دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
المطبعة: دار النهضة العربية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٠

تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ، وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» (١).

(٣) عصر المديانيين

يرجح بعض الباحثين ان عصر شعيب عليه‌السلام ، إنما كان قبل عصر موسى عليه‌السلام ، معتمدا في ذلك على أن الله سبحانه وتعالى قد ذكر شعيبا بعد نوح وهود وصالح ولوط ، عليهم‌السلام ، وقبل موسى (٢) ، كما في سورة الأعراف ويونس وهود والحج والعنكبوت ، ولكن الآيات في سورة يونس إنما تتحدث عن قصة نوح في الآيات (٧١ ـ ٧٢) ثم آية (٧٣) وهي مجملة لا تذكر أمما بعينها ، ثم تأتي بعد ذلك قصة موسى عليه‌السلام ، أضف إلى ذلك أن الآيات الكريمة (١٢ ـ ١٤) من سورة «ق» ، إنما تذكر قوم نوح ثم أصحاب الرس فثمود ، ثم عاد وفرعون وإخوان لوط ، ثم يأتي أصحاب الأيكة فقوم تبع.

هذا ويجب علينا أن نلاحظ أن قصة شعيب إنما ترد بعد قصة لوط مباشرة في سورة الأعراف وهود والحجر والشعراء ، بل إن الآية الكريمة (٨٩) من سورة هود ، إنما تصرح دون لبس أو غموض بقرب قوم شعيب من قوم لوط مكانا أو زمانا لا أستطيع القول على وجه اليقين ، يقول سبحانه وتعالى «وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ ، وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ» (٣).

وإذا ما اعتبرنا هذا القرب في الزمان ، وعدنا إلى عصر الخليل عليه

__________________

(١) سورة الشعراء : آية ١٧٦ ـ ١٨٣ ، وأنظر : سورة الأعراف : آية ٨٥ ، تفسير الطبري ١٢ / ٥٥٤ ـ ٥٥٦ (دار المعارف ـ القاهرة ١٩٥٧)

(٢) عبد الوهاب النجار : قصص الأنبياء ص ١٤٩

(٣) سورة هود : آية ٨٩

٣٠١

السلام (١٩٤٠ ـ ١٧٦٥ ق. م) ، وتذكرنا أن قوم لوط إنما كانوا معاصرين لأبي الأنبياء ـ عليه الصلاة والسلام (١) ـ لأمكننا القول أن شعيبا وقومه إنما كانوا يعيشون بعد القرن الثامن عشر قبل الميلاد ، بخاصة إذا ما كان صحيحا ما ذهبت إليه نصوص التوراة من أن القوم إنما كانوا ينتسبون إلى مدين ـ أو حتى مديان ـ ولد الخليل إبراهيم من زوجته الكنعانية قطورة (٢).

على أننا نستطيع أن نقول من ناحية أخرى ـ حدسا عن غير يقين ـ أن القوم إنما كانوا يعيشون في القرن الثالث عشر ق. م ، إذا ما كان صحيحا ما ذهبت إليه بعض الروايات من أن «يثرون» كاهن مدين ، وصهر موسى (٣) ، إنما هو شعيب نبي مدين العربي (٤) ، وذلك لأن رحلة موسى إلى مدين بعد فراره من مصر ـ وكذا لقاءه مع كاهن مدين بعد قيادته للخروج من مصر ـ إنما تمّ في القرن الثالث عشر قبل الميلاد (٥).

__________________

(١) أنظر في ذلك : سورة الحجر : آية ٥١ ـ ٧٧ ، سورة العنكبوت : آية ٢٦ ـ ٣٥ ، سورة الذاريات : آية ٢٤ ـ ٣٧ ، وانظر كذلك : تكوين ١٤ : ١ ـ ٢٤ ، ١٨ : ١ ـ ٣٣

(٢) تكوين ٢٥ : ١ ـ ٢ ، أخبار أيام أول ١ : ٣٢

(٣) لاحظ التناقض العجيب في التوراة بشأن صهر موسى هذا ، فهو في سفر الخروج (٣ : ١) يثرون كاهن مديان ، وهو في سفر العدد (١٠ : ٢٩) حوبات بن رعوئيل ، بل إنه مرة ثالثة في سفر الخروج (٢ : ١٦ ـ ١٨) رعوئيل نفسه ، والأمر كذلك بالنسبة إلى القبيلة التي صاهرها موسى ، فهي مرة قبيلة مديانية ، كما رأينا ، وهي مرة أخرى ـ كما في سفر القضاة (١ : ١٦) قينية ، ثم يعود نفس السفر فيؤكد ذلك في (١٤ : ١١) وذلك في ثنايا قصة دبورة حين تتعرض لنسب «حابر القيني» فتقرر أنه من بني حوباب حمى موسى ، ومن ثم فربما كان بنو القينى فرعا من المديانيين (انظر كتابنا إسرائيل ص ١٠٠ ـ ١٠١ وكذاop - cit ,P.٦١٦ J.Hastlngs , (وكذاEB ,P.٠٨٠٣

(٤) انظر : ياقوت ٥ / ٧٧ ـ ٧٨ ، البكري ٤ / ١٢٠١ ، مروج الذهب ١ / ٦١ ، ابن خلدون ٢ / ٤٣ ، ٨٢ ، عباس العقاد : «الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان والعبريين ص ٨٠

(٥) أنظر كتابنا إسرائيل ص ٢٦٨ ـ ٣٠٣ عن تاريخ الخروج والآراء التي دارت حوله

٣٠٢

(٤) المديانيون وبنو اسرائيل

تنسب التوراة المديانيين إلى الخليل عليه‌السلام ـ كما أشرنا من قبل ـ ومن ثم فهم أبناء عمومة للعرب والإسرائيليين سواء بسواء ، فالكل أبناء إبراهيم ، وإن اختلفت الأمهات ، فالعرب أبناء إسماعيل ولد إبراهيم من هاجر ، والإسرائيليون أبناء إسحاق ولد إبراهيم من سارة ، والمديانيون أبناء مديان ولد إبراهيم من قطورة (١).

