دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
المطبعة: دار النهضة العربية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٠

الْمُؤْمِنِينَ ، وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» (١)

ولعل سؤال البداهة الآن : من هو الذبيح من ولدي إبراهيم؟ وهو في الواقع سؤال ، ما تزال الإجابة عنه موضع خلاف بين اليهود والنصارى من ناحية ، والمسلمين من ناحية أخرى ، فضلا عن أن قصة الذبيح عند اليهود ، تحتل مكانة تختلف عنها عند المسلمين ، ولنحاول الآن أن نتعرف وجهات النظر المختلفة.

(أ) وجهة النظر اليهودية والمسيحية

يختلف اليهود والنصارى عن المسلمين في اسم الذبيح ، فبينما يرى المسلمون أنه إسماعيل ، يذهب اليهود والنصارى إلى أنه إسحاق ، فضلا عن أن قصة الذبيح هذه ، إنما تحتل في التاريخ اليهودي مكانة تختلف عنها عند المسلمين ، والذي يقرأ تاريخ اليهود ليرى أن هذا الاختلاف له جانب هام يفوق في أهميته جانب البحث التاريخي ، الذي يراد به معرفة اسم الذبيح من ولدي إبراهيم ، لأنه في الواقع إختلاف يتعلق به ـ في نظرهم ـ اختيار الشعب الموعود ، كما يتعلق به الحذف والإثبات في سيرة إبراهيم ليتصل بذرية إسحاق ، وينقطع عن ذرية إسماعيل ، أو ليثبت من سيرته كل ما يتعلق بإسرائيل ، ونقطع منها كل ما يتصل بالعرب ، وأن هذا النزاع قد بدأ قديما قبل تدوين نسخ التوراة التي كتبت في بابل ـ أثناء السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد ـ وواضح أن هذا النزاع في أوله ، لم يكن نزاعا على العقيدة ، فإن التوراة (٢) تروى أن إبراهيم قد قدّم العشر لملكي صادق ، كاهن الله العلي أو عليون ، الذي كان معبود

__________________

(١) سورة الصافات : آية ٩٩ ـ ١٠٢

(٢) سفر التكوين ١٤ : ١٨ ـ ٢٠

١٦١

السكان في فلسطين ، وما جاورها إلى الجنوب ، وقد زار «هيرودوت» (٤٨٤ ـ ٤٣٠ ق. م.) بلاد العرب الشمالية عند مدخل مصر ، وروى أنهم كانوا يعبدون الله تعالى ، واللات أو إيليلات ، منذ قرون سابقه للقرن الخامس ق. م. ، ومن ثم فلم يكن النزاع على العقيدة في نشأته ، إلا فرعا من فروع التنازع على الميراث ، ولم يكن شأن الذرية الموعودة أو المختارة إلا أنها تعزز دعواها في ذلك النزاع ، وتنفي عنه من ينازعها عليه (١) ، ومن هنا كانت الدعوى بأن الذبيح كان إسحاق ، رغبة في اغتصاب شرف عرف لإسماعيل جد العرب.

وهكذا تقول اليهود والنصارى أن الذبيح إنما هو إسحاق ، معتمدين في ذلك على عدة عوامل ، منها (أولا) ما جاء في التوراة «خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق ، وأذهب إلى أرض المريا ، واصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك» (٢) ، ومنها (ثانيا) ما جاء في الإنجيل «بالإيمان قدم إبراهيم إسحاق وهو مجرب ، قدم الذي قبل المواعيد وحيده ، الذي قيل له إنه باسحاق يدعى لك نسل ، إذ حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات أيضا» (٣) ، ومنها (ثالثا) أن إسحاق قد ولد بطريقة خارقة للطبيعة ، وأنه قد أعطي اسما قبل أن تحمل به أمه (٤) ، ومنها (رابعا) ما يذهب إليه الدكتور ماير من أن هناك فوارق عظمى بين الأخوين ، فقد كان إسماعيل ابن الجارية ، وإسحاق ابن الزوجة الشرعية ، بل إنه ليبلغ به الشطط والتعصب الأعمى إلى أبعد من ذلك ، حين يرى أن إسحاق أرفع قدرا من إسماعيل بدرجة لا تترك مجالا للمقارنة بينهما (٥) ، ومنها (خامسا) بعض الروايات الإسلامية عن كعب الأحبار

__________________

(١) عباس العقاد : المرجع السابق ص ٨٧

(٢) تكوين ٢٢ : ٢

(٣) الرسالة إلى العبرانيين ١١ : ١٧ ـ ١٩

(٤) حبيب سعيد : المرجع السابق ص ٩٣ ، تكوين ١٨ : ٩ ـ ١٥

(٥) ف. ب. ماير : حياة إبراهيم ص ٣٠٥ ـ ٣٠٦

١٦٢

من أن الذي امر إبراهيم بذبحه إنما كان إسحاقا (١).

وإذا أردنا مناقشة حجج اليهود والنصارى هذه ، فإننا نلاحظ عليها عدة نقاط ، منها (أولا) أنها تصف الذبيح بأنه ابن إبراهيم الوحيد ، وهو وصف لا يمكن ـ بحال من الأحوال ـ أن ينطبق على غير إسماعيل وحده في السنوات الأربعة عشرة الأولى من عمره ، والتي سبقت مولد إسحاق ، وانطلاقا من هذا ، فإن إسحاق لم يكتب له في يوم من الأيام أن يكون وحيد إبراهيم ، ذلك لأن إسماعيل قد عاش حتى وفاة إبراهيم ، ثم اشترك مع إسحاق في دفنه بمغارة المكفية ، كنص التوراة نفسها (٢) ، وهكذا لم يكن إسحاق أبدا وحيدا مع وجود إسماعيل ، أما إسماعيل فقد كان وحيدا قبل مولد إسحاق ، ومن هنا كانت لفظة إسحاق في نص التوراة «خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق» (٣) مقحمة ، لأنه لم يكن وحيدا ولا بكرا ، وإنما ذلك هو إسماعيل ، ولعل الذي حمل اليهود على ذلك هو حسد العرب (٤) ، وحرصا منهم على أن يكون أبوهم إسحاق هو الذبيح الذي جاد بنفسه في طاعة ربه ، وهو في حالة صغره ، هذا فضلا عن أن ذلك إنما يتعارض ونصوص أخرى من التوراة.

