دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
المطبعة: دار النهضة العربية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٠

بها شعرا ونثرا ـ ومن ثم فقد ذهب بعض علماء العربية في الإسلام إلى إخراج الحميرية واللهجات العربية الأخرى في جنوب شبه الجزيرة العربية من اللغة العربية ، وقصر العربية على العربية التي نزل بها القرآن الكريم ، وعلى ما تفرع منها من لهجات ، ومن هنا يروي «الجمحي» أن أحد علماء العربية سئل عن لسان حمير ، فقال : ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا (١) ، ونستطيع أن نقدم هنا نصين كمثال يثبت مدى الخلاف بين هذه اللهجات ، الواحد من الشمال ، من نصوص المناذرة ، ملوك الحيرة ، والذين يزعم الأخباريون أنهم يمنيون هاجروا بعد خراب السد إلى الحيرة بقيادة مالك بن فهم الارذي ، والثاني من اليمن نفسها ويرجع إلى القرن السادس الميلادي ، وقبيل مولد الرسول ، (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) باكثر من ربع قرن قليلا.

يقول امرؤالقيس بن عمرو ملك الحيرة (٢٨٨ ـ ٣٢٨ م) «تي نفس مر القيس بر عمرو ، ملك العرب كله ، ذو أسر التج وملك الأسدين ونزارو وملوكهم ، وهرب محجو عكدي ، وجابزجي في جج نجرن مدينت شمر ، وملك معدو ، وبين بنيه الشعوب وكلهن فرسولروم ، فلم يبلغ ملك مبلغه ، عكدي هلك سنت ٢٢٣ يوم ٧ بكسلول بلسعد ذو ولده» (٢).

__________________

(١) طبقات الشعراء ص ٤ ، جواد علي ١ / ١٥ ، قارن المسعودي ٢ / ٤٦

(٢) يعرف هذا النقش بنقش النمارة ، وقد اكتشفه «رينيه ديسو» و «فريدريك ماكلر» في عام ١٩٠١ م ، على مبعدة كيلومتر واحد من النمارة القائمة على انقاض مخفر روماني ، شرقي جبل الدروز ، وهو في خمسة أسطر محفور على حجر من البازلت ، وأبعاده هي ٧٣ ، ١ مترا من الطول ، ٤٥ ، ٠ مترا في العرض ، ٤٠ و ٠ مترا في السمك ، ويوجد الآن بمتحف اللوفر بباريس ، من الواضح أن كاتبه نبطي ، لأن الخط المستعمل هو الخط النبطي ، واللغة العربية المستعملة تعرضت هي أيضا لتحريفات نبطية. وانظر عنه :

(أ) ـ حسن ظاظا : الساميون ولغاتهم ، الاسكندرية ١٩٧١ ص ١٦٥ ـ ١٧٣

٣٢١

وترجمته إلى لغة مفهومة قد تكون كالتالي : «هذا جثمان امرئ القيس بن عمرو ملك العرب كلهم ، الذي عقد التاج وملك قبيلتي أسد ونزار وملوكهم ، وصد بني محج حتى اليوم ، وجاء بنجاح إلى حصار نجران عاصمة شمر ، وملك قبيلة معد ، وقسم على أبنائه الشعوب ، وجعلها فرسانا للروم ، فلم يبلغ ملك مبلغه حتى اليوم ، مات سنة ٢٢٣ يوم ٧ من شهر كسلول (٧ ديسمبر ٣٢٨ م) ، السعادة لأولاده» (١).

وأما النص الثاني ـ ويرجع إلى عام ٥٤٣ م ، أي بعد النص الأول بحوالي ٢١٥ عاما ـ وفيه يتحدث أبرهة عن تهدم سد مأرب واصلاحه ، وقد افتتحه بالعبارة التالية «نجيل وردا ورحمت رحمنن ومسحو وروح قدس» (٢).

وترجمته إلى لغة مفهومة قد تكون كالتالي «بحول وقوة ورحمة الرحمن ومسيحه والروح القدس».

وليس من شك أنه ليس واحدا من النصين يثبت أن لهجة اليمن إنما كانت تتفق ولغة القرآن الكريم التي سجل بها أصحابنا الأخباريون شعرا لعمرو بن عامر الأزدي ، أو نثرا للرجل وزوجته ، ولكن ما حيلتنا واصحابنا الأخباريون يصرون على أن ينسبوا إلى يعرب بن قحطان وإلى سبأ وإلى تبع والى الزباء شعرا عربيا فصيحا ، بل إن الأمر وصل بهم إلى

__________________

(ب) ريجيس بلاشير : تاريخ الأدب العربي ـ العصر الجاهلي ـ ترجمة إبراهيم كيلاني ، بيروت ١٩٥٦ ص ٧١

(ح) فيليب حتى : تاريخ سورية ولبنان وفلسطين ـ الجزء الأول ـ ص ٤٤٢٧ ـ جواد علي ٣ / ١٩٠ ـ ١٩٣ وكذا Rene Dussaud, Arabes en Syrie avant L\'Islam, Paris, ٧٠٩١, P. ٥٣ F. Nau, Les Arabes Chrestiens, P. ٢٣, J. Cantineau, Le Nebateen, I, P. ٢٢

(١) حسن ظاظا : الساميون ولغاتهم ص ١٦٥ ـ ١٦٦

(٢) سوف نسجل النص كاملا فيما بعد عند الحديث عن تهدم سد مأرب

٣٢٢

أن ينسبوا إلى آدم وإلى إبليس ، شعرا مضبوطا وفق قواعد النحو والصرف ، ومن ثم فليس غريبا أن ينسبوا إلى عمرو بن عامر الازدي شعرا كذلك.

ومنها (ثاني عشر) تلك المبالغة فيمن أرسلهم الله للقوم من المصطفين الأخيار ، حيث يروي ابن إسحاق ـ عن وهب بن منبه ـ أن الله جلّ وعلا قد أرسل إليهم ثلاثة عشر نبيا ، وزعم السدّى أنهم اثنا عشر ألف نبي (١) ، فضلا عن تعارض ذلك مع الإتجاه الذي يذهب إلى أن خراب السد إنما كان بين الميلاد وبعثة المصطفى (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، وهي فترة يرى الجمهور أنه لا أنبياء فيها ، وإن ذهب البعض إلى أن بها أربعة أنبياء ، ثلاثة من بني اسرائيل ، وواحد من العرب ، هو خالد العبسي ، على أن هناك من يرى أنهم ثلاثة عشر نبيا ، وأنهم كانوا فيما بين عهد سبأ نفسه ، وبين فترة هلاكهم أجمعين (٢).