هذا ويظهر المديانيون في التوراة على أنهم كانوا في رفقة الإسماعيليين ـ أبناء عمومتهم ـ حين بيع الصديق لهم. وإن موسى قد هرب إليهم من مصر ، حيث وجد عندهم المأوى ـ فضلا عن الزوج والولد ـ وبقي كليم الله هناك في ضيافة صهره كاهن مدين أربعين عاما (٢) ، وحين خرج من مصر ببني إسرائيل التقاه صهره في سيناء ، حيث كان له الناصح الأمين ، إذ أن أمور القوم ـ كما تصورها التوراة ـ كانت إلى فوضى واختلال ، لو ترك موسى وشأنه ، فيما كان قد اتبع من وسائل تدبير ، ولم تكن بالأسلوب القويم ، إنما الفضل لحميه يثرون كاهن مديان ، يلقنه كيف يكون تنظيم بني إسرائيل في هيكل من تسلسل قيادي ، فيختار من ذوي القدرة

__________________

(١) تكوين ١٦ : ١٥ ـ ١٦ ، ٢١ : ٢ ـ ٣ ، ٢٥ : ١ ـ ٢ ، أخبار أيام أول : ١ : ٢٨ ـ ٣٤

(٢) لاحظ الخلاف بين التوراة والقرآن في المدة التي قضاها موسى في مدين ، فالقرآن الكريم يرى انها ثماني حجج أو عشر يقول تعالى «قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ، قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ» (سورة القصص : آية ٢٧ ـ ٢٨) ، وتذهب التقاليد اليهودية والنصرانية على ان موسى أقام في مدين أربعين عاما (اعمال الرسل ٧ : ٣٠ ، شاهين مكاريوس ، المرجع السابق ص ٤٠) وانه حين خرج من مصر لاجئا إلى مدين كان في الأربعين من عمره (خروج ٧ : ٦ ، أعمال الرسل ٧ : ٢٣) وأنه مكث في التيه اربعين عاما (عدد ١٤ : ٣٣ ، أعمال الرسل ٧ : ٣٠٦ ، ٤٢) وأنه مات وهو ابن مائة وعشرون سنة (تثنية ٣٤ : ٧) ، وانظر تاريخ ابن خلدون ٢ / ٤٣ ، ٨٢

٣٠٣

«رؤساء على الشعب رؤساء الوف ورؤساء مئات ورؤساء خماسين ورؤساء عشرات» ، لينظروا في القضايا الثانوية ، ويبقى موسى المرجع الأعلى للأمور الخطيرة ، وبهذا تستقر الأمور ، وينجح موسى في قيادتهم ، ويصل بهم إلى الأرض المباركة بسلام (١).

هذا إلى جانب أن يثرون ـ وهو شعيب نبي مدين العربي على الأرجح ، كما أشرنا من قبل ـ كان يقرب القرابين إلى الله يتبعه في ذلك موسى وهارون وشيوخ بني إسرائيل (٢) ، ومعنى هذا أن شعيبا ـ كما يقول الأستاذ العقاد ـ قد تقدم موسى في عقيدته الإلهية ، وعلمه تبليغ الشريعة ، وتنظيم القضاء في قومه ، وأن العبريين كانوا متعلمين من النبي العربي ، ولم يكونوا معلمين (٣).

وعند ما يتجول الإسرائيليون في جنوب فلسطين ، يخشى موسى أن يضل وقومه الطريق في صحراء التيه ، فلا يصلوا إلى الأرض المباركة أبدا ، ومن ثم فانه يستحلف حماه ـ ومن عجب فهو هنا حوباب بن رعوئيل ـ «لا تتركنا لأنه بما أنك تعرف منازل البرية تكون لنا كعيون» (٤).

وهكذا كانت العلاقات بين المديانيين والإسرائيليين طيبة ، ولكنها ساءت بعد ذلك ، وطبقا لما جاء في التوراة (٥) ، فإن شيوخ مدين عقدوا

__________________

(١) خروج ١٨ : ١٣ ـ ٢٧ ، وانظر : حسين ذو الفقار : المجلة يوليه ١٩٧٠ ص ٩

(٢) خروج ١٨ : ١٢

(٣) عباس العقاد : المرجع السابق ص ٨٠ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٤٣ ، ٨٤

(٤) عدد : ١٠ : ٢٩ ـ ٣٣

(٥) عدد ٢٢ : ٤ ، ٧

٣٠٤

حلفا مع «بالاق بن صفور» ملك مؤاب (١) ضد بني إسرائيل ، ونقرأ في سفر العدد أن الرب قد أمر موسى أن «انتقم نقمة لبني إسرائيل من المديانيين ، ثم تضم إلى قومك» ، وتستمر رواية التوراة بعد ذلك ، فتذهب إلى أن موسى قد أرسل جنده إلى مديان ، فقتلوا ذكورها ، وسبوا نساءها وأطفالها ، ونهبوا جميع مواشيها ، وحرقوا مدنها ، وهدموا حصونها ، ثم عادوا «وقد أخذوا كل الغنيمة وكل النهب من الناس والبهائم» ، فيخرج إليهم موسى ثائرا مهددا وكلاء الجيش الذين أبقوا على النساء قائلا : «اقتلوا كل ذكر من الأطفال ، وكل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها ، لكن جميع الأطفال من النساء اللواتي لم يعرفن مضاجعة ذكر أبقوهن حيات» (٢).