ومنها (ثانيا) أن ما جاء في الإنجيل ـ في الرسالة إلى العبرانيين ـ فقد كان الحل الذي ارتضاه فقهاء المسيحية للخروج من مشكلة : كيف يؤمر إبراهيم بذبح إسحاق ، وهو ابنه الموعود الذي يخرج منه الشعب المختار ، طبقا لرواية التوراة «باسحاق يدعى لك نسل» (٥) ، إذ لو كان إسحاق

__________________

(١) الطبري ١ / ٢٦٥ ، ابن كثير ١ / ١٥٩ ـ ١٦٠ ، ابن الأثير ١ / ١٠٩ ، تفسير البيضاوي ٢ / ٢٩٧ ، تفسير الطبري ٢٣ / ٧٧ ـ ٨٣ ، تفسير القرطبي ١٥ / ١٠١

(٢) تكوين ١٦ : ١٦ ، ٢٥ : ٩

(٣) تكوين ٢٢ : ٢

(٤) ابن كثير ١ / ١٥٩ ، راجع فتاوى ابن تيمية ٤ / ٣٣١ ـ ٣٣٢

(٥) تكوين ٢١ : ١٢

١٦٣

قد كبر وصار له ابن يحافظ على النسل في الأجيال القادمة لزالت العقبة ، ولكن كيف يتفق أن يموت إسحاق الذي لم يكن له ابن بعد ، وأن يتحقق الوعد الذي أعطي لإبراهيم ، بأن يكون له من إسحاق نسلا ، كرمل البحر وكنجوم السماء.

ومن هنا ـ وكما يقول الدكتور ماير (١) ـ كان الفكر الوحيد الذي ملأ قلب إبراهيم على أي حال ، هو «أن الله قادر على الإقامة من الأموات أيضا» ، وحل المشكلة على هذا الوجه جديد في المسيحية ، لم ينظر اليه أحبار اليهود الذين اعتبروا أن التضحية قائمة على تسليم إبراهيم بموت إسحاق ، وأنه أطاع الله ولم يطع قلبه ، ولم يحفل بحنانه على ابنه الموعود (٢) ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، فإن هذا الحل ، الذي ارتضاه فقهاء المسيحية ، إنما يقلل من قيمة تضحية إبراهيم وإذعانه لربه ، وإن لم يذهب بقيمتها تماما ، ما دام أنه كان على يقين من أن الله سوف يعيد الحياة إلى ولده ، بعد أن يقوم بذبحه بنفسه.

ومنها (ثالثا) أن حجتهم من أن إسحاق قد ولد بطريقة خارقة للطبيعة ، وأنه قد أعطي اسمه قبل أن تحمل به أمه فلعلهم يقصدون بالولادة الخارقة للعادة ، أن إسحاق ولد لإبراهيم وهو شيخ في المائة ، وامرأته عجوز في التسعين من عمرها (٣) ، فإذا كان ذلك كذلك ، فهو صحيح ، ولكن صحيح كذلك أن ولادة إسماعيل فيها نفس الأمر ، أو

__________________

(١) ف. ب. ماير : حياة إبراهيم ص ٢٥٦

(٢) تكوين ٢٢ : ١ ـ ١٨ ، وانظر : العقاد : المرجع السابق ص ٨٧

(٣) تكوين ١٧ : ١٧

١٦٤

قريب منه ، لأنه قد ولد وإبراهيم في السادسة والثمانين من عمره (١) ، بل إن إبراهيم ـ فيما تروي التوراة نفسها ـ قد تزوج وهو في السابعة والثلاثين بعد المائة من قطورة ، ورزق منها بستة بنين (٢) ، هذا فضلا عن أن الروايات الإسلامية ، إنما تضيف لإبراهيم زوجة رابعة ، بني بها في الفترة ما بين زواجه بقطورة ، وبين وفاته وهو في الخامسة والسبعين بعد المائة من عمره ، دعتها حجورة ولدت له خمسة بنين (٣) ، أضف إلى ذلك أن قصة ولادة إسحاق ، بالطريقة التي روتها التوراة ، ليست فريدة في نوعها ، فهناك ولادة يحيى عليه‌السلام ـ والمعروف عند النصارى بيوحنا المعمدان ـ تكاد تكون تكرارا لولادة إسحاق ، ذلك إن أبا يحيى زكريا ـ عليه‌السلام ـ كان قد بلغ من الكبر عتيا ، وكانت امرأته ـ اليصابات في الروايات المسيحية ـ عاقرا ، فسأل ربه أن يهبه غلاما زكيا ، فكان يحيى (٤) ، ثم هناك ولادة عيسى عليه‌السلام ، بدون أب ، ثم هناك كذلك آدم عليه‌السلام من غير أب ، حتى ولا أم ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم ، في قوله تعالى «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (٥).

