دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
المطبعة: دار النهضة العربية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٠

الفصل الخامس

الكعبة الشّريفة

١٨١
١٨٢

(١) بناء الكعبة

لا ريب في أن الكعبة ، إنما قام ببنائها الخليل وولده إسماعيل ـ عليهما‌السلام ـ الأمر الذي يؤكده القرآن الكريم ، ويرتضيه محققو المؤرخين ، إلا أن نفرا من المؤرخين ، إنما يحلو لهم أن يقدموا لنا روايات ترجع ببناء الكعبة إلى ما قبل عهد إبراهيم بآلاف السنين ، بل أن البعض إنما يذهب إلى أنها قد بنيت قبل أن يبرأ الله الأرض نفسها ، وهكذا وجدت لدينا روايات تنسب بناء الكعبة إلى الملائكة ، وقبل أن يخلق آدم بألفي سنة ، بل إن هذا النفر إنما يذهب إلى أن الملائكة قد خاطبت آدم عند حجه إلى البيت الحرام ، وبلسان عربي مبين ، قائلة : «برّ حجك يا آدم ، حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام» بينما تواضع بعض هؤلاء الرواة فنسب بناء الكعبة إلى آدم فحسب ، وتواضع بعض آخر أكثر ، فنسب بناءها إلى شيث بن آدم ، وأن هذا البيت المقدس ، إنما غرق في طوفان نوح ، حتى أتى إبراهيم فأعاد بناءه (١).

على أن فريقا آخر ، إنما يذهب إلى أن الكعبة ، إنما أقيمت في مكان معبد قديم للعماليق ، اندثر واختفى قبل قدوم إبراهيم إلى الحجاز ، مما جعل هذه البلاد موضع تقديس ، حتى أن المصريين القدامى ، إنما كانوا يسمون بلاد الحجاز «البلاد المقدسة» (٢). بل إن البعض قد زاد ، فأراد أن يطوّع

__________________

(١) العمري : مسالك الأبصار في ممالك الأمصار ١ / ٩٣ ـ ٩٤ ، تفسير المنار ١ / ٤٦٦ ، تفسير البيضاوي ١ / ١٧٢ ، الكشاف ١ / ٣١١ ، تاريخ الخميس ص ١٠٠ ـ ١٠٤ ، ١٣٣ ، نهاية الأرب ١ / ٢٢٨ ـ ٢٣٠ ، ياقوت ٤ / ٤٦٣ ـ ٤٦٥ ، الازرقي ١ / ٣٢ ـ ٥٣ ، الحربي : كتاب المناسك وأماكن الحج ومعالم الجزيرة ص ٤٨١ ـ ٤٨٢ ، علي حسني الخربوطلي : الكعبة على مرّ العصور ص ٥ ـ ١٠

(٢) نفس المرجع السابق ص ١٠ ، مع ملاحظة أنه ليس هناك شيء مؤكد من الناحية التاريخية عن هذا الإسم

١٨٣

الآيتين الكريمتين ، «وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ» (١) و «إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ» (٢) ، لتتفق مع هذا الهدف ، فرأى أنهما تلهمان أن هذه المنطقة كانت معروفة ، وأن الكعبة ربما أقامت على أنقاض معبد قديم ، جرت عليه أحداث تاريخية وجغرافية غيرت من طبيعة المكان وأهمل هذا المعبد ، حتى هيئ لإبراهيم أن يرفع قواعده من جديد (٣).

والرأي عندي أن الكعبة المشرفة ، إنما ترجع في بنائها إلى الخليل وولده إسماعيل ، عليهما‌السلام (٤) ، دون غيرهما من العالمين ، يقول سبحانه وتعالى «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ، وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ، وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (٥) ، ويقول

__________________

(١) سورة الحج : آية ٢٦

(٢) سورة البقرة : آية ١٢٧

(٣) احمد إبراهيم الشريف : المرجع السابق ص ١٦٧ ، تاريخ الطبري ١ / ٢٥٤ ، قارن : تفسير القرطبي ٢ / ١٢٠ ، الكشاف ١ / ٣١١

(٤) نلاحظ في الآية الكريمة «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ» ، تأخير ذكر اسماعيل عن ذكر المفعول ، إشارة إلى أن المأمور من الله إنما هو إبراهيم ، وإنما كان إسماعيل مساعدا له ، وقد ورد أنه كان يناوله الحجارة (تفسير المنار ١ / ٤٦٩ ، البداية والنهاية ١ / ١٥٦) ، ثم قارن تفسير الطبري ٣ / ٦٤ ـ ٦٧ ، ٧١ ـ ٧٢ ، حيث نرى أن النبيين الكريمين قد رفعا القواعد معا بدليل قوله تعالى «رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» (البقرة : آية ١٢٧ ـ ١٢٨).

(٥) سورة البقرة : آية ١٢٥ ـ ١٢٧

١٨٤

سبحانه وتعالى «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ ، فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» (١) ، ويقول «وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً ، وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» (٢).

ويرى الإمام ابن كثير وغيره من العلماء ، أنه لم يجيء في خبر صحيح عن المعصوم (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أن البيت كان مبنيا قبل الخليل عليه‌السلام (٣) ، ومن تمسك في هذا بقوله مكان البيت ، فليس بناهض ولا ظاهر ، لأن المراد مكانه المقدر في علم الله المقرر في قدرته ، المعظم عند الأنبياء ، موضعه من لدن آدم إلى زمان إبراهيم ، ولنعرف ذلك كله ، فلنعد إلى القصة من أولها.