ونص التوراة هذا غريب ، ما في ذلك من ريب ، فكاتب النص يأبى إلا أن يصوّر موسى حريصا على قتل رجال مديان فضلا عن السبايا من نسائهم ، والذين لم يبلغوا الحلم من ذكورهم ، ولعل من العجيب أن يكون ذلك مع قبيلة آوته وأكرمته وصاهرته ، ثم عاد منها كريما لينقذ بني إسرائيل من سخط فرعون وعذابه المهين ، وليس من شك في أن الكليم ، ، عليه‌السلام ، براء من ذلك كله ، وليس من شك كذلك في أن الخيال

__________________

(١) ينسب المؤابيون الى مؤاب بن لوط (تكوين ١٩ : ٣٧) وهم من الشعوب التي تتصل بالعبرانيين بصلة من قرابة عن طريق لوط ابن أخي إبراهيم ، كما ان جدة داود موآبية (راعوث ١ : ٤) ، ويقع اقليم المؤاب شمال وادي الحسا (وادي زارد في التوراة) ، وقد امتدت مملكتهم من ناحية الشرق من البحر الميت حتى الصحراء ، واتسمت شمالا حتى وادي الموجب (نهر أرنون في سفر العدد ٢١ : ١٣) وكانت مؤاب مثل أدوم حصينة قوية ذات مواقع استراتيجية على الحدود وفي الداخل ، ولهذا اضطر الإسرائيليون أثناء التيه أن يكفوا عن الاستمرار في السير «في البرية التي قبالة مؤاب» حتى وصلوا الى الجانب الآخر من أرنون ، أما عربان مؤاب فهي وادي الأردن بين مصب يبوق والبحر الميت

(٢) عدد ٣١ : ١ ـ ١٨

٣٠٥

الاسرائيلي قد لعب دوره هنا إلى أبعد الحدود ، فهل كان بنو إسرائيل في مرحلة التيه هذه بقادرين على سحق المديانيين إلى هذا الحد؟ إني أشك في ذلك كثيرا ، وشكى معتمد على نصوص التوراة نفسها (١) ـ عن آيات القرآن الكريم (٢) ـ وكلها تتحدث عن جبن الإسرائيليين وتقاعسهم عن دخول الأرض الموعودة ، «لأن فيها الجبابرة بني عناق ، فكنا في أعيننا كالجراد» ، ولست أدري كيف يستطيع شعب ذليل لا يعرف سوى رائحة الشواء عند قدور اللحم في مصر ـ حتى وان استعبد من أجل ذاك وذلّ ـ أن يخوض المعارك ليدخل الأرض المقدسة ، فضلا عن أن يغزو المديانيين ، وأن يجعل بلادهم خرابا ، ثم إن الأحداث التالية ـ وبنص التوراة نفسها ـ تكذب ذلك كله.

ومن ثم فإن التوراة نفسها ، إنما تفاجئنا بعد كل هذا الضجيج ، وبعد كل ما زعمت أن بني إسرائيل قد فعلوه بالمديانيين ، وبعد أن استقر بنو يعقوب في فلسطين ، تفاجئنا بروايات تذهب فيها إلى أن المديانيين إنما كانوا يظهرون في فلسطين في كل عام ـ ولفترة ما ـ ينشرون الفزع والرعب بين الإسرائيليين بجمالهم السريعة ، ويمكننا أن نحس بهذا الرعب الذي كانوا ينشرونه من قصة «جدعون» ، حيث يشار إلى الجمال التي لا يحصى عددها ، والتي تسببت في أن الإسرائيليين كانوا لا يجدون حتى المأوى الذي يقيهم شر المديانيين ، في غير الكهوف ، وفي قمم الجبال (٣) ، ومن هنا

__________________

(١) عدد ١٣ : ١ ـ ٣٣ ، ١٤ : ١ ـ ٣٥

(٢) سورة المائدة : آية ٢٢ ـ ٢٦ ، وانظر : تفسير الجواهر ٣ / ١٥٤ ، تفسير روح المعاني ٦ / ١٠٦ ـ ١١٠ ، تفسير الطبرسي ٦ / ٦٥ ـ ٦٩ ، في ظلال القرآن ٦ / ١٢٤ ـ ١٢٩ ، تفسير الطبري ١٠ / ١٧١ ـ ١٩٠ ، تفسير الكشاف ١ / ٦١٩ ـ ٦٢١ ، تفسير النسفي / ٤٠١ ـ ٤٠٣ تفسير ابن كثير ٢ / ٥٣٢ ـ ٥٤١ (دار الاندلس ـ بيروت) ، في ظلال القرآن ٦ / ٨٥٦ ـ ٨٧١ ، تفسير أبي السعود ٢ / ١٧ ـ ١٩ ، تفسير القرطبي ٦ / ١٢٣ ـ ١٣٣

(٣) M.Noth ,The History ,of Israel ,P.١٦١

٣٠٦

نسب إليهم إدخال «الجمل المدجن» إلى فلسطين وسورية في القرن الحادي عشر ق. م (١).