__________________

(١) تكوين ١٦ : ١٦ ، هذا وتذهب بعض الروايات الاسلامية إلى أن إسماعيل ولد لابراهيم وهو ابن أربع وستين ، واسحاق لسبعين ، بينما تذهب رواية أخرى إلى أن إسماعيل ولد لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين ، وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة ، على أن رواية ثالثة ترى ان اسحاق ولد لإبراهيم وهو ابن مائة وسبع عشرة سنة [أنظر تفسير الألوسي ١٣ / ٢٤٢ ، تفسير المنسقي ٢ / ٢٦٤ ، تفسير القرطبي ٩ / ٣٧٥ ، تفسير الطبري ١٣ / ٢٣٥ ، تفسير البيضاوي ١ / ٥٣٣]

(٢) تكوين ٢٣ : ١ ـ ٢ ، ٢٥ : ١ ـ ٤ وانظر : الطبري ١ / ٣٠٩ ـ ٣١١ ، ابن كثير ١ / ١٧٥

(٣) الطبري ١ / ٣١١ ، ابن الاثير ١ / ١٢٣ ، ابن كثير ١ / ١٧٥ ، ابن سعد ١ / ٢١ ، تكوين ٢٥ : ٧

(٤) سورة آل عمران : آية ٣٧ ـ ٤١ ، سورة مريم : آية ٢ ـ ١٥ ، سورة الأنبياء : آية ٨٩ ـ ٩٠ ، انجيل لوقا ١ : ٥ ـ ٨٠

(٥) سورة آل عمران : آية ٥٩

١٦٥

ومنها (رابعا) أن حجتهم بأن إسحاق قد أعطى اسما قبل أن يولد ، فالرد على ذلك ، أن إسماعيل ـ وبنص التوراة ـ كذلك قد أعطى اسما قبل أن يولد (١) ، فإذا كان في ذلك كرامة لإسحاق ـ وهذا ما نعتقده ـ فهو كرامة لإسماعيل كذلك ، بل ان إسماعيل قد سبق إسحاق في هذه الكرامة ، إذ أعطى اسمه قبله ، بل إن التوراة نفسها إنما تتحدث عن البشارة بإسماعيل قبل أن تتحدث عن البشارة بإسحاق (٢) ، هذا إلى أن يحيى وعيسى قد أعطيا اسميهما قبل أن يولدا كذلك ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى «فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» (٣) ، ويقول «يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا» (٤) ، ويقول «إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» (٥).

ومنها (خامسا) أن ما يزعمه الدكتور ماير من أن إسماعيل ابن الجارية ، وأن إسحاق ابن الحرة ، إنما هو يعتمد في ذلك على ما جاء في الإنجيل من «أنه مكتوب أنه كان لإبراهيم ابنان واحد من الجارية وآخر من الحرة ، لكن الذي من الجارية ولد حسب الجسد ، وأما الذي من الحرة فبالموعد» (٦) ، وهذا بدوره ليس إلا تكرارا لما جاء في التوراة (٧) ، وقد سبق لنا مناقشته ، وإن كان لزاما علينا أن نضيف جديدا هنا ، فهو

__________________

(١) تكوين ١٦ : ١١

(٢) تكوين ١٦ : ١٨

(٣) سورة آل عمران : آية ٣٩

(٤) سورة مريم : آية ٧

(٥) سورة آل عمران : آية ٤٥

(٦) الرسالة لأهل غلاطية ٤ : ٢٢ ـ ٢٣

(٧) تكوين ١٦ : ١ ـ ٩

١٦٦

أن القول بأن هاجر أم إسماعيل كانت جارية لسارة ، أمر يحتاج إلى إعادة نظر ، وقد سبق لنا مناقشته في كتابنا «إسرائيل» ، وخرجنا منه برأي جديد ـ تقدمنا به حدسا عن غير يقين ـ أنها ربما كانت ابنة واحد من كبار رجال الدين المصريين ، على أساس أنهم الطبقة المنتظر أن يكون الخليل أكثر اتصالا بها (١)

ومنها (سادسا) أن مفسري التوراة من المسيحيين يريدون أن يصبغوا هذه النصوص بالصيغة المسيحية ، ذلك لأن المسيحية ـ فيما يرى آباء الكنيسة وفقهاؤها ـ تحرم تعدد الزوجات ، فجعلوا من هاجر جارية ، وسارة زوجة شرعية ، وفاتهم أن الأسرة الإسرائيلية كانت تقوم على تعدد الزوجات ، كما كانت تساوي بين هؤلاء الزوجات في الحقوق والواجبات ، وأن كان عددهن يتفاوت قلة وكثرة ، حسب ثروة الزوج ومكانته ، ولو أن علماء التلمود يحددون للرجل أربع زوجات فقط ، وللملك ثماني عشرة زوجة ، كما أن قانون الملوك يمنعهم من المبالغة في اقتناء الزوجات «ولا يكثر له نساء لئلا يزيغ قبله» (٢) ، وقد استغل بعض الإسرائيليين هذا الحق ، فبالغوا فيه ، إذ «كان لجدعون سبعون ولدا خارجون من صلبه ، لأنه كانت له نساء كثيرات» (٣) ، وقد تزوج داود

__________________

(١) راجع كتابنا اسرائيل ص ٢١٠ ـ ٢١٣ مع ملاحظة أن هناك وجهات نظر أخرى ، منها أنها أميرة مصرية وقعت في أيدي العماليق ثم أهديت إلى إبراهيم ، ومنها أنها أخت زوج فرعون ، ومنها أنها ابنة أحد ملوك مصر .. (انظر : حبيب سعيد : المرجع السابق ص ٨٢ ، ف. ب. ماير : المرجع السابق ص ١٣٦ ، ٢٣٦ ، عبد الحميد السحار : بنو اسماعيل ص ٩٣ ، عبد الحميد واكد : نهاية اسرائيل ص ٨٨ ، شفاء الغرام ص ١٥ ، تاريخ الخميس ص ١٦٥ ، ياقوت : معجم البلدان ١ / ٢٤٩ (بيروت ١٩٥٥) وكذاCook ,op - cit ,P.٩٦٣ S.A.

