دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
المطبعة: دار النهضة العربية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٠

يمتد إلى كل بلاد العرب الجنوبية ، وانما كان مقصورا على أجزاء منها ، وأن الأحباش إنما كانوا يشاركونه هذا السلطان ، فـ «ظفار» ومجاوراتها إنما كانت في أيدي الأحباش ، كما كان الأقيال قد كونوا حكومات إقطاعية في إماراتهم ، بل وكانوا يثيرون الفتن والقلاقل في أنحاء البلاد ، وقد أشرنا من قبل إلى حرب أهلية استعر أوارها حوالي عام ٥١٦ م ، واشتركت مجموعة من القبائل ، وهكذا كانت تلك الظروف الداخلية سببا في ضعف البلاد وجعلها آخر الأمر لقمة سائغة في أيدي المستعمرين الأحباش (١).

هذا ويشير نص (ريكمانز ٥٠٨) إلى حرب وقعت بين الملك يوسف أسأر من ناحية ، وبين الأحباش ، ومن كان يؤيدهم من اقيال اليمن ، من ناحية أخرى ، وأن الملك الحميري قد هاجم «ظفار» و «مخا» ، واستولى على كنائسهما ، وإن كان أشد القتال ، إنما كان بينه وبين قبيلة الأشاعر ، حيث قتل منهم ثلاثة عشر ألف قتيل ، وأسر تسعة آلاف وخمسمائة أسير ، كما استولى على ٢٨٠ ألف رأس من الابل والبقر والغنم ، ثم اتجه بعد ذلك إلى «نجران» حيث أنزل بالأحباش ، ومن سار في ركابهم ، خسائر فادحة (٢).

ولعل كل هذا يشير إلى عدة أمور ، منها (أولا) أن الوضع في اليمن في تلك الفترة الحرجة من تاريخ البلاد ، إنما كان جد قلق ، ومنها (ثانيا) أن الأحباش إنما كانوا يسيطرون على جزء غير قليل من البلاد ، وأنهم اتخذوا من العاصمة الحميرية (ظفار) مقرا لهم ، ومنها (ثالثا) أن هناك كثيرا من أمراء اليمن ، إنما كانوا أعوانا للمستعمر الجديد ، يساعدونه في

__________________

(١) جواد علي ٢ / ٥٩٥

(٢) BSOAS ,XVI ,Part ,٣ ,٤٥٩١ ,P ٤٣٤ وكذاle Museon ,٣٥٩١ ,٣ ـ ٤ ,P.٦٩٢

٣٨١

القضاء على السلطة الوطنية في البلاد ، ويحاربون برجالهم ضد الملك الشرعي للبلاد ، ومن كان إلى جانبه من أبناء الوطن الاحرار ، وكانت النتيجة أن استولى الأحباش على اليمن ، وجعلوها مستعمرة حبشية ، يتحكمون فيها ويستغلون مواردها الاقتصادية لمصلحة بلادهم ، وبدهي أن الخونة من أمراء اليمن لم ينالوا من ساداتهم الجدد ، إلا الفتات ، وإلا العار يسجله التاريخ عليهم أبد الدهر ، شأن الخونة في كل مكان وفي كل زمان.

هذا ويقدم المؤرخون عدة أسباب لغزو الحبشة لليمن ، منها (أولا) الرغبة في السيطرة على اليمن ، وذلك لضمان توزيع السلع الحبشية ، دون أن تتعرض لاعتداءات الحميريين (١) ، ومنها (ثانيا) ما يذهب إليه البعض من أن عداوة الحبشة للعرب قديمة العهد ، نشأت منذ أن كان عرب اليمن يخطفون الأحباش من سواحل الحبشة ، ويبيعونهم أرقاء في شبه جزيرة العرب ، حيث وجد الحبش في الحجاز (٢) ، ومنها (ثالثا) أن بلاد العرب الجنوبية كانت تقوم في ذلك الوقت بنفس الدور الذي تقوم به مصر الآن ، حيث أصبحت منذ شق قناة السويس تهيمن على شريان من أهم شرايين الملاحة الدولية ، والأمر كذلك بالنسبة إلى بلاد العرب الجنوبية ، نظرا لمركزها الهام على البحر الأحمر والمحيط الهندي ، وحيث يوجد مضيق باب المندب ، وفي تلك الأيام كانت الامبراطورية الرومانية الشرقية حريصة على انتزاع تلك المكانة وإعطائها لمصر ، ومختلف الولايات الرومانية الشرقية الأخرى التي تستطيع الإفادة من مركزها

__________________

(١) مراد كامل : مقدمة لكتاب سيرة الحبشة ، القاهرة ١٩٥٨ ص ٦١ ، عبد العزيز سالم : المرجع السابق ص ١٨٢

(٢) يوسف احمد : الإسلام في الحبشة ، القاهرة ١٩٣٥ ص ٦ ـ ٧ ، عبد المنعم ماجد : المرجع السابق ص ٧٤

٣٨٢

الجغرافي ، وبخاصة فإن المسيحية كانت قد استقرت في كثير من هذه الولايات الرومانية الشرقية ، حتى اضطر الإمبراطور قسطنطين في عام ٣١١ م ، إلى السماح بانتشار المسيحية في بلاده (١) ، وهنا بدأ الرومان يفكرون في استغلال الدين لضم بلاد العرب الجنوبية إلى إمبراطوريتهم ، فعمدوا إلى ارسال البعثات التبشيرية لتلك البلاد ، لنشر المسيحية بين أهل الحضر والبادية من جهة ، ولتهيئة الأفكار والنفوس لقبول النفوذ الروماني من جهة أخرى (٢).

