دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
المطبعة: دار النهضة العربية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٠

الحقيقة والتاريخ.

ونقرأ في نص (جلازر ٦١٨) ونص (CIH ١٤٥) من عهد أبرهة الحبشي عن ترميم سد مأرب وتجديده مرتين (١) ، الواحدة في شهر «ذو المدرح» من عام ٦٥٧ من التقويم الحميري (٥٤٢ م) ، والثانية في شهر «ذو معان» من عام ٦٥٨ من التقويم الحميري ، الموافق عام ٥٤٣ من التقويم الميلادي (٢) ،.

ويبدأ أبرهة نصه بقوله «بقوة وجلال ورحمة الرحمن ومسيحه والروح القدس ، سطروا هذه الكتابة ، إن أبرهة نائب ملك الجغريين رمخر زبيمان ، ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت وأعرابها في النجاد والتهائم» (٣) ، ثم يتحدث النص بعد ذلك عن ثورة شبت بقيادة «يزيد بن كبشة» ، والذي عينه أبرهة نائبا عنه في قبيلة كنده ، وسرعان ما انضم إليه «معد يكرب» بن «السميفع أشوع» وبعض الزعماء اليمنيين ، ومن ثم فقد بدأت الثورة تنتشر في أجزاء كثيرة من اليمن ، حتى أنها قد شملت حضرموت وحريب وذو جدن وحياب عند صرواح ، إلا أن أبرهة سرعان ما انتصر على الثوار وبطش بهم ، بمساعدة قبائل يمنية

__________________

(١) جواد علي ٣ / ٤٨٣ ـ ٤٨٤ ، وكذاE.Glaser ,op - cit ,P.٠٩٣ وكذا A. J. Drewes, Inscriptions de I\'Ethiopie Antique, ١٦٩١, ٥٦, ٢٦٩١, ١٧ وكذاF.Altheim and R.Stiehl ,op - cit ,P.٧٨٥ وكذاle Museon ,٣٥٩١ ,٦٦ ,P.٠٤٣ وكذا A. F. L. Beeston, Problems, of Sabaear Chronology, in BASOR, ٦١, ٤٥٩١ وكذاA.Sprenger ,op - cit ,P.١٣ ـ ٦٢١ وكذاHandvuch ,P.٦٠١ وكذاRychmans ,٦٠٥

(٢) جواد علي ٣ / ٤٨٤ وكذا انظر F. Praotorius, Bemerkungen Zur den beiden grossen Inschriften Vom Dammbruch zu Marib, in ZDMG, ٩٩٨١, ٥, ٥١

(٣) جواد علي ٣ / ٤٨٤ وكذاE.Glaser ,op - cit ,P.١٢٤

٣٤١

قوية (١)

ثم نقرأ بعد ذلك أن أبرهة سرعان ما يسمع بتصدع سد مأرب ، وهو يصلي في كنيسة مأرب ، فيسرع إلى إصلاح السد ، مستعينا بحمير وجنوده من الاحباش ، غير أنه يضطر إلى إعطائهم مهلة يستريحون فيها من شرور الحرب ، فضلا عن القضاء على تذمر القبائل التي لم تتعود مثل هذه الأعمال الشاقة ، إلى جانب عقد هدنة مع أقيال سبأ الذين كانوا ما يزالون خارج سلطانه. ثم يبدأ بعد ذلك في جمع العمال من أبناء العشائر ، وتخزين المؤن التي سوف يحتاج إليها إبان عمله في إصلاح السد ، وأخيرا يبدأ العمل في السد ، فضلا عن القنوات والأحواض والمشروعات الفرعية الجديدة ، حتى إذا ما كمل المشروع ، بعد أحد عشر شهرا من العمل المتواصل ، كان طول السد ٤٥ ذراعا ، وعرضه ١٤ ذراعا ، وارتفاعه ٣٥ ذراعا ، هذا ويحدثنا أبرهة أن مقدار المؤمن التي صرفت أثناء العمل كانت ٥٠٨٠٦ كيسا من الدقيق ، ٢٦٠٠٠ حملا من البلح ، فضلا عن نحر ٣٠٠٠ جملا وثورا ، ٢٠٧٠٠٠ رأسا من الغنم ، وذلك منذ اليوم الذي بدأ فيه العمل ، وحتى الانتهاء منه في شهر «ذو معان» من عام ٦٥٨ من التقويم الحميري ، الموافق عام ٥٤٣ من التقويم الميلادي (٢).

وكان نجاح أبرهة في ترميم سد مأرب ـ وهو آخر ترميم له ـ أمرا اعتز به الرجل ، وقرر الاحتفال به ، فجاءت إلى مأرب وفود كثيرة تمثل مراكز القوى في العالم وقت ذاك ، يذكر أبرهة منها في نقشه ، وفدا يمثل «زمخير

__________________

(١) فؤاد حسنين : المرجع السابق ص ٣٠٣ وكذH. Von Wissmann and M. Hofner op - cit, P. ١٢١

(٢) جواد علي ٣ / ٤٨٣ ـ ٤٨٦ ، احمد فخري : المرجع السابق ص ١٨٧ ، جرجي زيدان : المرجع السابق ص ١٦٢ ـ ١٦٣

٣٤٢

زبيمان» نجاشي الحبشة ، ووفدا يمثل «جستنيان» (٥٢٧ ـ ٥٦٦ م) ملك الروم ، ووفدا يمثل ملك فارس ، ورسلا من الحارث بن جبله الغساني (٥٢٨ ـ ٥٦٩ م) ، وآخرين من المنذر بن امرئ القيس (٥٠٨ ـ ٥٥٤ م) أمير الحيرة (١).