استجابت هاجر لما ارتآه الخليل عليه‌السلام ـ كما أشرنا آنفا ـ من أن يجنبها النزاع الذي قد يتفاقم بين سارة وهاجر ، والغيرة التي قد تقتل سارة ، وتزعج أمن إبراهيم واستقراره ، ومن ثم فقد قام الخليل برحلته إلى الحجاز ، ومعه هاجر وإسماعيل ، امتثالا لأمر الله ورغبة في نشر الايمان في بيئة جديدة ، وفي مناخ جديد ، وإلا لو كان الأمر مجرد إبعاد هاجر وولدها إسماعيل عن سارة ، لكان الأولى بإبراهيم ـ وهو الرحيم بولده ، الحنون على زوجته ـ أن يذهب بهما إلى أرض الكنانة ، فيحقق بذلك عدة أغراض ، تستقر زوجته عند أهلها ، ويطمئن على ولده عند خئولته ، ولا

__________________

(١) سورة آل عمران : آية ٩٦ ـ ٩٧

(٢) سورة الحج : آية ٢٦ ـ ٢٧

(٣) ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ١٦٣ ، الكشاف ١ / ٤٤٦ ، تفسير المنار ١ / ٤٦٦ ـ ٤٦٧ ، تفسير الطبري ٣ / ٧٠ ، البداية والنهاية ٢ / ٢٩٨ تاريخ اليعقوبي ١ / ٢٧

١٨٥

نقول يرد المرأة إلى أهلها ، بدل أن يقذف بها هناك في صحراء جرداء ، لا زرع فيه ولا ماء.

ولكن الخليل ـ عليه‌السلام ـ لم يكن يفعل ما فعل بأمر من نفسه ، أو بأمر من سارة ـ كما يحلوا للسطحيين من المؤرخين ـ وإنما كان يفعل ذلك كله بأمر من رب إبراهيم ، تمهيدا لأعظم مهمة ، خلدت ذكر إبراهيم ، وهدت أقواما إلى الإيمان بالواحد القهار ، أعني أول بيت وضع للناس ـ بيت الله الحرام ـ وليعيش إسماعيل هناك ، وحتى يخرج من ظهره أشرف الأولين والآخرين ، رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وحتى تنشأ هناك خير أمة أخرجت للناس ، تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر ، وهكذا ، فالرأي عندي أن هجرة أبي الأنبياء بولده الحبيب وأمه ، إنما كانت لأمر أراده الله ، وليست انتقاما من سارة ، أرادت به أن يذهب الخليل بزوجه وولده إلى مكان سحيق ، لا تعرف عنهم شيئا ، ثم يعود إليها الخليل وحده ، ولهذا يتجه البعض أن هجرة إبراهيم بولده وزوجته إلى الأرض المقدسة في الحجاز إنما كانت بعد أن أمر الله إبراهيم ببناء البيت (١).

ومن هنا فإن الروايات التي ذهبت إلى أن سارة في قرارها الغاضب هذا أقسمت لتقطعنّ من هاجر ثلاثة أعضاء ، ومن ثم فقد أمر الخليل أن تثقب أذنيها وأن تخفضها ، فتبر بقسمها ، وهكذا كانت هاجر أول من اختتن من النساء ، وأول من ثقبت أذنيها منهن (٢) ، روايات لا تتفق ومكانة الخليل أبدا ، فضلا عن جهل فاضح بالتاريخ.

وليت الذين يذكرون ذلك كله يعرفون أن المصريات كن يلبسن «الحلقان» في آذانهن قبل تلك الأيام بمئات السنين ، وأن الختان عادة

__________________

(١) تفسير الطبري ٣ / ٦٨ ـ ٦٩

(٢) ابن كثير ١ / ١٥٤ ، العقد الفريد ١ / ١٣٥ ، تاريخ الخميس ص ١٠٥ ، شفاء الغرام ٢ / ١٥ ، المقدسي ٣ / ٥٣ ، قارن : مروج الذهب ٢ / ١٩ ـ ٢٠

١٨٦

مصرية متأصلة ، تفرد بها المصريون دون شعوب المنطقة جميعا ، منذ أن كان فجر التاريخ ، وأن اليهود لم يعرفوا هذه العادة إلا إبان إقامتهم في مصر ، حتى أن التوراة نفسها لم تتحدث عن سنة الختان إلا بعد زيارة إبراهيم لمصر ، وأنه لا يوجد شعب في حوض البحر المتوسط كان يتبع هذه السنة غير المصريين ، ثم انتقل بعد ذلك منهم إلى السوريين والفينيقيين ، وأن هيرودت يروي أنه سألهم عن هذه العادة ، فقالوا إنهم أخذوها من المصريين ، الذين كانوا يتحرون بها النظافة والطهارة ، وما يزال الختان حتى اليوم في عرف المصريين يسمى «الطهارة» ، ولعل هذا هو السبب في أن المصريين كانوا يعتبرون أي قوم غير مختونين دنسين ، ومن ثم فقد كانوا يقطعون غلف القتلى من هؤلاء القوم ، الأمر الذي يبدو واضحا في حروب مربنتاح (١٢٢٤ ـ ١٢١٤ ق. م) ورعمسيس الثالث (١١٨٢ ـ ١١٥١ ق. م) (١).

وأيا ما كان الأمر ، فإن الأسرة المباركة ، سرعان ما تصل إلى الأرض الطيبة ، حيث تبقى هاجر ووليدها العظيم ، بينما يعود الخليل إلى فلسطين ، وهنا تقدم لنا الروايات العربية منظرا فريدا في التاريخ ، يقدم الخليل فيه ـ كما تقدم هاجر كذلك ـ دليلا ما بعده دليل على قوة الايمان بالخالق الأعظم.

تقول الروايات أن الله أوحى إلى إبراهيم أن يأتي مكة ، وليس بمكة يومئذ بيت ، وكان موضع البيت ربوة حمراء ، وإن كانت هناك روايات تذهب إلى أن أناسا من العماليق كانوا وقت ذاك خارج مكة وما حولها ،

__________________

(١) محمد بيومي مهران : مصر والعالم الخارجي في عصر رعمسيس الثالث ص ٢٣٠ ، قصة أرض الميعاد بين الحقيقة والأسطورة ، مجلة الأسطول ـ العدد ٦٦ ص ١٤ ـ ١٥ ، جوزيف لويس : الختان ص ٥٢ ـ ٥٤ وأنظر : أبكار السقاف : إسرائيل وعقيدة الأرض الموعودة ـ القاهرة ١٩٦٧ ، تكوين ١٢ : ١٠ ـ ٢٠ ، ١٧ : ٩ ـ ٢٧.