لقد كان العالم وقت ذاك ـ كما هو الآن ـ منقسما إلى جبهتين شرقية وغربية ، أو الفرس والروم ، ولكل أتباع من الدويلات الصغيرة ورؤساء القبائل ، وفي هذه الظروف عمل الروم على الهيمنة على بلاد العرب ، أو ابعادها عن النفوذ الفارسي على الأقل ، وعمل الفرس من ناحية أخرى على تحطيم كل جبهة عربية تعمل لمصلحة الروم ، فضلا عن منع السفن الرومية من الدخول إلى المحيط الهندي ، والاتجار مع بلاد العرب ، ولجأ الروم إلى الدين كوسيلة لبسط نفوذهم على شبه الجزيرة العربية ، فأرسلوا المبشرين لنشر المسيحية بين القوم ، وطلبوا من الأحباش مساعدتهم في أداء مهمتهم هذه ـ الدينية في الظاهرة ، السياسية أو قل الاستعمارية في الواقع ، وأتخذ الفرس من النصرانية ـ المخالفة في المذهب لنصرانية الروم ـ وكذا اليهودية ، وسيلتهم لمعارضة نفوذ الروم والأحباش ، وهكذا يبدو واضحا أن الروم ـ وكذا الفرس ـ لم يقصدوا وجه الله من نشر المسيحية أو اليهودية ، وإنما كانت الأغراض السياسية والمطامع الاستعمارية هي الهدف أولا وأخيرا ، ولعل مما يؤيد وجهة النظر هذه ، أن أبرهة الحبشي لم يقتصر على القضاء على ذي نواس واحتلال

__________________

(١) فؤاد حسنين : المرجع السابق ص ٣٠١

(٢) إسرائيل ولفنسون : المرجع السابق ص ٣٦

٣٨٣

اليمن ، وإنما بسط نفوذه على وسط بلاد العرب كذلك ، حيث نقرأ في نص (ريكمانز ٥٠٦) ـ والذي يرجع تاريخه إلى عام ٥٣٥ أو ٥٤٧ م (١) ـ عن حرب أشعلها أبرهة ضد قبائل معد ، بل وعن العلاقات بينه وبين ملوك الحيرة ، أتباع الفرس ، كما سوف نرى فيما بعد.

وهكذا يبدو واضحا أن تعذيب ذي نواس لنصارى نجران لم يكن هو السبب الحقيقي للغزو الحبشي ، ودليلنا على ذلك ـ غير ما قدمنا من أدلة ـ أن المصادر الإغريقية ، وكذا الحبشية نفسها ، إنما تذهب إلى أن الأحباش قد أغاروا على اليمن ، قبل قصة التعذيب هذه بسنين ، وأنهم قد انتصروا على ذي نواس! واضطروه إلى الالتجاء إلى الجبال ، إلا أنه استطاع بعد فترة أن ينجح في لمّ شمل جنده ، وأن يهاجم الأحباش ، وينتصر عليهم ، وأن يغزو نجران ويتمكن من الاستيلاء عليها ، بعد حصار دام سبعة أشهر ، ثم ينتقم من أهلها شر انتقام (٢).

وهكذا اتفقت مصالح الأحباش والرومان في السيطرة على بلاد العرب الجنوبية ، وكانت سياسة ذي نواس التي تربط بين انتشار المسيحية في اليمن ، وبين ازدياد نفوذ الأحباش السياسي في البلاد ، سببا في أن يتخذ من نصارى اليمن موقفا عدائيا ، وكانت هذه هي الفرصة التي وجدها الرومان للقضاء على استقلال اليمن ، ولكن دون التدخل المباشر ، وإنما بتحريض الأحباش على غزوها ، ولعل الامبراطور «جستين» (٥١٨ ـ ٥٢٧ م) قد اتخذ هذه الخطوة ، ربما نتيجة لأطماع الفرس التي إزدادت في شبه الجزيرة العربية ، بحيث أنهم استقروا في ساحل الخليج العربي ،

__________________

(١) A. F. L. Beeston, Notes on the Muraighan Inscriptions, in BSOASK, ٤٥٩١, P. ٩٨٣ وكذاLe Museon ,٦٦ ,٣٥٩١ ,P.٥٧٢ وكذا S. Smith, Events in Arabia in the ٦ th Century A. D. P. ٥٣٤

(٢) J.B.Bury ,op - cit ,٢ ,.P.٣٢٣

٣٨٤

مثل البحرين (١).

وهناك رواية تذهب إلى أن السبب المباشر لغزو الحبشة لليمن ، إنما كان لأن الملك الحميري «دميون Dimion» (دميانوس Dimianos) ، كان قد أمر بقتل التجار الروم الذين هم في بلاده ، وبنهب أموالهم ، وذلك بسبب اضطهاد اليهود وإساءة معاملتهم في بلاد الروم ، مما أدى إلى أن يتجنب تجار الروم الذهاب إلى الحبشة أو اليمن ـ أو حتى المناطق القريبة من حمير ـ ومن هنا رأى البعض أن بعثة «ثيوفيلوس» التبشرية ، إنما كانت للعمل على ضمان حسن نية الأمراء اليمنيين إزاء التجار الروم ، غير أن تلك البعثة قد فشلت في تحقيق أهدافها بسبب نفوذ الفرس في اليمن وقت ذاك ، وقد أثر ذلك في التجارة مع الحبشة تأثيرا سيئا ، وهنا اضطر النجاشي إلى أن يقدم عروضا رفضها الملك الحميري ، مما كان سببا في نشوب حرب بينهما ، وتزعم الرواية أن النجاشي كان حتى تلك اللحظة ما يزال على وثنيته ، ومن ثم فقد عرض عليه أن يعتنق المسيحية ـ إن كتب له النجح على الحميريين ـ وحين انتهت الحرب في صالحه ، اعتنق النصرانية وأرسل إلى قيصر يطلب منه إرسال عدد من رجال الدين ، ليعلموه العقيدة الجديدة ، وقد تمّ له ما أراد (٢).