ولعل سؤال البداهة الآن : أي هذه التصدعات في سد مأرب هي التي يعنيها القرآن الكريم؟

والواقع أن هذا واحدا من الاسئلة الصعبة التي لا يمكن الإجابة عليها في يسر وسهولة ، وذلك لانعدام المادة العلمية التي نستطيع الاعتماد عليها في الاجابة المؤكدة عن السؤال من ناحية ، ولأن سد مأرب إنما تهدم عدة مرات ، ومن ناحية أخرى ، ومن ثم فإن الأمر لا يخرج هنا عن حيز الحدس والتخمين.

وعلى أي حال ، إننا إذا ما اعتمدنا على النصوص التي قدمناها من قبل ، فربما كان التصدع الذي حدث على أيام «شرحبيل يعفر» ، أقرب إلى ما يعنيه القرآن الكريم من غيره ، لأنه أشدها قوة ، ولأن آثاره تعدت الإضرار الجانبية إلى هروب سكان المنطقة إلى الهضاب والجبال ، ثم هجرتهم من هذه المنطقة إلى أرضين أخرى ، ولأنه دون غيره ـ فيما يرى بعض الباحثين ـ ربما كان بسبب كوارث طبيعية كالزلازل والبراكين ، وليس لمجرد سقوط أمطار غزيرة ، ومن ثم فقد كان أثره خطيرا على الأرض وعلى الناس سواء بسواء.

ومع ذلك فلست أزعم أن هذا رأي يمكن الاعتماد عليه تماما ، وإنما هو مجرد فرض لا أجد له من الأدلة التي تدعمه غير الحدس والتخمين ، ذلك

__________________

(١) جواد علي ٣ / ٤٨٩ ـ ٤٩١ ، احمد فخري : المرجع السابق ص ١٨٧ وكذاE.Glaser ,op - cit ,p.p.٨٠٤ ,١٢٤ وكذاF.Praetorius ,op - cit ,p.٠٥٦

٣٤٣

لأن الأدلة الأثرية شبه معدومة ، وأقوال المفسرين والأخباريين تكاد لا تقدم علما يعتمد عليه ، أو أدلة قوية تساند وجهة النظر هذه أو تلك ، وإن كانت الأحوال الداخلية في اليمن قد تشير إلى اضطراب في الأمن ، وإلى تدخل الأجانب في شئون البلاد ، فضلا عن ظهور عقائد دينية جديدة ، وأخيرا فإن «شرحبيل يعفر» ما أن يختفي من المسرح ، حتى يعتلي العرش «عبد كلال» ، وهو ـ فيما يرى فلبي ـ كان من قبل كاهنا وشيخا لقبيلة ، نجح بمساعدة الأحباش ـ الذين أصبحوا أصحاب شأن في شئون العربية الجنوبية ـ في أن يغتصب العرش لمدة خمس سنوات (٤٥٥ ـ ٤٦٠ م) (١).

هذا ويذهب بعض الباحثين إلى أن التهدم الذي ورد في القرآن الكريم ، إنما كان آخر تهدم (٢) ، ويضيف آخرون إلى أنه ربما قد حدث فيما بين عامي ٥٤٢ م ، ٥٧٠ م ، وأن السد لم يصلح هذه المرة ، ومن ثم فقد ترك الناس مزارعهم ، واضطروا إلى الهجرة منها ، وإلى ذلك وردت الإشارة في القرآن الكريم (٣) ، بل إن صاحب هذا الإتجاه إنما يحاول مرة أخرى أن يحدد عام ٥٧٥ م (أي بعد مولد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) كتاريخ لحدوث هذا التصدع الخطير ، الذي لم يمكن التغلب عليه بسبب الأحوال السياسية التي سادت العربية الجنوبية وقت ذاك ، من اضطراب للأمن ، ومن تدخل الأجانب في شئون البلاد ، وبالتالي فقد أهمل السد ولم تتدخل الحكومة في إصلاحه (٤).

غير أن هذا الاتجاه إنما يتجاهل أمورا كثيرة ، منها (أولا) أنه إنما يحدد

__________________

(١) J. B. iPhilby, Arabian Highiands, P. ٠٦٢, The Background of Islam, P. ٣٤١

(٢) احمد فخري : المرجع السابق ص ١٨٠

(٣) جواد علي ٢ / ٢٨٣

(٤) جواد علي ٧ / ٢١٠

٣٤٤

فترة قريبة جدا من الإسلام لسيل العرم ، ولو كان الأمر كذلك لاستطاع المؤرخون الإسلاميون تحديده على وجه اليقين ، بل لاستطاع شعراء العرب تحديده كذلك ، ومنها (ثانيا) أنه يرجع بالهجرات العربية التي خرجت من اليمن بعد تهدم السد إلى فترة متأخرة ، لا تتفق وتاريخ قيام دولتي المناذرة والغساسنة ـ وأصحابها من هذه الهجرات كما يرى المؤرخون الاسلاميون ـ كما أن وجود الأوس والخزرج في يثرب إنما يرجع بالتأكيد إلى ما قبل هذه الفترة ، ومنها (ثالثا) أن الفترة ما بين استيلاء أبرهة على اليمن وظهور الإسلام ، ليست من الفترات الغامضة في تاريخ اليمن ، ثم هي فترة قصيرة على أية حال ، ومنها (رابعا) أن عام ٥٧٥ م ، هو العام الذي يرى فيه المؤرخون نهاية الحكم الحبشي وبداية حكم «سيف بن ذي يزن» ، فضلا عن النفوذ الفارسي في أول الأمر ، ثم السيطرة الفارسية بعد ذلك ، وتاريخ اليمن في هذه الفترة لا يتحدث عن تصدع سد مأرب ، بل ليست هناك أية إشارة في هذا التاريخ عن السد ، أو عن هجرة قبائل يمنية من مواطنها الأصلية إلى الشمال ، كما نعرف من أحداث تهدم السد.