١٨٧

وأن واديها قد اتخذ من قبل أن تبنى موئلا للراحة من قبل رجال القوافل ـ سواء إبان قدومها من ناحية اليمن قاصدة فلسطين ، أو متجهة من فلسطين إلى اليمن ـ ولكنه كان فيما خلا ذلك ، من أشد الأماكن خلاء أو يكاد ، وهناك في هذا المكان المقفر ، يترك إبراهيم هاجر وإسماعيل ، عند دوحة فوق زمزم ، ويقفل راجعا ، فتناديه هاجر : يا إبراهيم إلى من تكلنا؟ فيقول : إلى الله ، فتقول له : انطلق فإنه لا يضيعنا ، وينطلق إبراهيم حتى إذا ما كان عند الثنية حيث لا يرونه ، يستقبل بوجهه البيت ثم يدعو بهذه الدعوات (١) ، «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ (٢) تَهْوِي إِلَيْهِمْ ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» (٣).

وفرغ الطعام والماء فعطشت هاجر وعطش وليدها وراح يتلبط ، ونظرت إليه وهو يتلوى من العطش ، فأحست نياط قلبها تتمزق ، وكاد عقلها أن يطيش ، وراحت تسعى بين الصفا والمروة تتلهف على رؤية أحد ينقذ ولدها من الموت عطشا حتى إذا ما أتمت السعي سبع مرات ،

__________________

(١) ابن كثير ١ / ١٥٤ ـ ١٥٥ ، ابن الأثير ١ / ١٠٣ ، تاريخ الطبري ١ / ٢٥٢ ـ ٢٥٣ ، تفسير الطبري ٣ / ٦٢ ، ١٣ / ٢٣٠ ـ ٢٣٣ ، التفسير الكبير للفخر الرازي ١٩ / ١٣٦ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٢٥ ، شفاء الغرام ٢ / ٣ ، تاريخ الخميس ص ١٠٦ ، تفسير الألوسي ١٣ / ٢٣٦ ، المقدسي ٣ / ٦٠ ، الازرقي ١ / ٥٤ ، ٢ / ٣٩ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٣٦ ، قصص القرآن ص ٥٧ ـ ٥٨ ، قصص الأنبياء ص ١٠٤ ـ ١٠٥ ، مروج الذهب ٢ / ١٨

(٢) يروي ابن عباس وغيره أن الله سبحانه وتعالى ، لو قال «أفئدة الناس» ولم يقل «أفئدة من الناس» ، لازدحم عليهم الفرس والروم والناس كلهم ، ولحجت اليهود والنصارى والمجوس ، ولكنه قال «من الناس» ، فاختص به المسلمون (تفسير ابن كثير ٤ / ١٤٢ ، روح المعاني ١٣ / ٢٣٨ ، ٢٣٩ ، تفسير البيضاوي ١ / ٥٣٣ ، تفسير الطبري ١٣ / ٢٣٣ ـ ٢٣٤ ، التفسير الكبير للفخر الرازي ١٩ / ١٣٧ ، تفسير القرطبي ٩ / ٣٧٣ ، تفسير النسفي ٢ / ٢٦٤)

(٣) سورة إبراهيم : آية ٣٧

١٨٨

عادت إلى إسماعيل ، فإذا الماء قد ظهر عند قدميه ، فجعلت تخوضه في فرح وتغرف الماء في سقاتها وشربت وأرضعت وليدها ، واذا بملك عند زمزم يقول لها : لا تخافي الضيعة فإن هذا بيت الله الحرام ، يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وأن الله لا يضيّع أهله (١).

وهكذا كتب الله الرءوف الرحيم لإسماعيل وأمه النجاة ، وكان السعي بين الصفا والمروة من شعائر الله ، وصدق عز من قال «إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ، وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً ، فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ» (٢) ، ويروي ابن عباس عن الحبيب المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قوله «فلذلك سعى الناس بينهما» ، أي بين الصفا والمروة ، ولست أدري : هل كان يدور بخلد جدتنا العظيمة أم إسماعيل ـ عليهما‌السلام ـ أن ملايين المؤمنين على مرّ السنين سوف يسعون بين الصفا والمروة سبعة أشواط ، تخليدا لذكرى ما كان في ذلك السعي من خير وبركة (٣).

ويمر نفر من جرهم ـ أو من العماليق على رواية أخرى بواد قريب من مكة ، ويعرفوا بأمر زمزم ، ثم لم يلبثوا إلا قليلا ، حتى يعرضوا على هاجر

__________________

(١) تاريخ الطبري ١ / ٢٥٣ ـ ٢٥٨ ، ابن الاثير ١ / ١٠٣ ـ ١٠٥ ، ابن كثير ١ / ١٥٥ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٢٥ ، ياقوت ٣ / ١٤٨ ـ ١٤٩ ، العقد الفريد ١ / ١٣٣ ، شفاء الغرام ٢ / ٣ ـ ٤ ، الحربي : المرجع السابق ص ٤٨٤ ـ ٤٨٥ ، تفسير الطبري ٣ / ٦٩ ، المقدسي ٣ / ٦٠ ـ ٦٢ ، روح المعاني ١٣ / ٢٣٦ ـ ٢٣٧ ، مروج الذهب ٢ / ١٨ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٣٦ ـ ٣٧ ، قصص القرآن ص ٥٨ ـ ٥٩ ، قصص الأنبياء ص ١٠٥ ، حياة محمد ص ١٠٣ ـ ١٠٥ ، الازرقي ١ / ٥٤ ـ ٥٥ ، ٢ / ٣٩ ـ ٤٠

(٢) سورة البقرة : آية ١٥٨

(٣) محمود الشرقاوي : المرجع السابق ص ١٦٦ ـ ١٦٧ ، قصص الأنبياء ص ١٠٥ ، الازرقي ٢ / ٤٠ ، مروج الذهب ٢ / ١٩ ، التفسير الكبير للفخر الرازي ١٩ / ١٣٦ ، تاريخ الخميس ص ١٠٦ ، العقد الفريد ١ / ١٣٥ ، شفاء الغرام ٢ / ٣ ـ ٦ ، ١٦ مروج الذهب ٢ / ٤٦ ـ ٤٧ ، تفسير الطبري ١٣ / ٢٣٠ ـ ٢٣٢ ، تفسير القرطبي ٩ / ٣٦٩ ـ ٢٧٠ (طبعة ١٩٦٧)