وأيا ما كان الأمر ، فلقد نجح الأحباش في القضاء على ذي نواس واحتلال اليمن ، ولكنهم على ما يبدو لم يحكموها حكما مباشرا ، وإنما

__________________

(١) البلاذري : فتوح البلدان ص ٧٨ ، عبد المنعم ماجد : المرجع السابق ص ٧٤ ، وكذا I. Kammerer, La Mer Rouge, L\'Abyssinie et L\'Arabie dequis L\'Antiquite, Le Caire, ٩٢٩١

(٢) جواد على ٣ / ٤٦٨ ـ ٤٦٩ ، عبد المجيد عابدين : المرجع السابق ص ٣٩ ، ٤٥ ـ ٤٦ وكذا.

J. B. Bury, op - cit, ٢, P. ٢٢٣ وكذاNoldeke ,Tabari ,P.٨٨١ وكذاZDMG ,VII ,P.٧٥٣ وكذا انظر E, Glaser, Die Abessinier in Arabien und Africa, ٥٩٨١, P. ٦٧١ R. Bell, The Origin of Islam in its Christian environment, London, ٦٢٩١ P. ٣٣ F

٣٨٥

اختاروا واحدا من الأقيال الذين عاونوهم على نجاح مهمتهم الاستعمارية هذه ، وكان هذا الرجل هو «السميفع أشوع» والذي سبق أن أشرنا إلى أنه كان في جانب ذي نواس على غير رغبة منه ، وأنه قد تحصن بعد الهزيمة في حصن ماوية ، ثم هادن السادة الجدد ، ومن ثم فقد عينه الأحباش ملكا على حمير ، على أن يدفع لهم جزية سنوية.

وهناك نص من متحف «استنبول» ، نشره العالم البلجيكي «ج ـ ريكمانز» ، يفهم منه أن السميفع أشوع كان ملكا على سبأ ، وكان يدين بالنصرانية ، بدليل أن النص جاء فيه «باسم رحمنن وبنهو كرشتش غلبن» ، وترجمته «باسم الرحمن وابنه المسيح الغالب» (١) ، ولعل هذا النص يعضد ما ذهب إليه «بركوبيوس» من أن الذي حكم حمير بعد ذي نواس ، إنما هو «Esimiphaeus» (سام يفع أشوع ـ السميفع أشوع) (٢) ، على أنه لم يكن في الواقع إلا تابعا لملك الحبشة ، وأنه ـ كما يفهم من النص المعروف ـ (CIH ,١٢٦) ـ قد بدأ حكمه في عام ٥٢٥ م (٣)

وما أن تمضي ستون ستة ، (أي في عام ٥٣١ م) ، حتى تبدأ البقية الباقية من جنود الحبشة الثورة على «المسيفع أشوع» ، ثم محاصرته في إحدى القلاع ، وتعيين «إبراهام» ـ وهو عبد نصراني كان مملوكا لتاجر

__________________

(١) D.Nielsen ,op - cit ,P.٥٠١ ,Note ,٤ وكذاLe Museon ,٠٥٩١ ,٣ ـ ٤ ,P.٢٧٢ ,٤٦٩١ ,٣ ـ ٤ ,P.P.٥٦١ ـ ٧ وكذا انظرC.ContiRossini ,Storia D\'Etriopia ,I ,P.٠٨١

(٢) جواد علي ٣ / ٤٧٢ وكذاProcopius ,I ,XX ,١ ـ ٢

(٣) G. Hunt, Himyaric Inscriptions of Hisn Ghurab, ٨٤٨١ وكذا ZDMG, ٩٣, ٥٨٨١, P. ٠٣٢ J. R. Wellsted, op - cit, P. ١٢ وكذا انظرVon Maltzen ,Reise Nach ,Sudarabien ,P.٥٢٢ وكذا جواد علي ٣ / ٤٧٥ ـ ٤٧٦

٣٨٦

يوناني في مدينة عدو لي ـ في مكانه ، وقد حاول النجاشي أن يعيد الأمور إلى نضابها ، إلا أن هزيمة قواته التي أرسلها مرة بعد أخرى ، جعلته يتقبل الوضع على علاته ، وما أن تنته حياته في هذه الدنيا حتى يسرع ابراهام إلى عقد صلح مع خليفته ، يدفع له بمقتضاه جزية سنوية ، في مقابل أن يعترف النجاشي الجديد به نائبا للملك في اليمن (١) ، وهكذا يصبح ابراهام ، أو أبرهة ، حاكما على اليمن ، وإن اعترف اسميا بأنه «عزلي ملكن أجعزين» أي «نائب ملك الأجاعزة» على اليمن.