(٢) تثنية ١٧ : ١٧ ، وكذا فؤاد حسنين : إسرائيل عبر التاريخ ١ / ٩٩

(٣) قضاة ٨ : ١٣

١٦٧

من نساء كثيرات ، فضلا عن الإماء والسراري (١) ، واقترن «رحبعام» بثماني عشرة امرأة ؛ وستين سرية ، ولدن له ثمانية وعشرين ابنا وستين ابنة» (٢) وتزوج «أبيا» أربع عشرة امرأة وخلف اثنين وعشرين ابنا وست عشرة بنتا (٣) ، وفاق سليمان جميع أقرانه ، إذ «كانت له سبع مائة من النساء السيدات وثلاث مائة من السراري» (٤) ، وإذا ما عدنا إلى عصر الآباء الأوائل ـ كما يسمونه ـ فإننا نجد أن الخليل نفسه يتبع هذا المبدأ ، فيجمع بين هاجر وسارة ، ثم بين قطورة وحجورة ، ثم ألم يجمع يعقوب ـ أبو الآباء ـ والذي حمل الإسرائيليون اسمه ، بين نساء أربعة ـ بين راحيل وليئة وزلفة وبلهة ـ وكان منهن أبناؤه الاثنا عشر (٥) ، ثم ألم يجمع موسى ـ صاحب التوراة ـ بين صفورة ابنة كاهن مدين ، وبين المرأة الكوشية التي ثار عليه أخواه من أجلها (٦).

وهكذا يبدو لنا بوضوح أن مبدأ تعدد الزوجات ـ كما يقول جوستاف لوبون ـ كان شائعا كثيرا لدى بني إسرائيل على الدوام ، وما كان القانون المدني أو الشرعي ليعارضه (٧) ، سواء أكان ذلك للأنبياء أو غير الأنبياء ، وسواء أكان ذلك في عصر الآباء الأول أو عصر الملكية ، حتى حدده الربانيون بأربعة ، وان أطلقه القراءون ، وأن التفسير الذي قدمه صاحب «الرسالة إلى أهل غلاطية» ، إنما يقدم الصورة المسيحية ـ وليس اليهودية ـ للزواج ، وأنه لأمر مناف للعقل ـ فضلا عن المنطق والدين ـ أن

__________________

(١) صموئيل أول ٢٥ : ٣٩ ، ٤٣ ، ٢٨ : ٢٧ صموئيل ثان ٣ : ٣ ، ٤ ، ٥ : ١٣

(٢) أخبار أيام ثان ١١ : ٢١

(٣) أخبار أيام ثان ١٣ : ٢١

(٤) ملوك أول ١١ : ٣

(٥) تكوين ٣٥ : ٢٢ ـ ٢٦

(٦) خروج ٢ : ٢١ ، عدد ١٢ : ١

(٧) جوستاف لوبون : اليهود في تاريخ الحضارات الأولى ص ٥٠

١٦٨

نطبق شريعة دين على شريعة دين سبقه.

وهكذا نستطيع أن نقرر ، ونحن مطمئنون ، أن هاجر وسارة ـ رضي‌الله‌عنهما ـ كانت كلتاهما زوجة فاضلة للخليل عليه‌السلام ، ولكل منهما من الحقوق والواجبات ما للأخرى ، وأن الأمر كذلك بالنسبة لا بنيهما النبيين الكريمين ، واذا لم يقتنع علماء اليهود بما نقول ، فما رأيهم في أبناء يعقوب الاثني عشر ، وهم في نفس الوقت رءوس الأسباط الاثني عشر ، فهم كما نعلم ـ وبنص التوراة نفسها (١) ـ من زوجاته الأربعة (الحرائر والجواري) ، ولم يقل واحد من العلماء أو رجال اللاهوت من اليهود والنصارى ، أن أبناء يعقوب من الجاريتين ، بلهة وزلفة ، أقل مرتبة من أخوتهم أبناء السيدتين ، ليئة وراحيل ، هذا إذا سلمنا جدلا ، بأن أم إسماعيل كانت جارية لسارة ، أضف إلى ذلك كله أن إسماعيل إنما كان بكر إبراهيم ، وللبكورية في بني إسرائيل شأن عظيم ، وحقوق كثيرة.

بقيت نقطة أخيرة ، تتصل بما يزعمه «ماير» من أن إسحاق كان أرفع قدرا من إسماعيل بدرجة لا تترك مجالا للمقارنة بينهما ، فذلك تعصب أعمى ، وتلك دعوة الغرب وحقدهم على العرب أبناء إسماعيل ، نحتمي منه بقوله تعالى «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» (٢) ، إيمانا منا بأن كلا من اسماعيل واسحاق ابن للخليل ، وقد وصف اسحاق في القرآن الكريم بانه كان «نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» (٣) ، ووصف إسماعيل بأنه «كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا» (٤) ، فما كان لنا أن نفرق بين أحد من رسل

__________________

(١) تكوين ٣٥ : ٢٢ ـ ٢٦

(٢) سورة البقرة : آية ٢٨٥

(٣) سورة الصافات : آية ١١٢

(٤) سورة مريم : آية ٥٤

١٦٩

الله ، فذلك شأنه سبحانه وتعالى ، ونحن نؤمن الإيمان ، كل الإيمان ، بأن إسماعيل وإسحاق عليهما‌السلام ، أفضل منا ملايين المرات ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، سائلين الله الغفور الرحيم أن يغفر لنا ذلاتنا ، إن كنا قد أخطأنا فيما كتبنا عن أنبيائه الكرام ، وما أردنا من ذلك إلا أن نقول كلمة حق ـ قدر استطاعتنا ـ «وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» (١).

ومنها (سابعا) أن ما جاء في الروايات الإسلامية ، نقلا عن كعب الأحبار وغيره ، فذلك يرجع إلى أن المسلمين إنما يؤمنون بنبوة إسحاق ويعقوب ويوسف ، ومن هنا فقد استغل ذلك بعض اليهود الذين أسلموا ـ ومنهم كعب الأحبار ووهب بن منبه (٢) ـ ونقلوا أمثال هذه الروايات التي لم يبت القرآن الكريم فيها ، تحقيقا لأغراض خاصة بهم ، ثم أن هذه الروايات الاسلامية مضطربة ، فبينما ينسبها أصحابها إلى ابن عباس ، فإنهم يرون رواية أخرى ـ عن ابن عباس كذلك ـ يذهبون فيها إلى أن الذبيح إنما هو إسماعيل عليه‌السلام (٣).