واستمر الأمر كذلك سبع سنين ، أخضع المديانيون فيها الإسرائيليين تماما ، واستولوا على كل محاصيلهم ، وطبقا لنص التوراة ، فإنهم «لم يتركوا لإسرائيل قوة الحياة ، ولا غنما ، ولا بقرا ولا حميرا ، لأنهم كانوا يصعدون بمواشيهم وخيامهم ويجيئون كالجراد في الكثرة ، وليس لهم ولا لجمالهم عدد ، ودخلوا الأرض ليخربوها ، فذل إسرائيل جدا من قبل المديانيين» (٢).

وتمضي الأيام ، ويبدأ اسم المديانيين يتوارى في الظلام شيئا فشيئا ، وآخر ما ورد عنهم في التوراة ما جاء في سفر القضاة بشأن انتصار «جدعون» على شيخي مديان «ذبح وصلمناع» (٣) ، وكيف أدى هذا النصر إلى وضع حد للرعب الذي كان يسببه المديانيون للإسرائيليين ، أو أنه قد أثار تصميم بني إسرائيل على الدفاع عن أنفسهم ، لأننا لا نسمع بعد ذلك عن هجوم من قبل المديانيين على بني إسرائيل (٤) ، ويبدو أنه لم يعد للمديانيين شأن بعد هذه الفترة ، ولعلهم ذابوا في القبائل العربية الأخرى (٥).

__________________

(١) مصطفى الدباغ : بلادنا فلسطين ص ٤٠٨

(٢) قضاة ٦ : ١ ـ ١٢

(٣) قضاة ٨ : ١ ـ ٢١

(٤) أشعياء ٩ : ٣ ـ ٤ ، مزمور ٨٣ : ٩ ـ ١٠ ؛ وأنظر كتابنا إسرائيل ص ٣٨٢ ، وكذاM.Noth ,op - cit ,P.٢٦١

(٥) J. Hastings, Dictionary of the Bible, Edinburgh, ٦٣٩١, P. ٦١٦

٣٠٧
٣٠٨

الفصل التّاسع

سيل العرم

٣٠٩
٣١٠

(١) القصة في القرآن الكريم

جاءت هذه القصة في القرآن الكريم في سورة سبأ ، حيث يقول سبحانه وتعالى «لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ ، وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ، فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» (١).

والآيات الكريمة تدل على أن القوم إنما كانوا في رغد من العيش ، تحيط بهم جنتان عن يمين وشمال ، وكان من المنتظر أن يشكروا ربهم على هذه النعم الجزيلة ، والخيرات الكثيرة ، وذلك الرزق السهل المسير ، الذي لا يقتضي النصب ولا الكد ، غير أن القوم لم يكونوا كذلك ، وإنما جحدوا نعمة ربهم ، ومن ثم فقد أرسل عليهم سبحانه وتعالى سيل العرم (٢) ،

__________________

(١) سورة سبأ : آية ١٥ ـ ١٩

(٢) العرم : المسناة التي تحبس الماء ، واحدها عرمة ، أو هو صفة للمسناة التي كانت لهم وليس باسم لها ، وفي اللسان : عرم (العرم) بفتح الراء وكسرها ـ وكذا واحدها وهو العرمة ـ سد يعترض به الوادي (والجمع عرم ، وقيل العرم : جمع لا واحد له) ، أو هو اسم الوادي الذي كان يأتي السيل منه ، وبني السد فيه ، أو هو الصعب : من عرم الرجل فهو عارم وعرم إذا شرس خلقه وصعب ، أو هو المطر الشديد ، أو السيل الذي لا يطاق ، أو هو اسم للجرذ الذي نقب عليهم سدهم ، فصار سببا في تسلط السيل عليهم ، وهو الفأر الأعمى الذي يقال له الخلد ، أو هو ماء أحمر أرسله الله تعالى في السد فشقه وهدمه ، أو هو كل شيء حاجز بين شيئين وهو الذي يسمى السّكر : أو هو مطر يجتمع بين جبلين وفي وجهه مسناة ، وهى التي يسميها أهل مصر الجسر ، فكانوا يفتحونها إذا شاءوا ، فإذا رويت جناتهم

٣١١

الذي أغرق جنتيهم ، فبدلهم الله بهما جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ، وهكذا هلكت أموال القوم ، وخربت بلادهم ، من ثم فقد اضطروا ـ أو اضطر أكثرهم ـ إلى أن يهاجروا من مواطنهم ، وأن يتفرقوا في غور البلاد ونجدها ، حتى ضرب بهم المثل «تفرقوا أيدي سبأ» ، جزءا وفاقا على كفرهم بنعمة ربهم ، وتلك ـ ويم الله ـ عاقبة من يجحدون فضل ربهم ، ولا يحمدون له نعماءه ، وصدق الله العظيم ، حيث يقول «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» (١)

(٢) القصة في الروايات العربية

يروي المفسرون والأخباريون أن أرض سبأ إنما كانت من أخصب أرض اليمن وأثراها ، وأكثرها جنانا وغيطانا ، وأفسحها مروجا ، مع بنيان حسن ، وشجر مصفوف ، ومياه كثيرة ، وأزهار متنوعة ، غير أن السيل كثيرا ما كان يغرق هذه الأرضين ، وفي عهد ملكتهم «بلقيس» اقتتل القوم على ماء واديهم ، فغضبت لذلك بلقيس وانزوت في قصرها ، فأتى إليها الملأ من قومها يطلبون إليها العودة إلى ما كانت عليه ، غير أنها رفضت أن تجيبهم إلى مطلبهم ، بحجة أنهم كثيرا ما يعصون أمرها ، وأن تفكيرهم غير