١٨٩

أن يقيموا في جوارها ، على أن يكون الماء ماءها ، فأذنت لهم ، وشب إسماعيل بينهم ، وتعلم العربية منهم ، فضلا عن الزواج بواحدة من بناتهم (١) ، وإن كانت التوراة تذهب إلى أن أمه قد أخذت له زوجة من أهلها من مصر (٢) ، كما أن هناك من المؤرخين المسلمين أنفسهم من تنبه إلى الفارق بين لغة قريش ولغة الجنوب ـ أي بين لغة العدنانيين ولغة القحطانيين ـ فلو كان إسماعيل قد تعلم العربية من جرهم لكانت لغته موافقة للغتهم ، أو لغيرها ممن نزل مكة ، فضلا عن أن منزلة يعرب عند الله ليست بأعلى من منزلة إسماعيل ، كما أن منزلة قحطان ليست عند الله بأعلى من منزلة إبراهيم خليل الرحمن ، فيمنع إسماعيل فضيلة اللسان العربي التي أعطيت ليعرب بن قحطان (٣) ، ولهذا ذهب بعض المؤرخين إلى أن إسماعيل كان أول من ألهم هذا اللسان العربي المبين (٤) ، بل إن هناك من يذهب إلى أن قحطان نفسه من ولد إسماعيل (٥).

وعلى أي حال ، فإن صاحب الإكليل ، إنما يذهب إلى أن سبأ بن يشجب

__________________

(١) ابن كثير ١ / ١٥٥ ، ابن الأثير ١ / ١٠٣ ـ ١٠٤ ، مروج الذهب ٢ / ٤٦ ـ ٤٧ ، تاريخ الطبري ١ / ٢٥٨ ، تفسير الطبري ١٣ / ٢٣٠ ، تفسير البيضاوي ١ / ٥٣٣ ، تفسير الألوسي ١٣ / ٢٣٧ ، تفسير القرطبي ٩ / ٢٧٤ ، قصص القرآن ص ٦٣ ، الازرقي ١ / ٥٧ ، ٢ / ٤٠ ـ ٤١ العقد الفريد ١ / ١٣٣ ، شفاء الغرام ٢ / ٤ ، تاريخ الخميس ص ١١٠ ، الإكليل ١ / ٩٨ ـ ١٠٢ ، ١١٧ ، المعارف ص ١٦ ـ ١٧ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٣٧ ، ٢ / ٣٣١ ـ ٣٣٢.

(٢) تكوين ٢١ : ٢١

(٣) مروج الذهب ٢ / ٤٦

(٤) تاريخ ابن خلدون ٢ / ٨٦ ، تاريخ الخميس ص ١١٠ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٢٢١ ، العقد الفريد ١ / ١٣٤ ، لسان العرب ٢ / ٧٥ ، تاج العروس ٢ / ٣٥٢ ، شفاء الغرام ص ١٣ ، قارن : ياقوت ٤ / ٩٨

(٥) الإكليل ١ / ١٠٣ ـ ١٠٥ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٢٤١ ـ ٢٤٢ ، نهاية الأرب للقلقشندي ص ٣٩٦ ـ ٣٩٧

١٩٠

ـ أو ولده حمير ـ هو الذي سيّر جرهم إلى جبال الحرم والحجاز ، ولاة على العماليق وعبد ضخم ، فكانوا بنجد وكذا الطائف وأجبل الحرم ، ووادي مكة يومئذ خاو لا يدخلونه إلا رعاة ، حتى إذا ما جاءت هاجر وولدها ، أقاموا معهم وتزوج إسماعيل منهم (١).

وأيا كان الأمر ، فإن الخليل لم يكن ليترك ولده الحبيب في ذلك المكان الموحش القفر بوادي مكة ، دون أن يزوره ، بين الحين والحين ، فقد كان لا ينقطع عن زيارة هاجر وإسماعيل ، ليشد الأواصر بين الأخوين ، إسماعيل وإسحاق وربما ليزيل الجفوة بين هاجر وسارة ، وإن كان المصادر العربية تتجه اتجاها عجيبا ، فهي تروي أن الزيارة ما كانت تتم إلا برضى من سارة ، وبشرط ألا ينزل عند هاجر ، وحتى بعد وفاة هاجر ، فإن سارة إنما كانت تفرض على إبراهيم ألا ينزل كذلك عند إسماعيل ، وسار نفر من المؤرخين المحدثين في الركب ، وزادوا أنها اشترطت كذلك ألا ينزل عن جواده (٢).

ولست أدري كيف نسي هؤلاء المؤرخون ـ أو تناسوا ـ أن هاجر كانت ما تزال زوجة للخليل ، فما حدثنا مصدر قط عن فراق بينهما ، وأن هاجر وسارة ـ رضي‌الله‌عنهما ـ كلتاهما زوجة فاضلة للخليل ، عليه‌السلام ، ولكل منهما من الحقوق وعليها من الواجبات ، ما للأخرى وما عليها ، وأن إسماعيل هو ولد إبراهيم البكر ، وإذا كانت الروايات العربية على صواب فيما ذهبت إليه ، من أنه كان ما يزال صغيرا عند ما تركه ، فهو إذن ليس البكر فحسب ، ولكنه الوحيد كذلك ، لأن الخليل لم يرزق

__________________

(١) الإكليل ١ / ١٠١

(٢) ابن الاثير ١ / ١٠٤ ، تاريخ الطبري ١ / ٢٥٨ ، تاريخ الخميس ص ١١١ ، تاريخ ابن خلدون ١ / ٣٧ ، مروج الذهب ٢ / ١٩ ـ ٢١ ، علي حسني الخربوطلي : المرجع السابق ص ١٥ ، قارن : تاريخ اليعقوبي ١ / ٢٦

١٩١

باسحاق ، إلا وكان إسماعيل في الرابعة عشرة من عمره ، فإذا كان ذلك كذلك ، فكيف قبل هؤلاء المؤرخون أن لا يزور إبراهيم زوجته وولده ، إلا بإذن من سارة ، فأيهما صواب القوامة على الآخر ، والله سبحانه وتعالى يقول «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» (١) ، ويقول «وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» (٢) ، ثم أليس لهاجر في إبراهيم حق كسارة تماما ، والعدل بين النساء أمر لا يحتاج إلى إيضاح ، وليس من شك في أن الخليل عليه‌السلام ، كان أعلم بذلك كله ، وأحرص عليه ، من هؤلاء الذين كتبوا ما كتبوا.