وأما الروايات العربية ، فإن بعضها يشير إلى أن الحدث الخطير إنما كان قبل الإسلام بقرون أربعة (أي في القرن الثالث الميلادي) ، ويشير بعضها الآخر إلى أن ذلك إنما كان على أيام ملك حبشان ، ولعل صاحب هذه الإتجاه يعني بذلك الأحباش لأنهم خربوا كثيرا من قصور اليمن وأبنيتها ، فإذا كان ذلك كذلك ، فما ذا يعني «ياقوت» بأيامهم هذه ، هل يعني فترة تدخلهم في شئون العربية الجنوبية قبل الاحتلال الحبشي في عام ٥٢٥ م ، أم يعني فترة الاحتلال نفسه؟ وعلى أي حال ، فإن «ابن خلدون» إنما يذهب إلى أن ذلك إنما كان على أيام «حسان بن تبان

٣٤٥

أسعد» في القرن الخامس الميلادي. (١)

هذا ويرجح «بلوBlau» أن ذلك إنما كان في القرن الثاني الميلادي (٢) ، بينما يذهب آخرون إلى أن ذلك إنما كان في القرن الرابع الميلادي معتمدين في ذلك على نسب «سعد بن عبادة الخزرجي» ، وجعله مقياسا للزمن الذي ربما تكون الهجرة قد تمت فيه ، فنسب سعد هذا ـ طبقا لرواية النسابين ـ إنما هو «سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج الأصغر بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأكبر بن حارثة» ، فمن «سعد» إلى «الخزرج الأكبر» أحد عشر جيلا ، وإذا افترضنا أن الفرق بين كل جيلين خمسة وعشرون عاما ، كانت المدة بين الهجرة النبوية الشريفة (في عام ٦٢٢ م) وبين الخزرج الأكبر ، حوالي مائتين وخمس وسبعين سنة ، أي أن هجرة الأوس والخزرج ـ بعد حادث سيل العرم ـ ربما كانت في أخريات القرن الرابع الميلادي ، هذا ويحدد «سديو» هذه الهجرة بعام ٣٠٠ م ، وأن الاستيلاء على المدينة إنما كان حوالي عام ٤٩٢ م (٣).

وهكذا يبدو بوضوح أن تحديد تاريخ معين لخراب سد مأرب وهجرة القبائل العربية من جنوب بلاد العرب إلى وسطها وشمالها ، أمر لا يمكن ـ على ضوء معلوماتنا الحالية ـ أن نقول فيه كلمة نظن أنها القول الفصل ، أو حتى قريبا من هذا القول ، وأن الأمر ما يزال في مرحلة الحدس والتخمين ، حتى تقدم لنا الأرض الطيبة في اليمن أو في غيرها ما ينير الطريق أمامنا.

__________________

(١) ياقوت ٥ / ٣٥ ، جرجي زيدان : المرجع السابق ص ١٥٥

(٢) ريجيس بلاشير : المرجع السابق ص ٣١

(٣) احمد إبراهيم الشريف : المرجع السابق ص ٣١٥ ، وانظر : سديو : تاريخ العرب العام.

٣٤٦

(٧) سيل العرم والهجرات اليمنية

يروي الأخباريون أن كثيرا من القبائل العربية التي كانت تسكن منطقة سد مأرب ، قد هاجرت بعد سيل العرم من اليمن إلى شمال بلاد العرب ووسطها ، ومن ثم فقد ذهب الأوس والخزرج الى يثرب ، واتجه أولاد جفنة الى الشام ، وسار مالك بن فهم الازدي إلى العراق ، وذهب أزد السراة إلى السراة ، وأزد عمان إلى عمان ، وأما طيء فنزلت بأجأ وسلمى ، وذهب أبناء ربيعة بن حارثة إلى تهامة ، حيث سموا بخزاعة ، واستولوا على مكة من جرهم (١).

وهكذا كان سيل العرم سببا في تغييرات اقتصادية وسياسية هائلة في شبه جزيرة العرب ، وعلى تخومها الشمالية والشمالية الغربية ، بل كان سببا في قيام دولتي المناذرة والغساسنة كدولتين حاجزتين بين بلاد العرب من ناحية ، وبين الامبراطوريتين الفارسية والرومية من ناحية أخرى.

على أن هناك من المؤرخين من يتشكك في حقيقة هذه الهجرات العربية الجنوبية نحو التخوم السورية ، بحجة أن أسماء الاعلام في هذه المناطق في القرن السابع ، ليس فيها بقايا الأسماء الشائعة في المنطقة الجنوبية العربية (٢).