__________________

سدوها ، ولعل أقرب الآراء إلى الصواب ، هو الذي يذهب إلى أن العرم إنما هو السد يعترض الوادي ، ذلك لأن لفظة العرم (عرمن) إنما تعني السد في لغة اليمنيين القدامى ، وبدهي أنها لم تكن علما على سد معين ، أعني سد مأرب (أنظر : تفسير الطبري ٢٢ / ٧٨ ـ ٨٠ ، تفسير الألوسي ٢٢ / ١٢٦ ، تفسير البيضاوي ٢ / ٢٤٥٨ ـ ٢٥٩ ، تفسير القرطبي ١٤ / ٢٨٥ ـ ٢٨٦ (طبعة دار الكتب) ، تفسير الجلالين (نسخة على هامش تفسير البيضاوي ٢ / ٢٥٨ ـ ٢٥٩) ، تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٢٥١ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٥٠ ، ابن هشام ١ / ٩ ، مروج الذهب ٢ / ١٦٣ ـ ١٦٤ ، الإكليل ٨ / ٤٣ ، معجم البلدان ٤ / ١١٠ ، وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى ١ / ١١٧ ، جواد علي ٧ / ٢٠١ ، الدميري ١ / ٤٤٥)

(١) سورة إبراهيم الآية : ٧

٣١٢

سليم ، وإن قبلت في نهاية الأمر أن تعود إلى عرشها ، وهنا أمرت فسد ما بين الجبلين بمسناة بالصخر والقار وحبست الماء من وراء السد ، وجعلت له أبوابا بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة منها اثنا عشر مخرجا على عدة أنهارهم ، وكان الماء يخرج لهم بالسوية إلى أن كان من شأنها مع سليمان عليه‌السلام.

غير أن أصحابنا المفسرين والاخباريين لم يتفقوا على الرواية الآنفة الذكر ، من أن بلقيس (١) هي التي بنت سد مأرب ، فذهب فريق منهم إلى أن ذلك إنما كان «سبأ (٢)» نفسه ، وإن لم يكمل السد فأتمه ولده حمير ،

__________________

(١) أنظر عنها مقالنا «العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة» ـ مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية ـ العدد السادس ـ ١٩٧٦ م وكذا كتابنا «بلاد العرب»

(٢) تذهب الروايات العربية إلى أن «سبأ» هذا ، إنما هو عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، وأن سبب تسميته بسبإ أنه أول من سبى من العرب ، وزعم البعض أنه كان مسلما وله شعر بشر به المصطفى (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، وأنه حكم ٤٨٤ عاما ـ ثم خلفه ولده حمير ، وأنه أنشأ مدينة سبأ وسد مأرب في اليمن ، وعين شمس في مصر ، حيث خلفه عليها ولده بابليون (الطبري ١ / ٢١١ ، ابو الفداء ١ / ١٠٠ ، ابن الاثير ١ / ٢٣٠ ، مروج الذهب ٢ / ٤٥ ـ ٤٨ ، البلاذري : أنساب الاشارف ص ٤ ، كتاب التيجان ص ٤٨ ـ ٥٠ ، ابن كثير ٢ / ١٥٨ ـ ١٥٩ ، تاج العروس ١٠ / ١٦٩ ابن خلدون ٢ / ٤٧ ، منتخبات ص ٤٧ ، المحبر ص ٣٦٤ ، الأخبار الطوال ص ١٠ ، المعارف ص ٤٦ ، ٢٧١ ، بلوغ الأرب ١ / ٢٠٧ ، الاشتقاق ١ / ١٥٥ ، ٢ / ٣٦١ ـ ٢٦٣ ، اليعقوبي ١ / ١٩٥ ، روح المعاني ٢٢ / ١٢٤) وأما أن سبأ هو عبد شمس بن يشجب ... الخ فهناك كتابة حفرت على نحاس في مجموعة (P.Lamare) جاء فيها هذا الاسم ، وأما ان سبب التسمية كثرة السبي ، حتى وصلت غزواته إلى بابل وأرمينية في آسيا ، ومصر والمغرب في إفريقيا ، فليس هذا إلا في خيال ابن منبه ، ومن دعوا بدعوته ، وأن هذه البلاد التي ذكرت آنفا ، فلا تعرف شيئا عن سبأ هذا ـ وان عرفت السبئيين على أنهم من تجار البخور واللبان وغيرهما من مستلزمات المعابد القديمة ، وليس غزاة يحتلون البلاد ويبنون المدن ، وأما أن الرجل قد بنى مدينة سبأ وسد مأرب ، فيكذبه أن التاريخ لا يعرف بلدا بهذا الاسم ، وأما بنائه لسد مأرب فتلك دعوى لا تعرف نصيبا من صواب ـ كما سوف نعرف ـ وأما بنائه لعين شمس ، فالواقع أن المدينة قد بنيت قبل ظهور سبأ هذا ـ إن كان هناك ملكا بهذا الإسم ـ بمئات من السنين ، بل بآلاف من السنين ،

٣١٣

الذي يرى فيه فريق ثان المؤسس الأصلي للسد ، وليس متمما له ، بينما ذهب فريق ثالث إلى أن ذلك إنما كان لقمان الأكبر العادي وهو لقمان بن عاد بن عاد ـ وقد رصف أحجاره بالرصاص والحديد (١).

