دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
المطبعة: دار النهضة العربية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٠

أخواتهم أو بناتهم ، ومن ثم فالقصة كانت ـ فيما يزعم هذا الفريق ـ مع المجوس ، وليست مع النصارى ، وأخيرا فإن فريقا رابعا ذهب إلى أن القصة إنما كانت مع الأحباش ، وأن المجزرة إنما كانت بسبب إيمان فريق من الناس بنبي هناك.

ومنها (ثانيا) ذلك الخلاف في مكان الأخدود ، أهو في اليمن أم في الشام أم في فارس أم في الحبشة ، بل إن فريقا خامسا زعم أن أصحاب الأخدود إنما هم «عمرو بن هند» (١) المشهور بمحرق ومن معه ، حين حرقوا مائة من بني تميم (٢)

ومنها (ثالثا) أنه من المعروف تاريخيا أن ذا نواس ، إنما قتل بيد الأحباش على رواية ، وأنه قد ركب فرسه واعترض البحر فاقتحمه ، فكان آخر العهد به ، على رواية أخرى ، غير ان رواية ثالثة إنما تذهب إلى أن نار الأخدود قد ارتفعت فصارت فوق الملك وأصحابه أربعين ذراعا فأحرقتهم (٣).

ومنها (رابعا) تلك الحيلة الساذجة التي يزعم الأخباريون أن ذا نواس قد لجأ إليها للقضاء على الأحباش ، وذلك بإعطائهم مفاتيح خزائن

__________________

(١) هو «عمرو بن المنذر» كان مليكا على الحيرة في الفترة (٥٥٤ ـ ٥٦٩ م) ، وأما «هند» هذه ، فهي امه بنت «عمرو بن حجر آكل المرار» ، عمه امرئ القيس الشاعر المشهور ، وكان «عمرو بن هند» يسمى «مضرط الحجارة» كناية عن قوة ملكه وشدة بأسه ، كما كان يسمى «المحرق» لأنه حرق «بني تميم» ، أو لأنه حرق نخل اليمامة ، وكان جبارا عاتيا ، لا يبتسم ولا يضحك ، ومن ثم فقد كانت العرب تهابه وتخشاه (حمزة الأصفهاني : تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء ص ٧٢ ، ابن قتيبة : المعارف ص ٢٨٣ ، المقدسي : البدء والتأريخ ٣ / ٢٠٣)

(٢) تفسير القرطبي ١٩ / ٢٩٠ ، تفسير الطبري ٣٠ / ١٣١ ـ ١٣٣ ، تفسير روح المعاني ٣٠ / ٨٨ ـ ٩٠

(٣) تفسير القرطبي ١٩ / ٢٨٩

٣٦١

اليمن محملة على جمال عدة ، ثم أمر نوابه في الأقاليم بقتل رسل القائد الحبشي ثم كيف قبل أرياط هذه الحيلة الساذجة ، وهل تحتاج خزائن اليمن إلى مفاتيح تحمل على جمال عدة.

ومنها (خامسا) أن أصحابنا الأخباريين لم يبينوا لنا لما ذا أراد النجاشي من قائدة أن يقتل له ثلث رجال اليمن ، وأن يخرب ثلث بلادهم ، وأن يسبي ثلث النساء والأطفال ، ثم ما الهدف من هذا النظام الثلاثي في العقوبة ، وكيف يمكن تحديد هذا الثلث ، وبخاصة في الرجال والنساء والأطفال ، وأخيرا ما هو المصدر الذي اعتمدوا عليه في هذه الرواية ، بل وفي غيرها من الروايات.

ومنها (سادسا) من الذي نجا من مذبحة ذي نواس؟ أهو «دوس ذو ثعلبان» أم «جبار بن فيض» ، ثم إلى أين ذهب هذا الذي نجا ، ألملك الحبشة ، أم لقيصر الروم؟ ومنها (سابعا) كيف حدد أصحاب هذه الروايات عدد القتلى في مذبحة نجران بعشرين ألفا ، أهو مجرد رقم ؛ أم أن لهم مصدرا اعتمدوا عليه في تحديد هذا الرقم؟ إن الوثائق لم تتحدث عن عدد القتلى ، ومن ثم فأكبر الظن أنه مجرد رقم ، أريد به المبالغة في تصوير المذبحة الرهيبة ، ذكره بعض الأخباريين ، ثم تابعه الآخرون في ذكره ، بل إن بعضهم ذهب إلى أنهم اثنا عشر ألفا ، بينما ذهب الخيال بفريق ثالث حدا جعله يقرر أن من قتلهم ذو نواس ، إنما كانوا سبعين ألفا (١) ، وعلى أية حال ، فالدكتور إسرائيل ولفنسون إنما يعترض على هذه الأرقام ، ويرى أن عدد القتلى مبالغ فيه ، وأن نجران لم تكن سوى بلدة صغيرة ، لا يزيد عدد سكانها عن بضع مئات ، فضلا عن أن ذا نواس لم يقتل كل أهالي نجران ، بدليل أنهم ذكروا في أخبار صدر الإسلام (٢) ،

__________________

(١) تفسير القرطبي ١٩ / ٢٩٢ ، تفسير الفخر الرازي ٣١ / ١١٨ ، تفسير الألوسي ٣٠ / ٨٩

(٢) إسرائيل ولفنسون : المرجع السابق ص ٤٥ ، ابن هشام ٢ / ١٦٥

٣٦٢

أضف إلى ذلك أن ترنيمة يوحنا ، إنما تحدد عدد القتلى بما يقارب المائتين ، وهو رقم مقبول ، وربما قد يدل على صحة هذه الترنيمة ، وعلى معاصرتها للحادث الخطير (١).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن القرآن الكريم لم يتحدث عن هذا الذي خدّ الأخدود ، ولا على عدد القتلى ، والأمر كذلك بالنسبة إلى مكان هذا الحادث ، ومن ثم فقد كان الخلاف البين بين الباحثين في كل هذه الأمور ، فذهب بعضهم إلى أن الحادث إنما كان بنجران في الفترة ما بين المسيح ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما ، وذهب فريق آخر إلى أنه إنما كان باليمن (دون تحديد مكان معين) ، وقبل مبعث المصطفى ، (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، بأربعين عاما ، بينما ذهب فريق ثالث إلى أن هناك أخاديد ، وليس أخدودا واحدا ، فهناك أخدود في اليمن على أيام «تبع» وآخر في القسطنطينية على أيام قسطنطين ، حين صرف الناس من أتباع عيسى قبلتهم عن دين المسيح والتوحيد ، واتخذ أتونا وألقى فيه النصارى الذين كانوا على دين المسيح والتوحيد ، ثم هناك أخدود ثالث في العراق على أيام بخت نصر (نبوخذ نصر ٦٠٥ ـ ٥٦٢ ق. م.) ، حين صنع صنما وأمر الناس بالسجود له ، ففعلوا ، إلا دانيال وعزريا ومشايل ، فألقي بهم في أتون من نار ، إلا أن الله سبحانه وتعالى جعلها عليهم بردا وسلاما ، ثم ألقى بأعدائهم فيه فاكلتهم النار (٢).

