دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
المطبعة: دار النهضة العربية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٠

موسى قد خرج باليهود من مصر ، حوالى عام ١٢١٦ ق. م. ، أو عام ١٢١٤ ق. م. ، (أي في القرن الثالث عشر ق. م.) (١) ، فإن صالحا ـ طبقا لهذا الرأي ـ قد عاش فيما بين القرن الثامن عشر ق. م. ، والقرن الثالث عشر ق. م. ، غير أن صاحب هذا الرأي نفسه ـ الاستاذ النجار ـ لا يستبعد أن يكون قوم عاد أقدم من قوم إبراهيم ، وأن قوم ثمود كانوا يتلون قوم عاد في الوجود والظهور (٢) ـ الأمر الذي سبق ان ناقشناه هنا من قبل ـ وخرجنا منه أن هناك آيات كريمة يسبق فيها الثموديون قوم عاد (٣) ، وأخرى تسبق فيها قصة موسى قصة إبراهيم ، ثم تأتي قصة نوح فقصة هود وصالح ولوط وشعيب (٤).

أضف إلى هذا كله ، أننا لا نملك أدلة علمية مؤكدة نستطيع ان نستند إليها في التأريخ لقوم ثمود ، ومن ثم فإننا يمكننا القول ـ حدسا عن غير يقين ـ ان الثموديين ـ بصفة عامة ـ ربما كانوا يشغلون صفحات في التاريخ ، منذ أوائل الألف الاول ق. م. ، وأنهم استمروا كذلك حتى القرن الخامس الميلادي ، نقول منذ الألف الأول قبل الميلاد ، لأن لدينا كتابات آشورية تتحدث عن الثموديين صراحة منذ القرن الثامن ق. م. ـ وبالتحديد منذ عهد سرجون الآشوري (٧٢٢ ـ ٧٠٥ ق. م.) (٥) ـ

__________________

(١) راجع التأريخ لعصر إبراهيم ، وكذا الآراء المختلفة التي دارت حول تاريخ خروج اليهود من مصر في «كتابنا اسرائيل» ص ١٧١ ـ ١٧٧ ، ص ٢٦٨ ـ ٣٠٣.

(٢) عبد الوهاب النجار : المرجع السابق ص ٤٨

(٣) انظر : سورة ق : آية ١٢ ـ ١٣

(٤) انظر : سورة الشعراء ، حيث تسبق قصة موسى (١٠ ـ ٦٨) قصة إبراهيم (٦٩ ـ ٨٩) ثم تأتي بعد ذلك قصة نوح (١٠٥ ـ ١٢١) فقصة هود (١٢٤ ـ ١٤٠) ثم قصة صالح (١٤١ ـ ١٥٩) فقصة لوط (١٦٠ ـ ١٧٥) فقصة شعيب (١٧٦ ـ ١٩١)

(٥) ANET ,P.٦٨٢

٢٨١

وبدهي أن هؤلاء الذين حاربوا العاهل الآشوري لم يظهروا فجأة في التاريخ ، وإنما لهم أسلاف عاشوا قبل ذلك بقرون لا ندري مداها على وجه التحقيق ، ونقول القرن الخامس الميلادي ، لأن لدينا نقشا يرجع إلى النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي (وبالتحديد إلى عام ٢٦٧ م) (١) ، وبدهي ـ مرة أخرى ـ كما أنهم لم يبدءوا فجأة ، فإنهم لم يختفوا فجأة كذلك ، ومن هنا قلنا إنهم استمروا حتى القرن الخامس الميلادي ، بل أن هناك ما يدل على أنهم كانوا في ذلك القرن فرسانا في جيش الروم ، وأنهم كانوا يعسكرون في مصر ، وكذا في فلسطين (٢).

(٥) النقوش الثمودية

لقد عثر الاثريون على نقوش ثمودية في مناطق مختلفة من شبه الجزيرة العربية ، تمتد من الجوف شمالا ، إلى الطائف جنوبا ، ومن الأحساء شرقا إلى يثرب فأرض مدين غربا ، وفي المسالك المؤدية إلى العقبة والاردن وسورية ، وحتى في ارض حضرموت من جنوب الجزيرة العربية ، وأن ذلك ـ كما يقول الاستاذ شرف الدين ـ لدليل حي على أن الثموديين كانوا في يوم ما السكان الأصليين لشمال الجزيرة العربية ، ولهذا فإن القرآن الكريم ذكر الثموديين في أكثر من آية دون غيرهم من شعوب المنطقة ممن كانوا أكثر منهم قوة ، سواء في مجال المدنية أو التجارة كالديدانيين واللحيانيين والأنباط ، وهو إن دل على شيء فإنما يدل على توافق تام وتطابق محكم بين نصوص القرآن الكريم ومعلومات

__________________

(١) A. Van den Branden, Les Inscriptions Thamoudeennes, ٠٥٩١, P. ٠١٤

(٢) C. M. Doughty, op - cit, P. ٩٢٢ Encyclopedie de Pauly - Wissowa, IA. ٢, article Saraka, Col. ٧٨٣٢ ـ ٠٩٣٢ A. Sprenger, op - cit, P. ٨٢

٢٨٢

النقوش (١) ، وإن كنت أميل إلى أن ذكر القرآن الكريم لقوم ثمود في اكثر من أية ، ليس بسبب أنهم السكان الاصليون لشمال بلاد العرب ، وإنما بسبب نبي الله صالح ودعوته التي ما آمن بها إلا نفر قليل من ثمود ، ومن ثم فالغرض من الذكر هنا ، إنما هو العظة والعبرة ، بقوم كفروا بربهم ، وأنكروا دعوة نبيهم ، فكان جزاؤهم العقاب الشديد ، وليس أدل على ذلك من أن قوم ثمود ـ كما يرى صاحب الرأي نفسه ـ لم يبلغوا في ميزان القوة أو المدنية ، أو حتى التجارة ـ ما بلغه آخرون من نفس المنطقة ، كما أن الثموديين ـ كما أشرنا من قبل ـ لم يستطيعوا تكوين مملكة بالمفهوم الحضاري في يوم من الأيام ، بل إنهم حتى فشلوا في أن يفرضوا سلطتهم الإدارية على المناطق التي وقعت تحت سلطتهم يوما ما ، لسبب او لآخر.