(ب) وجهة النظر الاسلامية

يرى المسلمون أن الذبيح إنما كان إسماعيل عليه‌السلام ، اعتمادا على رواية ابن عباس في تفسيره لقوله تعالى «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» (٤) ، على أنه إسماعيل ، وعلى أننا نجد في كتاب الله ـ عزوجل ـ في قصة الخبر عن إبراهيم ، وما أمر به من ذبح ابنه إسماعيل ، وذلك أن الله سبحانه

__________________

(١) سورة هود : آية ٨٨

(٢) أنظر ما كتبناه من قبل عن الاسرائيليات في التفسير

(٣) تفسير الطبري ٢٣ / ٨١ ـ ٨٤ ، تفسير القرطبي ١٥ / ٩٩ ـ ١٠٠

(٤) سورة الصافات : آية ١٠٧

١٧٠

وتعالى ، حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم ، فإنه يقول «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» (١) ، فالإتيان بالبشرى بعد ذكر القصة صريح في أن إسحاق غير الغلام الذي ابتلى الله إبراهيم بذبحه وعودة الضمير إلى الغلام الذبيح ، ثم ذكر اسم إسحاق معه صريحا ، يقتضي التغاير بين إسحاق والذبيح (٢).

ويضيف الإمام ابن تيمية إلى ذلك ، أن قصة الذبيح المذكورة في سورة الصافات (٣) تدل على أنه إسماعيل ، إذ يقول سبحانه وتعالى «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» ، فقد انطوت البشارة هنا على ثلاث : على أن الولد غلام ذكر ، وعلى أنه يبلغ الحلم ، وعلى أنه يكون حليما ، وأي حلم أعظم من أن يعرض عليه أبوه الذبح ، فيقول «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» ، ثم إنه لم يذكر قصة الذبيح في القرآن الكريم ، إلا في هذا الموضع ، وفي سائر المواضع يذكر البشارة باسحاق خاصة ـ كما في سورة هود (٤) ـ ثم إنه ذكر في البشارة في الصافات ، بأنه غلام حليم ، وحين ذكر البشارة باسحاق ، وصفه بأنه غلام عليم (٥) ، والتخصيص لا بد له من حكمة ، وهذا مما يقوّي اقتران الوصفين ، والحلم هنا مناسب للصبر الذي هو خلق الذبيح ، هذا فضلا عن أن إسماعيل قد وصف بالصبر ، دون إسحاق ، في قوله تعالى «وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ» (٦) ، وبصدق الوعد ، «إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ» (٧) ، لأنه

__________________

(١) سورة الصافات : آية ١١٢

(٢) عبد الوهاب النجار : المرجع السابق ص ١٠٢ ، فتاوى ابن تيمية ٤ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣

(٣) سورة الصافات : آية ٩٩ ـ ١١٣

(٤) سورة هود : آية ٧١ ـ ٧٢

(٥) سورة الحجر : آية ٥٣ ، الذاريات : آية ٢٨

(٦) سورة الأنبياء : آية ٨٥

(٧) سورة مريم : آية ٥٤

١٧١

وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفىّ به ، ثم إن البشارة باسحاق كانت معجزة ، لأن العجوز عقيم ، وأنها كانت مشتركة بين إبراهيم وامرأته ، بينما البشارة بالذبيح فقد كانت لإبراهيم ، ثم امتحانا له ، دون الأم المبشرة به (١).

أضف إلى ذلك أن الله سبحانه وتعالى يقول «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» (٢) ، فكيف يأمره الله بذبحه ، وقد وعده أن يكون نبيا (٣) ، ثم إن البشارة باسحاق إنما كانت مقرونة بولادة يعقوب منه ، فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقا (٤) ، ومن هنا استدل محمد بن كعب القرظي على أنه إسماعيل ، وليس إسحاقا ، حيث يقول سبحانه وتعالى «فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» (٥) ، فكيف تقع البشارة بإسحاق ، وأنه سيولد له يعقوب ، ثم يؤمر بذبح إسحاق ، وهو صغير قبل أن يولد له ، هذا لا يكون لأنه يناقض البشارة المتقدمة ، وهناك ما روي من أن عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي ، سأل رجلا من علماء اليهود ، كان قد أسلم وحسن إسلامه : أي ابنيّ إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال إسماعيل والله يا أمير المؤمنين ، وإن يهود لتعلم ذلك ، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه ، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره لما أمر به ، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه

__________________

(١) مجموع فتاوى شيخ الإسلام احمد بن تيمية ٤ / ٣٣١ ـ ٣٣٥ ، وانظر : روح المعاني ٢٣ / ١٣٤ تفسير الطبري ٢٣ / ٨٥

(٢) سورة الصافات : آية ١١٢

(٣) تفسير القرطبي ص ٥٥٤٥ (طبعة الشعب)

(٤) روح المعاني ٢٣ / ١٣٤ ، تاريخ الخميس ص ١٠٨

(٥) سورة هود : آية ٧١ ، وانظر : تفسير الطبري ١٥ / ٣٨٩ ـ ٣٩٧ (دار المعارف ـ القاهرة ١٩٦٠)

١٧٢

إسحاق ، لأن إسحاق أبوهم (١).

وهناك ما جاء في إنجيل برنابا على لسان المسيح ـ عليه الصلاة والسلام ـ «الحق أقول لكم ، أنكم إذا أمعنتم النظر في كلام الملاك جبريل تعلمون خبث كتبنا وفقهائنا ، لأن الملاك قال يا إبراهيم : سيعلم العالم كله كيف يحبك الله ، ولكن كيف يعلم العالم محبتك لله؟ حقا يجب عليك أن تفعل شيئا لأجل محبة الله ، فأجاب إبراهيم ها هو ذا عبد الله مستعد أن يفعل كل ما يريد الله ، فكلم الله حينئذ إبراهيم قائلا : خذ ابنك بكرك وأصعد الجبل لتقدمه ذبيحة» ، فكيف يكون إسحاق البكر ، وهو لما ولد كان إسماعيل ابن سبع سنين (٢).