ولست أدري من أين جاء أصحابنا الأخباريون برواياتهم هذه ، وتاريخ المسيحية لا يتحدث عن اضطهاد للنصارى على أيام الامبراطور قسطنطين (٣٠٦ ـ ٣٣٧ م) ، بل إن العكس هو الصحيح تماما ،

__________________

(١) R.Bell ,op - cit ,P.٨٣

(٢) ابن كثير : البداية والنهاية ٢ / ١٣١ ـ ١٣٢ ، تفسير القرطبي ١٩ / ٢٩٠

٣٦٣

فالتاريخ يحدثنا أن الرجل قد اعترف بالنصرانية في عام ٣١١ م ، كواحدة من ديانات امبراطوريته ، بل إن هناك بعض الروايات التي تذهب إلى أن الرجل قد تنصر في عام ٣١٢ م ، وإن ذهبت روايات أخرى إلى أنه بقي وثنيا طوال حياته ، ولم يتقبل النصرانية إلا على فراش الموت ، هذا فضلا عن أن أمه «هيلانة» هي التي بنت كنيسة القيامة في بيت المقدس (١).

أما رواية خدّ العراق ، فهي اسرائيلية صرفة ، وليس في تاريخ البابليين ـ فضلا عن اليهود أنفسهم ـ ما يشير إلى هذا الحادث ، وإن كانت التوراة (٢) قد أشارت إلى حادث يشبه هذا ، إلا أنه لم يكن مع «دانيال» الذي كان مقربا الى البلاط البابلي ، وإنما كان مع ثلاثة من اليهود يعملون سقاة في القصر الملكي ، ويبدو أن الرواية قد نقلت إلى المؤرخين المسلمين من اليهود محرفة ، فضلا عن أن أكبر الظن عندي أن قصة التوراة نفسها ، إنما هي قصة الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلا أن طغمة باغية من يهود قد عبثت بالقصة ، فحولتها إلى هؤلاء الذين كانوا يشرفون على شراب الملك البابلي ، وما أكثر الحقائق الدينية والتاريخية التي حرفها اليهود في توراتهم.

أضف إلى ذلك ، أن القرآن الكريم لم يتحدث عن عدد الضحايا في مذبحة الأخدود هذه ، إلا أن المفسرين وأهل الأخبار أخذوا يتنافسون في تقديم أرقام مختلفة عن ضحايا الحادث الأليم ، دون أن يذكروا لنا

__________________

(١) عمر كمال توفيق : تاريخ الامبراطورية البيزنطية ، الاسكندرية ١٩٦٧ ص ٢٩ ، وانظر كذلك : إدوارد جيبون : اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها ، ترجمة محمد علي أبو ريدة ، القاهرة ١٩٦٩ ، الجزء الأول ص ٥٦٣ وما بعدها ، فيليب حتى : تاريخ سورية ولبنان وفلسطين ـ الجزء الأول ـ ص ٣٨٧ ـ ٣٨٨ ، ثم قارن : Sozomenus, Historia Eccelesiastica, BK. I, ch, ٤ Eusebius, Bk. X, Ch, S

(٢) دانيال : ١ ـ ٣ : ٣٠

٣٦٤

المصادر التي اعتمدوا عليها ، ومن ثم رأينا ارقاما تتفاوت فيما بين ٧٠ ، ٨٠ ، ٨٧ ، ١٢ ، ألف ، ٢٠ ألف ، ٧٠ ألف ، والفرق جدّ شاسع بين أقل هذه الأرقام وأكبرها ، ومن ثم فإننا لا نستطيع أن نقول أي الأرقام هو الصحيح ، أو حتى أيها هو الأقرب إلى الصحيح.

وأخيرا فإن الذي يفهم من النص القرآني الكريم أن الذي قتل أصحاب الأخدود ، إنما كان مشركا (١) ، بدليل قوله تعالى «وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» ، ومن ثم فإن الذي دعا نصارى نجران ، إنما دعاهم إلى الوثنية ، لا إلى اليهودية ، لأن اليهودية والنصرانية ديانتان سماويتان ، لا مجال لتفضيل إحداها على الأخرى ، وإذا بدا أن اليهود كانوا أشد عداء للرسول ، (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، وللإسلام ، وأن النصارى أقرب مودة ، طبقا لقوله تعالى «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ، وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» (٢) ، فذلك يقتضي أن يفضل النصارى على اليهود ، ولا يقتضي تفضيل اليهودية على النصرانية ، أو النصرانية على اليهودية (٣) ، ومن ثم فإن ذا نواس ، إما أن يكون قد دعا نصارى نجران إلى الوثنية ، وبالتالي فهو لم يكن يهوديا ، وإنما كان وثنيا ، أو أنه لا صلة له من قريب أو بعيد ، بقصة الأخدود التي جاء ذكرها في القرآن الكريم.

بقي أن نشير إلى أن الروايات العربية إنما تذهب إلى أن ذا نواس ، إنما

__________________

(١) تفسير ابن كثير ٤ / ٥٤٨ ، تفسير القرطبي ٣٠ / ١٣٤ ، ياقوت ٥ / ٢٦٨

(٢) سورة المائدة : آية ٨٢ وانظر : تفسير الجواهر ٣ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣ ، تفسير الطبرسي ٦ / ١٧١ ـ ١٧٦ ، تفسير الطبري ١٠ / ٤٩٨ ـ ٥٠٦ ، تفسير الكشاف ١ / ٦٦٨ ـ ٦٦٩ ، تفسير النسفي ٢ / ٣ ـ ٤ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٦٢٣ ، في ظلال القرآن ٧ / ٩٥٩ ـ ٩٦٦

(٣) عمر فروخ : المرجع السابق ص ٧٤ ، وانظر كذلك : ياقوت ٥ / ٢٦٨

٣٦٥

أنهى حياته بنفسه ، وذلك حين ركب فرسه فوجهه نحو البحر ، ثم ضربه فدخل فيه فخاض به ضحضاح البحر ، حتى أفضى به إلى غمرة ، فاقحمه فيه ، فكان آخر العهد به (١) ، إلا أن الروايات الحبشية والإغريقية ، إنما تذهب إلى أن الرجل قد وقع أسيرا في أيدي أعدائه فقتلوه ، بل إن هناك رواية غريبة تنسب إلى «علقمة ذي جدن» شعرا جاء فيه :

[أو ما سمعت بقتل حمير يوسفا : أكل الثعالب لحمه فلم يقتبر] ، والرواية قد يفهم منها أن الرجل إنما قتل بيد الحميريين أنفسهم ، وإن جثته لم تقبر ، وإنما ألقيت إلى الحيوانات المفترسة حيث أكلتها ، وطبقا لهذه الرواية ، فإن «فون كريمر» إنما يذهب إلى أن ذا نواس لم يغرق في البحر ، وإنما قتل قتلا ، كما جاء في الروايات العربية ، وأخيرا ، فإن هناك رواية تذهب إلى أنه قد مات حريقا بنيران الأخدود الذي أوقده (٢).