وعلى أي حال ، فإن نقوشا ثمودية كثيرة جاءت إلينا من شمال شبه الجزيرة العربية ، من تبوك وتيماء والعلا ومدائن صالح ولقط وجبل مرير ، ومن المدينة المنورة ووادي الأب ـ الذي يبعد عنها بحوالي ٧٠ كم ـ ومن مكة المكرمة والطائف وريع الزلالة في الطريق بينهما ، ومن السواحل الحجازية الشمالية للبحر الأحمر عند الوجه (٢) ، وأما في وسط الجزيرة العربية ، فقد عثر على نقوش ثمودية في حائل وسدير والقصيم وفارينا في ضواحي الرياض (٣) ، أما في جنوب الجزيرة العربية ، فقد جاءتنا نقوش ثمودية من اليمن وقرب عدن ومن حجر المعقاب عند جبل خليل ، ومن طريق النجور بين حضرموت ومكة ، ومن منطقة شواديف في اليمن

__________________

(١) احمد حسين شرف الدين : اللغة العربية في عصور ما قبل الاسلام ص ٦١

(٢) جواد علي ١ / ٣٢٩ ، خالد الدسوقي : المرجع السابق ص ٢٧٤ ـ ٢٧٥Ency. of Ency of Islam, ٤, P. ٦٣٧ A. Musil, Northern Nejd, P. ٤٠١ Jausen - Savegnac, op - cit, ١ ـ ٤, H. Grimme, Entzifferung Thamudenischer Inschriften, ٤٠٩١

(٣)C. Huber, Inscriptions Recueillies dans L\'Arabic Centrale, ٨٧٨١ ـ ٢٨٨١ Bull. Soc. Geogr., \' ٥, P. P. ٩٨٢ ـ ٣٠٣

٢٨٣

الجنوبية (١).

هذا وتشير النقوش الثمودية إلى الحياة المستقرة التي كان يحياها القوم ، ومن ثم فقد رأينا رسما يصور لنا عملية حرث الأرض ، وهو عمل كثيرا ما تتحدث عنه النقوش ، كما كان البعض يوصف بأنه «اكّار» أي فلاح كما وردت كلمة «عيّان» بمعنى سكة المحراث ، وكل تلك ألفاظ تشير إلى مهنة الزراعة ، أضف إلى ذلك أن الإسم «رال» الذي يعني قش ، إنما يدل على زراعة أنواع مختلفة من الحبوب ، والأمر كذلك إلى لفظة «زرأ» بمعنى بذر (٢).

وهناك ما يشير إلى أن القوم قد عرفوا زراعة العنب ، بدليل وجود الإسم «عنّاب» أي تاجر العنب ، ولعل هذا يجعلنا نميل إلى يجعلنا نميل إلى أن الرأي القائل بأن زراعة الكروم لم تعرف في بلاد العرب ، إلا في القرن الرابع الميلادي ، إنما هو بعيد عن الصواب إلى حد كبير (٣).

هذا وتشير الرسوم المتعددة لشجرة النخيل إلى أن ثمارها ربما كانت الغذاء الرئيسي للثموديين (٤) ، وعلى أي حال فلا شك في أن شجرة النخيل إنما هي ملكة عالم النبات في شبه الجزيرة العربية ، ورغم تدهور قيمة التمور في السنوات الأخيرة ، فهذا لا يجعلنا ننسى أن ثمار النخيل إنما كانت إداما للعرب ، وطبا يستطبون به لمعالجة عدد من الأمراض ،

__________________

(١) خليل يحيى نامي : نشر نقوش سامية من جنوب بلاد العرب وشرحها ـ القاهرة ١٩٤٣ ص ١٠٩ ، جواد علي ١ / ٣٢٩J. Ryckmans, Graffites Thamoudeens du Yamen Septentrional, Le Museon, ٢٧, ٩٥٩١, P. P. ٧٧١ ـ ٩٨١ J. B. Philby, Sheba\'s Daughters, London, ٩٣٩١, P. ١٤٤ A. Van den Branden, Les Textes Thamoudeens de Philby, Louvain, ٦٥٩١

(٢) خالد الدسوقي : المرجع السابق ص ٢٩١ وكذاVan den Branden, les Inscriptions Thamoudeennes, P. ٠٩٥

(٣) خالد الدسوقي : المرجع السابق ص ٢٩١ ، فيليب حتى : المرجع السابق ص ٢٣

(٤) نفس المرجع السابق ص ٢٢ ـ ٢٣

٢٨٤

ومادة يستخرجون منها دبسا وخمرا وشرابا (١) ، بل لقد ذهبوا إلى أكثر من ذلك ، حين حلوا بها مشكلة الصراع بين الحرارة والملوحة ، ذلك أن الاشعاع الشمسي الهائل يرفع البخر إلى درجة تهدد الموارد الباطنية بالنفاد وسط التربة الزراعية بالاستملاح المتزايد ، ولهذا لجأ القوم إلى النخيل ، لا كغذاء فقط ، وأنما لتستظل به الزراعة (٢) ، وعلى أي حال ، فإن ملكة الأشجار العربية هذه ، غير عربية الأصل ، نقلت إلى شبه الجزيرة من الشمال ، من بابل ، حيث كانت شجرة النخيل أعظم العوامل التي جذبت الإنسان القديم إلى التوطن هناك (٣).