ثم أليس في شعائر الحج عند المسلمين كثيرا من الأدلة على أن الحادث إنما كان في مكة ـ وليس في فلسطين ـ وأنه مع إسماعيل ـ وليس مع إسحاق ـ وأن المسلمين ، بعكس اليهود ، كانوا ـ وما يزالون وسوف يظلمون أبد الدهر ـ يحيون ذكرى الفداء الفذ هذا في كل عام ، عند حجهم إلى بيت الله الحرام ، في الأضحية يوم النحر ، وفي السعي بين الصفا والمروة ، وفي رمي الجمار ، وكل تلك أمور لا توجد عند يهود ، فإذا ما تذكرنا أن إسماعيل وأمه ـ وليس إسحاق وأمه ـ هما اللذان كانا بمكة ، وأن إسماعيل ، وليس إسحاق ، هو الذي شارك أباه الخليل في بناء البيت الحرام ، وأن النحر في منى ـ وليس في فلسطين ـ في يوم عيد الأضحى

__________________

(١) ابن كثير : قصص الأنبياء ١ / ٢١٥ ـ ٢١٧ ، البداية والنهاية ١ / ١٥٩ ـ ١٦٠ ، تفسير القرآن العظيم ٧ / ٢٨ ـ ٣٠ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٣٨ ، ابن الأثير ١ / ١١٠ ـ ١١١ ، تفسير الطبري ٢٣ / ٨٤ ـ ٨٥ ، تفسير البيضاوي ٢ / ٢٩٧ ، تفسير القرطبي ١٥ / ١٠١ ، روح المعاني ٢٣ / ١٣٣ ـ ١٣٥

(٢) محمد حسني عبد الحميد : أبو الأنبياء إبراهيم الخليل ص ٨٦ ، علي عبد الواحد وافي : الأسفار المقدسة ص ٨٧ ـ ٨٨ ، مع ملاحظة مخالفة هذا النص لنصي التوراة (تكوين ١٦ : ١٦ ، ١٧ : ٣)

١٧٣

المبارك ، إنما هو من تمام سنن الحج إلى هذا البيت المعمور ، ومن هنا يبدو لنا بوضوح أن الذين زعموا من يهود ـ ومن تابعهم في زعمهم هذا من نصارى ومسلمين ـ أن الفداء إنما كان في الشام ، قد أخطئوا كثيرا ، إذ لو كان الأمر كما يزعمون ، لكانت كل الشعائر التي تتصل بعملية الفداء هذه في الشام ، وليس في مكة.

ويذهب الإمام السيوطي إلى أن البشارة بمولود ، إنما جاءت مرتين ، الواحدة في قوله تعالى «وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ، فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» (١) ، فهذه الآيات الكريمة قاطعة في أن المبشر به هو الذبيح ، والأخرى في قوله تعالى «وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ ، قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ» (٢) ، وفي هذه الآيات الكريمة ، إنما المبشر به إسحاق ، وقد وقعت هذه البشارة في فلسطين ، لما جاءت الملائكة بسبب قوم لوط ، وهو في آخر مرة ، ولم تكن بدعوة من إبراهيم ، فهو شيخ كبير ، وامرأته عجوز ، وأما البشارة الأولى فقد كانت عند ما انتقل الخليل عليه‌السلام من العراق إلى الشام ، وكانت بدعوة منه ، حيث كان في سن لا يستغرب منه الولد ، ومن ثم فقد سأل ربه أن يهبه غلاما من الصالحين ، وينتهي السيوطي إلى أنهما بشارتان في وقتين مختلفين ، بغلامين مختلفين ، الواحد بغير سؤال ـ وهو إسحاق ـ وقد جاء اسمه صريحا في الآيات الكريمة ، والآخر بسؤال ، وقد ارتبط

__________________

(١) سورة الصافات : آية ٩٩ ـ ١٠٢

(٢) سورة هود : آية ٧١ ـ ٧٢

١٧٤

بقصة الذبح ، وهو اسماعيل (١) ، فضلا عن أن البشارة باسحاق إنما كانت مقرونة بولادة يعقوب منه ، فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقا (٢).

أضف الى ذلك كله ، أن الآية الكريمة : «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» ، تفيد أنه دعاء وقع من إبراهيم قبل أن يرزق بواحد من ابنائه ، إذ لو كان له ولد ما طلب الولد الواحد ، وكلمة «من» هنا للتبعيض ، وأقل درجات البعضية الواحد ، ومن ثم فان قوله تعالى من الصالحين لا تفيد الا طلب الواحد ، وبهذا يكون الدعاء في وقت لم يكن للخليل فيه شيء من الذرية ، ومن المعروف أن هناك اجماعا بين علماء المسلمين ـ فضلا عن كتب اليهود والنصارى ـ ان اسماعيل انما هو ولد إبراهيم البكر ، ومن ثم فان الدعاء انما يراد به اسماعيل ، وحيث أن رؤيا البشري ثم رؤيا الذبح انما جاءت بعد ذلك ، فالذبيح اذن هو اسماعيل. (٣).