ومنها (ثالث عشر) من الذي ساعد عمرو بن عامر في حيلته الساذجة ، فأهانه أمام قومه؟ هل ولده ، أم ابن أخيه ، أم كان يتيما رباه الرجل وأنكحه ، كما يقول بعض الأخباريين (٣).

(٣) السدود في بلاد العرب

تعتبر شبه الجزيرة العربية من أشد البلاد جفافا وحرا ، وربما كان ذلك لوقوعها في منطقة قريبة من خط الاستواء ، ولأن معظم أجزائها تقع في الإقليم المداري الحار ، ولبعدها عن المحيطات الواسعة التي تخفف من درجة الحرارة ، ولأن المسطحات المائية التي تقع إلى الشرق والى الغرب

__________________

(١) ابن كثير ٢ / ١٥٩

(٢) تفسير روح المعاني ٢٢ / ١٢٨

(٣) وفاء الوفا ١ / ١١٩

٣٢٣

منها ـ وأعني بها الخليج العربي والبحر الأحمر ـ أضيق من أن تكفي لكسر حدة هذا الجفاف المستمر ، ومن ثم فقد كان أثرهما في اعتدال الحرارة غير ملموس ، أما المحيط الهندي الذي يقع إلى الجنوب منها ، فلئن ساعد في الجنوب على سقوط الأمطار في أطراف شبه الجزيرة العربية الجنوبية ، فإن مرتفعات حضرموت والربع الخالي قد تمنعها عن داخلها.

ومن المعروف أن المطر غوث ورحمة لسكان شبه جزيرة العرب ، يبعث الحياة في الأرض ، فتنبت العشب والكلأ والكمأة والازهار ، ويحول وجهها الكئيب إلى وجه مشرق ضحوك ، فيفرح الناس وتفرح معهم ماشيتهم ، ومن هنا كان من مرادفات المطر الغيث ، وفي الكلمة ما فيها من معاني الغوث والنصرة ، وهو على أي حال ، جد قليل في داخل البلاد بالنسبة إلى شدة احتياج البلاد إليه ، ولعل أكثر المناطق حظوة ونصيبا من المطر ، هي النفود الشمالي وجبل شمر ، إذ تنزل بها الأمطار في الشتاء فتنبت أعشاب الربيع ، وأما الصحارى الجنوبية فلا يصيبها من المطر إلا رذاذ ، وقد تبخل الطبيعة عليها حتى بهذا الرذاذ ، وأما في اليمن وعسير ، فتسقط الأمطار الموسمية ، وهي هناك تكفي لتأمين زراعة الأرض زراعة منتظمة ، ومن ثم فهناك نجد خضرة دائمة تنبت في أودية خصبة قد تمتد نحو مائتي ميل من الساحل (١).

هذا وليس في الجزيرة العربية كلها نهر واحد دائم الجريان يصب ماؤه في البحر ، وليس في نهيراتها الصغيرة ما يصلح للملاحة ، وهي لذلك تعد من جملة الأرضين التي تقل فيها الأنهار والبحيرات ، وفي جملة البلاد التي يتغلب عليها الجفاف ويقل فيها سقوط الأمطار ، ومن ثم فقد أصبحت

__________________

(١) حافظ وهبة : جزيرة العرب في القرن العشرين ص ٦ ، جواد علي ١ / ٢١٤ وكذاK.P.Hitt ,op - cit ,P.٨١

٣٢٤

اكثر بقاعها صحراوية قليلة السكان (١).

وقد عوضت عن الأنهار بشبكة من الأودية التي تجري فيها السيول غبّ المطر ، الذي ينهمر أحيانا وكأنه أفواه قرب قد تفتحت ، فتكون سيولا عارمة جارفة ، تكتسح كل ما تجده أمامها ، وتسيل الأودية فتحولها إلى أنهار سريعة الجريان (٢) ، هذا وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن كثيرا من أودية شبه الجزيرة العربية إنما كانت انهارا في يوم ما (٣) ، وأما أدلتهم على ذلك ، (فأولا) وجود ترسبات في هذه الأودية من النوع الذي يتكون عادة في قيعان الأنهار ، ومنها (ثانيا) ما عثر عليه من عاديات وآثار سكن على حافة الأودية ، ومنها (ثالثا) ما جاء في كتابات المؤرخين القدامى من الأغارقة والرومان عن وجود أنهار في شبه جزيرة العرب ، فـ «هيرودوت» يتحدث في (١ : ٢١٤) عن نهر أسماه «كورس» رغم أنه ينبع من منطقة نجران ، ثم يسير نحو الجهة الشمالية الشرقية ، مخترقا بلاد العرب حتى يصب في الخليج العربي ، ويرى «مورتز» أنه في وادي الدواسر الذي يمس حافة الربع الخالي ، عند نقطة تبعد خمسين ميلا ، من جنوب شرق السليل ، وتمده الأودية المتجهة من سلاسل جبال اليمن بمياه السيول (٤).

__________________

(١) جواد علي ١ / ١٥٧ ـ ١٥٨

(٢) جواد علي ١ / ٢١٥

(٣) مما يؤكد وجود أنهار في الجزيرة العربية قديما ، ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في «صحيحه» في كتاب الزكاة في «باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها). عن أبي هريرة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أنه قال : «لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض وحتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحدا يقبلها منه ، وحتى تعود أرض العرب مروجا وأنهارا».

(٤) جواد علي ١ / ١٥٨ ـ ١٥٩ ، حافظ وهبه : المرجع السابق ص ٥٤ ، محمود شكري الألوسي : تاريخ نجد ص ٢٩ ، وكذا Betram, Thomas, Arabia Felix, Across The Empty Quarter of Arabia, N. Y. ٢٣٩١. P. ٠٥٣ B. Moritz, Arabien Studien Zur Physikalischen und Historischen Geographie des Landes, Hanover, ٣٢٩١, P. ١٢

٣٢٥

وأما أهم أودية شبه الجزيرة العربية ، فوادي الرمة ووادي الحمض ووادي السرحان ووادي حنيفة ووادي الدواسر ووادي بيشه ، ثم وادي نجران ـ والذي يتصل بموضوعنا ـ وهو أحد الأودية الكبيرة في شبه الجزيرة العربية ، بل هو في الواقع مجموعة أودية كبيرة ، منها :

(١) وادي حرض : وينبع من مرتفعات «وشحه» ومرتفعات «خولان بن عامر» غربي صعدة ، ويتجه مجراه إلى ساحل البحر الأحمر شمال «ميدي» في المملكة العربية السعودية.