__________________

(١) ياقوت ٥ / ٣٦ ـ ٣٧ ، الدميري ١ / ٤٤٥ ، احمد فخري : المرجع السابق ١٧٨ ـ ١٨٨ ، وفاء الوفا ١ / ١٢٠ ـ ١٢٢ ، تفسير الألوسي ٢٢ / ١٣٢ ـ ١٣٣ ، تفسير البيضاوي ٢ / ٢٥٩ ، تفسير الطبري ٢٢ / ٨٠ ـ ٨٦ ، ومروج الذهب ٢ / ١٧١ ـ ١٧٤ ، ابن كثير ٢ / ١٦١ ، تفسير القرطبي ١٤ / ٢٨٥ ـ ٢٩١ ، تفسير الفخر الرازي ٥ / ٢٥٣ الإكليل ٨ / ٤١ ، ١١٥ ـ ١١٦ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٢٠٣ ـ ٢٠٥ ، نهاية الأرب ٣ / ٢٨٣ ـ ٢٨٨ ، الميداني ١ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

(٢) ريجيس بلاشير : تاريخ الأدب العربي ـ العصر الجاهلي ـ ترجمة د. إبراهيم كيلاني ص ٢٩ وكذاJ. Halvey Rapport sur une mission Arachaeologique dans le Yemen, JA, ٩١, Paris, ٢٧٨١

٣٤٧

والواقع أن هذه الهجرات أنما تؤكدها عدة أمور ، منها (أولا) أن منطقة مأرب إنما تعود خصوبة الأرض فيها إلى سد مأرب ، أما وقد تعطل السد وأدى خرابه إلى خراب الحضريين وانكفائهم إلى حياة البداوة ، والبحث عن أماكن جديدة ، فربما كان أمرا لم يقتصر على منطقة مأرب وحدها ، بل ربما شمل كذلك منطقة حضرموت ، حيث تدل منشآت الري المهملة وسط الصحراء على تدني الحياة الحضرية ، ومنها (ثانيا) أن هناك من بين الأمراء المؤابيين في شرق الأردن أميرا يدعى «شرحبيل» وهو اسم عربي جنوبي ، كما أننا نجد كذلك بعض أمراء شرق الاردن الذين ينتسبون إلى قبيلة كندة اليمنية في القرن الخامس يسمون «شرحبيل» و «معدي كرب» (١).

ومنها (ثالثا) وجود قبائل في المناطق الشمالية والجنوبية من بلاد العرب لها أسماء موحدة كقبيلة كندة التي نزل قسم منها نجدا ، ونزل القسم الآخر حضرموت ، وقبيلة الأزد التي نزل قسم كبير منها في السراة في الحافة الشمالية من اليمن ، في حين استقر القسم الآخر في «عمان» ـ كما أن قبيلتي الأوس والخزرج تنتسبان إلى الأزد ـ وكذلك القول في قبيلة «إياد» التي يضرب بعض أفرادها في وادي بيشة ـ الذي ينبع من مرتفعات عسير الشرقية قرب مدينة أبها ـ بينما ضربت أكثريتها في السهول الغربية من الفرات الأسفل (٢)

هذا وهناك فريق الباحثين يشكك في أن يكون السيل وحده هو سبب

__________________

(١) بلاشير : المرجع السابق ص ٣٠ ، وكذا Caussin de Perceval, Essaisur l\'Histoire des Arabes, ٢, P. P. ٠٥٢ ـ ٣٥

(٢) ريجيس بلاشير : المرجع السابق ص ٣٠ ـ ٣١ ، دائرة المعارف الإسلامية ٣ / ١٦٩ ـ ١٧٢ (طبعة الشعب)

٣٤٨

هجرة كل تلك القبائل من الجنوب الى الشمال والوسط ، ذلك لأن سد مأرب إنما كان يسقي ربوة من الأرض لم تكن مسكنا لكل بطون «الأزد» ومن ثم فإنه يصبح من الصعب أن نقبل القول بأن جميع البطون الأزدية قد هاجرت من جنوب شبه الجزيرة العربية إلى شمالها ، بسبب؟؟؟ السد وحده ، وانه لمن المحتمل أن تكون هناك أسباب أخرى؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ العرم ، واضطرت بعض هذه البطون إلى ترك وطنها والهجرة إلى الأرجاء النائية (١) ، هذا فضلا عن أن المؤرخين الإسلاميين أنفسهم ، إنما يرى الكثير منهم أن القوم لما أصيبوا بكارثة سيل العرم لم يخرجوا جميعا من اليمن ، وإنما بقي فيها الكثير من قبائل حمير وكندة ومذبح وأنمار والأشعريين (٢).

أضف إلى ذلك أن القول بأن قبائل الأزد إنما هاجرت دفعة واحدة ، أمر غير مقبول ، ذلك لأن خزاعة ـ وهي بطن من الأزد ـ كانت تحكم مكة حتى حوالي عام ٤٥٠ م ، وقد استمرت مدة طويلة تلي ذلك الأمر ، رأى البعض أنها ثلاثمائة سنة ، ورأى آخرون أنها خمسمائة سنة ، وهذا يعني أنها هاجرت من اليمن حوالي منتصف القرن الثاني أو في بداية القرن الثالث الميلادي ، وربما في عام ٢٠٧ م ، فيما يرى سديو (٣).