وعلى أي حال ، فإن «جون فلبي» قد زار نجران ، وعثر هناك على خرائب أثرية قديمة في بلدة «رجمت» ، ذهب إلى أنها هي آثار الأخدود الذي احتفره ذو نواس في هذه القصة موضوع الدراسة (٣).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٢ / ١٢٥ ، ١٢٧ ، المقدسي ٣ / ١٨٥

(٢) تفسير القرطبي ١٩ / ٢٨٩ ، عبد المجيد عابدين : بين الحبشة واليمن ص ٥١ ، جواد علي ٣ / ٤٧١ ـ ٤٧٢ ، وكذاProcopius ,I ,XX ,I وكذاZDMG ,٥٣ ,٨٨١ ,P.٦١ وكذاMalala ,P.٣٣٤ وكذا انظر Von Kremer, Sudarabische Sage, ٧٢١ P. P. ٢٩, ٧٢١ وكذاREP.EPIGR ,V ,I ,P.٥ ثم قارن : سعد زغلول : من تاريخ العرب قبل الاسلام ص ١٩٧ ـ ١٩٨ ، حيث يرى أنه ربما قتل دون أن يعرف أمره في وسط اضطراب المعركة التي دارت على مقربة من الشاطئ ربما من موضع نزول الحملة من مراكبها.

(٣) عبد العزيز سالم : المرجع السابق ص ١٨٦ وكذاJ.B.iPhilby ,Arabian Highlands ,P.٧٣٢ F

٣٦٦

ومن الغريب أن الكتابات العربية الجنوبية لم تحدثنا بشيء عما ورد في كتابات المؤرخين الإسلاميين ، إلا أن نقش «حصن غراب» ، والمعروف (REP.EPIGR ,٣٣٦٢) ، ويرجع تاريخه إلى عام ٥٢٥ م ، إنما يشير إلى أن الأحباش قد استولوا على اليمن في عهد ملك لم يذكر النقش اسمه ، وأنهم قد قتلوا هذا الملك وأقياله (١) ، على أن «هوجو فنكلر» ، إنما يذهب إلى أن هذا الملك إنما هو ذو نواس ، وأنه كان البادئ بالحرب ، وأن أصحاب النص (السميفع أشوع وأولاده) ، كانوا من أنصار ذي نواس على غير رغبة منهم ، وأن المعارك التي دارت بين الفريقين قد انتهت بانتصار الأحباش ، ومن ثم فإن «السميفع أشوع» وأولاده ، قد اضطروا إلى الالتجاء إلى حصن ماوية حتى انتهت العاصفة ، وحينئذ فإنهم قد عقدوا صلحا مع السادة الجدد (٢).

(٢) القصة في المصادر المسيحية واليونانية

اهتمت المصادر المسيحية المعاصرة بغزو الحبشة لليمن ، ومن هؤلاء «قزما» ، الذي كان في الحبشة إبان عمل الاستعدادات لغزو اليمن ، وقد سجل لنا قصة الغزو ، ربما بعد ٢٥ سنة من وقوعها ، وقد رأى ان الحملة إنما تمت في أوائل أيام القيصر «جستين» (٥١٨ ـ ٥٢٧ م) (٣) ،

__________________

(١) J.H.Mordtmann ,in ZDMG ,XLIV ,٠٩٨١ P.٦٧١ وكذاREP.EPIGR ,V ,i ,p.s وكذا انظر E. Glaser, Die Abessinier in Arabien und Africa, ٥٩٨١ P. P. ١٣١ ـ ٢٣١

(٢) جواد علي ٣ / ٤٥٩ ـ ٤١٠ انظر : H. Winckler, Zur Alten Geschichte Yemens und Abessiniens, P. ٧٢٣

(٣) جواد علي ٣ / ٤٦١ ، مجلة المجمع العلمي العرب بدمشق ، المجلد ٢٣ ، الجزء الأول ، ١٩٤٨ ص ١٨ وما بعدها ، وكذا وكذاZDMG ,١٨٨١ ,P.S. وكذاJ.B.Bury ,History of the Roman Empire ,II ,P.٣٢٣ وكذاCosmas ,P.١٤١

٣٦٧

بل إن «ثيوفانس» و «سدرينوس» قد حدداها بالعام الخامس من حكم هذا القيصر (أي عام ٥٢٣ م) ، وأن سبب قيام الحملة إنما كان تعذيب ذي نواس ـ الذي قتل في المعارك ـ لنصارى نجران ، على أنهما يتحدثان كذلك عن غزو آخر قام به الملك الحبشي «أداد» ضد «دمياتوس» ، وأن هذا الغزو الأخير قد حدث في العام الخامس عشر من عهد القيصر «جستنيان» ٥٢٧ ـ ٥٦٥ م) ، أي في عام ٥٤٢ م (١).

وهناك رواية يونانية إلى أن «ذا نواس Dunaas» ملك حمير ، قد عذب نصارى نجران في العام الخامس من عهد الأمبراطور «جستين» (أي عام ٥٢٣ م) ، ومن ثم فقد قام نجاشي الحبشة بغزو حمير ، ففر ذو نواس إلى الجبال ، حتى إذا ما واتته الفرصة انقض على الجيش الحبشي ، فأباده واحتل نجران ، مما اضطر الأحباش إلى القيام بحملة ثانية ، انتصرت على الملك الحميري ، وعينت مكانه «أبرهة Abrames» (٢).