(٢) وادي مور : وهو واد كبير تتصل به روافد كثيرة متعددة المنابع (من مرتفعات العشمة ووشحه وكحلان وحاشد) ويصب في البحر الأحمر شمال «اللحية».

(٣) وادي سردد : ويغذي مناطق زراعية واسعة ، وتتصل به عدة روافد ، أهمها وادي الأهجر الذي تكثر به الشلالات وقد استخدم على أيام حمير في طحن الغلال ، ويصب وادي سردد جنوب «الزيدية».

(٤) وادي سهام : وتقع منابعه في وادي آنس جنوب صنعاء ، ويصب في البحر الأحمر جنوب الحديدة.

(٥) وادي رماع : وينبع من المرتفعات الواقعة شمال «ذمار» ، وتغذيه عدة روافد ، ويصب في البحر الأحمر شمال «الفازة».

(٦) وادي زبيد : وهو من الأودية الغزيرة المياه ، ومنابعه في مرتفعات لواء «آب» ويصيب في البحر الاحمر غربي مدينة «زبيد».

(٧) ثم هناك وادي نخلة ، ويصب في البحر الأحمر شمال «الخوضة» ، ثم وادي رسيان ووادي موزع.

٣٢٦

وكل هذه الأودية تتجه غربا ، أما الأودية التي تتجه شرقا ، فهي : (١) وادي الجوف ، وتتجمع فيه عدة أودية. (٢) وادي مأرب : وينبع من جبل بلق ثم يتجه شرقا مارا بمدينة مأرب ـ على مبعدة ١٢ كيلومترا من سد مأرب. (٣) وادي حريب : وينبع من مرتفعات خولان الطيال (٤) وادي أملح والعقيق (٥) وادي بيجان ، وينبع من مرتفعات لواء البيضاء ثم يتجه إلى الشمال الشرقي حتى يصل إلى بيجان القصاب ، ثم تضيع مياهه شرقا في الأحقاف (١).

وتتميز هذه الأودية الأخيرة بأنها ذات أهمية تاريخية ، إذ كانت مركزا للسكنى والاستقرار ، وكان حجم التجمعات السكانية ولا شك كبيرا ، وقد دفعتهم قلة المياه في بلادهم ، مع الرغبة في زراعة أراضيهم ، إلى التفكير في إقامة السدود العديدة على مجاري الوديان ، حتى أنهم في الغالب لم يتركوا واديا يمكن استثمار جانبيه بالماء إلا حجزوا سيله بسد ، وحتى أن الهمداني يشير إلى أنه في مخلاف «يحصب العلو» وحده ثمانون سدا ، والى هذا يشير شاعرهم بقوله [وفي الجنة الخضراء من أرض يحصب : ثمانون سدا تقذف الماء سائلا] (٢).

وبقايا هذه السدود ما يزال يشهد بوجودها في مجاري الوديان ، فضلا عن بقايا المدن التي كانت تنتشر بالقرب من مجاري الوديان كذلك ، والتي من أهمها براقش ومعين التي ذكر بليني أنها كانت بلادا كثيرة الغاب والأعراس.

وأما أهم سدود اليمن القديمة هذه ، إذا استثنينا سد مأرب العظيم ، فهي : سد قصعان وربوان (سد قتاب) وشحران وطمحان وسد عباد

__________________

(١) محمود طه أبو العلا : المرجع السابق ص ٤٣ ـ ٥٢

(٢) الهمداني : صفة جزيرة العرب ص ١٠١

٣٢٧

وسد لحج (سد عرايس) وسد سحر ذي شهال وسد ذي رعين وسد نقاطه وسد نضار وهران وسد الشعبابي وسد المليكي وسد النواسي وسد المهباد وسد الخانق بصعدة (وقد بناه نوال بن عتيك مولى سيف بن ذي يزن) ومظهره في الخنفرين من رحبان ، وسد ريعان وسد سيان وسد شبام ، على مقربة من صنعاء بثمانية فراسخ ، وسد دعان وغيرها (١).

هذا وهناك كذلك سد قتبان ، وقد أقيم في وادي بيجان عند «هجر بن حميد» (٢) ، وكان يسقي منطقة واسعة من دولة قتبان (٢) ، فضلا عن سد

__________________

(١) ياقوت ٣ / ٣١٨ ، جرجي زيدان : المرجع السابق ص ١٥٤ ، جواد علي ٧ / ٢١٢ () انظرA. Grohmann, Arabien, P. ٣٥١ R. Hamilton, Archaeological, Sites in the Western Aden Protectorate, G. J. ١٠١. ٣٤٩١, P. ٦١١ J. B. Philby, The Land of Sheba, GJ, ٢٩, PP. ٣١١, ٩١١

(٢) تقع دولة قتبان ـ فيما يرى سترابو ـ في الاقسام الغربية من العربية الجنوبية وفي جنوب السبئيين وجنوبهم الغربي ، وقد امتدت منازلهم حتى باب المندب (EI ,٢ ,P.٠١٨) ، وليس في المصادر العربية شيئا يستحق الذكر عنها ، سوى أنها موضع من نواحي عدن (ياقوت ٤ / ٣١٠) وانها بطن من رعين حمير (تاج العروس ١ / ٤٣١) وقد اختلف المؤرخون في التأريخ لها ، ربما لمعاصرتها لدولة معين وسبأ ، ومن ثم فإن تاريخ الدول الثلاث مرتبط ببعضها ومرتبط بالأبحاث اللغوية ، وكل تلك امور ما تزال موضع خلاف ، ومن ثم فقد رأينا من يضع دولة قتبان فيما بين القرنين العاشر والثاني قبل الميلاد ، ومن يرى أنها في الفترة (٨٦٥ ـ ٥٤٠ ق. م.) ، ومن يرى أنها فيما بين عام ٦٤٥ ق. م. والقرن الثالث ق. م. ، ومن يرى أنها فيما بين القرن السادس ق. م. ، وعام ٥٠ ق. م. ومن يضعها في الفترة (٤٠٠ ـ ٥٠ ق. م.) ومن يرى انها فيما بين القرن الرابع ق. م. ، والأول الميلادي [أنظر J. P. Philby, The Background of Islam, P. ٠٦ S. Moscati, Ancient, Semitic Civilizations, P. ٩٧١ وكذا BASOR, ٩١١, ٠٥٩١, PP. ٣ ـ ٥ F. Hommel, Grundris derGeographie and Gerchichtedes Alten Orient, P. ٩٣١ (W. Phillips, Oataban and Sheba, P. ٢٢٢ F