وهناك ما يشير إلى ان الثموديين قد عرفوا زراعة القطن كذلك ، بدليل وجود الإسم «برس» أي شعر القطن ، والإسم «هلق» أي حلاج القطن ، الذي يشير الى صناعته كذلك ، كما أن هناك ما يشير كذلك إلى معرفة القوم لزراعة البصل والبخور والورود (٤).

هذا ولم تقتصر النقوش الثمودية على بلاد العرب ، وإنما وجدت كذلك في سيناء وفي دلتا مصر وفي وادي الحمامات بين القصير وقفط ، وفي الصفا شرق دمشق وفي شمال غرب تدمر وفي صيدا وجبل الرام وأم الرصص قرب ديبان في شرق الاردن ، وفي النقب (٥). ولعل من الأهمية

__________________

(١) جواد علي ١ / ٢٠٧

(٢) جمال حمدان : أنماط من البيئات ص ٩٥ ـ ٩٦

(٣) لاويون ٢٣ : ٤٠ ، فحميا ١٨ : ١٥ ، مكابيين أول ١٣ : ٥١ وكذاJ.Hastings ,op - cit ,P.٥٧٦

(٤) خالد الدسوقي : قوم ثمود بين روايات المؤرخين ومحتويات النقوش ـ مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية ـ العدد السادس ـ ١٩٧٦ ص ٢٩٢E. N. Kensdale, Three Thamudic Inscriptions From the Nile Delta, le Museon, ٥٦, P. P. ٥٨٢ ـ ٨٨٢ G. Harding, Some Thamudic Inscriptions From Hashmite Kingdom of the Jordan, ٢٥٩١ W. M. Petrie, Hyksos and Israelite Cities, P. ٤٥ E. Littmann, Thamudund Safa, PP. ٦, ٥٩ S. Horshield, le Temple de Ramm, Rev. Bibl, ٤٤, ٥٣٩١, PP. ٥٤٢ ـ ٨٧٢ H. A. Winckler, Rock. Drawings of Southern upper Egypt, London, ٨٣٩١, P. P. ٥, ٠١

(٥) جواد علي ١ / ٢٠٧

٢٨٥

بمكان الإشارة إلى ان هذه النقوش الثمودية ـ في غالبيتها ـ من ذلك النوع القصير الذي يكتب في مناسبات شخصية مختلفة (١) ، كما أنها ليست ذات فائدة تاريخية كبيرة ، وان كان بعضها يدلنا على علاقات من نوع ما بين الثموديين والأنباط وغيرهم ، فضلا عما تفيده من الناحية اللغوية ، وفي معرفة أسماء الثموديين ولهجاتهم ، بخاصة إذا علمنا أنها كتابة متطورة من خط المسند ، وإن الدكتور الأنصاري يرى أن نطلق على الخط الثمودي «خط البادية» ، لأنه كثيرا ما يكون من ذلك النوع الذي يسمى «مخربشات» ، وليس من الكتابات المنمقة ، التي وجدت بكثرة في كتابات السيئيين والمعينيين والقتبانيين والحضارمة والحميريين ، وبعض كتابات الديدانيين واللحيانيين في منطقة العلا ومدائن صالح (٢).

(٦) المجتمع الثمودي

تدلنا الكتابات الثمودية على أن أصحابها إنما كانوا ـ في معظمهم ـ يعرفون القراءة والكتابة إلى حد ما ، وقد سميت إحدى النساء «سحف» أي التي تخطئ عند القراءة ، كما أن هناك نصا يعرف منه أن فتاة صغيرة كتبت اسمها على الصخر ، بينما كان والدها يراقبها عن قرب ، فضلا عن أن هناك من احترف مهنة الكتابة ، بدليل وجود الإسم «كتب» أي كاتب (٣) ، هذا وقد كان القوم زراعا ، أقرب إلى الحضر منهم إلى أهل الوبر ، وأن لهم مواطن استقرار ومعابد ، وأن من بينهم من اشتغلوا بالتجارة فضلا عن الصيد الذي مارسه الثموديون سكان مدين بصفة خاصة ، وقد عثر على ثلاث رسومات في الجبال الداخلية لسفن كان

__________________

(١) جواد على ١ / ٣٢٩ وكذاVan den Branden. Les Inscriptions Thamoudeennes, Louvain, ٦٥٩١

(٢) عبد الرحمن الانصاري : المرجع السابق ص ٨٩

(٣) Van den Branden ,Histoire de Thamoud ,P.٧٥ F

٢٨٦

يستعملها القوم في صيد الأسماك ، ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى أنه قد عثر على سفن من نفس الطراز في صخور وادي الحمامات في صحراء مصر الشرقية ، بجوار بعض النقوش الثمودية ، الأمر الذي يحمل على الظن بأنها مراكب استعملها القوم في عبور البحر الأحمر (١) ، وإن كان هذا لا يمنع من القول بأن فريقا من المجتمع الثمودي ، إنما كان بدوا رحلا ، ومن بينهم من كان يعمل في تجارة القوافل ، أو من أهل «أهل العير» على حد تعبير النقوش (٢).