وأيا ما كان الأمر ، فإن القوم بدءوا يستغلون المياه التي أخذت تتجمع خلف السد كالبحر ، فكانوا إذا أرادوا سقي مزارعهم فتحوا من ذلك السد بقدر حاجتهم بأبواب محكمة وحركات مهندسة ، فيسقون حسب حاجتهم ثم يسدونه ، فازدهرت بلادهم فوق ازدهارها الأول ، ويزعم الأخباريون ـ فيما يزعمون ـ أن المرأة إنما كان تخرج ـ إذا أرادت جني شيء من الفاكهة ـ واضعة مكتلها على رأسها ، فتمشي تحت الأشجار ، وهي تغزل أو تعمل ما شاءت ، فلا ترجع إلى بيتها ، إلا وقد امتلأ مكتلها مما يتساقط من الثمار ، ويزيد البعض أنها كانت تروح من قرية وتغدوها وتبيت في قرية لا تحمل زادا ولا ماء ، لما بينها وبين الشام ، وأن بلاد سبأ كانت طيبة لا يرى فيها بعوض ولا برغوث ولا عقرب ولا حية ولا ذباب ، وكان الركب يأتون وفي ثيابهم القمل وغيره ، فإذا وصلوا إلى بلادهم ماتت ، وهكذا عاش القوم في أطيب عيش وأهنأ حال ، فضلا عن قوة الشوكة واجتماع الكلمة ، لا يعاندهم ملك إلا قصموه ، ولا يوافيهم جبار في جيش إلا كسروه ، فذلت

__________________

حيث كانت تدعى «اون» أو «أويون» واما «بابليون» ولده ، فهذا اسم حصن في مصر القديمة ما تزال بقاياه حتى الآن ، وأما قوله شعرا في النبي عليه الصلاة والسلام ، فهذا من نوع مزاعمهم من نسبة شعر إلى إبليس والى آدم ... ، وهي لا تعدو ان تكون أساطير ، لا تعرف لها نصيبا من صواب ، ثم إن عربية الجنوب تختلف كثيرا عن عربية الشمال ، عربية القرآن الكريم

(١) مروج الذهب ٢ / ١٦٠ ـ ١٦٢ ، تفسير الطبري ٢٢ / ٧٨ ـ ٨٠ ، تفسير روح المغاني ٢٢ / ١٢٦ ، معجم البلدان ٥ / ٣٤ ـ ٣٥ ، الدميري ١ / ٤٤٥ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٥٠ ، تفسير البيضاوي ٢ / ٢٥٩ ، ابن كثير : البداية والنهاية ٢ / ١٥٩ ، تفسير القرطبي ١٤ / ٤٨٦ ، تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٢٥١ ، وفاء الوفا ١ / ١١٧

٣١٤

لهم البلاد ، وأذعن لطاعتهم العباد ، فصاروا تاج الأرض (١).

وبقي القوم على هذه الحال حينا من الدهر ، لا يدري الأخباريون مداه على وجه التحقيق ، أعرضوا بعده عن شكر الله على نعمائه ، وانغمس امراؤهم في الترف والملذات ، واللهو والشهوات ، منصرفين عن تدبير الملك ورعايته ، ومن ثم فقد بعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا ، فدعوهم إلى الله وذكروهم بنعمه عليهم ، وأنذروهم عقابه ، فأعرضوا ، وقالوا ما نعرف لله علينا من نعمة ، وكان نتيجة ذلك كله ، إن سلط الله عليهم سيل العرم ، فحمل السد وذهب بالجنان وكثير من الناس.

وهنا يجنح الأخباريون إلى الأساطير ، فيرون أن القوم إنما كانوا يعلمون ـ عن طريق كهانهم ـ إنما يخرب عليهم سدهم هذا فأرة ، فلم يتركوا فرجة بين حجرين ، إلا ربطوا عندها هرة ، وتمر الأيام ويصبح سيد القوم «عمرو بن عامر» الأزدي ، فيرى ـ فيما يرى النائم ـ كأنه انبثق عليه الردم فسال الوادي ، فأصبح مكروبا ، فانطلق نحو الردم ، فرأى الجرذ يحفر بمخاليب من حديد ، ويقرض بأنياب من حديد ، فانصرف إلى أهله وأخبرهم بالأمر ، ثم إنهم عمدوا إلى هرة ، فأخذوها وأتوا إلى الجرذ ، فصار الجرذ يحفر ولا يكترث بالهرة ، فولت هاربة.