هذا ولا يذهبن بنا الظن إلى اعتبار الهجرات الجنوبية كسيل جارف اتجه من الجنوب إلى شمال الجزيرة العربية ، لأن ظواهر الأمور إنما تدل على أن هناك حركة أكثر تعقيدا ، هي هجرة قبائل كهمدان مثلا ، والتي هاجرت من حضرموت واستقرت فيما بين مأرب ونجران ، حيث طردت قبيلة

__________________

(١) عبد الفتاح شحاتة : المرجع السابق ص ٢٨٣ ، إسرائيل ولفنسون : المرجع السابق ص ٥٤

(٢) ابن كثير : البداية والنهاية ٢ / ١٦١

(٣) احمد إبراهيم الشريف : المرجع السابق ص ٣١٥ ، ابن كثير ٢ / ١٨٣ ، لويس اميل سديو : تاريخ العرب العام ، ترجمة عادل زعيتر

٣٤٩

طيء ، وقد سببت هذه الحركة عدة تنقلات لقبائل الحجاز ونجد ، ويظهر ان المؤرخين المسلمين قد حفظوا ذكرى هذه الهجرات الناتجة عن تنقل القبائل القادمة من الجنوب ، ولعل قدوم طيء إلى نجد حوالي جبال أجأ وسلمى ، وسيطرة هذه على تلك المنطقة قد سببت هجرات تكلم عنها الرواة المسلمون (١).

وأيا ما كان الأمر ، وطبقا لرواية الأخباريين ، فإن كثيرا من قبائل الأزد ، إنما هاجرت بسبب سيل العرم ، الأمر الذي لا يمكن تحديده بسهولة ـ كما أشرنا من قبل ـ ذلك لأن سد مأرب إنما تهدم عدة مرات خلال الفترة الطويلة التي مضت منذ تشييده في منتصف القرن السابع ـ وربما الثامن ق. م. (٢) ـ وبين آخر مرة أصلح فيها السد في عام ٥٤٣ م ، فهناك عدة إشارات الى تهدم السد وإصلاحه (٣) ، ومن ثم فلا ندري على وجه التحديد في أي وقت من هذه الفترة التي ربما تزيد عن اثني عشر قرنا ، قد حدثت هذه الهجرات.

وأما أن تهدم السد كان بسبب «جرذ» له مخالب وأنياب من حديد (٤) ،

__________________

(١) ريجيس بلاشير : المرجع السابق ص ٣٢

(٢) جواد علي ٢ / ٢٨١ ، نزيه مؤيد العظم : المرجع السابق ص ٨٨ ، وكذا انظر وكذاH.Von Wissmann and M.Hofner ,op - cit ، وكذاD.Nielsen ,op - cit ,P.٩٧ P.٧٢

(٣) فريتز هومل : المرجع السابق ص ١٠٩ ، فؤاد حسنين : المرجع السابق ص ٣٠٤ ، احمد فخري : المرجع السابق ص ١٨٣ ، جواد على ٢ / ٥٨٠ ، ٥٨٦ ، ٣ / ٤٨٣ ـ ٤٨٤ ، وكذاR.A.Nichaison ,op - cit ,P.٦١ وكذاle Museon ,le museon ,٤٦٩١ ,٣ ـ ٤ ,P.٣٩٤ ـ ٤٩٤ وكذاA.Jamme ,op - cit ,P.٦٧١ وكذاJ.B.Philby ,op - cit ,P.٨١١

(٤) تاريخ ابن خلدون ٢ / ٥٠ ، ياقوت ٥ / ٣٥. الدميري ١ / ٤٤٥ ، مروج الذهب ٢ / ١٦٣ ـ ١٦٤ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٢٠٥ ، الدرر الثمينة ص ٣٢٦ ، تفسير الطبري ٢٢ / ٨٠ ـ ٨٦ ، تفسير روح المعاني ٢٢ / ١٢٧ ـ ١٣٣ ، ابن كثير ٢ / ١٦٠ ، قارن : الميداني ١ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦ ، نهاية الأرب ٣ / ٢٨٣ ـ ٢٨٨

٣٥٠

فتلك أساطير لا تدور إلا في رءوس أصحابها ، ومن ثم فهي لا تعرف نصيبا من صواب ، كما أن «كيتاني» قد جانبه الصواب كذلك ، حين ذهب إلى أن خراب سد مأرب ، إنما كان بسبب الجفاف الذي أثر على السد ، بل إن ضغط الماء على جوانب السد ، ثم حدوث سيل العرم ، إنما هو في حد ذاته لدليل على فساد نظرية الجفاف هذه (١) ، فضلا عن معارضتها الصريحة لما جاء في القرآن الكريم عن حادث السيل هذا (٢).

ولعل أهم الأسباب التي أدت إلى تصدع السد ، ثم حدوث السيل ، إنما هو ضعف الحكومات ، ثم تحول الطرق التجارية ، فضعف الحكومات في اليمن أدى إلى تزعم سادات القبائل والرؤساء ، وانشقاق الزعامة في البلاد ، وزاد الطين بلة أن تلك القلاقل الداخلية ، قد صاحبها تدخل الحبشة ثم الفرس في شئون البلاد الداخلية ، وكان نتيجة ذلك كله ، اضطراب الأمن في اليمن ، وظهور ثورات وفتن داخلية ، كما تدلنا على ذلك النقوش منذ القرن الرابع الميلادي ، وإن ظهوره بوضوح إبان القرن السادس الميلادي ، فألهى ذلك الحكومة عن القيام بواجباتها ، مما أدى إلى إهمال السد ، ومن ثم فقد تصدعت جوانبه ، فكان السيل الذي أغرق مناطق واسعة من الأرض الخصبة ، التي كان القوم يعتمدون عليها في حياتهم الاقتصادية (٣).