ثم ألم يكن إسماعيل ولده ، وله فيه حق كإسحاق تماما ، إن لم يفق حق سارة في إبراهيم ، أم أنه ابن الجارية ـ كما تزعم يهود ، وكما يرد المؤرخون الإسلاميون مزاعم يهود في كتبهم ـ ومن ثم فليس له حق في أبيه ، إلا أن تأذن سارة ، وحتى هذه ، فلست أعرف نوعين من الأبوة ، نوع لابن الحرة ، وآخر لابن الجارية ، ثم وليقرأ هؤلاء صفات هذا وذاك في القرآن الكريم.

وأخيرا ، فهل عرف هؤلاء المؤرخون أن الرحلة من فلسطين إلى مكة في هذه الصحراوات المقفرة ، تحتاج إلى راحة ، بعد عناء السفر ، ومشقة الطريق ، ثم كيف بعد كل هذا يرون أن إبراهيم قدم إلى مكة في إحدى زياراته لولده ، فرفض أن ينزل من على دابته ، رغم إلحاح زوج ولده ، مما اضطرها إلى أن ترجل له شعره ، وتغسله له ، بل ويشرب لبنا ، ويأكل

__________________

(١) سورة النساء : آية ٣٤ ، وانظر تفسير الكشاف ١ / ٥٠٥

(٢) سورة البقرة : آية ٢٢٨ وانظر : تفسير الطبري ٤ / ٥٣٣ ، ٥٣٦ (دار المعارف بمصر) ، تفسير الكشاف ١ / ٢٧٢

١٩٢

شرائح من لحم ، وهو ما يزال على دابته ، وأنه ترك آثار رجليه على حجر كان يتكئ عليه أثناء ترجيل شعره أو غسله (١) ، وإذا قيل أن الأرض كانت تطوي له ، وأنه كان يركب البراق إذا سار إليهم ، فسؤال البداهة هنا : كيف قبل هؤلاء المؤرخون أن يسجلوا في كتبهم أن الخليل ـ عليه‌السلام ـ لم يزر إسماعيل ـ منذ أن تركه رضيعا مع أمه هناك في واد قفر ـ إلا بعد أن تزوج إسماعيل ـ عليه‌السلام ـ وكيف قبلوا أن يسجلوا على أنفسهم أن أبا الأنبياء تخلف كل هذه الفترة عن مطالعة أحوال ولده وزوجته ، وهم في أشد الحاجة إليه ، وهل هذا يتفق وخلق أبي الأنبياء ، كما قدمه لنا القرآن الكريم (٢).

ونحن لا ننكر أن تكون قدما الخليل عليه‌السلام ، قد تركت أثرا في الحجر ، فقد علمنا من القرآن معجزات للخليل أعظم من هذه وأكبر ، ولكننا ننكر أن يكون السبب في ذلك أنه أبى أن ينزل عن دابته ، لأن سارة اشترطت عليه ذلك ، ومن ثم فإننا نشم رائحة الاسرائيليات في هذه الروايات.

وعلى أي حال ، ففي إحدى زيارات الخليل لولده إسماعيل ، عليهما‌السلام ، وجده يصلح نبلا له من وراء زمزم ، فقال له : يا إسماعيل ، إن الله قد أمرني أن أبني له بيتا ، فقال إسماعيل : فأطع ربك ، فقال إبراهيم : قد أمرك أن تعينني على بنائه ، قال : إذن أفعل ، فقام معه ، فجعل إبراهيم يبنيه ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، ثم قال إبراهيم لإسماعيل ائتني بحجر حسن أضعه على الركن ، فيكون للناس علما ، وذهب إسماعيل يلتمس لأبيه حجرا ، فأتاه به ، ولكنه وجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه ،

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٢٠ ـ ٢٢ ، ابن الأثير ١ / ١٠٤ ، الطبري ١ / ٢٥٨ ـ ٢٥٩ ، الحربي : المرجع السابق ص ٤٨٣ ـ ٤٨٤ ، تفسير الطبري ٣ / ٣٥

(٢) ابن كثير ١ / ١٥٧ ، تفسير القرطبي ٩ / ٣٧٠

١٩٣

فقال : يا أبت من أتاك بهذا الحجر ، فقال : أتاني به من لم يتكل على بنائك ، أتاني به جبريل من السماء (١).

والحجر الأسود حجر صقيل بيضي غير منتظم ، ولونه أسمر يميل إلى الإحمرار ، وفيه نقط حمراء وتعاريج صفراء ، وقد يكون من نوع النيازك بدليل وصفه أنه كان يتلألأ نورا ، فأضاء شرقا وغربا ، ويمينا وشمالا ، إلى منتهى أنصاب الحرم ، وتلألؤه الموصوف دليل على أنه كان ذي لون غير السواد ، وقد ثبت عن النبي (ص) أن الحجر الأسود كان ياقوتة بيضاء فاسود بذنوب العباد ، وأنه (ص) قال : «نزل الحجر الأسود من الجنة ، وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم». وأما تقديس الحجر الأسود ، فربما قد نجم من ارتباطه بشيء مقدس ، فهو إما أن يكون رمزا للعهد الذي أخذه إبراهيم على نفسه وولده ، بجعل هذا البيت مثابة للناس وأمنا ، وإما أن يكون قد أقامه إبراهيم حجة عليه وعلى ولده ، بأن هذا البيت قد انتقل من ملكهم إلى الله تعالى ، ليكون للناس مصلى ، ومسجدا للطائفين والعاكفين والركع السجود ، ولذا فقد وضعه في الركن الأقرب إلى الباب ، ليكون أول حدود هذا البيت المكرم ، الذي يبتدئ منه الطائفون ، واختار له اللون الأسود لسهولة تعيينه وتحديد مكانه ، لذلك كان الحجر الأسود محترما من إبراهيم ، محترما من ولده ، مقدسا عند المسلمين إلى اليوم وإلى الغد ، وإلى أن يغير الله هذه الأرض غير الأرض (٢).