وأما أهم مدن قتبان فهي العاصمة تمنا» (تمنه ـ تمنع)

(٣) وتقع في وادي بيحان في منطقة تدل آثار الري فيها ، على أنها كانت خصبة كثيرة المياه والبساتين ، وأنها قد خربت بسبب حريق هائل ، هذا فضلا عن «حريب» التى ذكر الهمداني ، «واشتهرت بنقود ضربت فيها وحملت اسمها كما كانت عاصمة لقتبان في أخريات أيامها» (أنظر الهمداني : المرجع السابق ص ٨٠ ، ٩٥ ، ١٣٥ ؛ جواد علي ٢ / ٢٣٠ ـ ٢٣١ وكذا G. F. Hill, Catalogue of the Greek Coins of Arabia, Mesopotamia and Persia, P. IXXIV. ٥٧

٣٢٨

عند «مرخة» ، وآخر عند «شبوة» ، وثالث عند «الحريضة» (١) ، أضف إلى ذلك تلك السدود التي تظهر آثارها في وادي عديم وعند حصن العر وثوبة في جنوب وادي حضرموت ، كما أن هناك ما يشير إلى أن الصخور قد نحتت عند «نجران» لعمل ممر مائي يتجه إلى حوض واسع أحيط بسد وجدار ، حيث يستطيع القوم تخزين مائة مليون جالون من المياه هناك (٢).

(٤) سد مأرب

كان خصب أرض سبأ مضرب الأمثال عند العرب ، وكان أهلها ينعمون بخيرات واديهم ، وبما تدره التجارة عليهم من أموال ، إذ كان السبئيون القدامى يتحكمون في ذلك الدرب التجاري الهام الذي لعب دورا من أكبر الأدوار في تاريخ العالم القديم.

وهناك على مقربة من مدينة مأرب توجد فتحة لتنظيم تصريف المياه التي كانت تسير في القناة اليمنى ـ إحدى القناتين اللتين كانتا تخرجان من سد مأرب ـ وما زالت بقايا جداريها المشيدين بالحجر ، ترى حتى الآن في الجهة الجنوبية من المدينة ، وهي الباب الرئيسي في السور الذي كان يواجه معبد «أوام» أو «محرم بلقيس» ، وعلى الجدار الشمالي من ذلك الأثر نقش معروف (رقم ١ ـ ٤٤) ومكتوب فيه أن مكرب سبأ «ذمار على وتار» بن «كرب ايل» ـ الذي عاش في القرن السابع قبل الميلاد ـ هو الذي بنى هذه الفتحة أمام هيكل الإله «عتتر» (٣) ، ويبدو أن الرجل كان

__________________

(١) جواد علي ٧ / ٢١٣ وكذا C. Thompson And E. Gardiner, in GJ, ٣٩, ٩٣٩١, P. P. ٤٣ ـ ٥

(٢) جواد علي ٧ / ٢١٣ وكذاJ.B.Philby ,The Land of Sheba ,P.٦١ وكذاA.Grohmann ,op - cit ,P.٣٥١

(٣) احمد فخري : المرجع السابق ص ١٧١ ، ١٨٠ وكذاJ. Ryckmans, Les Instiiutions Monarchiques, P. P. ٢٦ ـ ٣

٣٢٩

مهتما بالإصلاح الزراعي ، وكما نعرف من نقش (هاليفى ٣٤٩) فإنه قد أمر بتوسيع مدينة «تشق» ، كما أمر بتحسين وسائل الري ، وباستصلاح الأراضي المحيطة بالمدينة واستغلالها في الزراعة (١).

وعلى أي حال ، فلقد جاء بعد «ذمار علي وتار» ولده «سمه علي نيوف» الذي ينسب إليه أنه صاحب فكرة ومنفذ أكبر مشروع للري عرفته بلاد العرب ، وذلك بالرغم من أن سكان مأرب كانوا ذوي خبرة بشئون الري ، إلا أن سدودهم كانت بدائية ، حتى جاء «سمه على نيوف» وأحدث تطورا خطيرا في وسائل الري ، وذلك حين شيد سد «رحب» للسيطرة على مياه الأمطار والاستفادة من السيول ، وهكذا بدأ المشروع العظيم والذي عرف في التاريخ باسم «سد مأرب» الذي نما على مر الأيام ، حتى اكتمل في نهاية القرن الثالث الميلادي على أيام «شمر يهرعش» (٢) ، فنظم وسائل الري وأضاف مساحات كثيرة إلى الأرض الصالحة للإنتاج (٣).

ونعرف من نقش (جلازر ٥١٤) أن «سمه علي ينوف» قد ثقب حاجزا في الحجر ، وفتح ثغرة فيه لمرور المياه إلى سد «رحب» ثم إلى منطقة «يسرن» التي كانت تغذيها مسايل وقنوات عديدة تأتي بالمياه من حوض السد (٤) ، وتستمد ماءها من مسيل «ذنة» فتغذي أرضا كانت ـ

__________________

(١) جواد علي ٢ / ٢٨٠

(٢) حكم شمر يهرعش في الفترة (٢٧٠ ـ ٣١٠ م) ، وإن كان «فون فيسمان» يحدد النصف الثاني من حكمه بالفترة (٢٨٥ ـ ٢٩١ ـ أو ٣١٠ ـ ٣١٦ م) [فؤاد حسنين : المرجع السابق ص ٣٩٥ وكذا (Le Museon ,٤٦٩١ ,٣ ـ ٤ P.P.٦٥٤ ,٦٨٤

(٣) جواد علي ٢ / ٢٨١ ، وكذا انظر : D.Nielson ,Handbuch ,I.P.٩٧

(٤) انظر.H. Von Wissmann and M. Hofner, Beitrage zur historischen Georgraphie des Vorislamishchen Sudarabien, P. ٧٢

٣٣٠

وما تزال ـ خصبة ، يمكن للقوم الإفادة منها إذا ما استعملوا الوسائل الحديثة لإيجاد المياه (١).