أضف إلى ذلك كله ، أن اليمن لم تصبح في تلك الفترة صاحبة السيادة على الطرق التجارية ، كما أنها لم تعد الوسيط الوحيد في نقل التجارة إلى

__________________

(١) جواد علي ١ / ٢٤٤ ـ ٢٤٦ ، وكذا انظر L. Caetani, Studi, Della Historia Orientale, I, P. P. ٤٦, ٥٨١, ٨٨١, ٢٩١, ٧٦٢, ٦٩٢ وكذاAlois Musil ,Northern Nejd ,P.P.٩٠٣ ـ ٠١

(٢) سورة سبأ : آية ١٥ ـ ١٩

(٣) جواد علي ١ / ٢٤٦ وكذا انظر Corpus Inscriptionum Semiticarum, ١١٩١, Part, ٤, Vol, ٢, Nos, ٤٨٣, ٠٤٥ ـ ١٤

٣٥١

المناطق الشمالية ، بل ربما لم يعد دور اليمن ـ بعد سيطرة الرومان على البحر الأحمر ، فضلا عن ظهور القرشيين وقيامهم برحلتي الشتاء والصيف المشهورتين ـ إلا دورا ثانويا. وهكذا تجمعت العوامل السياسية والاقتصادية معا على إهمال الزراعة وكساد التجارة ، مما دفع بقبائل عربية غير قليلة إلى الهجرة إلى بلاد العرب الشمالية والوسطى (١).

__________________

(١) A.Musil ,op - cit ,PP.٩٠٩ ,٧١٣

٣٥٢

الفصل العاشر

قصة أصحاب الأخدود

٣٥٣
٣٥٤

(١) القصة في المصادر العربية

لا ريب في أن الفضل ـ كل الفضل في كل ما جاء في المصادر الإسلامية عن تعذيب «ذي نواس» لنصارى نجران إنما يرجع إلى القرآن الكريم الذي أشار إلى الحادث في قوله تعالى «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ ، النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ ، إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ ، وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ، وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (١) ، ومن ثم فقد كانت هذه الإشارة حافزا دفع بالمفسرين وأصحاب التاريخ والأخبار على جمع ما علق بالأذهان عن الحادث الخطير.

ولعل من الأفضل هنا ـ قبل أن نناقش روايات المؤرخين والمفسرين التي دارت حول هذا الحادث ـ أن نثبت ـ بادئ ذي بدء ـ تلك الرواية الصحيحة ، التي جاءت في صحيح الإمام مسلم عن رسول الله ، (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، والتي تتلخص في أن ملكا كان له ساحر ، وان هذا الساحر قد طلب من مليكه عند ما بلغ من الكبر عتيا ، أن يبعث إليه بغلام يعلمه السحر ، فأجابه الملك إلى طلبه ، غير أن راهبا كان في طريق الغلام إلى الساحر ، فكان يقعد إليه ويسمع منه ، مما كان سببا في أن يتأخر عن الساحر ، الذي كان يضربه بسبب تأخره عنه.

ومرت الأيام ، وبينما كان الغلام في طريقه إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس ، فأخذ حجرا وقال : «اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس فرماها فقتلها ،

__________________

(١) سورة البروج : آية ٤ ـ ٩

٣٥٥

فأتى الراهب فأخبره ، فقال له الراهب : أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى وانك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدلّ علي».

وينجح الغلام بعد ذلك في أن يبرئ الأكمه والأبرص وفي أن يشفي الناس من أوجاعهم ، وفي أن يرد لواحد من رجال البلاط بصره ، وما أن يعلم الملك بالأمر الأخير ، حتى يسأل رجل بلاطه عن الذي رد عليه بصره ، فيجيبه : إنما هو ربي ، فيقول له الملك : ولك رب غيري ، فيقول : ربي وربك الله ، فما كان من الملك إلا أن يعذب رجل بلاطه ، الذي يعترف بأمر الغلام ، وهنا يأمر الملك بقتله ، فضلا عن قتل الراهب ، بعد أن عرض عليهما أن يتركا دينهما الجديد ، فلما رفضا شق رأس كل منهما بمنشار.

غير أن الملك إنما يفشل تماما في قتل الغلام ، بعد أن جرب معه وسائل مختلفة ، منها القاؤه من فوق قمة جبل ، ومنها قذفه في البحر ، ومنها ضربه بسيف ، وأخيرا يدله الغلام على الطريقة الوحيدة لقتله ، وذلك بأن يجمع الناس ، ثم يرميه بسهم ، قائلا : «بسم الله رب الغلام».

وهكذا يقتل الغلام ، ولكن الناس ـ وقد رأوا كل ما حدث ـ إنما يؤمنون برب الغلام ، فيغضب الملك ويأمر بقتل المؤمنين ومن ثم فإنه يأمر بالأخدود (١) في أفواه السكك ، ثم يضرم النار ، ويعرض عليها الناس ، فمن رجع عن دينه الجديد تركه ، ومن أصر على الإيمان ألقاه في الأخدود فأحرقه ، حتى أن امرأة جاءت ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع في النار ، فقال لها صبيّها : امض يا أماه فإنك على الحق ، فاقتحمت

__________________

(١) الأخدود : الشق في الأرض يحفر مستطيلا ، وجمعه الأخاديد ، ومصدره الحد ، وهو الشق ، يقال خدّ من الأرض خدا ، وتخدد لحمه إذا صار فيه طرائق كالشقوق (تفسير الفخر الرازي ٣١ / ١١٩ ، وانظر : تفسير جزء عم للآلوسي ص ٨٧ ـ ٨٨

٣٥٦

النار (١).