__________________

(١) أنظر H. Von Wissmann and M. Hofner, op - cit, P. P. ٢٩, ٠٢١ J. B. Bury, op - cit, P. ٤٢٣

٣٨٧
٣٨٨

الفصل الحادي عشر

قصة أصحاب الفيل

٣٨٩
٣٩٠

(١) توطيد النفوذ الحبشي في اليمن

نجح الأحباش ـ كما اشرنا من قبل ـ في الاستيلاء على اليمن ، ثم سرعان ما بدأ أبرهة في توطيد سلطانه في هذه الأرض العربية ، وكان أول ما فعله في سبيل ذلك أن قاد ثورة أطاحت «بالسميفع أشوع» ، وأتت به في مكانه على رأس السلطة في اليمن (١) ، ثم دخل في منافسة شديدة مع أرياط على هذه السلطة ، انتهت بعد جولة حاسمة ، لعبت فيها الخيانة دورا كبيرا (٢) ، ومن ثم فقد أصبح سيد الموقف في اليمن العربية ، رغم أنه كان ما يزال يحمل لقب «نائب ملك الأجاعزة في اليمن» ، وليس ادل على ذلك من أن ملك الحبشة نفسه ، إنما كان يطلق عليه في نصي (جلازر ٦١٨) و(CIH ١٤٥) «ملك الجعز» ، بينما يطلق أبرهة على نفسه في نفس النص لقب «ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات وأعرابها في الجبال والتهائم» ، وهو ما يزال بعد ـ من الناحية الاسمية على الأقل ـ «نائب ملك الجعز (٣).

ورغم أن النصوص تحدثنا عن ثورة قام بها «يزيد بن كبشة» ، والذي عينه أبرهة نائبا عنه في قبيلة كندة ، سرعان ما ينضم إليها «السميفع

__________________

(١) H.Von Wissmann and M.Hofner ,op - cit ,P.P.٢٩ ,٠٢١ وكذاB.Bury ,op - cit ,P.٤٢٣

(٢) تاريخ الطبري ٢ / ١٢٧ ـ ١٣٠ ، ابن الأثير ١ / ٤٣١ ـ ٤٣٣ ، وابن كثير ٢ / ١٦٩ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٦٠ ـ ٦١ ، اليعقوبي ١ / ٢٠٠ تاريخ الخميس ص ٢٢٠ ـ ٢٢١ ، المقدسي ٣ / ١٨٥ ، الأخبار الطوال ص ٦٢ ، تفسير القرطبي ٢٠ / ١٩٣ ـ ١٩٤ ، الازرقي ١ / ١٣٦ ـ ١٣٧ تفسير روح المعاني ٣٠ / ٢٣٣ ، جواد علي ٣ / ٤٨١ ـ ٤٨٢. وكذاProcopius ,History of the Wars ,I ,P.١٩١

(٣) جواد علي ٣ / ٤٨٤ وكذا انظر E. Glaser, Zwei Inschriftten uber den Dammbruch von Marib, II, P. ١٢٤

٣٩١

أشوع» و «معد يكرب» ، وبعض الزعماء اليمنيين ، ورغم أن الثورة سرعان ما امتدت إلى حضرموت وحريب وذو جدن وحياب عند صرواح ، فإن أبرهة ـ بمساعدة قبائل يمنية قوية أخرى ـ قد نجح في القضاء على الثورة ، وأن يبطش بقادتها ، وأن يقضي على الثائرين على سلطانه من أبناء القبائل (١).

وهكذا تستقر الأمور لأبرهة في اليمن ، ويبدأ في مد نفوذه على قبائل في وسط الجزيرة العربية ، ونقرأ في نقش (ريكمانز ٥٠٦) (٢) ، عن حرب أشعلها أبرهة ضد قبيلة معد ، وعن العلاقات بين أمراء الحيرة وبين حكام اليمن من الأحباش ، وعن نفوذ هؤلاء الأحباش على قبائل مثل معد ، ولعل هذا يؤيد ما ذهب إليه الكتاب العرب من أن لليمن نفوذ على قبائل معد ، وأن تبابعة اليمن كانوا ينصبون الملوك والحكام على هذه القبائل (٣).

ويحدثنا أبرهة في نصه هذا على هذه الحرب التي شنها على معد عند «حلبان» ، وعن أوامره التي أصدرها إلى رؤساء قبائل كندة وعل وسعد بالقضاء على ثورة بني عامر ، هذا ويشير النص بعد ذلك إلى أن أبرهة قد انتصر على قبيلة معد ، ثم أخذ منها الرهائن ، اتقاء لثورة أخرى قد تقوم بها في مستقبل الأيام ، فضلا عن قبوله بأن يبقى «عمرو بن المنذر» ، الذي عينه أبوه المنذر أميرا على معد ، في مكانه (٤).

__________________

(١) فؤاد حسنين : المرجع السابق ص ٣٠٣ وكذا H. Von Wissmann and M. Hofner, op - cit, P. ١٢١

(٢) Le Museon ,٦٦ ,P.٥٧٢ وكذاS.Smith ,op - cit ,P.٥٣٤ وكذاE.F.L.Beeston ,op - cit ,P.٩٨٣