وليس من شك في أن عهد «سمه علي ينوف» من أهم عهود مكاربة سبأ (٢) ، فيما يتصل بالتأريخ لسد مأرب ، وأن أقدم ما لدينا من وثائق عنه ، إنما يرجع إلى عهد هذا المكرب ، وربما إلى حوالي عام ٧٥٠ ق. م. ، على رأي (٣) ، وإلى حوالي عام ٧٠٠ ق. م. ، على رأي آخر (٤)

وجاء «يتع أمربين» وسار على سنة أبيه «سمه على ينوف» في الاهتمام بتحسين وسائل الري في البلاد ، ويبدو أن «سد رحب» لم يف بجميع حاجيات الاراضي الصالحة للزراعة من المياه ، ومن ثم فقد عمل «يتع أمربين» على إدخال بعض التحسينات على هذا السد ، وإنشاء فروع له ، ومنها فتح ثغرة في منطقة صخرية ، حتى تصل المياه إلى أرض «يسرن» ، هذا إلى جانب تعلية سد رحب وتقويته ، أضف إلى ذلك أن الرجل إنما قام ببناء السد المسمى «هباذ». وهو أكبر من «سد رحب» ، والذي كان على الأرجح البوابة الأخرى على اليسار (٥) ، كما أقام سده الجبار المعروف باسم «سد حبا بض» الذي مكّن كثيرا من الأرض من الإفادة بأكبر كمية من المياه التي كانت من قبل تجري عبثا ، فلا تفيد زرعا

__________________

(١) جواد علي ٢ / ٢٨١ ، نزيه مؤيد العظم : المرجع السابق ص ٨٨

(٢) تقع هذه الفترة فيما بين عامي (٨٠٠ ـ ٦٥٠ ق. م.) أو (٧٥٠ ـ ٤٥٠ ق. م.) وإن كنا نفضل الرأي الذي يبدأ تأريخها بالقرن العاشر ق. م. ، وإليها تنتمي ملكة سبأ صاحبة سليمان [أنظر : جواد علي ٢ / ٢٦٩ ، BASOR ,٧٣١ ,٥٥٩١ ,P.٨٣ وكذا (Discoveries ,P.٣٧

(٣) جواد علي ٢ / ٢٨٢ وكذاDiscoveries ,P.٥٧

(٤) Ency ,of Islam ,III ,P.٠٩٢

(٥) احمد فخري : المرجع السابق ص ١٨٣ ، جواد علي ٢ / ٢٨٢ ، وكذاDiscoveries ,p.٥٧ وكذاGlaser ٣٢٥ ,٥٢٥

٣٣١

أو ضرعا (١).

ولعل هذا كله ، هو الذي دفع بعض الباحثين إلى اعتبار «يتع أمربين» وأبيه «سمه علي ينوف» المؤسسين الأصليين لسد مأرب ، والذي يعتبر أكبر عمل هندسي عرفته شبه الجزيرة العربية في تاريخها القديم.

هذا وقد كان من أثر الاهتمام بإنشاء السدود وتنظيم الري ، أن زادت مساحة الأراضي الزراعية ، وخاصة حول مأرب ، مما كان سببا في الإعلاء من شأنها وزيادة سكانها ، ولما كان الرخاء الاقتصادي في سبأ يعتمد على الحياة النباتية ـ وليس الحيوانية ـ فإن الاهتمام بتنظيم الري إنما كان سببا في الرخاء الذي ساد البلاد إبان تلك الفترة ، وجعل من «مأرب» مدينة مزدهرة ، وأوجد الصورة الرومانتيكية لبلاد العرب في أذهان المؤلفين الكلاسيكيين ، فأطلقوا عليها «بلاد العرب السعيدة» ، وهكذا أصبحت مأرب تنازع «صرواح» (٢) مكانتها أول الأمر ، ثم

__________________

(١) فؤاد حسنين : المرجع السابق ص ٢٩١ وكذا Ency ,of Islam ,III ,P.٠٩٢ وكذا انظر : D.H.Muller ,Die Burgen ,II ,P.٣١

(٢) كانت صرواح عاصمة سبأ في عصر المكاربة ، ثم واحدة من أهم مدن سبأ لعدة قرون بعد ذلك ، وتقع الآن في موضع «الخربة» و «صرواح الخريبة» ما بين صنعاء ومأرب ، وكثيرا ما تردد ذكرها في أشعار العرب ، وقال عنها الهمداني : أنه لا يقارن بها شيء من المحافد المختلفة ، ويروي الأخباريون أنها حصن باليمن ، وأن الجن قد بنوه لبلقيس بأمر من سليمان ، وليس من شك في أن هذا من الأساطير التي لعب الخيال فيها دورا كبيرا ، فضلا عن جهل بتاريخ المدينة ، إلى جانب أثر الاسرائيليات في إرجاع أي أثر لا يعرفون صاحبه ، إلى سليمان وإلى جن سليمان ، وتوجد المناطق الأثرية في صرواح في ثلاثة مناطق هي : منطقة البناء والمنطقة المسماة القصر ، وهي قرية حديثة استخدموا في تشييدها بعض أحجار المعابد ، وإما المنطقة الثالثة فهي المسماة الخريبة ، واما أهم آثار صرواح فهو معبد إله القمر الموقاة ، ودار بلقيس ومعبد «يفعان» الذي نال حظوة كبيرة بعد معبد الموقاة عند المكاربة [أنظر : احمد فخري ص ١٦٠ ـ ١٦٢ ، نزيه مؤيد العظم ٢ / ٣٤ ، ياقوت ٥ / ٤٠٢ ، اللسان ٣ / ٣٤٣ ، الهمداني الإكليل ٨ / ٢٤ ، ٤٥ ، ٧٥ ، ١٠ / ٢٢ ، ٢٤ ، ٢٦ ، ٣٩ ، ١١٠ ، صفة جزيرة العرب ص ١٠٢ ، ١١٠ ، ٢٠٣ ، منتخبات ص ٦٠ وكذا (G. Rycknans, Publication of the Inscriptions, III, ١٥٩١ D. Nielson, op - cit, P. ١٤١

٣٣٢

سلبتها هذه المكانة بعد حين من الدهر ، فغدت عاصمة سبأ ، وصاحبة معبد الإله الموقاة ـ إله سبأ الكبير (١).