وتصور النقوش الثمودية رجالا ذوي قامة عادية ، ويبدو أنهم كانوا من العنصر ذوي الرءوس المستطيلة ـ مثلهم في ذلك مثل سكان بلاد العرب الشمالية ، وكان الرجال ذوي شعور قصيرة ، ويلبسون ازارا وحزاما في الوسط ، والرأس عادة عارية ، وإن كان الرجال ـ في بعض الأحيان ـ يلبسون غطاء رأس من القش ، كما أن هناك من يلبس ثوبا ، وعلى رأسه عمامة ، ومن يرتدي قميصا ينزل حتى الركبة ، أما النساء فكانت شعورهن طويلة ، هذا وهناك بعض المناظر التي تبدو فيها المرأة وقد حملت سلة فوق رأسها ، وارتدت توبا طويلا ينزل حتى العرقوب ، وارتدت خمارا ، هذا وتدل مناظر النساء على أن المرأة الثمودية إنما كانت شديدة الرغبة في التزين بالحلي والأساور ، فضلا عن العقود التي كانت على هيئة الهلال أو الجعل ، حتى أن المرأة التي لم تكن ترتدي حليا في جيدها إنما تسمى «آتل» ، أضف إلى أن استعمال الدهون كان شائعا بينهن (٣).

__________________

(١) Van den Branden, op - cit, P. ٠٤ F, Les Textes Thamoudeens, de Philiby, ٦٥٩١ PP. ٥٧٢ ـ ٩ F. M. Green, Notes Some Inscriptions in Etbay District, PSBA ٥٣, ٩٠٩١, PL. XXXVI

(٢) Vanden Branden ,Histoire de Thamoud ,P.٢٤ F

(٣) Van den Branden, Les Textes Thamoudeens, de Philby, P. P. ٦٥١ ـ ٤٦١, ٨٦٢

٢٨٧

وأما معبودات الثموديين ـ طبقا لروايات نصوصهم ـ فلعل أهمها «صلم Salm» ، وقد رمزوا له برأس الثور ، وكانت «تيماء» ، حوالى عام ٦٠٠ ق. م. ، من أهم مراكز عبادته ، هذا فضلا عن معبودات أخرى ، منها «ود» ـ وهو أحد المعبودات العربية القديمة ـ ومنها «حدد ـ هدد» وشمس ومناة وكاهل وبعل وبعلة ويهو ورضو وعثيرة وهبل ويغوث وسين وغيرها ، كما كان لهذه المعبودات سدنة يخدمونها ، يعرف الواحد منهم باسم «قسو» أي «قس» (١).

بقي أن نشير إلى أن هذه الكتابات الثمودية ، إنما يرجع بعضها إلى القرن السابع قبل الميلاد ، بينما يرجع البعض الآخر منها إلى ما بعد الميلاد ـ أي إلى عام ٢٦٧ م (٢) ـ ومن هنا فقد ورد في بعضها (وهو النص رقم ٤٧٦) ذكر للسيد المسيح عليه‌السلام ، إننا لا نعرف تاريخ هذا النص على وجه التحديد ، فإنه ـ فيما يرى ليتمان ـ أقدم دليل على انتشار المسيحية في شمال شبه الجزيرة العربية (٣).

__________________

(١) جواد على ١ / ٣٢٩ ـ ٣٣١ وكذاA. Van den Branden, op - cit, P. ٠١ J. Welhausen, op - cit, P. P. ٤١, ٦٤١

(٢) C. M. Doughty, Documents Epigraphiques Recueillis dans le Nord de l\'Arabie, ١٩٨١ Enno Littmann, Jesus in Pre - Islamic Arabic Inscriptions, in the Muslim World. Vol. XI, ٠٥٩١

(٣) Van den Branden, une Inscriptions Thamoude ennes, le Museon, LXIII. ٠٥٩١. ١ ـ ٢. PP. ٧٤ ـ ١٥

٢٨٨

الفصل الثّامن

المديانيون

قوم شعيب

٢٨٩
٢٩٠

(١) قصة مدين في القرآن الكريم

تحدث القرآن الكريم عن أهل مدين ، وعن نبيهم الكريم ، شعيب عليه‌السلام ، في مواطن متفرقة من سورة (١) ، ووفقا لما جاء في القرآن الكريم ، فإن شعيبا أتى مدين (٢) أو أصحاب الأيكة ، فنهاهم عن عبادة الأوثان ، كما أمرهم أن يقيموا الوزن بالقسط ولا يخسروا الميزان (٣).

ويروى عن ابن عباس أن الايكة المذكورة في القرآن ، إنما كان يسكنها قوم شعيب ، وأنها إنما تقع من مدين (٤) إلى «شغب» و «بدا» ، أو أنها من ساحل البحر إلى مدين ، وكان شجرهم المقل (الدوم) (٥) ، وأسفل أرض مدين ـ حتى وقتنا الحالي ـ فإن الوادي فيما بين البدع وساحل البحر تغطيه الأحراش الكثيفة التي يتميز من بينها نخيل الدوم ، ولكن الطريق من مدين إلى بدا يمر خلال واحات عدة غزيرة المياه تملؤها الخضرة ، وكانت

__________________

(١) أنظر : سورة الأعراف (٨٥ ـ ٩٣) والتوبة (٧٠) وهود (٨٤ ـ ٩٥) والحجر (٧٨ ـ ٧٩) والحج (٤٤) والشعراء (١٧٦ ـ ١٩١) والقصص (٢٢ ، ٢٥ ، ٤٥) والعنكبوت (٣٦ ـ ٣٧) وق (١٤) وغيرها