ولعل من أهم الوثائق المسيحية التي تتصل بتعذيب نصارى نجران ، إنما هي «رسالة مار شمعون» أسقف بيت رشام إلى رئيس أساقفة «دير جبلة» ، يصف فيها ما سمعه من شهود عيان من أهل اليمن عن تعذيب نصارى نجران ، وما لا قوة هناك من صنوف التعذيب ، ثم يتحدث بعد ذلك «مار شمعون» في رسالته عن الرسالة التي ارسلها ملك حمير إلى ملك الحيرة ، وفيها يطلب منه أن يفعل بنصارى مملكته ، ما فعله هو بنصارى نجران ، وأن شمعون قد تأكد بنفسه من الحادث ، وذلك حين أرسل من قبله رسولا ليأتيه بالخبر اليقين ، ومن ثم فقد وجه شمعون نداء إلى كل الأساقفة الرومان ، وإلى بطريق الإسكندرية ، وإلى أحبار

__________________

(١) جواد على ٣ / ٤٦٢ وكذا انظرJ.H.Mordtmann ,ZDMG ,١٣.٧٧٨١.p.٧٦ وكذاTheophanes ,١ ,٦٤٣

(٢) جواد علي ٣ / ٤٦٣ ، وكذاJ.H.Mordtnann ,op - cit ,p.٧٦.

٣٦٨

طبرية ، طالبا منهم بذل الجهود الجادة لإيقاف هذه المذابح البشرية ، ورغم ما تفيض به الرسالة من عواطف شخصية ، ومن مبالغات متعمدة لإثارة الحمية الدينية عند رجال الدين المسيحي ، ورعم أن ما جاء بها على لسان ملك حمير ، إنما هو من كلام شمعون ، وليس كلام الملك الحميري فإن الرسالة بصفة عامة صحيحة ، ومن ثم فهي وثيقة تاريخية يمكن أن ينظر إليها باهتمام (١).

هذا وقد تحدثت المصادر السريانية كذلك عن شهداء نجران ، ومنها كتاب ينسب إلى «يعقوب السروجي» ، وقصيدة في رثاء الشهداء لأسقف الرها «بولس» ، فضلا عن نشيد كنسي سرياني لرئيس دير قنسرين «يوحنا بسالطس» المتوفي عام ٥٢٦ م ، أو ٦٠٠ م (٢).

(٣) الاحتلال الحبشي وعلاقته بقصة الأخدود

ليس من شك في أن العلاقة بين اليمن والحبشة ، إنما ترجع إلى عصور موغلة في القدم ، قد تبعد عن الميلاد بقرون طويلة ، وربما كان ذلك بسبب قرب الحبشة من اليمن ، حيث لا يفصل بينهما إلا مضيق باب المندب الضيق ، والذي كان يمكن عبوره بسهولة بوسائل النقل التي كانت متاحة في تلك العصور الخالية ، ومن ثم فقد تبادل الفريقان الهجرات ، وهكذا رأينا هجرات عربية تنتقل من بلادها إلى الشواطئ الأفريقية المقابلة ، كما رأينا كذلك هجرات إفريقية إلى العربية الجنوبية ، فضلا

__________________

(١) عبد المجيد عابدين : المرجع السابق ص ٥٥ ـ ٥٦ ، جواد علي ٣ / ٤٦٤ ـ ٤٦٥ ، وكذاJ.B.Bury ,op - cit ,P.٣٢٣ وكذاZDMG ,٥٣ ,١٨٨١ ,PP.٢ ـ ٤ وكذاFragmants Histori ,Greega ,IV ,P.٧٧١

(٢) جواد علي ٣ / ٤٦٥ ، اللؤلؤ المنثور في تاريخ الآداب والعلوم السريانية ص ٢٥٤ ، وكذاJ.B.Bury ,op - cit ,P.٤٢٣ وكذاZDMG ,١٣ ,P.P.٤٢٣ ,٠٠٤ ,٥٣ ,P

٣٦٩

عن هجرات مرتدة من هذا الجانب أو ذاك ، إلى جانب حملات عسكرية من الجانب العربي ـ وكذا من الجانب الافريقي ـ نجحت في أن تحتل جزءا كبيرا أو صغيرا من هذه المنطقة أو تلك.

هذا ويذهب كثير من الباحثين إلى أن العرب الساميين ، إنما كانوا يتجهون إلى إفريقية منذ وقت مبكر ، على دفعات متعددة ، وفي أوقات مختلفة ، وهكذا رأينا في الألفي سنة قبل الميلاد جماعات عربية تهاجر من جنوب غربي شبه الجزيرة العربية إلى الحبشة (١) ، ويرى «كارل بيترز» أن هناك جالية حميرية كانت تعيش في المنطقة الواقعة بين نهري الزمبيزي واللمبوبو منذ الألف الثاني قبل الميلاد ، وأن المعبد الكبير في «زمببويه» إنما بني في عام ١١٠٠ قبل الميلاد ، وأن السبئيين كانوا أصحاب السيادة في ذلك الوقت (٢).

على أن الأمر إنما يزداد وضوحا منذ القرن السادس ق. م. ، حيث نزحت جالية سبئية إلى المنطقة المعروفة بـ «تعزية» في أرتيريا ـ وكذا إلى هضبة الحبشة ـ مكونة حكومة محلية هناك (٣) ، ولعل هجرة الأوسانيين إلى السواحل الأفريقية ، إنما كانت في نفس تلك الفترة ، حيث اتخذوا من «عزانيا» مقرا لهم ، ثم سرعان ما أخذوا يشقون طريقهم نحو الجنوب ، ويحدثنا صاحب كتاب «الطواف حول البحر الأريتري» أن هذه المنطقة التي شغلها الأوسانيون ، إنما كانت تسمى على أيامه «Ausaniteae» ، وهو اسم لا شك أنه قريب من اسم «أوسان» وأن

__________________

(١) مصطفى محمد مسعد : الإسلام والنوبة في العصور الوسطى ص ١٠٧

(٢) فضلو حوراني : المرجع السابق ص ١٢٨ وكذا C. Peters, The Eldorado of the Ancients, P. P. ١٧٢ ـ ٤١

(٣) A.Grohmann ,op - cit ,P.٥٢

٣٧٠

هذه المنطقة إنما كانت على أيامه (القرن الأول الميلادي) (١) تخضع لحكام «Mapharittis» ) ويريد بهم حكام سبإ وذي ريدان (٣) ، هذا بالإضافة إلى أن هناك هجرة سبئية من القرن الخامس قبل الميلاد ، إلى جانب تلك الجالية الحبشية من غرب اليمن (٤).