وهناك رواية تذهب إلى أن بعضا من صحابة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) قد رأوا بقايا رأس الكبش في بيت الله الحرام ، فعثمان بن طلحة يروي أنه رأى قرني الكبش ، وأنهما بقيا حتى احتراق البيت أثناء حصار الحجاج لابن

__________________

(١) تفسير القاسمي ١٤ / ٥٠٥٣ ، محمود الشرقاوي : الأنبياء في القرآن الكريم ص ١٦٥ ، شفاء الغرام ٢ / ١٠ ـ ١١ ، تفسير الألوسي ١٢ / ٩٧ ـ ١٠١ ، ١٣ / ١٣٥ ـ ١٣٦ ، ١٤ / ٦٠ ـ ٦١ ، تفسير المنار ١٢ / ١٢٧ ـ ١٣٠ ، تفسير القرطبي ٩ / ٦٢ ـ ٧١ ، ١٥ / ١٠٠ ـ ١٠٣ ، تفسير البيضاوي ١ / ٤٧٤ ـ ٤٧٥ ، ٢ / ٢٩٧ ، ١ / ٥٤٣ ـ ٥٤٤ ، وانظر السيوطي في رسالته القول الفصيح في تعيين الذبيح ، فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ٤ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣ ، تفسير الطبري ١٢ / ٧١ ـ ٧٧ ، ١٤ / ٣٩ ـ ٤١

(٢) تاريخ الخميس ص ١٠٨ ، وانظر : التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٦ / ١٥٤

(٣) تفسير الفخر الرازي ٢٦ / ١٥٤

١٧٥

الزبير (١) ، وابن عباس يروي أنه رأى رأس الكبش (٢) ما يزال معلقا عند ميزاب الكعبة قد يبس ، ويبدو أن قريشا قد توارثت قرني الكبش ، خلفا عن سلف ، وأن ذلك إنما كان من دعاوى الفخر عندهم ، وبدهي أنهم لا يتفاخرون بهما ، إن كان الذبيح إسحاق ، وليس إسماعيل ، وكل تلك الروايات إنما تدل على أن الذبيح إنما كان إسماعيل ، فهو الذي كان ـ وليس إسحاق ـ في مكة المكرمة (٣).

وأخيرا فهناك رواية تذهب إلى أن رجلا جاء إلى الحبيب المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فقال : يا رسول الله ، عد علي مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين ، فتبسم (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، فقيل لمعاوية بن أبي سفيان ـ وكان حاضرا ـ وما الذبيحان؟ فقال : إن عبد المطلب نذر إن سهل الله حفر زمزم أن يذبح أحد أولاده ، فخرج السهم على عبد الله أبي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ففداه بمائة بعير ، وأما الذبيح الثاني فهو اسماعيل (٤).

__________________

(١) انظر عن هذا الحصار (٧٢ / ٧٣ ه‍ ـ ٦٩٢ م) : ابن الأثير ٤ / ٢٢ ـ ٢٤ ، العقد الفريد ٢ / ١٨٢ ، الازرقي ١ / ١٩٦ ـ ٢٠٠ ، مروج الذهب ٥ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠ ، الاخبار الطوال ص ٣٠٤ وما بعدها

(٢) هناك من يرى ان الذبيح إنما فدي بوعل (وهو التيس الجبلي) ، ومن يرى أنه تيس من الأروي ، ولكن الجمهور على أنه كبش ، ولذا يفضل العلماء الأضحية بالغنم عنها بالبقر والابل (تفسير الطبري ٢٣ / ٨٦ ـ ٨٧ ، تفسير القرطبي ١٥ / ١٠٧)

(٣) ابن كثير ١ / ١٥٨ ، شفاء الغرام ٢ / ٩ ، تاريخ الخميس ص ١٠٨ ، الازرقي ١ / ١٥٩ ـ ١٦٠ ، تفسير الألوسي ٢٣ / ١٣٤ ، تفسير الطبري ٢٣ / ٨٣ ـ ٨٤ ، ٨٧ ، تفسير القرطبي ١٥ / ١٠٦ ، فتاوى ابن تيمية ٤ / ٣٣٥ ، تفسير البيضاوي ٢ / ٢٩٧

(٤) ابن كثير ١ / ١٦٠ ، ابن الأثير ١ / ١٨٠ ، ابن خلدون ٢ / ٣٣٧ ، شفاء الغرام ٢ / ١١ ، تفسير الألوسي ٢٣ / ١٣٤ ، ١٣٦ تفسير البيضاوي ٢ / ٢٩٧ ، تفسير الطبري ٢٣ / ٨٥

١٧٦

(ح) قصة الذبيح والتضحية البشرية

عرفت بعض مجتمعات الشرق الأدنى القديم نظام الضحايا البشرية التي كانت تقدم على مذابح الآلهة وعند دفن الملوك ، وتدلنا حفائر «أور» السومرية على قدم تلك العادة ، إذ كان الملوك يدفنون ومعهم حاشيتهم ووزرائهم ، ولا يبدو من هيئة جثمانهم أنهم ماتوا على الرغم منهم ، فليس منهم من وجدت جثته وفيها أثر الذبح أو الخنق أو القتل أو الضرب العنيف ، ولهذا يعتقد «سير ليونارد وولي» أنهم كانوا يتجرعون باختيارهم عقارا ساما يخدرهم ويميتهم ، إيمانا منهم بالانتقال مع الملوك الأرباب إلى حالة في السماء ، كحالتهم في الحياة الأرضية ، هذا وقد وجدت على بعض أختام الطين صور آدميين يلبسون قناعا يشبه رأس الحيوان ، والمظنون أن هذا الذي كان مقدمة للذبح الرمزي ، واجراء الشعائر مجرى التمثيل المقدس في الاحتفالات العامة ، ولا سيما الاحتفال برأس السنة (١).

وتدلنا مقبرة «زفاحعبي» ـ الحاكم المصري في كرمه بالسودان على أيام الأسرة الثانية عشرة (١٩٩١ ـ ١٧٨٦ ق. م.) ـ على إتباع نفس العادة ، إذ ضحى باكثر من مائتي شخص من خدمه وأتباعه ، ثم دفنوا في الممر المؤدي إلى قبره ، ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هذه العادة ربما كانت معروفة في مصر في عهد ما قبل الأسرات ، وربما في الأسرة الأولى كذلك ، ولكنها انقرضت بعد ذلك (٢).