وهكذا بنى إبراهيم وإسماعيل ، عليهما‌السلام ، «الكعبة المشرفة» بيتا

__________________

(١) تاريخ الطبري ١ / ٢٥٠ ـ ٢٦٠ ، تفسير الطبري ٣ / ٦٦ ـ ٧٠ ، ابن الأثير ١ / ١٠٦ ، ابن كثير ١ / ١٥٦ ، ١٦٣ ـ ١٦٦ ، الأزرقي ١ / ٥٨ ـ ٦٥ ، تاريخ الخميس ص ١١٣ ، شفاء الغرام ٢ / ٤ ـ ٨ ، تفسير القرطبي ٢ / ١٢٢ ، قصص الأنبياء ص ١٠٦ ، قصص القرآن ص ٦٥ ـ ٦٧ ، مروج الذهب ٢ / ٢٢ ، قارن : اليعقوبي ١ / ٢٧

(٢) علي حسني الخربوطلي : المرجع السابق ص ١٩ ـ ٢٠ ، لطفي جمعة : ثورة الاسلام ص ٥٩ ، الهجرسي : كتاب الحج ص ٢٥ ، وأنظر : العقد الثمين ١ / ٦٧ ـ ٦٨.

١٩٤

لله تعالى ، ليكون رمزا للحقيقة الكبرى في الوجود ، حقيقة التوحيد ، توحيد التوجه إلى الله الواحد الأحد ، وتضرع خليل الله ودعا ربه ، وأمن إسماعيل ، أن يجعل الله افئدة من الناس تهوي إلى ذريته في جوار هذا البيت المحرم (١) ، «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» (٢).

وإذا كان صحيحا ما ذهب إليه بعض المؤرخين من أن إسماعيل ، عليه‌السلام ، كان في الثلاثين من عمره ، يوم أمر الله عزوجل إبراهيم ببناء الكعبة (٣) ، فإن بناء الكعبة حينئذ يكون في حوالي عام ١٨٢٤ ق. م. ، على أساس أن إسماعيل قد ولد في عام ١٨٥٤ ق. م ، لأنه ولد لإبراهيم وهو في السادسة والثمانين من عمره ، وأن إبراهيم قد عاش في الفترة (١٩٤٠ ـ ١٧٦٥ ق. م) ، ولما كان إسماعيل قد عاش مائة وسبع وثلاثين سنة ، فإنه يكون قد انتقل الى الرفيق الأعلى في حوالي عام ١٧١٧ ق. م (٤).

وقد خلد القرآن الكريم بناء الكعبة ، حيث يقول سبحانه وتعالى «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ ، فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ

__________________

(١) محمد الصادق عرجون : محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) من نبعته إلى بعثته ص ١٧

(٢) سورة إبراهيم : آية ٣٧ وانظر : تفسير الطبري ١٣ / ٢٢٩ ـ ٢٣٥ ، تفسير الكشاف ٢ / ٣٨٠ ، تفسير ابن كثير ٤ / ١٤١ ـ ١٤٢ ، في ظلال القرآن ١٣ / ٢١٠٤ ، ٢١٠٩ ـ ٢١١٠ ، الدرر المنثور في التفسير بالمأثور ٤ / ٨٦ ـ ٨٧ ، تفسير النسفي ٢ / ٢٦٣ ـ ٢٦٤ ، تفسير القرطبي ٩ / ٣٦٨ ـ ٣٧٤.

(٣) مروج الذهب ٢ / ٢٢ ، علي حسني الخربوطلي : المرجع السابق ص ١٦

(٤) أنظر : كتابنا إسرائيل ص ١٧٧ ، ٢٠٢ ، مقالنا قصة الطوفان بين الآثار والكتاب المقدسة ص ٤٣٤ ، تكوين ١٢ : ٤ ، ١٦ : ٢٥ : ٧ ، ١٧

١٩٥

إِلَيْهِ سَبِيلاً» (١) ولعل في هذه الآيات الكريمة إشارة إلى أن الحج الى البيت على المستطيع هو استمرار لغرض إلهي قديم ، معترف به من الناس ، وممارس من بعضهم ، فهو أول بيت وضع للناس (٢) ، فيه الهدى ، وفيه البركة ، وفيه الخير الكثير ، وهو من بناء إبراهيم بما فيه من علامات هي مقام إبراهيم ، وأن من دخله كان آمنا ، ويلفت النظر هنا كلمة «الناس» فإنها إنما تدل على أن الحج ، إنما كان على الناس كافة (٣) ، كما تدل كلمة «العالمين» على أن البيت الحرام ، إنما هو هداية للبشرية جمعاء ، وهكذا ما نرى إبراهيم يفرغ من بناء البيت ، حتى يأمره ربه أن يؤذن في الناس بالحج ، «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» (٤).

وهنا يروي ابن عباس أن إبراهيم قال : يا رب وما يبلغ صوتي ، قال أذّن وعليّ البلاغ ، فنادى : أيها الناس إن الله قد كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق ، فسمعه ما بين السماء والأرض ، وما في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فأجابه من آمن ممن سبق في علم الله ان يحج إلى يوم القيامة ، فأجيب : لبيك لبيك ، ثم خرج بإسماعيل معه إلى التروية ، فنزل به منى ومن معه من المسلمين ، فصلى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة ، ثم بات حتى أصبح فصلى بهم الفجر ، ثم سار إلى عرفة فأقام بها هناك ، حتى إذا مالت الشمس جمع بين الصلاتين ، الظهر

__________________

(١) سورة آل عمران آية ٩٦ ـ ٩٧

(٢) هناك رواية تنسب إلى الإمام علي كرم الله وجهه ، مؤداها أن رجلا سأله : أهو أول بيت.