وهكذا وجدت منذ زمن قديم ، قبل النصف الأول من الألف الأول ق. م. ، جماعات من العرب الجنوبيين تعبر البحر الأحمر ، وتؤسس جاليات ومحطات تجارية على الساحل المقابل ، وقد تتابعت الهجرات نحو المنطقة التي كانت «عدولي» مركزا لها ، فاتسعت المنطقة المستوطنة اتساعا متصلا ، وتولت الطبيعة نفسها دفع المستوطنين إلى الهضبة المشتهاة ، وتبين النقوش العربية الجنوبية التي وجدت في منطقة أكسوم ، وإلى الشرق منها حيث يمر الطريق الممتد من عدو لي ، سعة انتشار النفوذ العربي في أثيوبيا قبل القرن السادس قبل الميلاد (٥).

وقد استمرت الهجرات العربية إلى الحبشة حتى الفترة فيما بين عامي

__________________

(١) يحدد فضلو حوراني (المرجع السابق ص ٥٤) تاريخ هذا الكتاب بالفترة (٥٠ ـ ٦٠ م) ، بينما يرى موسكاتي (المرجع السابق ص ٣٧٨) أنه يرجع إلى عام ٧٥ م ، وأما «جاكلين بيرين ، فالرأي عندها أنه كتب في عام ١٠٦ م - (J. Pirenne, le Royaumne Sud - Arabe de Qataban et Sa danon, P. P. ٧٦١ ـ ٣٩١)

(٢) جواد علي ٣ / ٤٥٠ وكذا انظرA.Grohmann ,Arabien ,P.٥٢

(٣) Ibid ,P.٥٢ وأنظر كذلك آراء أخرى : حيث يتجه البعض إلى أن الاوسانيين كانوا يسيطرون على المنطقة شمال «بمبا» و «زنجبار» ربما منذ ما قبل عام ٤٠٠ ق. م. ، وأن لهم نشاط تجاري مع السواحل الافريقية عن طريق ميناء «عدن» الذي كان يتبع «أوسان» وقت ذاك : جواد علي ٢ / ٥٠٢ وكذا W. Schoff, The Periplus of the Ervthraean Sea, P. ٢٢ وكذاDiscoveries ,P.٩٣ وكذا انظرH.Von Wissmann and M.Hofner ,op - cit ,P.٤٧

(٤) جواد علي ٣ / ٤٥٠ وكذا انظرDie Araber ,L.P.٦٢١

(٥) موسكاتي : المرجع السابق ص ٢١٣

٣٧١

٢٣٢ ، ٢٥٠ م (١) ، بل إن بعض الباحثين ليذهب إلى أن أصل الأحباش أنفسهم ، إنما كان من غرب اليمن ، معتمدين في ذلك على أن هناك جبلا في اليمن يدعى «حبيش» ، فضلا عن أن هناك قبيلة عربية تحمل اسم «حبشت» (الحبشات) ، قد يكون لاسم الجبل ، أو اسم القبيلة ، صلة بهؤلاء المهاجرين إلى إفريقية ، وأن القوم أنفسهم هم الذين أطلقوا اسم الجبل ـ وربما اسم القبيلة ـ على مواطنهم الجديدة ، ومن هنا جاء اسم «الحبشة» ، ومن نفس الكلمة أخذ الإفرنج لفظ «Abyssinia» (٢).

والأمر كذلك بالنسبة إلى «الجعز» ، وهم «Cesani» الذين رأى «بليني» أن مواطنهم إنما كانت على مقربة من «عدن» ، والذين يرى فيهم العلماء عربا جنوبيين هاجروا إلى الحبشة ، وكونوا هناك مملكة ، ثم سرعان ما سادت لغتهم بين السكان الساميين في أثيوبيا ، ومن ثم فقد عرفت لغة الحبش «بالجعزية» (٣) هذا وقد بلغ من سيادة تلك اللغة هناك ، أن الانجيل حين ترجم في الحبشة خلال القرن الرابع الميلادي ، إنما ترجم من الإغريقية إلى الجعزية ، وحتى أصبحت لغة الجعز لغة التخاطب والكتابة ، ثم ظلت تلك اللغة مستعملة في الحبشة حتى القرن الثالث عشر الميلادي فغلبتها اللغة الأمهرية (٤).

__________________

(١) Die Araber ,I ,P.٦٢١

(٢) موسكاتي : المرجع السابق ص ٢١٤ ، حسن ظاظا : المرجع السابق ص ١٩٥ وكذا جواد علي ٣ / ٤٤٣٩ ، وكذا انظر C. Rossini, Expedition et Possessions des Habasat en Arabie, P. ٥

(٣) موسكاتي : المرجع السابق ص ٢١٤ ، حسن ظاظا : المرجع السابق ص ١٩٥ ، وكذاDie Araber ,I ,P.P.٤١١ ,٤٧٢

(٤) إبراهيم طرخان : محاضرات في تاريخ الحبشة ، عبد المجيد عابدين : المرجع السابق ص ٩

٣٧٢

على أن هناك من يرى عكس ذلك تماما ، ويذهب إلى أن الساميين إنما جاءوا فيما قبل التاريخ إلى شبه الجزيرة العربية من إفريقية عبر مضيق باب المندب (١) ، ومن ثم فإنهم يثيرون الشكوك حول هذا الرأي السائد ـ الذي أشرنا إليه آنفا ـ ويقولون إنه ليس هناك من دليل على صحته ، وأن الأمر كله يمكن أن يفسر على أن العرب الجنوبيين قد أثروا في شعب سامي كان مستقرا في أثيوبيا من قبل ، ورغم أن هذا الاحتمال لا يمكن رفضه دون مناقشة ، على أنه ليس من اليسير أن نرى من أين يمكن أن يجيء ذلك الشعب السامي (٢) ، فضلا عن أن هناك كثيرا من الأدلة على أن العرب إنما كانوا ذلك الشعب السامي الذي عناه هؤلاء العلماء ، وأن منطقة جنوب شبه الجزيرة العربية ظلت طوال العصور التاريخية مصدرا لهذا الشعب السامي عن طريق الهجرات ، والتي ازدادت مرة أخرى ، فيما بين الألف الأول قبل الميلاد ، والنصف الأول من القرن الأول بعد الميلاد (٣) ، وبالتالي فقد ازداد التأثير العربي في الحبشة (٤) ، حتى ذهب البعض إلى أن مملكة أكسوم نفسها إنما أنشأها العرب الجنوبيون (٥).

