي لا يجد القوم مخرجا منها ، إلا أن يلقوا بابراهيم في نار أوقدوها لإحراقه ، وهنا يفقد إبراهيم الأمل في ايمان القوم ، ويقرر الهجرة ، (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» (٢) ، ولم يجد من القوم من يؤمن به إلا ابن أخيه لوط (٣) ، (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٤) ، وهكذا كتب الله لإبراهيم ـ وكذا لابن أخيه ـ النجاة ، بعد أن اعد القوم العدة لإحراقه ، (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ، قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ، وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ ، وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) (٥).

ولعل من المفيد الإشارة هنا إلى رأي عالم يهودي ، يعترف فيه صراحة ، بأن التوراة لم تأت على السبب الصريح لمهاجرة إبراهيم أرض آبائه ، وإنما يؤخذ مما جاء فيها في مواضع مختلفة ، أنه فضل ذلك كي يعبد الله عملا بما أنزل عليه من الوحي ، وهذا يطابق ما جاء في القرآن من أنه إنما غادر أهله وبلاده ، لأنهم كانوا عبدة أصنام ، وكان يعبد الله فخاصمهم وارتحل عنهم إلى حيث يبيت في مأمن منهم ، وحيث تتسنى له

__________________

(١) سورة مريم : آية ٤١ ـ ٤٨

(٢) سورة الصافات : آية ٩٩ ، وأنظر عن تفسير هذه الآيات : تفسير الطبري ٢٣ / ٧٥ ـ ٧٦ ، تفسير القرطبي ١٥ / ٩٧ ـ ٩٨ ، روح المعاني ٢٣ / ١٢٦ ـ ١٢٧

(٣) انظر عن رأي التوراة في لوط : تكوين ١٩ : ٣٠ ـ ٣٨ ، كتابنا إسرائيل ص ٧٣ ـ ٧٤

(٤) سورة العنكبوت : آية ٢٦

(٥) سورة الأنبياء : آية ٦٨ ـ ٧١

٦٠