هذا وهناك ما يشير إلى أن ملوكا آخرين قد أضافوا أجزاء أخرى إلى السد ، فضلا عن تقوية أجزائه القديمة ، ومن هؤلاء الملوك «كرب ايل بين بن يتع أمر» و «ذمار علي ذريح» و «يدع ايل وتار» (٢).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن القوم إنما كانوا يهدفون من وراء السد إلى تحقيق أمرين ، الواحد السيطرة على مياه السيول المتدفقة فلا تخرب ما يعترضها إذا جاءت فجأة بكثرة غير عادية ، والآخر تخزين تلك المياه ورفع مستواها أمام السد وعدم صرف شيء منها إلا بالمقدار اللازم ، وبذلك يضمنون ري وادي مأرب ، الذي يرتفع عن مستوى السائلة بخمسة أمتار ، ويأمنون توفير كميات المياه اللازمة للري حين يحين موعد مجيء سيول أخرى من المناطق الممطرة في شرق اليمن لأن منطقة مأرب من المناطق الجافة قليلة الأمطار ، ولا يزرع أهلها اليوم ـ أي بعد تخريب السد ـ إلا مساحات ضئيلة على مقربة من مجرى المياه في وادي دنة ، وتضيع اكثر مياه السيول هباء في الوقت الحالي ، ولا يمكن استخدامها في زراعة أراضي الوادي المرتفعة (٣).

(٥) وصف السدّ

تسقط كميات كثيرة من الأمطار في مناطق كثيرة في شرق اليمن ، وتسير

__________________

(١) فؤاد حسنين : المرجع السابق ص ٢٩١ وكذا Arabia, in CHI, I, P. ٠١ J. B. Philby, op - cit, P. ٩٣ وكذاI.Shalid ,Pre - Islamic

(٢) جرجي زيدان ؛ المرجع السابق ص ١٦١ ، جواد علي ٧ / ٢١٠ وكذاD.H.Muller ,op - cit ,P.٥١

(٣) احمد فخري : المرجع السابق ص ١٨١

٣٣٣

سيولها في الوديان المختلفة ، ثم تتجمع مع غيرها من السيول القادمة من الشمال ومن الجنوب ، وتؤلف هذه السيول شبه بحيرة كبيرة مستديرة ومرتفعة من جهة الغرب والشمال والجنوب ، ومنخفضة من جهة الشرق ، حيث تسير جميعها شرقا في مجرى سيل واحد يطلق عليه اسم أكبرها «ذنة» (إذنة) وتدخل جميعها في واد كبير في جبل يقال له جبل بلق ، فتقسمه إلى جبلين ـ بلق الأيسر وبلق الأيمن ـ وأما الفتحة بين الجبلين فتعرف باسم «الضيقة» (١).

ويرتفع جبل بلق في تلك المنطقة إلى حوالي ٣٠٠ م ، وأما الضيقة فتبلغ متوسط اتساعها حوالي ٢٣٠ م ، وإن اتسعت في الوسط إلى حوالي ٥٠٠ م ، ثم تضيق بعد ذلك فلا تزيد عن ١٩٠ م ، ثم تستمر الناحية الشمالية (أي التي على يمين الشخص المواجه للسد) في امتدادها ، بينما تنفرج الناحية الأخرى ، وقد اختار السبئيون القدامى هذا المكان لتشييد السد ، فبنوا جدارا قويا يعترض الوادي ويوقف مياه السيول المتدفقة ، وجعلوا في الناحيتين فتحتين ، إحداها إلى أقصى اليمين ، واستغلوا ذلك الجبل المرتفع في هذا الغرض فلم يبنوا إلا جدارا ضخما واحدا ليكون صدغا ثانيا للبوابة ، أما البوابة التي في الناحية اليسرى (الجهة الجنوبية) فهي أكبر وأعظم وتنقسم إلى قسمين ، وبنوا لها جدارين كبيرين يسيران مسافة غير قليلة ، ثم ينتهيان بحوض كبير مبني بالحجر ترى في وجهاته المختلفة فتحات متعددة يخرج من كل منها قناة تسير لري ناحية من نواحي الوادي الفسيح (٢).

ويطلق الاهالي على البوابة اليمنى مربط الدم وكانت تروى الناحية اليمنى التي ما زالت بقايا كثيرة من قراها ظاهرة حتى اليوم وكلها على يمين

__________________

(١) محمد مبروك نافع : المرجع السابق ص ٨٢

(٢) احمد فخري : المرجع السابق ص ١٨١

٣٣٤

وادي زنة ، وربما كان ذلك الإسم في حد ذاته ما يثبت أن تهدم السد قد حدث في هذه الناحية القريبة من مدخل الضيقة ويبدو أن صخرة الجبل تكوّن إحدى جانبي هذه الفتحة ، أما الناحية الأخرى فمشيدة من الحجر ، وربما كان في صدغي تلك الفتحة المكان الذي كانوا يزلقون فيه كتل الأخشاب لتصريف الكميات اللازمة من المياه وتسير بعد ذلك في قناة عادية ، ويبدو أنه كان هناك بروزا مثلثا في ذلك الجدار الحجري ، وقد كان ذلك البروز داخلا في جدار السد الكبير ، وهو الجدار الذي تهدم وسبب ذلك الخراب (١).

وأما البوابة اليسرى ، فقد كان لها عينان ، ووراءها قناة مبنية الجوانب طولها أكثر من كيلومتر تنتهي بحوض كبير تتفرع منه عدة قنوات ، كما يبدوا أنهم سدوا الناحية الجنوبية بجدار يرتكز على صخرة الجبل ، ثم جعلوا في مكان مرتفع من الجدار أربع فتحات وذلك لتصريف أي كميات زائدة من المياه حتى لا يرتفع منسوب المياه أمام السد إلى حد لا يريدونه ، أو يؤثر على الفتحات أو يتعارض مع النظام المقرر لها ، وتخرج تلك المياه الزائدة إلى الخارج وتنزل إلى باطن الوادي ، وفي وقت من الأوقات رأوا أنه لا حاجة للعينين فسدوا واحدة منهما واكتفوا بالأخرى ، وكان يخرج من الحوض المبني بالحجر في آخر القناة الكبرى قنوات متعددة ، تبلغ فتحات بعضها نحو ثلاثة أمتار ، وكلها مبنية بالحجر ، وكانت مثل البوابتين الكبيرتين تغلق بوضع كتل من الخشب تنزلق في فتحتين في جانبي كل بوابة (٢).

هذا وتدل دراسة المباني التي ما زالت قائمة عند البوابتين على أنه قد

__________________

(١) نفس المرجع السابق ص ١٨٣

(٢) نفس المرجع السابق ص ١٨٤

٣٣٥

استخدمت في بناء السد والحواجز حجارة اقتطعت من الصخور وعولجت بمهارة وحذق حتى توضع بعضها فوق بعض ، وتثبت وتتماسك وكأنها قطعة صلدة واحدة ، وقد وجد أن بعض الأحجار قد ربطت بعضها ببعض بقطع من قضبان أسطوانية من المعدن المكون من الرصاص والنحاس وذلك ليكون البناء قويا ، وليكون في إمكانه الوقوف أمام ضغط الماء وخطر وقوع الزلازل ، أما المادة التي استعملت لربط الاحجار ببعضها فهي من الجبس الممتاز ، وقد تصلب هذا الجبس الذي طليت به واجهات السد كذلك حتى صار كأصلب أنواع السمنت (١).