__________________

(١) H. Fleisch, Introduction a l\'etude des langues semitiques, Paris, ٧٤٩١, P. ٥٢

(٢) موسكاتي : المرجع السابق ص ٢١٤

(٣) J. D. Clark, The Prehistoric Culture of the Horn of Africa, P. ٥١٣

(٤) أنظر عن هذه التأثيرات : موسكاتي : المرجع السابق ص ٢١٤ ، ٢٢٣ ، جواد علي ٣ / ٤٥٣ ، صلاح الشامي : الموانى السودانية ص ٥٠ ـ ٥٢ جورج فضلو حوراني : المرجع السابق ص ٨٥ ، وكذا ١١٤ وكذا Causin de Perseval, op - cit, P. ٢٨ DieAraber, I, P. ٤١١ وكذا A. H. M. Jones and E. Monroe, Histoire de l\'Abyssinie, Paris, ٥٣٩١ وكذاHandbuck ,I ,P.٤٣

(٥) فضلو حوراني : المرجع السابق ص ٨٥ ، جواد علي ٣ / ٤٥١ وكذاDie Araber ,I ,P.٤١١

٣٧٣

وعلى أي حال ، فعلى أيام «علهان نهفان» (١) ملك سبأ وذي ريدان ، كانت العربية الجنوبية تمر بفترة من الاضطرابات الداخلية ، اضطر بسببها «علهان» إلى عقد معاهدة مع «جدرة» ملك الحبشة ، والذي كان ـ فيما يرى فون فيسمان ـ يسيطر على ساحل البحر الأحمر الشرقي من ينبع إلى عسير ، فضلا عن مضيق باب المندب (٢).

ونقرأ في النص المعروف بـ (Guekens I) أن الأحباش ـ وربما باتفاق مع الردمانيين قد أغاروا على جيش «شعر أوتر» أثناء محاربته للحضرميين ، هذا فضلا عن الإغارة على أرضين تابعة له ، وألحقوا بهما أضرارا بالغة (٣) ، وكما جاء في نقش (جام ٦٣١) ، فإن «شعر أوتر» قد أوكل إلى قائده «قطبان أو كان» أمر الانتقام من الأحباش ، وأن «قطبان» هذا قد نجح ـ بمساعدة قوات سبئية أخرى جاءت تعينه على مهمته هذه ـ في حصار الأحباش ، ثم مهاجمتهم على غرة ، ثم أعمل السيف فيهم ، حتى اضطرهم إلى ترك منطقة «ظفار» ، والاتجاه إلى المعاهر (معهر تن) (٤) ، وان لم يستطع الرجل أن يسيطر على المناطق الغربية من اليمن ، والتي تطل على البحر الأحمر ، حيث بقيت تحت النفوذ الحبشي (٥).

__________________

(١) يري فلبي أنه حكم حوالي عام ١٣٥ ق. م. ، ويرى البرت جام أنه حكم في الفترة (٨٥ ـ ٦٥ ق. م.) ، ويرى البرايت أنه حكم حوالي عام ٦٠ ق. م. ، وأما فون فيسمان فيرى انه كان حوالي عام ١٦٠ م (انظر : Von Wissman and Hofner ,op - cit ,P.٣١١ وكذاA.Jamme ,op - cit ,P.٠٩٣ وكذا (J.Philiby ,op - cit ,P.٢٤١

(٢) Le Museon ,٤٦٩١ ,٣ ـ ٤ ,P.١٧٤

(٣) GRyckmans ,Inscriptions Sud - Arabes ,P.٧٩٢ F وكذاA.Jamme ,op - cit ,P.١٠٣

(٤) Ibid ,P.٢٣١

(٥) Le Museon ,٤٦٩١ ,٣ ـ ٤.P.٥٧٤

٣٧٤

على أن هناك ، من ناحية أخرى ، بعض الروايات التاريخية التي تشير إلى أن الحميريين قد قاموا بحملات عسكرية في وادي النيل الأوسط ، وشمال إفريقية (١) ، وقد أشار «كوسان دي برسيفال» إلى حملة قادها «أبو مالك بن شمر يرعش» إلى معادن الزمرد في أرض البجة ، ومن المحتمل أن يكون الرجل قد لقي حتفه هو ومعظم جيشه حوالي منتصف القرن الأول الميلادي (٢).

وفي عهد دولة أكسوم يتغير ميزان القوى إلى جانب الأثيوبيين ، وضد العرب الجنوبيين ، بخاصة بعد اعتناق الملك «عيزانا» (أزانا) ـ والذي اعتلى العرش حوالي عام ٣٢٥ م ـ النصرانية ، وأيا ما كان السبب في اعتناق «عيزانا» النصرانية ، وسواء أكان ذلك عن اقتناع بالدين الجديد ، أو لمزيد من التقرب الى بيزنطة ، حامية المسيحية الكبرى في الشرق ، فإن اليمن قد وضعت بين قوتين مسيحيتين ، الحبشة من جهة ، والروم من جهة أخرى (٣).

وزاد تنصر أثيوبيا من حدة منافستها لليمن غير المسيحية ، وبدأت في تنفيذ خطتها القديمة لاحتلال اليمن ، تلك الخطة التي بدأت منذ حوالي القرن الأول قبل الميلاد ، كما نعرف ذلك من النقوش العربية القديمة ، مثل نقش (جام ٦٣١) بل إن نقش (جام ٦٣٥) ليحدثنا عن معارك دارت رحاها خلف مدينة «نجران» ، بين جيش «سقر أوتر» (٦٥ ـ ٥٥ ق. م.) وبين الأحباش ، وربما كان ذلك يشير إلى أن «نجران» إنما كانت في أيدي الأحباش في تلك الأونة (٤) ، ونقرأ في نقوش (جام ٥٧٤ ،

__________________

(١) مصطفى مسعد : المرجع السابق ص ١٠٨

(٢) Causin de Perseval ,op - cit ,P.٢٨

(٣) موسكاتي : المرجع السابق ص ٢١٥ ، حسن ظاظا المرجع السابق ص ١٩٦ ـ ١٩٧

(٤) A.Jamme ,op - cit ,P.P.٢٣١ ,٥٣١ ـ ٦ ,٣٠٣ ,٠٩٣

٣٧٥

٥٧٥ ، ٥٩٠ ، ٥٩٥) عن حرب نشبت بين «الشرح يحضب» وأخيه «يأزل بين» وبين الأحباش ، وأن الأخوين قد انتصرا على الأحباش في «وادي سهام» و «وادي سردد» ـ على مبعدة ٤٠ كيلومترا إلى الشمال من الحديدة ـ وفي غير ذلك من المناطق التي يوجد فيها الأحباش (١) ، ويسجل نقش (جام ٥٧٦) انتصار «الشرح يحضب» على ملك كنده وحلفائه ، وكذا على قوات حبشية (٢)