(٣) جواد علي ٣ / ٣٣٣ ـ ٤٩٤

(٤) جواد علي ٣ / ٤٩٤ ـ ٤٩٦ وكذاLe Museon ,٣٥٩١ ,٣ ـ ٤.PP.٧٧٢ ـ ٩٧٢

٣٩٢

هذا ، وقد ذهب بعض الباحثين مذاهب شتى في تفسيرهم لهذا النص ، فمنهم من رأى أن النص إنما يشير إلى حملة أبرهة على مكة المكرمة في العام المعروف بعام الفيل (١) ، وذهب آخرون إلى أنه إنما يشير إلى غزو قام به أبرهة تمهيدا لحملة كبيرة كان ينوي القيام بها إلى أعالي شبه الجزيرة العربية ، غير أنه توقف عند مكة (٢) ، هذا في الوقت الذي يرفض فيه فريق ثالث أن يربط بين هذه الحملة ، وحملة عام الفيل على مكة ، إذ يرون أن هذه الحملة قد تمت في عام ٥٤٧ م ، بينما كانت الاخرى في عام ٥٦٣ م (٣) ، هذا وهناك فريق رابع يتجه إلى أن النص إنما يتحدث عن معركتين ، الواحدة قادها أبرهة في «حلبان» ، والثانية قامت بها مجموعة قبائل في «تربة» في بلاد بني عامر (٤) ، وربما على مبعدة ثمانين ميلا إلى الجنوب الشرقي من الطائف (٥).

(٢) بناء القليس

استقرت الأمور لأبرهة في اليمن بعد القضاء على الثورات التي هبت ضده ، وبعد أن بسط نفوذه على قبائل معد ، وبعد أن نجح في إيجاد علاقات من نوع ما مع أمراء الحيرة ، وبعد أن انتهى من ترميم سد مأرب ، ومن ثم فقد عمد إلى نشر المسيحية ومحاربة الأديان الأخرى في

__________________

(١) جواد علي ٣ / ٤٩٥ وكذاLe Museon ,٥٦٩١ ,٣ ـ ٤ ,P.٦٢٤ وكذا انظر F. Altheim and R, Stieht, Araber und Sasaniden, Berlin, ٤٥٩١, P. P. ٠٠٢ ـ ٧٠٢ F. Althiem

(٢) Le Museon ,٥٦٩١ ,٣ ـ ٤ ,P.٦٢٤ وكذا انظرW.Caskel ,Entdeckangen in Arabien P.٠٣

(٣) Le Museon ,٣٥٩١ ,٣ ـ ٤ ,P.P.٧٧٢ ـ ٩٧٢

(٤) BSOAS ,٤٥٩١ ,P.١٩٣ وكذاLe Museon ,٥٦٩١ ,٣ ـ ٤ ,P.٦٢٤ وكذا جواد علي ٣ / ٤٩٥ ـ ٤٩٦

(٥) البكري ١ / ٣٠٨

٣٩٣

شبه الجزيرة العربية ، فقوي ساعد مسيحي بلاد العرب الجنوبية ، واتخذ من «نجران» مركزا رئيسيا لحملته الدينية ، فنجد جماعة مسيحية في صحراء اليمامة ، في منتصف الطريق بين اليمن والحيرة ، فضلا عن جماعة أخرى في يثرب ، وعلى امتداد الطريق التجاري إلى فلسطين وسورية (١) ، وتبع ذلك بناء الكنائس في أنحاء مختلفة من اليمن ، لعل أهمها مأرب ونجران وصنعاء ، وفي هذه الأخيرة بنى أبرهة كنيسته المشهورة «القليس» ، بغية أن يصرف الحجيج عن مكة إلى صنعاء ، فسيفيد من ذلك فوائد مادية وأدبية وسياسية ، وبالتالي فقد كان ذلك سببا في حملته المشهورة على مكة.

ويبالغ الأخباريون كثيرا في وصف كنيسة القليس هذه ، حتى أنهم يرون أن أبرهة لما أتمّ بناءها كتب إلى النجاشي يقول «إني قد بنيت لك بصنعاء بيتا لم تبن العرب ولا العجم مثله» ، أو «إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك ، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب (٢)».

ويروي الأخباريون أن القليس إنما بنيت بجوار قصر غمدان ، وبحجارة من قصر بلقيس في مأرب ، وأن أبرهة قد كتب إلى قيصر الروم يطلب منه الرخام والفسيفساء ومهرة الصناع ، وأنه قد أستعمل في بنائها طبقات من حجر ذي ألوان مختلفة ، لها بريق وأنه نقشها بالذهب والفضة والفسيفساء وألوان الأصباغ وصنوف الجواهر ، وطعموا بابها بالذهب واللؤلؤ ، ورشوا حوائطها بالمسك ، وأقاموا فيها صلبانا منقوشة بالذهب والفضة والفسيفساء ، وفيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من البلق

__________________

(١) فؤاد حسنين : المرجع السابق ص ٣٠٤

(٢) الازرقي ١ / ١٣٨ ـ ١٣٩ ، تفسير الطبري ٣٠ / ٣٠٠ ، تفسير القرطبي ٢٠ / ١٨٧ ، تفسير الألوسي ٣٠ / ٢٢٣ ، ابن كثير ١ / ١٧٠ ، ابن هشام ١ / ٤٣ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٥٤٨

٣٩٤

مربعة ، عشر أذرع في عشر ، تغشي عين من ينظر إليها من بطن القبة ، تؤدي ضوء الشمس والقمر إلى داخل القبة وكان تحت القبة منبر من شجر اللبخ ـ وهو عندهم الأبنوس ـ مفصد بالعاج الأبيض ، ودرج المنبر من خشب الساج ملبسه ذهبا وفضة ، وكان في القبة سلاسل من فضة (١).