(٦) تهدم السد

تعرض سد مأرب عدة مرات لتصدعات في بنيانه إبان الفترة ما بين بنائه على أيام «سمه علي ينوف» في منتصف القرن السابع قبل الميلاد (٢) ، أي حوالي عام ٦٥٠ ق. م. (وربما حوالي عام ٧٠٠ ق. م. أو ٧٥٠ ق. م. ، كما أشرنا من قبل) وبين آخر مرة أصلح فيها السد في عام ٥٤٣ م ، على أيام أبرهة الحبشي ، أي خلال ما يقرب من ألف ومائتي عام ، وربما أكثر من ذلك ، لأن هناك من يرى أن السد قد ظل يؤدي واجبه حتى حوالي عام ٥٧٥ م (٣) ، ومن ثم فليس في استطاعتنا على ضوء معلوماتنا الحالية أن نؤكد أن تلك المباني القائمة عند الفتحتين ، إنما ترجع إلى عهد «سمه

__________________

(١) جواد علي ٧ / ٢١١ ، نزيه مؤيد العظم ٢ / ٩٢ وكذاA.Grohmann ,op - cit ,P.٢٥١

(٢) حدد «فلبي» للمكرب «سمه علي ينوف» فترة الحكم (٦٦٠ ـ ٦٤٠ ق. م.) ، غير أنه عاد بعد ذلك وحدد له في قائمته التي نشرها في مجلة (le Museon) عام ٧٨٠ ق. م. كبداية للحكم ، ثم جعل فترة الحكم ـ بالاضافة إلى فترة حكم خليفته «تيع أمربين» ثلاثين عاما ، تنتهي عام ٧٥٠ ق. م. (أنظر جواد ٢ / ٣١٢)

(٣) جواد علي ٧ / ٢١٠ وكذاA.Grohmann ,op - cit ,P.١٥١ وكذا انظر : A. Grohmann, Sudarabien als Wirtschaftsgebie t, II, P. P. ٣٢ ـ ٨٢

٣٣٦

على ينوف» و «يثع أمربين» أو الى عهد غيرهما ، غير أننا إذا ما قارنا مبانيهما بمباني معبد صرواح ومعبد محرم بلقيس ـ وكلاهما من هذا العهد ـ ووضعنا في أذهاننا أن تهدم ذلك السد يحدث من تصدع جداره الكبير الذي كان بين البوابتين ، نرى أنفسنا ميالين إلى الأخذ بالرأي القائل بأن مباني البوابتين القائمتين هما من ذلك العهد (مع افتراض حدوث بعض الترميمات فيهما) اللهم إلا إذا ظهر من الوثائق القديمة ما يثبت غير ذلك ، وهو ما لم يحدث حتى الآن (١).

ونقرأ في نقش (جلازر ٨٢٥) أن الرومانيين قد انتهزوا فرصة الحرب التي دارت رحاها بين الملك السبيئي «شعر أوتر» (٦٥ ـ ٥٥ ق. م.) (٢) ، وبين ملك حضرموت «العزيلط» (٣) ، فأغاروا على سد مأرب بغية إيقاع الخسائر به ، غير أن قبيلة «حملان» التي عهد إليها حماية السد ، نجحت في صد هجوم الرومانيين ، هذا ويذهب البعض إلى أن هذا الهجوم ربما كان بتحريض من ملك حضرموت بهدف إنزال ضربة قاصمة بالسبئيين ، وذلك بتخريب سدهم الذي هو بمثابة العمود الفقري للإقتصاد السبيئي ، وبخاصة بالنسبة للعاصمة مأرب (٤).

هذا وهناك ما يشير إلى أن هناك تصدعا قد حدث في سد مأرب على أيام الملك «شمريهرعش» وأن الرجل قد نجح في إصلاحه (٥).

__________________

(١) أحمد فخري : المرجع السابق ص ١٨٤

(٢) A. Jamme, Sabaean, Inscriptions, from Mahram Bilquts, P. ٠٩٣ وقارن : A.Grohmann ,op - cit ,P.٨٢

(٣) انظرBerlin ، وكذاH, Von Wissmann andM, Hofner, op - cit, P. ٣١١ Handbuch, I, P. ٣٩ وكذاA.Jamme ,op - cit ,P.٠٠٣ وكذا ٢٧٦٢ وكذاCIH ,٤٣٣

(٤) انظر : H Von Wissmann and Maria Hofner ,op - cit ,P.٨٣

(٥) جواد علي ٧ / ٢١٠

٣٣٧

وعلى أي حال ، فإننا نعرف من نص (جام ٦٧١) ، والذي أقامته جماعة من سادات بيت ريمان ، وأقيال عشيرة سمعي ، شكرا للموقاه الذي ساعدهم على القيام بما أمر به الملكان «ثاران يهنعم» و «ملكى كرب يأمن» (١) ، من إصلاح للسد ، نعرف أن السد قد تهدم عند موضع «حبابض» ـ وكذا عند رحبتن ـ فتداعت جدرانه ومبانيه واحواضه وسدوده ومصارفه الواقعة فيما بين «حبابض» و «رحبتن» ، وأن القوم قد كتب لهم نجح كبير في إصلاح ما تهدم من السور (٢).