فقال : لا ، قد كان قبله بيوت ، ولكنه أول بيت وضع للناس (أي الناس كافة) مباركا ، فيه الهدى والرحمة والبركة ، وأول من بناه إبراهيم (الكشاف ١ / ٤٤٦) ، تفسير الطبري ٣ / ٦٩ ، ٧ / ١٩ ، قارن : ٧ / ٢٠ ، ٢٢ ، ابن كثير ٢ / ٢٩٩ ، قصص الأنبياء ١٠٦)

(٣) احمد إبراهيم الشريف : المرجع السابق ص ١٧٣ ، وانظر : تفسير ابن كثير ٤ / ٦٣١ ـ ٦٤٧ تفسير المنار ٤ / ٦ ـ ١٤

(٤) سورة الحج : آية ٢٧

١٩٦

والعصر ، ثم راح إلى الموقف من عرفة ، الذي يقف عليه الإمام ، فوقف به على الأراك ، فلما غربت الشمس دفع به ومن معه حتى أتى المزدلفة فجمع بين الصلاتين ، المغرب والعشاء الآخرة ، ثم بات بهما ومن معه ، حتى إذا طلع الفجر صلى الغداة ، ثم وقف على قزح حتى إذا أسفر دفع به وبمن معه يريه ويعلمه كيف يصنع حتى رمى الجمرة ، وأراه المنحر ، ثم نحر وحلق ، وأراه كيف يطوف ، ثم عاد به إلى منى ليريه كيف رمى الجمار ، حتى فرغ من الحج ، ويروى عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، أن جبريل هو الذي أرى إبراهيم كيف يحج (١).

(٢) الكعبة بعد إبراهيم واسماعيل

ظلت الكعبة بعد إبراهيم وإسماعيل ، عليهما‌السلام ، حرما آمنا ، يقدسه العرب ، على أنه البيت الحرام الذي بناه أبوهم إبراهيم وولده إسماعيل ، ثم ما لبثت هذه القداسة إن امتدت إلى مكة ومجاوراتها ، بل إن صاحب كتاب «الاصنام» ليرى أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن ، إلا وقد حمل معه حجرا من حجارة الكعبة ، تعظيما لها ، وصبابة بمكة ، فحيثما حلو وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة ، تيمنا منهم بها ، وصبابة بالحرم وحبا له ، وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة ، ويحجون ويعتمرون ، على إرث أبيهم إسماعيل من تعظيم الكعبة والحج والاعتمار (٢).

ويروي الأخباريون أن المكيين كانوا يعظمون البيت ويقدسونه ، حتى أنهم كانوا يرون أن من علا الكعبة من العبيد فهو حر ، حتى لا يجمع بين

__________________

(١) تاريخ الطبري ١ / ٢٦٠ ـ ٢٦٢ ، تفسير الطبري ٣ / ٧٦ ـ ٨٠ ، الأزرقي ١ / ٦٦ ـ ٧٢ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٢٧ ، ياقوت ٤ / ٤٦٥ ، تفسير القرطبي ٢ / ١٢٨ ـ ١٣٠ ، ابن الأثير ١ / ١٠٧

(٢) راجع كتاب الأصنام لابن الكلبي ، وانظر كذلك العقد الثمين ١ / ١٣٦ ، نهاية الأرب ١ / ٢٤٥ ، ابن هشام ١ / ٥١

١٩٧

عز علوها ، وذل الرق (١) ، على أن هذه القداسة للبيت الحرام ، لم تكن مقصورة على المكيين وحدهم ، وإنما امتدت إلى سائر العرب الذين كانوا يشدون الرحال من جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية إلى مكة في مواسم معينة ، ليحجوا إلى البيت الحرام وليشهدوا منافع لهم في الأسواق التجارية ، التي كانت تعقد في موسم الحج من كل عام ـ هو الربيع على رأي ، والخريف على رأي آخر (٢).

ويرى «فلهاوزن» أن الشهر الحرام المذكور في القرآن الكريم في قوله تعالى «جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ ، وَالشَّهْرَ الْحَرامَ» (٣) ، هو شهر الحج ـ وهو الشهر الأول من السنة ، أي المحرم ـ بينما يرى المفسرون أنه رجب أو ذو القعدة أو ذو الحجة (٤) ، ويذهب المسعودي إلى أن الأشهر ؛ إنما هي المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة ، وأما شهور الحج فهي شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة (٥) ، وعلى أي حال ، فلقد تحدث القرآن الكريم عن الأشهر الحرم ، ورغم أنه لم يعلن عن أسمائها ، ولم يزد عن أنها أربعة حرم (٦) ، فإن الروايات المتواترة ، إنما تذهب إلى أنها : رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم (٧) ، والأشهر الثلاثة الأخيرة هي أشهر الحج ، فيما قبل الإسلام ، أما رجب ، فقد كان المكيون ـ فيما يرى البعض ـ يحتفلون فيه بعيد ديني ، ربما كان خاصا بقبائل مضر أو

__________________

(١) الثعالبي : ثمار القلوب ص ١٨

(٢) SEL ,P.٤٢١

(٣) سورة المائدة : آية ٩٧

(٤) جواد علي ٦ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠ وكذاShorter ,Ency ,of Islam ,P.٩٠٤

(٥) مروج الذهب ٢ / ١٨٩ ، تفسير القرطبي ٢ / ٤٠٥ ، تفسير الطبري ٤ / ١١٥ ـ ١٢١ (طبعة دار المعارف) ، عبد المنعم ماجد : المرجع السابق ص ٨١

(٦) سورة البقرة : آية ١٩٧ ، سورة التوبة : آية ٥ ، ٣٦

(٧) صحيح البخارى ٦ / ٦٦ ، ابن سعد ٢ / ٢٧ ، السهيلي ٢ / ٦٠ ، ابن كثير ٥ / ١٩٥ ، مروج الذهب ٢ / ١٨٩ ، احمد إبراهيم الشريف : المرجع السابق ص ١٩٢

١٩٨

قبائل الحجاز أو بعضها ، وربما كان هذا هو أصل حرمته ، حتى يتمكن القوم من الذهاب والإياب ، وأداء المناسك في ظل هدنة دينية مقدسة ، حتى كان الرجل منهم إذا لقي قاتل أبيه أو أخيه أو ابن عمه ، فلا يعرض له ، ثم ما لبث في وقت لا نستطيع تحديده على وجه اليقين أن أصبح واحدا من الأشهر الحرم (١).