(٢) اختلف المفسرون في اسم مدين ، فذهب البعض إلى أنه اسم رجل في الأصل ، ثم كانت له ذرية فاشتهر في القبيلة كتميم وقيس وغيرهما ، وذهب آخرون إلى أنه اسم ماء نسب القوم إليه ، والأول أصح ، لأن الله أضاف الماء إلى مدين في قوله تعالى «وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ» ، ولو كان اسما للماء لكانت الاضافة غير صحيحة أو غير حقيقية ، والأصل في الإضافة التغاير حقيقة (تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٦٤) ، ياقوت ٥ / ٧٧ ـ ٧٨)

(٣) أنظر : الاعراف (٨٥) وهود (٨٤ ـ ٨٥) والشعراء (١٨١ ـ ١٨٣)

(٤) يقول ياقوت في معجمه أنها تقع على بحر القلزم محازية لتبوك ، وبها البئر التي استقى منها موسى عليه‌السلام لسائمة شعيب (ياقوت ٥ / ٧٧ ـ ٧٨) ، البكري ٤ / ١٢٠١)

(٥) ياقوت ١ / ٢٩١ ، ٢ / ١٤ ، البكري (١ / ٢١٥ ـ ٢١٦ ، تفسير ابن كثير ٤ / ١٧٠ ، تفسير البيضاوي ١ / ٥٤٥ ، تفسير الطبري ١٤ / ٤٨ ـ ٤٩ ، تاج العروس ٧ / ١٠٤ (طبعة بولاق ١٣٠٧ / ١٣٠٨)

٢٩١

هذه الواحات تابعة لأهل مدين ، وهناك نص طريف لابن منظور في «لسان العرب» عن سبب تسميتها بالأيكة ، وهو أن لفظ الأيكة يعني الشجر الملتف أو الغيضة ، كما يعني كذلك اسم «ليكة» وهي البلد حولها (١) ، أو هي بلدة كانوا يسكنونها ، وإطلاقها على ما ذكر ، إما بطريق النقل أو تسمية المحل باسم الحال فيه ، ثم غلب عليه حتى صار علما (٢) ، وعلى أي حال ، فإن «ليكة» تذكرنا بالكلمة اليونانية «Leuke» ومعناها الأبيض ، والجزء من أطلال مدين الواقع على حافة الغيضة لا زال يعرف بالحوراء ، وهو يعني كذلك البياض (٣).

على أن هناك من يرى أن أصحاب الأيكة غير مدين ، بدليل وصف «شعيب» في الآية (٨٥) من سورة الأعراف ، بأنه أخو مدين ، وعدم وصفه بذلك في الآيتين (١٧٦ ، ١٧٧) من سورة الشعراء ، وبدليل الحديث الذي رواه ابن عساكر مرفوعا إلى عبد الله بن عمرو بن العاص من «أن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا النبي عليه‌السلام» وأن شعيبا إنما أرسل إلى قومه أهل مدين ، وكذا أصحاب الأيكة ، وأنه كان ينذرهم متنقلا بينهم في زمن واحد ، ومن ثم فربما كان عقابها واحدا في زمن واحد أو في وقتين متقاربين ، أهل مدين بالرجفة والصيحة المصاحبة لها ، وأصحاب الأيكة بالسموم وشدة الحر الذي انتهى بظلة من السحاب فزعوا إليها يتبردون بظلها فأطبقت عليهم ، حتى اختنقوا بها أجمعين (٤) ، هكذا يروي السدي وعكرمة «ما بعث الله تعالى نبيا مرتين إلا شعيبا» ، مرة إلى مدين ، فأخذهم

__________________

(١) لسان العرب ١٢ / ٢٧٤ (طبعة بولاق ١٣٠٠ (١٣٠٧) ، شمال الحجاز ص ٧٢

(٢) روح المعاني ١٤ / ٧٥

(٣) شمال الحجاز ص ٧٢

(٤) تفسير المنار ٩ / ١١ ـ ١٢

٢٩٢

الله تعالى بالصيحة ، ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة (١) ، وأخيرا فهناك فريق ثالث زعم أن شعيبا إنما أرسل إلى أمم ثلاث ، حيث أضافوا إلى أهل مدين وأصحاب الأيكة ، أصحاب الرس (٢).

والرأي عندي أن الأمر غير ذلك تماما ، لأسباب كثيرة ، منها (أولا) أن الأنبياء إنما تبعث في أقوامها ، لأن القوم سيكونون أفهم لقول النبي من قول غيره ، وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وشرف أصله (٣) ، ومنها (ثانيا) لمعرفة النبي بلسان قومه ، تصديقا لقوله تعالى «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» (٤) ، ومنها (ثالثا) أن ما جاء في سورة الشعراء من وصف لأصحاب الأيكة (٥) ، إنما يتفق وما جاء في غيرها من وصف لأهل مدين ، مما يدل على أن أهل مدين ، إنما هم أنفسهم أصحاب الأيكة (٦) ، ومنها (رابعا) أن أنواع العقاب التي أنزلها الله سبحانه وتعالى بالقوم ، لا تعني أنهم أقوام عدة ، وإنما تعني أن الله قد أخبر عنهم في كل سورة بما يناسب سياقها ، ففي سورة الأعراف رجف القوم نبي الله وأصحابه وتوعدوهم بالإخراج من قريتهم أو ليعودن في ملتهم ، فقال تعالى «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» (٧) ، فقابل الإرجاف بالرجفة ، وأما في سورة هود فذكر أنهم أخذتهم الصيحة