ونقرأ في نقش (CIH ٧٠٤) عن حرب شنها «شمر يهرعش» على قبائل تهامه في شمال غربي اليمن ، والتي شملت عسير وصبيه بين وادي بيش ووادي سهام ، وأن جيوش الملك الحميري قد انتصرت على هذه القبائل برا ، ثم سرعان ما طاردتهم في البحر ، حيث أوقعت بهم خسائر فادحة ، وربما كان ذلك يشير إلى أن هؤلاء المهزومين ، إنما كانوا من الأحباش الذين كانوا يسيطرون على ساحل تهامه ، وأن المعركة إنما دارت في البحر الأحمر (٣) ، وأن شمر يهرعش قد استعان بقبيلة «سردود» في قتاله ضدهم ، وربما كانت هذه المعارك سببا في تدخل الأكسوميين مرة أخرى في شئون العربية الجنوبية (٤)

وعلى أي حال ، فلقد استمرت محاولات الحبشة في احتلال اليمن (٥) ،

__________________

(١) D. S. MargoIiouth, Two South Arabian Inscriptions, P. ٥ وكذاA.Jamme ,op - cit ,PP.٠٦ ,٤٦ ,٠١٣ ـ ١١٣.٦١٣ وكذا انظر H. Von Wissmann und M. Hofner, Beitrage Zur historischen Geographie des Vo - Rislamischen Sudarabien, P. P. ٨١, ٨٣

(٢) A.Jamme ,op - cit ,PP.٨٨ ,٣٩ ,٦٩ ,٧١٣ ـ ٩١٣

(٣) H.Van Wissmann and M.Hofner. وكذاA.Jamme ,op - cit ,p.٩٦٣ op - cit ,P.٩١١

(٤) عبد المجيد عابدين : المرجع السابق ص ٣٢ ـ ٣٣

(٥) le Museon ,٤٦٩١ ,٣ ـ ٤ P.P.٠٨٤ ,٨٩٤ وكذاA.Gronmann ,op - cit ,P.٩٢

٣٧٦

وقد نجحت مرة ، وفشلت مرات ، وضمت إليها جزءا كبيرا أو صغيرا طبقا لظروف البلدين ، بدليل ذكر اليمن في ألقاب السيادة التي اتخذها ملوك أكسوم في نقوشهم ، فالملك «عيزانا» مثلا كان لقبه «ملك أكسوم وحمير وزيدان وسبأ وسلحين» (١) ، بل ان هناك نقشا لملك جاء قبل عيزانا يلقب فيه بملك الأكسوميين والحميريين (٢) ،

وفي عام ٥١٥ م يجلس على عرش اليمن «ذو نواس» ، وهو «زرحة ذو نواس بن تبان أسعد أب كرب» ، والذي سمي «يوسف» بعد اعتناقه اليهودية ، هذا ويذهب بعض الأخباريين إلى أن السبب في تسميته «ذي نواس» أن كانت له ذؤابتان تنوسان على عاتقه ، وبهما سمي ذي نواس (٣) ، وعلى أي حال ، فهو الملك الذي احتل الأحباش اليمن في عهده ، وبقوا فيها نصف قرن من الزمان ، وإن كانت هذه ليست هي المرة الأولى التي يغزو الأحباش فيها اليمن ، كما رأينا من قبل ، وإن كان الجديد هنا أن الغزو قد اتخذ من الدفاع عن المسيحية والمسيحيين سببا.

هذا ويتجه بعض الباحثين إلى أن المسيحية بدأت تأخذ طريقها نحو اليمن منذ القرن الرابع الميلادي ، وأن ذلك إنما تمّ على يد «ثيوفيلس» الذي نجح في حوالي عام ٣٥٤ م من نشر الديانة الجديدة بين العرب الجنوبيين ، ثم سرعان ما أنشأ كنيسة في «ظفار» ، كان لها الأسبقية على غيرها ، ومن ثم فقد أصبح رئيس أساقفتها بمثابة المشرف على كنائس بلاد العرب الجنوبية (٤).

__________________

(١) Le ,Museon ,٤٦٩١ ـ ٣ ـ ٤ ,P.٨٤٤

(٢) عبد المجيد عابدين : المرجع السابق ص ٣٤

(٣) ابن الاثير ١ / ٤٢٥ ، مروج الذهب ٢ / ٥٢ تاريخ اليعقوبي ١ / ١٩٩ ، المعارف لابن قتيبة ص ٣١١ ، وهب بن منبه : المرجع السابق ص ٣٠٠ ، تفسير القرطبي ١٩ / ٢٩٣ كتاب المحير ص ٣٦٨

(٤) انظر : A.Grohmann ,Arabiean ,P.٩٢ وكذاP.K.Hitti ,op - cit ,P.١٦

٣٧٧

وكانت اليهودية ـ كما جاء في القرآن الكريم (١) ـ قد بدأت تأخذ طريقها إلى مملكة سبأ منذ القرن العاشر قبل الميلاد ـ وعلى أيام سليمان (٩٦٠ ـ ٩٢٢ ق. م.) ـ وذلك طبقا لما جاء في القرآن الكريم على لسان ملكة سبأ في ختام قصتها مع النبي الكريم (٢) ، حيث يقول سبحانه وتعالى «قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (٣).

وفي القرن السادس قبل الميلاد ، وبعد استيلاء «نبوخذ نصر» على بيت المقدس وتدمير الهيكل في عام ٥٨٦ ق. م. (٤) ، بدأت أعداد من يهود تتجه نحو اليمن ، ثم جاءت أعداد أخرى ، ربما أكثر من الأولى ، بعد تدمير أورشليم على يد «تيتوس» الروماني في عام ٧٠ م ، ثم على يد الامبراطور «هدريان» (١١٧ ـ ١٣٨ م) ، حيث مرّ اليهود واليهودية بأقسى المحن وأشدها ، وحيث تم القضاء على اليهود ككيان سياسي في فلسطين ، ثم تغيير اسم المدينة المقدسة (القدس) إلى «إيليا كابتيولينا» ، وتحويل المعبد اليهودي إلى معبد لإله الرومان «جوبيتر» ، ثم بيعت النساء اليهوديات كإماء ، وضاع اليهود في غياهب التاريخ ، وسرعان ما فرّ ـ من أسعده الحظ فنجا من القتل أو الأسر ـ إلى مكان يحتمي به من غضبة الرومان القاسية ، وكان من هؤلاء المحظوظين فريق من يهود وصل الى يثرب وإلى اليمن (٥) ، ومن ثم فهناك من يرى أننا لو تفحصنا أسماء اليهود المقيمين في بلاد العرب لرأينا ان كثيرا منهم أراميون

__________________

(١) سورة النمل : آية ٢٠ ـ ٤٤

(٢) راجع قصة ملكة سبأ مع سليمان عليه‌السلام في مقالنا «العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة»

(٣) سورة النمل : آية ٤٤

(٤) أنظر كتابنا «إسرائيل» ص ٥٢٩ ـ ٥٣٥ ، وكذا أستار : الملوك الثاني وأرميا : وكذاM.Noth ,op - cit ,P.P.٦٨٢ ـ ٨٨ وكذاA.Malemat ,op - cit ,P.٥٢٢ F ٥ F وكذاW.Keller ,op - cit ,P.P ,٠٠٤ ـ ٣٠٤

(٥) Josephys ,The Jewish War ,II ,٨١ ,١ ,٣ ـ ٤

٣٧٨

وعرب متهودون (١) ، اعتنقوا اليهودية بتأثير من اليهود أنفسهم.