ويذهب الأخباريون بعيدا في تقديس الكعبة ، فهو لم يكن ـ فيما يزعمون ـ مقصورا على العرب ، وإنما امتد كذلك إلى الهند والفرس وإلى غيرهم ، وهم يرون كذلك أن الهنود إنما كانوا يعتقدون أن روح «شبوه» ـ أحد آلهتهم ـ إنما تقمصت الحجر الأسود ، عند ما زار هو وزوجته أرض الحجاز ، والأمر كذلك بالنسبة إلى الفرس الذين كانوا يعتقدون أن روح «هرمز» قد حلت في الكعبة ، ويزيد المسعودي أنهم كانوا يعتقدون أنهم من نسل إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، ومن ثم فقد كانوا يحجون إليها ، وأن آخر من حج منهم إنما كان «ساسان بن بابك» ، وإنه كان إذا طاف بالبيت زمزم على بئر إسماعيل ـ كما كان أسلافه يفعلون ـ ومن ثم فقد سميت زمزم باسمها هذا (٢) ، وهكذا نرى الأخباريين ـ كالعهد بهم يحولون الهنود والفرس إلى مقدسين للبيت الحرام ، حاجين إليه ، متبركين بماء زمزم ، فضلا عن أن الأخيرين منهم إنما كانوا من سلالة الخليل عليه‌السلام (٣).

__________________

(١) نفس المرجع السابق ص ١٩٢ ، محمد عزة دروزة : عصر النبي ص ٢١٠ ـ ٢١١ ، تفسير الطبري ١١ / ٩٣٠

(٢) هناك رواية تنسب لابن عباس على أنها سميت زمزم لأنها من زمة جبريل ، أنبطها مرتين ، الأولى لآدم والثانية لإسماعيل (الحربي : المرجع السابق ص ٥٠٠ ، البكري ٢ / ٧٠١)

(٣) جواد علي ٦ / ٤٣٩ ، اللسان ١٢ / ٢٧٥ ، مروج الذهب ١ / ٢٦٥ ، تاريخ الخميس ص ١٢٥ ، ياقوت ٣ / ١٤٧ ـ ١٤٨ عمدة القارئ ٩ / ٢٧٧ ، البكري ٢ / ٧٠٠ ، علي حسني الخربوطلي : المرجع السابق ص ٢٥.

١٩٩

ويمضي حين من الدهر ، ويؤول أمر الكعبة إلى جرهم ، إلا أن العماليق فيما يرى الأخباريون قد نازعوهم في الأمر ، ثم سرعان ما ينشب القتال بين الفريقين ، ولا تضع الحرب أوزارها حتى تكون الغلبة للعماليق ، غير أن «حرهم» ما لبثت إن استعادت نفوذها من جديد ، حيث بقي الأمر فيها قرابة قرنين ـ وربما ثلاثة ـ عاد بعدهما إلى بني إسماعيل ، ثم انتزعته منهم خزاعة ، بعد حرب دارت رحاها بين إياد ومضر ، وهكذا بقي الأمر في خزاعة إلى أيام «عمرو بن الحارث» ، فانتزع منه «قصي بن كلاب» الملك وأمر الكعبة معا (١).

وأيا ما كان نصيب هذه الروايات من صواب أو خطأ ، فإن هناك إجماعا على أن عمرو بن لحي ، كان أول من أدخل عبادة الأصنام إلى الكعبة ، ومن ثم فقد غيّر دين إبراهيم وإسماعيل ، عليهما‌السلام ، ودعا العرب إلى عبادة الأوثان ، ولهذا يروي أبو هريرة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، أنه قال : «رأيت عمرو بن لحي يجر قصبة في النار ، وكان أول من سيّب السوائب» ، وتضيف رواية أخرى ، «وهو أول من غيّر دين إبراهيم عليه‌السلام (٢).

وهناك من يذهب إلى أن ذلك ، إنما حدث حين رحل عمرو بن لحي إلى مدينة البلقاء بالشام ، ليستشفي من مرض أصابه ، فرأى أهلها يعبدون الأصنام ، وحين سألهم عنها أجابوه «هذه أصنام نعبدها ، نستنصرها فتنصرنا ، ونستسقي بها فنسقى» ، فطلب واحدا منها ليضعه في الكعبة ،

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٢٢ ـ ٢٤ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٢٢٢ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٣٣٢ ـ ٣٣٥ ، تاريخ الطبري ٢ / ٢٨٤ ، الأزرقي ١ / ٨٢ ـ ٨٧ ، شفاء الغرام ٢ / ٤٨ ـ ٥٤

(٢) صحيح البخاري ٤ / ١٨٤ ، ٦ / ٥٤ ـ ٥٥ ، فتح الباري ٦ / ٣٩٨ ـ ٤٠٠ ، ٨ / ٢١٣ ، ابن حزم : جمهرة أنساب العرب ص ٢٣٣ ـ ٢٣٥ ، العقد الثمين ١ / ١٣٦ ، شفاء الغرام ٢ / ٢١ ، ٤٦ ـ ٤٧ ، تاريخ الخميس ص ١٢٤ ، الاشتقاق ٢ / ٤٧٤ ، مروج الذهب ٢ / ٢٩ ـ ٣٠ ، روح المعاني ٧ / ١٩٧

٢٠٠