هذا ، ونجد أنفسنا إذا ما وصلنا إلى عهد «شرحبيل يعفر» (٤٢٥ ـ ٤٥٥ م) (٣) ، أمام نص خطير (جلازر ٥٥٤) (٤) ، يحدثنا عن تصدع سد مأرب ، وما قام به الملك إزاء هذا الحادث الخطير ، فنقرأ أن «شرحبيل يعفر ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في النجاد والتهائم ، ابن أبي كرب أسعد ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في النجاد والتهائم ، قام بتجديد بناء سد مأرب وترميمه على مقربة من رحب وعند عبرن» ، فضلا عن إصلاح أجزاء منه حتى

__________________

(١) يرى «فون فيسمان» أن «ثاران يهنعم» قد حكم مع أبيه «ذمار علي يهبر» حكما مشتركا في الفترة (٣٤٥ ـ ٣٥٠ او ٣٦٠ م) ثم مع ابنه «ملكي كرب يهأمن» ، ثم الأخير مع ولديه «أب كرب اسعد» و «ذرأ أمرايمن» ثم انفرد «أب كرب أسعد» مع ولده «حسن يهأمن» في حوالي ٤٠٠ م) le Museon ,٤٦٩١ ,٣ ـ ٤ ,PP.٠٩٤ ,٨٩٤ ، وانظر كذلك (Oriens Antiques ,III ,٤٦٩١ ,P.٠٨)

(٢) Le museon ,٤٦٩١ ,٣ ـ ٤ ,P.١٩٤ ,٨٩٤ وكذاA Jamme ,op - cit ,P.٦٧١

(٣) J.B.Philby ,op - cit ,P.٤٠١) وقارن قريتز هومل : حيث يضعه في الفترة (٤٢٠ ـ ٤٥٥ م) أنظر : D.Nielsen ,op - cit ,P.٤٠١ وكذاPhluiby ,Arabian Highlands ,P.٠٦٤

(٤) E. Glaser, Lweilnschriften uber den Dammbruch von Marib, MVG, ١١, ٧٩٨١, P. ٢٧٣ وكذا انظرLe Museon ,٤٦٩١ ,٣ ـ ٤ ,P.٣٩٤ وكذاA.Sperenger ,Die Alte Geographie Arabiens ,P.٣١

٣٣٨

موضع طمحن (طمحان) ، وحفر مسايل المياه وبناء القواعد والجدران بالحجارة وتقوية فروعه ، وبناء أقسام جديدة بين «عيلن» (عيلان) و «مغلل» (مغلول) ، وتجديد سد «يسرن» ، وأن هذه الأعمال كلها ، إنما تمت في شهر «ذي داون» من عام ٥٦٤ من التقويم الحميري (١) ، الموافق عام ٤٤٩ (أو عام ٤٥٦) من التقويم الميلادي (٢).

ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن النص إنما يشير إلى أمور عدة ، منها (أولا) أن تصدع السد قد اضطر الملك إلى تجديد بناء أقسام منه ، وترميم أقسام أخرى ، فضلا عن إضافة أقسام جديدة إليه ، ومنها (ثانيا) أن السد إنما تهدم مرة أخرى ، وبعد فترة قصيرة ، وذلك في شهر ذو ثبتن (ذو الثبت) من عام ٥٦٥ من التقويم الحميري (الموافق ٤٥٠ م أو ٤٥٥ م) ، وكان التهدم هذه المرة في غاية الخطورة حتى أن القوم في «رحبتن» (الرحبة) قد اضطروا إلى الفرار إلى الجبال خوف الموت ، ومن ثم فقد لجأ الملك إلى حمير وإلى قبائل حضرموت يستعين بهم على إعادة بناء السد ، وقد تجمع لديه من هؤلاء وأولئك زهاء عشرين ألف رجل ، عملوا في قطع الأحجار وحفر الأسس وتنظيف الأودية وانشاء الخزانات وعمل الأبواب ومنافذ مرور المياه ، وقد تمّ ذلك بنجاح في شهر «ذو دأو» من عام (٥٦٥) من التقويم الحميري (٤٥٠ م).

ومنها (ثالثا) أن تصدع السد بعد فترة قصيرة من ترميمه واصلاحه

__________________

(١) يبدأ هذا التقويم عام ١١٥ أو ١٠٩ ق. م. ، لأنه عام قيام دولة حمير ، أو لأنه تاريخ سقوط معين تحت سيادة سبأ أو لأنه عام انتصار سبأ على قتبان

(٢) جواد علي ٢ / ٥٧٩ ـ ٥٨١ وكذاA.Sprenger ,op - cit ,P.٠٢ وكذاE.Glaser ,op - cit ,P.٩٧٣ وكذا Le Museon, ٤٦٩١, ٣ ـ ٤, P. ٤٩٤ J. B. Philby, The Buckground of Islam, P. ٨١١

٣٣٩

وتجديده ، وبعد إنفاق أموال طائلة عليه ، واشتغال آلاف من العمال في بنائه ، شيء يدعو إلى التساؤل عن سبب سقوطه أو سقوط جزء منه بهذه السرعة ، وهنا يقدم الباحثون ثلاثة احتمالات ، أولها : أن التصدع إنما كان بسبب سقوط أمطار غزيرة في هذا العام لم يكن في طاقة السد احتمالها ، وثانيها : أن إصلاح السد لم يكن قد كمل تماما ، فسقطت أمطار غزيرة سببت انهيار الأماكن الضعيفة في المواضع التي لم تكن قد تمت ، وثالثها : أن التصدع إنما كان بسبب كوارث طبيعية كالزلازل والبراكين (١).

وايا ما كان الأمر ، فلقد كان لهذه الأحداث أثر سيّئ على مأرب ، ومن ثم فقد أخذ الناس يرحلون عنها إلى مناطق أخرى مثل «صنعاء» التي بدأ نجمها يتألق حتى صارت فيما بعد مقر الحكام الذين أقاموا في قصر غمدان ، ربما بسبب التحول السياسي الذي أصاب هذا العهد ، وان كان تصدع السد عدة مرات كان هو السبب الأول ، حيث ترك المزارعون أراضيهم التي أصابها التلف والجفاف إلى أرضين أخرى ، فضلا عن اللجوء إلى الهضاب والجبال (٢) ، على أن نص (جلازر ٥٥٤) الذي أشار إلى هذه الأحداث الخطيرة ، لم يشر إلى أسماء القبائل التي هربت من «رحبتن» خوف الموت ، وإن كان يفهم منه أن القبائل التي كانت تسكن هذه المنطقة قد تفرقت وتشتت بسبب ما أصاب السد ، وفي هذا دليل على أن هناك أصلا تاريخيا للروايات العديدة التي يرويها الأخباريون عن تهدم سد مأرب وتفرق سبأ (٣) ، وإن غلب فيها عنصر المبالغة والخيال على عنصر

__________________

(١) جواد علي ٢ / ٥٨٠ ـ ٥٨١ وكذاJ.B.Philby ,op - cit ,P.٨١١

(٢) Le Museon ,٤٦٩١ ,٣ ـ ٤ ,P.٣٩٤

(٣) أنظر :E. Glaser, in Mitteitlungen der Vorderasiatische n lnseschatt, II, ٧٩٨١. P. ٧٨٣ وكذاA.Sprenger ,op - cit.P.٨٢

٣٤٠