وعلى أي حال ، وسواء أكان انتشار اليهودية في اليمن يرجع إلى تلك الفترة المبكرة ، أو الى عهد «أب كرب أسعد» (٤٠٠ ـ ٤١٥ م) (٢) ، حيث يروي الأخباريون في قصة طويلة أن الرجل قد تهود ، بل وفرض اليهودية على الحميريين كذلك (٣) ، أو منذ تهود «ذي نواس» ، سواء أكان تهوده هذا رغبة منه في أن يقاوم دينا سماويا بدين سماوي آخر ، ومن ثم فهو يمثل الروح القومية في اليمن ، حين رأى في النصارى من مواطنيه ما يذكره بحكم الأحباش المسيحيين البغيض (٤) ، أو لأنه كان في الأصل ـ طبقا لرواية ابن العبري ـ من أهل الحيرة ، وأن أمه يهودية من «نصيبين» وقعت في الأسر ، فتزوجها أبوه ، فأولده منها ، ومن ثم فهو يهودي وفد على اليمن من الحيرة (٥) ، أو لأنه حين اعتنق اليهودية كان آمنا على نفسه وعلى دولته من أن يتسلط عليه أو عليها دولة ذات نفوذ واسع ، وسلطان كبير ، إذ لم يكن لليهودية في ذلك الوقت دولة سياسية ، في حين أن النصرانية إنما كانت تعتمد على الدولة الرومانية الشرقية الطامعة في فتح

__________________

(١).P.K.Hitti ,op - cit ,P.١٦.

(٢) هناك من يحدد له كذلك الفترة (٣٨٥ ـ ٤٢٠ م) ومن يحدد له الفترة (٣٧٨ ـ ٤١٥ م) ، ومن يرى أن حكمه استمر إلى عام ٤٣٠ م (أنظر : جواد علي ٢ / ٥٧١ ، فريتز هومل : المرجع السابق ص ١٠٨ وكذاD.Nielsen ,op - cit ,P.٤٠١ وكذا (J. B, Philby, note on the last Kings of Saba, P ٩٦٢, The Background of Islam, P. P. ٦١١, ٤١

(٣) ابن كثير ٢ / ١٦٣ ـ ١٦٧ ، تفسير ابن كثير ٤ / ١٤٢ ، الأزرقي ١ / ١٣٢ ـ ١٣٤ ، تفسير الطبري ٢٥ / ١٢٨ ـ ١٢٩ ، تفسير الخازن ٤ / ١١٥ ، ١٧٥ ، تفسير القرطبي ١٦ / ١٤٥ ـ ١٤٦ ، تفسير البيضاوي ٢ / ٣٧٦ ـ ٣٧٧ ، بلوغ الأرب ٢ / ١٧٠ ، ٢٤٠ ـ ٢٤١ ، مروج الذهب ١ / ٨٢ ، اليعقوبي ١ / ١٩٧ ـ ١٩٨ ، العقد الثمين ١ / ٧١ ، ابن خلدون ٢ / ٥٢ ، قارن : المعارف ص ٢٧٥ ـ ٢٧٦

(٤).P.K.Hitti ,op - cit ,P.٢٠.

(٥) جواد علي ٢ / ٥٩٣ ، قارن : الإكليل ٢ / ٦٣.

٣٧٩

اليمن (١) ، فكل تلك أمور ليس مجال مناقشتها هنا ، لأن الذي يهمنا الآن أن الفرقة الداخلية التي ترجع في الدرجة الأولى إلى التنافس بين اليهودية والمسيحية في اليمن العربية ، إنما بدأت تدفع بالبلاد إلى طريق الاضمحلال والتفكك أول الأمر (٢) ، ثم إلى وقوعها تحت السيادة الحبشية ثم الفارسية في آخر الأمر.

على أن ظروف بلاد اليمن الداخلية ، إنما لعبت دورا خطيرا في التمهيد للفتح الأثيوبي للبلاد ، ذلك لأننا نقرأ في نقش (فلبي ٢٢٨) عن حرب داخلية استعر أوارها قبيل الغزو الحبشي لليمن ، وربما في عام ٥١٦ م ، وعلى أيام الملك «معد يكرب يعفر» ، واشتركت فيها قبائل سبأ وحمير ورحبة وكندة ومضر وثعلبة (٣) ، ومن ثم فقد مهدت هذه الفتنة الطريق للأحباش ليحتلوا اليمن في سهولة ، وذلك بسبب الخصومات القبلية القديمة بين القبائل العربية ، وبسبب ظهور الروح القبلية التي لا تعرف طريقا للتعاون القومي ، إلا إذا كان من أجل القبيلة وفي مصلحتها ، دونما أي اهتمام بما يجره ذلك على الكيان القومي من نكبات قد تؤدي باستقلال البلاد وخضوعها للأجنبي.

ونقرأ في نصي (ريكمانز ٥٠٧ ، ٥٠٨) (٤) ، ويرجعان إلى عام ٥١٨ م ، عن إشارات عن حرب دارت رحاها بين الأحباش وملك حميري دعوه «يسف أسأر» (يوسف أسأر) ، ولعل عدم الإشارة هنا إلى اللقب الملكي الطويل ، ربما يعني أن سلطان ذلك الملك (ذي نواس) لم يكن

__________________

(١) اسرائيل ولفنسون : المرجع السابق ص ٣٦

(٢) موسكاتي : المرجع السابق ص ١٩٣

(٣) جواد علي ٢ / ٥٩١ وكذاG.J.Vol ,CXVI ,٤ ـ ٦ ,٠٥٩١ ,P.٤١٢

(٤) أنظر : جواد علي ٢ / ٥٩٥ ـ ٥٩٦ ، وكذاLe Museon ,٣٥٩١ ,٣ ـ ٤ ,P.٤٨٢ F وكذاBSOAS ,Vol ,XVI ,Part : ٣ ,٤٥٩١ ,P.٤٣٤ وكذاRyckmans ,٧٠٥ ,٨٠٥

٣٨٠