ولم يكن الأمر مختلفا بالنسبة إلى الكنعانيين والفينيقيين ، فقد كانت

__________________

(١) عباس العقاد : إبراهيم أبو الأنبياء ص ١٧٢ ، وأنظر وكذاL. woolley, ur of the chaldees, EXCAVATIONS ATUR, ٣٦٩١ وكذا Hooke ,Origins of Early Semitic Ritual

(٢) أحمد فخري : مصر الفرعونية ص ٣٢٠

١٧٧

التضحية بالطفل البكر عرفا جاريا لدى الكنعانيين في العصر العتيق ، وفي حفريات «جازر» دليل قاطع في هذا الصدد ، فقد وجدت بها عظام أطفال في حالة بلاء بين بين ، مودعة في أسس المنازل ، وقد احتفظ الفينيقيون بهذه العادة إلى عصور قريبة ، حتى روى «فيلون» أن من عادات القوم في حالات الأخطار العامة ، أن يضحوا بأعز أبنائهم لإبعاد الكوارث عن أنفسهم (١) ، وطبقا لرواية التوراة ، فإن المؤابيين إنما كانوا يفعلون كذلك ، وقد ضحى ملك مؤاب (ميشع) بابنه البكر لإلهه شمس ، لينقذه من قوات إسرائيل ويهوذا التي أحاطت به (٢). هذا وقد تبيّن من مخلفات المدافن من «أم التار» في «أبو ظبي» أنها تضم العديد من الهياكل العظمية المتكدسة في المدفن المشترك ، ويدل وجود الهياكل العظيمة خارج الجدران الخارجية على ظاهرة التضحية البشرية التي تواكب مراسم الدفن ، حيث توضع جثث الأشخاص الذين يضحى بهم خارج المبنى الذي يضم جثة المتوفي (٣).

وهنا ـ فيما يبدو لي ـ تظهر أهمية قصة الذبيح إسماعيل عليه‌السلام ، في التاريخ الإنساني ، إذ كتبت عليه ضريبة الفداء ، وهي في مفترق الطرق بين الهمجية التي كانت لا تتورع عن الذبائح البشرية ، وبين الإنسانية المهذبة التي لا تأبى الفداء بالحياة ، ولكنها تتورع عن ذبح الإنسان (٤) ، ولما كان الأنبياء هم الأسوة الحسنة التي يحتذى حذوها كافة الناس وخاصتهم ، فإن الله جلت قدرته أراد أن يجعل من خليله قدوة حسنة ، ومثلا أعلى ، لأرفع صور الإيمان وأجلها في تاريخ الإنسانية ، وفي الوقت

__________________

(١) ج. كونتنو : الحضارة الفينيقية ص ١٤٥

(٢) ملوك ثان ٣ : ٢٧

(٣) G.Bibby ,Looking for Delmun ,London ,٠٧٩١ ,P.٢١٢ وكذاK.Thorvidsen ,Kumal ,٢٦٩١ ,PP.٧١٢ ـ ٨١٢

(٤) عباس العقاد : الإسلام دعوة عالمية ص ٢١٨ ـ ٢١٩

١٧٨

ذاته ، فإنه ـ جل وعلا ـ قد أعطى الإنسانية نفسها ، مثلا حيّا في إبراهيم وابنه إسماعيل ، تمهيدا لمنع هذه العادة البربرية ، فيأمره بذبح ولده ، ثم يفتديه بكبش عظيم ، ومن هنا كان ارتباط هذا الحادث ارتباطا وثيقا ، بظاهرة التضحية البشرية ، التي كانت تمارس في بعض مجتمعات الشرق الأدنى القديم ، والحث على استبدال ذلك التقليد بالتضحية الحيوانية (١).

ومن عجب ، أن ذرية إبراهيم من إسحاق ، لم يكونوا على مستوى الدعوة ، فبقيت فيهم عادة التضحية البشرية إلى ما بعد أيام موسى ونزول التوراة ، ويتضح هذا من رواية سفر الخروج (٢) ، حيث يحرم الله على بني إسرائيل أن يعطوا أبكار أبنائهم قربانا إلى الله تعالى ، كما يتضح كذلك من سفر اللاويين (٣) ، حيث ينص على عقوبة الرجم لمن يعطي ابنه قربانا لملكوم ـ إله العمونيين ـ وقد كانوا يقدمون له الذبائح البشرية ، لا سيما من الأطفال (٤).

ومع ذلك فقد ظل أمراء بني إسرائيل ينذرون أبناءهم ، محرقة على المذابح ، كما فعل «يفتاح الجلعادي» حين نذر للرب «إن دفعت بني عمون ليدي ، فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمون ، يكون للرب ، وأصعده محرقة» (٥) ، وتشاء الأقدار أن تكون ابنته الوحيدة هي التي تهب للقائه عند ما عاد من معركته هذه ، ومن ثم فقد اضطر أن يفي بنذره هذا بعد شهرين (٦).

__________________

(١) رشيد الناضوري : المرجع السابق ص ١٧٤

(٢) خروج ٢٢ : ٩

(٣) لاويون ١٨ : ٢١ ، ٢٠ : ٢

(٤) قاموس الكتاب المقدس ٢ / ٧٢١

(٥) قضاة ١١ : ٣٠ ـ ٣١

(٦) قضاة ١١ : ٣٤ ـ ٤٠

١٧٩

وهكذا بقي الإسرائيليون ، وحتى عصر القضاة ، يمارسون التضحية البشرية ـ تقليدا للكنعانيين والمؤابيين وغيرهم ـ رغم أنها ليست من شريعة موسى ، ورغم أنهم نهوا عنها مرارا ، بل إن الأمر قد بقي كذلك ، حتى عصر ارمياء النبي (٦٢٧ ـ ٥٧٧ ق. م.) الذي نعى عليهم أنهم «بنو المرتفعات ليحرقوا بنيهم وبناتهم بالنار» ، وحتى عصر أشعياء ، الذي يقول لهم : «يا بني الساحرة ، نسل الفاسق والزانية ... المتوقدون إلى الأصنام تحت كل شجرة خضراء ، القاتلون الأولاد في الأودية تحت شقوق المعاقل» (١).

__________________

(١) أشعياء ٥٧ : ٣ ـ ٥

١٨٠