وفي الواقع فإنه رغم ما في وصف الأخبارين للقليس من مبالغات ، فإن القصر كان حقا ، عصر بناء الكنائس الضخمة التي أنشئت في العالم المسيحي ، وأهمها كنيسة «أيا صوفيا» في القسطنطينية ، وكنيسة «المهد» في بيت لحم ، اللتان تعودان إلى عهد الأمبراطور «جستنيان» (٥٢٧ ـ ٥٦٥ م) ، والتي تأثرت جميعها بالفن البيزنطي ، وإن جمعت كنيسة «القليس» بين الفن العربي القديم ، والفن البيزنطي النصراني في بناء الكنائس.

هذا وقد لجأ أبرهة في بناء القليس إلى السخرة ، فضلا عن القسوة الشديدة ، التي كانت تصل إلى حد قطع يد العامل ، إن تهاون أو تكاسل في عمله ، ويروي «ياقوت الحموي» أن أبرهة قد استذل أهل اليمن في بناء هذه الكنيسة ، وجشمهم فيها أنواعا مختلفة من السخرة ، وكان ينقل إلى كنيسته هذه آلات البناء كالرخام أو الحجارة المنقوشة بالذهب ، من قصر بلقيس صاحبة سليمان عليه‌السلام ، وكان من موضع هذه الكنيسة على فراسخ ، وكان فيه بقايا من آثار ملكهم ، فاستعان بذلك على ما أراده من بناء هذه الكنيسة وبهجتها وبهائها (٢).

__________________

(١) ابن الأثير ١ / ٤٤٢ ، الازرقي ١ / ١٣٨ ـ ١٣٩ ، تاريخ الطبري ٢ / ١٣٠ ـ ١٣١ ، النويري ١ / ١٨٢ ـ ١٨٣ ، على الجارم أديان العرب ص ٣٥ ، ابن سعد ١ / ٥٥ وكذاH.Scott ,in the High Yemen London ,٧٤٩١ ,P.٢١٢

(٢) ياقوت ٤ / ٣٩٤ ـ ٣٩٦ ، روح المعاني ٣٠ / ٢٣٣

٣٩٥

(٣) حملة الفيل في الروايات العربية

كان احتلال أثيوبيا لليمن مرحلة من مراحل الصراع بين الفرس والروم ، والذي كان يحتدم حينا بعد حين ، ثم كانت حملة أبرهة على الحجاز مرحلة أخرى من هذا الصراع ، أراد أبرهة أن يشارك بها ـ إلى جانب الروم ـ في الصراع القائم وقت ذاك بينهم وبين الفرس ، وليحقق بها ، في الوقت نفسه ، حلم الاسكندر الأكبر (٣٥٦ ـ ٣٢٣ ق. م.) (١) وأغسطس (٣١ ق. م. ـ ١٤ م) (٢) وغيرهما من أباطرة اليونان والرومان ، ممن حاولوا السيطرة على بلاد العرب ، ذلك الجزء الخطير من العالم ، وليصل دولته بدولة حلفائه الروم ، الأمر الذي لم يكف الروم عن التفكير فيه أبدا ، حتى أنهم حاولوا ـ بعد فشل حملة أبرهة على مكة ـ تنصيب «عثمان بن الحويرث» ملكا على المدينة المقدسة ، من قبل قيصر (٣).

على ان الغريب من الأمر ، أن المؤرخين الإسلاميين ، إنما يحاولون تفسير الأمور ببساطة تدعو إلى العجب ، ومن ثم فقد ذهب فريق منهم

__________________

(١) انظر عن أحلام الاسكندر في بلاد العرب : جواد علي ٢ / ٥ ـ ١٢ ، وتارن : الاسكندر الأكبر ص ١٨٥ ـ ١٨٦ ، فضلو حوراني : المرجع السابق ص ٥٥ وكذا) W.W.Tarn in JEA ,٥١ ,٩٢٩١ ,P.٣١ وكذاA Wilson ,The Persian Gulf ,P.P.٠٤ ,٣٤

(٢) عن المطامع الرومانية في بلاد العرب : انظر : جواد علي ٢ / ٤٣ ـ ٤ ، وكذا De Lacy O\'Leary, Arabio before Muhammad, P. P. ٤٧ ـ ٨٧ Pliny, II, P. P. ٥١٤, ٦, ١٠١ وكذاStrabo ,XVI ,IV ,٣٢ ـ ٤٢ وكذا انظر H. Von Wissmann, and M. Hofner, op - cit, P. P. ١٣ ـ ٤٣ وكذاJEA ,٥١ ,P.٧١ وكذاJ.Pirienne ,op - cit ,P.P.٣٩ ـ ٤٢١ وكذاEI ,٣ ,P.١٩٨ وكذاERE ,٩ ,P.١٢١ وكذاEdward Gibban ,op - cit ,P.٤١٢ وكذاJ.B.Philiby ,op - cit ,P.P.٢٣ ,١٠١

(٣) ابن هشام ١ / ٢٢٤ ، ابن حزم : جمهرة أنساب العرب ص ١٩٠ ، الروض الانف ١ / ١٤٦ ، الأغاني ٣ / ١١٢ ، حياة محمد ص ١٢٧ ـ ١٢٨ ، جلس العقاد : المرجع السابق ص ١١٤ ـ ١١٥ ، السهيلي ١ / ١٤٦ ، احمد إبراهيم الشريف : المرجع السابق ص ١٦٢ ـ ١٦٣ ، وكذاW.M.Watt ,Muhammad at Mecca ,٣٥٩١ ,P.٦١

٣٩٦

إلى أن رجلا قد أتى «القليس» ، حين علم أن أبرهة قد عقد العزم على أن يصرف اليها حج العرب ، فتغوط فيها ، ثم لحق بأهله من «فقيم» ، وأن أبرهة سرعان ما علم بالخبر ، ومن ثم فقد أقسم ليسيرن إلى البيت الذي يحج إليه العرب بمكة فيهدمه ، ثم بعث رجلا كان عنده إلى «بني كنانة» يدعوهم إلى الحج إلى القليس ، غير أن القوم قد رفضوا ، ثم قتلوا رسول أبرهة كذلك ، مما زاد من غضب الطاغية الحبشي وحنقه ، ومن ثم فقد أمر بالجيش فتجهز وسار على رأسه إلى مكة المكرمة ، يبغي هدم البيت الحرام (١).