__________________

(١) تفسير روح المعاني ٨ / ١٧٥ ، ٩ / ٦ ، وأنظر ١٤ / ٧٥

(٢) تفسير روح المعاني ٨ / ١٧٦

(٣) تفسير روح المعاني ٨ / ١٥٤

(٤) سورة إبراهيم : آية ٤

(٥) سورة الشعراء : آية ١٧٦ ـ ١٩١

(٦) محمد علي الصابوني : النبوة والأنبياء ص ٢٧٢

(٧) سورة الأعراف : آية ٩١

٢٩٣

فأصبحوا في ديارهم جاثمين (١) ، وذلك لأنهم قالوا لنبي الله على سبيل التهكم والاستهزاء «أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ» (٢) ، فناسب أن يذكر الصيحة التي هي كالزجر عن قول ما قالوا ، ومن ثم فقد جاءتهم صيحة أسكتتهم مع رجفة أسكنتهم ، وأما في سورة الشعراء فذكر أنه أخذهم عذاب يوم الظلة ، وكان ذلك إجابة لما طلبوا ، حيث قالوا «فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» (٣) ، ومن ثم يقول سبحانه وتعالى : «فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» (٤).

ومنها (خامسا) أن وصف شعيب في سورة الأعراف بأنه أخو مدين ، وعدم وصفه بذلك في سورة الشعراء عند الحديث عن أصحاب الأيكة ، فالرأي عند ابن كثير أنه لم يذكر الأخوة بعد قوله تعالى «كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ» (٥) ، لأنه وصفهم بعبادة الأيكة ، فلا يناسب ذكر الأخوة هنا ، وحين نسبهم إلى القبيلة شاع ذكر شعيب بأنه أخوهم ، ومنها (سادسا) أن الحديث الذي رواه ابن عساكر في ترجمة النبي شعيب ، مرفوعا إلى عبد الله بن عمرو ، من أن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا النبي ، إنما هو حديث غريب ، وفي رجاله من تكلم فيه ، وربما كان من كلام عبد الله بن عمرو من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك ، وفيهما أخبار بني إسرائيل (٦).

ومنها (سابعا) أن نبي أصحاب الرس إنما هو ـ طبقا لروايات

__________________

(١) أنظر الآية ٩٤ من سورة هود

(٢) سورة : هود : آية ٨٧

(٣) سورة الشعراء : آية ١٨٧

(٤) سورة الشعراء : آية ١٨٩

(٥) سورة الشعراء : آية ١٧٦

(٦) ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ١٨٩ ـ ١٩١

٢٩٤

الأخباريين ـ «حنظلة بن صفوان» (١) ، فضلا عن أن الآيات الكريمة (١٢ ـ ١٤) من سورة «ق» إنما تؤكد أنهما أمتان مختلفتان ، وذلك حيث يقول سبحانه وتعالى «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ، وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ ، وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ».

وعلى أي حال ، فلقد كان ذكر قصة شعيب مع قومه من الميديانيين في القرآن الكريم ، سببا في أن يهتم المفسرون بالنبي الكريم وبقومه ، إلا أنهم بالغوا في الأمر أحيانا ، وابتكروا أشياء من عندهم في أحايين أخرى ، ومن ثم فقد أصبح شعيب عندهم ، هو «شعيب بن ميكيل بن يشجن أو يشجر بن مدين بن إبراهيم» مرة ، وهو «شعيب بن نويب أو نويت بن عيفا بن مدين بن إبراهيم» مرة أخرى (٢) وهو «شعيب بن نوبت أو نويل بن رعويل ، بن مر بن عنقاء بن مدين بن إبراهيم» مرة ثالثة (٣) ، وهو «يثرون بن ضيعون بن عنقا بن ثابت بن مدين بن إبراهيم» مرة رابعة (٤) ، وهكذا يختلف المفسرون والمؤرخون

__________________

(١) يروي الأخباريون أن أصحاب الرس من ولد إسماعيل ـ وكذا نبيهم حنظلة بن صفوان ـ وأنهما قبيلتان ، يقال لإحداهما «أدمان» أو قدمان ، وللأخرى «يامن» أو رعويل ، وأنهما كانا في اليمن ، ومن ثم فقد زعم فريق أنهم من حمير أو من أهل عدن ، وأن القوم كانوا قد قتلوا نبيهم ، فسلط عليهم «بختنصر» (نبوخذ نصر ٦٠٥ ـ ٥٦٢ ق. م.) بأمر من واحد من أنبياء بني إسرائيل (انظر : مروج الذهب ١ / ٧٨ ، ٢ / ٢٥ ، ياقوت ٣ / ٤٣ ، البكري ٢ / ٦٥٢ ، ٣ / ٨٤٩ ، الروض الآنف ١ / ٩ ، تاج العروس ١ / ٤١٠ ، اللسان ١٢ / ١٤٩) وليس من شك أن هذه القصص قد اختلطت فيها الحقائق بالاساطير ، وقد ناقشنا ذلك في كتابنا «بلاد العرب»

(٢) ابن كثير ١ / ١٨٥ ، روح المعاني ٨ / ١٧٥ ، تفسير الطبري ١٢ / ٥٥٤ ، مروج الذهب ١ / ٦١

(٣) مروج الذهب ٢ / ١٢٨ ، قصص الأنبياء للثعالبي ص ١١٥ ، نهاية الأرب للقلقشندي ص ٤١٦.

(٤) ابن الأثير ١ / ١٥٧

٢٩٥

الإسلاميون في نسب النبي الكريم ، والغريب من الأمر ، أن واحدا منهم لم يقدم لنا دليلا على أن رأيه هو الصحيح ، وأن من خالفه كان على غير صواب.