هذا وقد قدم لنا المؤرخون الإسلاميون عدة روايات عن قصة تعذيب «ذي نواس» لنصارى نجران ـ (غير تلك الرواية الصحيحة ، الآنفة الذكر ، والتي جاءت في صحيح مسلم) ـ وبالتالي عن تدخل الأحباش واستيلائهم على اليمن ، ومن هذه الروايات واحدة تذهب إلى أن من يدعى «عبد الله بن الثامر» قد أخذ النصرانية عن راهب مسيحي ـ لعله فيميون ـ وأن عبد الله بن الثامر ـ وكذا فيميون ـ قد قتلا ، وأن رجلا قد حفر حفرة على أيام الفاروق عمر بن الخطاب ، فرأى عبد الله ، وقد وضع يده على ضربة في رأسه ، فإذا رفعت عنها يده جرت دما ، وإذا ارسلت يده ردها إليها وهو قاعد ، فكتب بذلك إلى عمر ، فأمر الخليفة الراشد أن يتركه على حاله (٢).

على أن هناك رواية أخرى تذهب إلى أن ذا نواس كان يهوديا متعصبا ، فقدم عليه يهودي ـ يقال له دوس من أهل نجران ـ فأخبره أن القوم قد قتلوا له بنين ظلما ، فاستنصره عليهم ـ وأهل نجران نصارى ـ فغضب ذو نواس لليهودي ، وشن حملة على أهل نجران ، ثم خيّرهم بين اليهودية أو القتل ، فاختاروا القتل ، وهنا حفر لهم أخدودا ثم أضرم فيه النار ، وألقاهم فيه ، فقتل منهم عشرين ألفا على رواية ، وسبعين ألفا على رواية أخرى (٣).

__________________

(١) صحيح مسلم ١٨ / ١٣٠ ـ ١٣٣

(٢) تاريخ الطبري ٢ / ١٢٤

(٣) تاريخ الطبري ٢ / ١٢٣ ، مروج الذهب ١ / ٨٠ ـ ٨١ ، تاريخ الخميس ص ٢٢٠ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٦٠ وتفسير القرطبي ١٩ / ٢٩٢ ، تفسير الفخر الرازي ٣١ / ١١٨ ، تفسير روح المعاني ٣٠ / ٨٩

٣٥٧

وهناك رواية ثالثة تذهب إلى أن قوما من المجوس سكر ملكهم فوقع على أخته ـ أو ابنته ـ ثم أراد أن يجعل ذلك شرعا في رعيته ، فخطب الناس بأن الله ـ تعالى عن ذلك علوا كبيرا ـ قد أحل نكاح الأخوات أو البنات ، فرفض القوم متابعته في شريعته هذه ، فأشارت عليه تلك التي وقع عليها أن يخد لهم أخدودا ، فمن أبى قذف به في النار ، ومن لم يأب تركه ، هذا إلى رواية رابعة يذهب أصحابها إلى أن هناك نبيا بعث في الحبشة فآمن به خلق كثير ، فخذ لهم قومهم أخدودا ثم أخذوا يعرضون الناس عليه ، فمن أتبع النبي قذف به في الأخدود ، ومن تابعهم تركوه.

وأيا ما كان الأمر في هذه الروايات ، فإن أصحابنا الأخباريين يذهبون إلى ان واحدا من أهل نجران الذين عذّبهم ذو نواس ـ ويقال له دوس ذو ثعلبان ـ قد استطاع أن يهرب على فرس له ، فسلك الرمل فأعجزهم ، فمضى على وجهه ذلك ، حتى إذا أتى الامبراطور الروماني «جستين» (٥١٨ ـ ٥٢٧ م) فاستنصره على ذي نواس وجنوده ، وأخبره بما بلغ منهم ، فقال له القيصر : «بعدت بلادك من بلادنا ونأت عنا ، فلا نقدر على أن نتناولها بالجنود ، ولكني سأكتب إلى النجاشي ملك الحبشة ، وهو على هذا الدين وقريب منكم».

ويكتب القيصر إلى النجاشي يأمره بنصرة دوس هذا ، وينفذ الملك الحبشي ما أمر به العاهل الروماني ، فيرسل مع دوس سبعين ألفا من الرجال ، على رأسهم «أرياط» ـ وفي جنوده أبرهة الأشرم ـ ويأمره إن ظفر باليمن : «أن يقتل ثلث رجالهم ، وأن يخرب ثلث بلادهم ، وأن يسبي ثلث نسائهم وأبنائهم» (١).

ويخرج الجيش من الحبشة ، فينزل بسواحل اليمن ، ويجمع ذو نواس

__________________

(١) تفسير القرطبي ١٩ / ٢٩٠ ، تفسير الألوسي ٣٠ / ٨٨ ـ ٨٩ ، تفسير الفخر الرازي ٣١ / ١١٨.

٣٥٨

إليه حمير ، ومن أطاعه من قبائل اليمن ، وتقوم الحرب بين الفريقين ، وما هي إلا جولة حتى يكتب النصر للأحباش ، وتكون الهزيمة من نصيب ذي نواس وما أن يرى ذو نواس ما نزل به وبقومه ، حتى يقتحم البحر بفرسه فيغرق ، ويطأ أرياط اليمن بالحبشة ، فيقتل ثلث رجالها ، ويخرب ثلث بلادها ، ويبعث إلى النجاشي بثلث سباياها ، ويقيم بها ويستذل أهلها (١).