على أن رواية أخرى تذهب إلى أن ذلك إنما كان من امرأة له كاهنة ـ يقال لها طريفة ـ رأت في منامها أن سحابة غشيت أرضهم فأرعدت وأبرقت ثم صعقت فأحرقت كل ما وقعت عليه ، ففزعت طريفه لذلك وأتت عمرا وأخبرته بالأمر ، فهدأها ، ثم دخل حديقة له ومعه جاريتان من

__________________

(١) الدميري ١ / ٤٤٥ ، تفسير الطبري ٢٢ / ٧٧ ـ ٨٥ ، مروج الذهب ٢ / ١٦١ ـ ١٦٢ ، وفاء الوفا ١ / ١١٦ ـ ١١٧ ، روح المعاني ٢٢ / ١٢٦ ـ ١٢٧ ، ابن كثير ٢ / ١٥٩ ، ياقوت ٥ / ٣٥ ، تفسير القرطبي ٢ / ٢٨٩ ـ ٢٩٠ ، تفسير الجلالين (نسخة على هامش البيضاوي ٢ / ٢٥٨

٣١٥

جواريه ، فلما علمت طريفة بذلك ، جاءته ، غير أنها رأت في طريقها إليه ما يؤكد لها ما رأته في منامها ، وتستطرد الرواية فتصف ما رأته طريفة وتفسيرها له ، وحين يطلب منها زوجها علامة على نبوءتها المشئومة هذه تخبره أنه لو خرج إلى السد لوجد هناك جرذا يكثر بيديه في السد الحفر ، ويقلب برجليه من الجبل الصخر ، وينطلق عمرو إلى السد ، فإذا الجرذ يقلب برجليه صخرة ما يقلبها خمسون رجلا فرجع إلى طريفة وأعلمها الخبر ، ثم أنشد شعرا عربيا فصيحا.

ويستطرد الاخباريون في رواياتهم فيذهبون إلى أن الرجل وقد تأكد من وقوع المأساة ، كتم ذلك عن قومه ، وأجمع أمره أن يبيع كل شيء به بأرضه سبأ ، ومن ثم فقد دعا أصغر بنيه ـ ويدعى مالكا ـ أو ابن أخيه ـ ويدعى حارثة ـ أو يتيما كان قد رباه ، وقال له : إذا جلست في المجلس واجتمع الناس إليّ ، فإني سآمرك بأمر ، فأظهر فيه ـ العصيان ، فإذا ضربتك بالعصا ، فقم اليّ والطمني ، ثم قال لأولاده : فاذا فعل ذلك فلا تنكروا عليه ولا يتكلم أحد منكم ، فإذا رأى الجلساء فعلكم لم يجسر أحد منهم أن ينكر عليه ولا يتكلم ، فأحلف أنا عند ذلك يمينا لا كفارة لها أن لا أقيم بين أظهر قوم قام إلى أصغر بنيّ فلطمني فلم يغيروا.

وينفذ عمرو وأولاده ما اتفقوا عليه ، ويعرض الرجل ضياعه للبيع ، ويبتاع الناس منه كل ما له بأرض مأرب ، غير أنهم لم يلبثوا إلا قليلا حتى أتى الجرذ على الردم تستأصله ، فبينما القوم ذات ليلة بعد ما هدأت العيون إذا هم بالسيل فاحتمل أنعامهم وأموالهم وخرب ديارهم ، ولم يبق من الأرض والكروم إلا ما كان في رءوس الجبال.

وتفرق القوم في البلاد ، فذهب أولا جفنة إلى الشام ، ونزل الأوس والخزرج في يثرب ، وسارت ازد السراة إلى السراة ، وازد عمان إلى عمان ، وذهب مالك بن فهم إلى العراق ، ونزلت طيء بأجأ وسلمى ، ونزلت أبناء

٣١٦

ربيعة بن حارثة تهامة ، حيث سموا بخزاعة ، واستولوا على مكة من جرهم (١).

تلك هي الروايات التي جاءت عن سيل العرم في الكتب العربية ، موجزة ، وهي روايات لا تكاد تزيد في معظمها عن مجموعة من الخرافات والقصص التي صيغت في جو اسطوري ، حافل بالإثارة ، مجاف للعقل والمنطق ، غاص بالمتناقضات ، ومن ثم فلا يهم أن تكون لها قيمة علمية أو لا تكون ، فذلك شأن من يريدون أن يروها في نصها الراهن على هذا النحو أو ذاك ، ولكن المهم ألا تكون حقائق تاريخية يصدقها الناس تماما ، عن سد مأرب ، وما حدث له من تصدعات في فترات متباينة وفي ظروف مختلفة ، ذلك لأن سهام الريب إنما توجه إليها من كل جانب ، وليس بالوسع القول بأنها ترقى إلى ما فوق مظان الشبهات.

ولعل أهم ما يوجه إليها من نقد ، يمكن حصره في نقاط ، منها (أولا) ذلك الخلاف بين الرواة فيمن بنى السد ، فذهبت رواية إلى أنه سبأ ، وأخرى إلى أنه حمير ، وثالثة إلى أنه لقمان ، ورابعة إلى أنها بلقيس ، ومع ذلك فإن هذه الروايات جميعا ، إنما كانت بعيدة عن الحقيقة التاريخية ـ والمسجلة على السد نفسه ـ وهو أن صاحب الفكرة ومنفذ المشروع ، إنما كان «سمه علي ينوف» في القرن السابع قبل الميلاد ، ثم أخذ خلفاؤه من بعده يضيفون إليه جديدا بعد جديد ، حتى اكتمل في نهاية القرن الثالث الميلادي على أيام «شمر يهرعش» ، كما سنوضح ذلك فيما بعد.