هذا وقد وصل الخلاف كذلك إلى اسم النبي ذاته ـ وليس نسبه فقط ، ومن ثم فقد رأيناه ـ فيما يزعم أصحابنا الأخباريون ـ شعيبا مرة ، ولكنه مرة أخرى «يثرون» أو «يثروب» أو حتى «يثرو» ، ومرة ثالثة «يزون» أو حتى «بنزون» ، وهو من أبناء إبراهيم مرة ، وممن آمنوا به يوم ألقي به في النار ، ثم هاجر معه إلى الشام مرة أخرى ، ثم هو من أبناء بعض من آمن به مرة ثالثة ، وهو حفيد لوط من جهة أمه مرة رابعة (١).

ولكن أغرب ما في الأمر ، أن يصل ادعاء العلم عند البعض إلى أن يحول النبي العربي إلى يهودي ، فيزعم أنه «شعيب بن يشخر بن لاوي بن يعقوب» ، أو خبري بن يشجر بن لاوي بن يعقوب» (٢) ، ومن عجب أن «لاوي بن يعقوب» هذا ، ليس له ابنا يحمل اسم يشجر أو يشخر ، وإنما أسماء أولاده ـ كما جاءت في التوراة ـ «جرشون وقهات ومرارى» (٣) ،

وأخيرا ، فإن البعض إنما يزعم أن النبي الكريم قد ذهب مع المؤمنين به ـ بعد هلاك الكافرين به ـ إلى مكة ، حيث ماتوا هناك ، وأن قبورهم غربي الكعبة (٤) ، وإن زعم آخرون أن النبي الكريم إنما كان على مقربة من «حطين» في موقع سماه ياقوت «خبارة» ، أو «خربة مدين» فيما يزعم

__________________

(١) ابن كثير ١ / ١٨٥ ، أبو الفداء ١ / ١٨ ، الطبري ١ / ٣٢٥ ـ ٣٢٩ ، ابن الأثير ١ / ١٥٧

(٢) تفسير المنار ٨ / ٥٢٣ ـ ٥٢٤ ، تفسير روح المعاني ٨ / ١٧٥ ، نهاية الأرب للقلقشندي ص ٤١٦ ، ابن كثير ١ / ١٨٥

(٣) تكوين ٤٦ : ١١

(٤) تفسير روح المعاني ٩ / ٨ ، ابن كثير ١ / ١٩١

٢٩٦

آخرون (١).

وليس من شك في أن قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ وصلته بكاهن مدين ـ كما جاءت في التوراة (٢) ـ لعبت أخطر الأدوار في تلوين قصة النبي العربي باللون الإسرائيلي ـ ولا نقول كادت أن تجعل بعضها مسخا إسرائيليا ـ حيث اعتمد الأخباريون على مدعي العلم ممن أسلم من يهود ، فنقلوا عنهم كل ما جاءت به قرائحهم من غث وسمين ، وهكذا وضعت له سلسلة من نسب ، ليس لها نصيب من صواب ، وأن ذلك كله لم يكن معروفا ـ فيما يرى البعض ـ في صدر الإسلام ، وإنما حدث بعد فترة لا ندري مداها على وجه التحقيق (٣).

(٢) موطن المديانيين

كان أهل مدين قوما عربا يسكنون مدينتهم مدين التي هي قرية من أرض معان من أطراف الشام مما يلي ناحية الحجاز قريبا من بحيرة قوم لوط (٤) ، هذا وقد كانت أرض مدين تمتد من خليج العقبة إلى مؤاب وطور سيناء (٥).

ويفهم من أسفار التوراة أن مواطن المديانيين إنما كانت تقع إلى الشرق من العبرانيين ، والظاهر أن القوم قد توغلوا في المناطق الجنوبية لفلسطين ، وسرعان ما اتخذوا لهم هناك مواطن جديدة ، عاشوا فيها أمدا طويلا حيث يرد ذكرهم في الأخبار المتأخرة ، وقد ذكر بطليموس موضعا يقال له «مودينا

__________________

(١) ياقوت ٣ / ٢٩٩ ، وكذاEncy ,of Islam ,٤ ,P.٩٨٣

(٢) خروج ٢ : ١٥ ـ ٢٥

(٣) أنظر : J. Horovitz, Koranische Untersuchungen, Berlin, ٦١٩١, P. ٩١١ FFEI, ٤, P. ٩

(٤) ابن كثير ١ / ١٨٤ ـ ١٨٥ ، ياقوت ٥ / ٧٧ ـ ٧٨ ، ١٥٣ ـ ١٥٤ ، تفسير المنار ٨ / ٥٢٤

(٥) قاموس الكتاب المقدس ص ٨٥٠

٢٩٧

Modiana» على ساحل البحر الأحمر ، يرى العلماء أنه موضع مدين ، وهو يتفق وحدود أرض مدين المعروفة في الكتب العربية (١).

ويقول المؤرخ اليهودي «يوسف بن متى» أن موسى قد فرّ الى مدينة «Modiana» المواجهة للبحر الأحمر (٢) ، وهذا يدل على أن مدينة مدين إنما كانت معروفة بصفة عامة في أوائل التاريخ المسيحي ، ومدينة الحوراء ـ مدينة أهل مدين القديمة ، وتقع على مقربة من واحة البدع ـ لم يكن الأنباط ، حتى القرن الأول قبل الميلاد ، قد قاموا بعد بتحصينها وتوسيعها ، ولعل هذا هو السبب في أن الكتاب الذين عاشوا قبل هذه الفترة ، لم يعنوا بذكرها ، على الرغم من معرفتهم بالإقليم الذي كانت تقع فيه (٣).