على أن هناك رواية أخرى ـ صاحبها السيوطي ـ تذهب إلى أن اكسوم ـ ابن ابنة أبرهة ـ خرج حاجا إلى البيت الحرام ، فلما انصرف من مكة ، نزل في كنيسة نجران ، فعدا عليها ناس من مكة ، فأخذوا ما فيها من حلي ، وكذا قناع اكسوم ، ومن ثم فقد غضب أبرهة ، وأرسل إليهم جيشا من عشرين ألفا من خولان والاشعريين ، حتى إذا ما كان على مقربة من الطائف قابله زعماؤها ، وصرفوه عن مدينتهم ، ودلوه على الطريق إلى مكة (٢).

وهناك رواية ثالث نسبها القرطبي الى مقاتل بن سليمان وإلى ابن الكلبي ـ

__________________

(١) ابن الأثير ١ / ٤٤٢ ، تاريخ الطبري ٢ / ١٣٠ ـ ١٣١ ، تفسير الطبري ٣٠ / ٣٠٠ ، ابن كثير ٢ / ١٧٠ ـ ١٧١ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٥٤٩ ، تفسير النيسابوري ٣٠ / ١٦٣ ، تفسير البيضاوي ٢ / ٥٧٦ ، الكشاف ٣ / ٢٨٨ ، روح المعاني ٣٠ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، الأزرقي ١ / ١٤٠ ـ ١٤١ ، تفسير الجلالين (نسخة على هامش البيضاوي ٢ / ٥٧٦) ، في ظلال القرآن ١ / ٦٦٤ ـ ٦٦٥ ، تفسير القرطبي ص ٧٢٧٧ ـ ٧٢٧٨ (طبعة الشعب) ، ابن هشام ١ / ٤٣ ـ ٤٦ ، الطبقات الكبرى ١ / ٥٥ ، ياقوت ٤ / ٣٩٥ ، أبو بكر احمد بن الحسين البيهقي : دلائل النبوة ، القاهرة ١٩٧٠ ، ١ / ٥٦ ـ ٥٧

(٢) السيوطي : الدرر المنثور في التفسير بالمأثور ٦ / ٣٩٤ ، الاصبهاني : دلائل النبوة ص ١٠٠ ، تفسير الكشاف للزمخشري ٣ / ٢٨٨.

٣٩٧

خلاصتها أن فتية من قريش خرجوا تجارا إلى الحبشة ، وهناك وعلى ساحل البحر الأحمر ، وبجوار بيعة للنصارى ، أوقدوا نارا لطعامهم ، ثم تركوها بعد حين ، إلا ان ريحا عاصفة هبت على النار فأشعلتها ، وأحرقت البيعة فغضب النجاشي لذلك أشد الغضب ، واتفق أن أتاه أبرهة ـ ومعه حجر بن شرحبيل وأبو يكسوم الكنديين ـ وضمنوا له إحراق الكعبة ، ومن ثم فقد كانت الحملة إلى مكة (١).

وتذهب رواية رابعة إلى أن أبرهة قد توّج «محمد بن خزاعي بن خرابة الذكواني» على «مضر» ، وأمره أن يسير في الناس يدعوهم إلى حج القليس ، فذهب محمد هذا حتى إذا ما نزل ببعض أرض بني كنانة ـ وكان قد بلغ أهل تهامه أمره ـ بعثوا له برجل من هذيل ، يقال له عروة بن حياض ، فرماه بسهم وقتله ، فهرب أخوه «قيس» الذي كان بصحبته إلى أبرهة فأعلمه الخبر ، فحلف أبرهة ليغزون بني كنانة وليهدمن البيت (٢).

هذه هي الأسباب التي رأى المؤرخون المسلمون ، وكذا المفسرون ، إنها كانت من وراء حملة أبرهة على البيت الحرام (٣) ، ولست أظن أن واحدا منها بكاف وحده لتبرير هذه الحملة التي أراد أصحابها القضاء على أقدس مقدسات العرب ، وإن كانت الرواية الرابعة ، تحمل ـ فيما أظن ـ بعضا من صواب ، فقصة تدنيس القليس على يد رجل من النسأة ، ـ وهم الذين كانوا يؤخرون المحرم إلى صفر لشن الغارات وطلب الثارات ـ قد

__________________

(١) تفسير القرطبي ص ٧٢٨٢ ـ ٧٢٨٣ (طبعة الشعب) ، تفسير الطبري ٣٠ / ٣٠٠ ، أعلام النبوة ص ١٤٩ ، قارن : تفسير ابن كثير ٨ / ٥٠٤ (طبعة الشعب)