على أن هناك رواية أخرى ، تختلف عن الرواية السابقة بعض الشيء ، فهي ترى أن الذي هرب إنما كان «جبار بن فيض» ، وأنه ذهب إلى الحبشة مباشرة ، ومعه الإنجيل قد أحرقت النار بعضه ، وأن ملك الحبشة قد قال له : «الرجال عندي كثير ، وليست عندي سفن ، وأنا كاتب إلى قيصر في البعثة إليّ بسفن أحمل فيها الرجال» ، فكتب إلى قيصر في ذلك! وبعث إليه بالإنجيل المحروق ، فبعث إليه قيصر بسفن كثيرة» (٢).

وتستطرد الرواية فتذهب إلى أن السفن لما قدمت إلى النجاشي من بيزنطة ، حمل فيها جيشه ، فخرجوا الى مضيق باب المندب ، فلما سمع بهم ذو نواس كتب إلى أقيال اليمن يدعوهم إلى نصرته ، وأن يكون أمرهم في محاربة الحبشة ودفعهم عن بلادهم واحدا ، غير أن الأقيال رفضوا الفكرة ، وطلبوا «أن يقاتل كل رجل عن مقولته وناحيته» ، فلما رأى ذو نواس ذلك صنع مفاتيح كثيرة ، ثم حملها على عدد من الإبل ، وخرج حتى لقي عدوه الحبشي ، فقال له : هذه مفاتيح خزائن اليمن قد جئتكم

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ / ١٢٤ ـ ١٢٥ ، ابن الأثير ١ / ٤٣١ ـ ٤٣٢ ، المعارف لابن قتيبة ص ٢٧٧ ، الكشاف ٢ / ١٥٩٤ ، تفسير البيضاوي ٢ / ٥٥٠ ، ابن كثير ٢ / ١٦٨ ـ ١٦٩ ، قصص القرآن ص ٢٩١ ـ ٢٩٣ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٥٩ ـ ٦٠ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ١٩٩ ـ ٢٠٠ ، قارن المقدسي ٣ / ١٨٢ ـ ١٨٣

(٢) تاريخ الطبري ٢ / ١٢٤ ، المقدسي ٣ / ١٨٤ ، قارن : تاريخ ابن خلدون ٢ / ٦٠.

٣٥٩

بها» ، فلما وجه أرياط الثقات من رجاله لاستلام خزائن اليمن ، كتب ذو نواس إلى كل ناحية : أن اذبحوا كل ثور أسود في بلدكم ، فقتلت الحبشة ، فلم يبق منهم إلا الشريد ، فلما بلغ النجاشي ذلك جهز إليهم سبعين ألفا ، عليهم قائدان ، أحدهما أبرهة الأشرم ، فلما وصلوا الى صنعاء (١) ، وأدرك ذو نواس أنه لا طاقة له بهم ركب فرسه ، واعترض البحر فاقتحمه ، فكان آخر العهد به (٢).

هذه هي أهم الروايات العربية التي تحدثت عن غزو الحبشة ، والسيطرة عليها قرابة نصف قرن من الزمان ، إلا أن هناك بعض النقاط التي تدعو إلى التساؤل في هذه الروايات ، منها (أولا) ذلك الخلاف في أسباب تلك المذبحة الرهيبة التي حدثت في نجران ، ففريق يذهب إلى أن السبب إنما كان لاعتناق القوم النصرانية ، وفريق آخر أنها كانت لنصرة رجل يهودي قتل نصارى نجران ولديه ، بل ان فريقا ثالثا إنما يذهب إلى أن السبب إنما كان لأن واحدا من الملوك أراد أن يجبر الناس على الزواج من

__________________

(١) بدأ اسم صنعاء (صنعو) يظهر في تاريخ اليمن منذ أيام الملك «الشرح يحصب» (من القرن الثاني ق. م. ، على رأي ، ومن القرن الأول ق. م. ، على رأي آخر) ، حيث تردد كثيرا من نصوص ذلك العهد (كما من نقوش جام ٥٧٥ ، ٥٧٧ ، ريكمانز ٥٣٥) ، ثم سرعان ما بدأت تأخذ مكانتها بين مدن اليمن ، حتى أصبحت آخر الأمر عاصمة البلاد ومقر الحكام حتى الآن (انظرP.K.Hitti ,op - cit ,P.٧٥ وكذاA.Jamme ,op - cit ,P.٣٩٣ وكذاJ.B.iPhibby ,op - cit ,P.٢٤١ وكذا (H.Von Wissman und M.Hofner ,op - cit ,P.٩١) وبدهي أن ذلك لا يتفق وروايات الاخباريين من أنها كانت تدعى «أزال» ، وأن «وهرز» القائد الفارسي هو الذي اطلق عليها اسم «صنعاء» حين قال إبان دخوله إياها «صنعة صنعة» ، يريد أن الحبشة قد أحكمت صنعها ، أو أن التسمية كانت نسبة إلى بانيها «صنعاء بن أزال بن عبير بن عابر بن شالخ» على رواية ، و «غمدان بن سام بن نوح» على رواية أخرى ، فكانت تعرف تارة بأزال وتارة بصنعاء (ياقوت ٣ / ٤٢٦ ـ ٤٢٧ ، البكري ٣ / ٨٤٣)

(٢) تاريخ الطبري ٢ / ١٢٥ ، ١٢٧ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٦٠ ـ ٦١ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ١٩٩ ـ ٢٢٠ ، تاريخ الخميس ص ٢٢٠

٣٦٠