وأما «يوسبيوس» فيذكر مدينة «مديم Madiam» ، ويقول أنها سميت باسم أحد أولاد إبراهيم من زوجته قطورة ، وهي تقع وراء المقاطعة العربية «Arabia» في الجنوب ، في بادية العرب الرحل «Saracens» إلى الشرق من البحر الأحمر ، وهكذا فان «يوسبيوس» ـ وكذا سان جيروم ـ يضعان مدينة مدين فيما وراء حدود المقاطعة العربية ، التي كانت حدودها الثابتة من ناحية الجنوب تطابق دائما الحدود الشمالية لبلاد العرب السعيدة ، عند السفح الجنوبي لجبل الشراة (٤).

وأما لويس موسل فيرى أن أرض مدين يجب أن تكون إلى الشرق والجنوب الشرقي من مكان العقبة الحالية المعروفة قديما باسم «إيلات» ،

__________________

(١) جواد علي ١ / ٤٥٥ وكذا Ency. of Islam, ٣, P. ٤٠١. T. K. Cheyne, op - cit, P. ١٨٠٣ J. Hastings, op - cit, P. ٦١٦ Ptolemy, Geographv, Vi, ٧, ٧٢

(٢) Josephus, Archaeologia, II, ٧٥٢ A - Musil, op - cit, P. ٨٧٢

(٣) الويس موسل : شمال الحجاز ص ٦٩

(٤) نفس المرجع السابق ص ٦٩

٢٩٨

فهناك كان يمر أهم طريق من طرق النقل التجاري ، وكانت تحرس هذه الطرق حاميات من أهل الجنوب من بلاد العرب ، وكان المركز الرئيسي لهذه الحاميات يقع في ديدان (العلا) وفي معون (معان) (١).

ويظهر من التوراة أن المديانيين قد غيروا مواضعهم مرارا بدليل ما يرد فيها من اختلاطهم ببني قدم والعمالقة والكوشيين والإسماعيليين ، ويظهر أنهم استقروا في القرون الأخيرة قبل الميلاد في «Madiana» والتي يرى «موسل» ـ كما أشرنا من قبل ـ أنها تقع في جنوب وادي العربة ، وإلى شرق وجنوب شرق العقبة (٢).

ولعل من المفيد هنا أن نشير إلى أمرين : الواحد يتصل بما جاء في الذكر الحكيم ، من أن الله سبحانه وتعالى قد عاقب الذين كفروا بشعيب عليه‌السلام بالرجفة ، «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» (٣) ، وهذا يعني أن هزة أرضية أو هياج حرة قد أصابهم ، وهو أمر يتفق وطبيعة المنطقة ، لأن أرض مدين إنما هي من مناطق الزلازل والحرار (٤).

وأما الأمر الثاني ، فيتصل بالموقع الإستراتيجي لمنطقة مدين ، ذلك لأنها تقع على الطريق الرئيسي للتجارة بين جنوب بلاد العرب وشمالها ، عبر مكة ويثرب والساحل الشرقي للبحر المتوسط وحول خليج العقبة الى مصر ، ويبدأ هذا الطريق من عدن وقنا في بلاد اليمن ، متجها نحو الشمال إلى مأرب فنجران ، ثم الطائف فمكة والمدينة وخيبر فالعلا ومدائن صالح ، وهنا ينفصل الطريق فيتجه فرع منه إلى تيماء صوب العراق ، وأما

__________________

(١) نفس المرجع السابق ص ٨٣ ـ ٨٤

(٢) تكوين ٢٥ : ٦ ، ٣٧ : ٢٥ ، ٢٨ ، عدد ١٢ : ١ ، حبقوق ٣ : ٧ ، جواد علي ١ / ٤٥٦ ، وكذاA.Musil ,The Northern Hegaz ,P.٧٨٢ ، وفي النسخة العربية ص ٨٤.

(٣) سورة الأعراف : آية ٩١

(٤) جواد علي ١ / ٤٥٢

٢٩٩

الفرع الثاني فيستمر في نفس الإتجاه حتى البتراء ، فغزة فبلاد الشام ومصر (١).

وهكذا كانت مدين تقع على أهم طريق من طرق النقل التجاري ، ومن ثم فقد كانت آفة مدين ، إنما هي آفة كل المدن على مدرجة الطرق ، ومن ثم فقد كانت قصتها في القرآن الكريم ، إنما هي قصة التجارة المحتكرة والعبث بالكيل والميزان ، وبخس الأسعار والتربص بكل منهج من مناهج الطريق ، وهكذا كانت رسالة شعيب عليه‌السلام ، رسالة خلاص من شرور الاحتكار والخداع في البيئة التي تعرضت له بحكم موقعها من طرق التجارة والمرافق المتبادلة بين الأمم (٢).

ومن هنا كان التركيز في دعوة النبي الكريم على أن يقيم القوم الوزن بالقسط ولا يخسروا الميزان ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ، وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» (٣) ، ويقول «كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ، أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا

__________________

(١) محمود طه أبو العلا : جغرافية شبه جزيرة العرب ـ الجزآن الثالث والرابع ص ١٢٧ ، عبد الرحمن الأنصاري : لمحات عن بعض المدن القديمة في شمال غربي الجزيرة العربية ـ مجلة الدارة ، العدد الأول ، ص ٧٨ ، وكذا A. Amer, The Ancient Trans - Peninsular Routes of Arabia, Le Cairo, ٥٢٩١ PP. ٦٢١ ـ ٠٤١

(٢) عباس محمود العقاد : مطلع النور ص ٩٣ ـ ٩٤ ، تفسير روح المعاني ٨ / ١٧٦ ـ ١٧٧ ، تفسير المنار ٨ / ٥٢٥ ـ ٥٢٦ ، تفسير الطبري ١٢ / ٥٥٤ ـ ٥٥٥

(٣) سورة هود : آية ٨٤ ـ ٨٥

٣٠٠