(٢) تاريخ الطبري ٢ / ١٣١ ، تفسير الطبري ٣٠ / ٣٠٠

(٣) تاريخ الطبري ٢ / ١٣٠ ـ ١٣٩ ، تاريخ الخميس ص ٢١٢ ـ ٢١٧ ، نهاية الأرب ١ / ٢٥١ ـ ٢٦٤ ، سيد قطب : في ظلال القرآن ، بيروت ١٩٦٧ ، الجزء الثامن ص ٦٦٤ ـ ٦٦٥ ، تفسير القرطبي ص ٧٢٧٧ ـ ٧٢٩٠ (طبعة الشعب) ، تفسير ابن كثير ٨ / ٥٠٣ ـ ٥١١ (طبعة الشعب)

٣٩٨

تكون حقيقة وقعت ، وقد تكون أسطورة وضعت ، فإنه لا يعلم الحقيقة إلا الله ، ومع ذلك ، فلو صدقنا جدلا أنها قد حدثت فعلا ، فهي إنما تمثل احتجاج رجل ـ أو جماعة من العرب ـ على سياسة أبرهة نحو الكعبة ، ورغبته في صرف حاج العرب عنها ، ولكنها لن تكون سببا كافيا لقيام حملة تضم آلافا مؤلفة من جنود الحبشة ، فضلا عن الذين اشتركوا فيها من قبائل اليمن ، وبقيادة أبرهة نفسه. وهو الذي يملك الكثير من الوسائل الأخرى لتأديب هذا الرجل ، أو تلك الجماعة ، على تدنيسهم لكنيسته.

وأما رواية السيوطي ، فظاهرها المنطق ، وباطنها كثير من الخيال ، فأكسوم بن الصباح ـ حفيد أبرهة ـ رجل نصراني ، وما كانت النصارى تحج إلى مكة ، وما كان حفيد أبرهة بالذات هو الذي يحج إلى كعبة قريش ، لأنها كانت محجة الوثنيين وقت ذاك ، ولأن جده أبرهة هو الذي كان يعمل جاهدا على صرف العرب عنها وتحويلهم إلى القليس ، وليس من المنطق ، فضلا عن حقائق التاريخ ، إن يكون أول الخارجين على سياسة أبرهة ، حفيده يكسوم هذا ، وإلا لما غضب أبرهة من أجل سرقة قناعة ، فضلا عن حلى كنيسة نجران ، ثم إن السيوطي إنما يخالف الإجماع فيما ذهب اليه من أن الذي كان على رأس الجيش ، إنما هو «شهر بن معقود» وليس أبرهة نفسه ، كما انه يسبغ على قائد الحملة لقب «ملك» ، وقد كان ذلك لقب أبرهة ، ولم يكن «شهر» هذا ممن يحملون هذا اللقب الرفيع (١).

وأما رواية القرطبي ، فالجديد فيها أن سبب الحملة ، إنما كان أحراق بيعة ، وليس تدنيس القليس ، وأنها في الحبشة ، وليست في اليمن ، وأن الذي أمر بها إنما كان النجاشي ، وليس أبرهة ، الذي لم يتجاوز دوره فيها

__________________

(١) جواد علي ٣ / ٥١١

٣٩٩

دور المنفذ لما ارتآه مليكه ، على أن المعروف تاريخيا أن أبرهة إنما نظم هذه الحملة من حيث هو حاكم مستقل ، فضلا عن أن السبب الذي قدمه القرطبي ، لا أظنه بكاف لأن يدفع النجاشي بقوات الحبشة إلى مكة ، ثم ما هي الصلة بين حرق بيعة في الحبشة بدون قصد ، وبين حملة أبرهة على مكة ، حتى لو افترضنا أن رواية القرطبي صحيحة ، ثم أليس في الإمكان أن يعاقب الجناة هناك في الحبشة ، بل أما كان في الإمكان منع تجار قريش من النزول بأرض النجاشي والاتجار فيها ، لكن أن يكون العقاب هو هدم الكعبة ، فلا أظن أن وراء ذلك أسبابا أخرى ، فما كانت سياسة الدول تدار بهذه الطريقة ، ولن تكون.

وأما الرواية التي ذهبت إلى أن الحملة إنما كانت لأن بني كنانة قتلوا «محمد بن خزاعي» الذي اختاره أبرهة واليا على مضر من قبله ، كما فعل نفس الشيء من قبل مع معد ، فربما كانت أقرب من غيرها إلى الصواب ، لأن قتل محمد هذا ، يتعارض تماما وما يريده أبرهة من فرض نفوذه على مضر ، فالهدف إذن لم يكن هدم الكعبة لذاتها ، بقدر ما كان رمزا لفرض النفوذ الحبشي على الحجاز ، بعد أن تمت السيطرة على اليمن ، وفرض نفوذ أبرهة على معد.

أضف إلى ذلك أن هناك بعض الملاحظات على هذه الروايات بصفة عامة ، منها ذلك الخلاف بين الروايات العربية في أسباب الحملة ، ومنها قصة أبي رغال ، والتي تكررت ـ كما أشرنا من قبل ـ في قصة ثمود قوم صالح عليه‌السلام ، ومنها ذلك الحديث الذي همس به «نفيل بن حبيب الخثعمي» في أذن الفيل ، ومنها ذلك الحديث الذي دار بين مسعود بن معتب سيد ثقيف وبين قائد الحملة ، والذي يفهم منه أن أبرهة ما كان يعرف طريقه إلى مكة ، فهل يعدّ الرجل ذلك الجيش الجرار ، دون أن

٤٠٠