__________________

(١) ياقوت ٥ / ٣٥ ـ ٣٧ ، تفسير الألوسي ٢٢ / ١٣١ ـ ١٣٣ ، تفسير الطبري ٢٢ / ٨٠ ـ ٨٦ ، تفسير البيضاوي ٢ / ٢٥٩ ، مروج الذهب ٢ / ١٦٧ ـ ١٧٦ ، ابن خلدون ٢ / ٥٠ ، ٥٧ ، ابن كثير ٢ / ١٦٠ ـ ١٦١ ، وفاء الوفا ١ / ١١٧ ـ ١٢٢ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٢٠٣ ـ ٢٠٥ ، الدميري ١ / ٤٤٥ ، ابن هشام ١ / ٨ ـ ٩ ، الإكليل ٨ / ٤١ ، ١١٥ ـ ١١٦ ، الميداني ١ / ١٨٥ ، تفسير القرطبي ١٤ / ٢٨٥ ـ ٢٩١ ، تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٢٥٣ ، قارن : نهاية الأرب ٣ / ٢٨٣ ـ ٢٨٨ ، الميداني ١ / ٢٧٥ ـ ٢٧٦ ، الدرر الثمينة ص ٣٢٦

٣١٧

ومنها (ثانيا) تلك الأسطورة التي تزعم أن السد إنما تهدم بفعل جرذ له مخالب وأنياب من حديد ، وهو سبب لا يمكن أن يكون مقبولا إلا في عالم الأساطير ، وكما سنعرف فيما بعد ، فإن السد إنما تصدع عدة مرات ، كان آخرها في عام ٥٤٣ م ، وبفعل عوامل لا دخل لفأر كانت له أنياب من حديد فيها بحال من الأحوال ، ومنها (ثالثا) أن الرواة أنفسهم ، إنما يذهب فريق منهم إلى أن الماء قد سأل إلى موضع غير الموضع الذي كانوا ينتفعون به ، وبذلك خرجت جناتهم.

ومنها (رابعا) تلك النبوءات التي ملئوا بها صفحات كتبهم ـ والتي أشرنا إلى بعضها آنفا ـ عن خراب السد ، وكأن أصحابنا الأخباريين ـ وكذا المفسرين ـ يسلمون بأن الكهان إنما يعلمون الغيب من الأمر ، ونسوا ـ أو تناسوا ـ أن الله وحده هو «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» (١) ، ومنها (خامسا) ذلك الخلاف بين الروايات فيمن تكهن بخراب السد ، ففريق يذهب إلى أنه «عمرو بن عامر الازدي» ، بينما يذهب فريق ثان إلى أن زوجته الكاهنة «طريفة» هي صاحبة النبوءة الأولى ، هذا إلى جانب فريق ثالث ذهب إلى ان ذلك إنما كان أخاه «عمران».

ومنها (سادسا) تلك الوسيلة التي لجأ إليها سيد القوم «عمرو بن عامر» في الحصول على كل أمواله بعد أن علم عن طريق نبوءاته ـ أو

__________________

(١) يروي البخاري في صحيحه ان جويريات جلسن يضربن بالدف في صبيحة عرس الربيع بنت معوذ الأنصارية ، ثم جعلن يذكرن آباءهن من شهداء بدر ، حتى قالت جارية منهن «وفينا نبي يعلم ما في غد» فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تقولي هكذا وقولي ما كنت تقولين» (أنظر : النبأ العظيم ص ٣٣) ، ويقول الله سبحانه وتعالى على لسان نبيه «قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ» (الانعام : آية ٥٠) ويقول سبحانه وتعالى «وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ» (الأعراف : آية ١٨٨) فهل هذا يتفق وروايات المؤرخين والمفسرين عن نبوءات القوم عن خراب السد؟

٣١٨

نبوءات زوجته أو أخيه ـ بخراب السد ، هل تتفق هذه الحيلة ومكانة الرجل كسيد لقومه ، بل هي تتفق والخلق العربي؟ ثم أليست هي حيلة ساذجة ، يبدو الاختراع فيها واضحا ، فضلا عما تدل عليه من طبع دنيء وخلق غير كريم ، ما عهدناه في سادات القبائل العربية من قبل.

ومنها (سابعا) تلك الصورة التي تقدمها الروايات عن الرخاء الذي عمّ بلاد سبأ ، وعن خلوها من كل الحشرات الضارة ، فلا يرى فيها برغوت ولا بعوض ولا عقرب ولا حية ولا ذباب ، وأن الركب إنما كانوا يأتون وفي ثيابهم القمل وغيره ، فإذا ما وصلوا إلى مأرب ماتت ، لطيب هوائها ، ولست أدري كيف استطاع السبئيون ، أو كيف استطاع أصحاب هذه الروايات أن يخلصوا السبئيين من كل هذه الحشرات الضارة ، وما هي وسيلتهم إلى ذلك؟ إلا أن يكون الخيال هو الذي دفعهم إلى أن يقولوا ما قالوا ، وإلا أن يكون السبئيون قد توصلوا إلى طريقة ـ لا نعرفها حتى الآن ـ استطاعوا أن يتخلصوا بها من هذه الحشرات الضارة ، وليست هذه الوسيلة على أي حال ، طيب هواء سبأ ، كما يظن أصحابنا المفسرون والأخباريون.

ومنها (ثامنا) تلك المبالغات عن الرخاء والأمن الذي ساد البلاد ، حتى أن المرأة لتخرج واضعة مكتلها على رأسها ، فتمشي تحت الأشجار ـ وهي تغزل أو تعمل ما شاءت ـ فلا تعود إلى بيتها إلا وقد امتلأ مكتلها مما يتساقط من الثمار ، فهل هذا صحيح؟ وهل صحيح كذلك أن قوما تضطر نساؤهم إلى العمل ، حتى وهن سائرات في الطرق يجمعن ما تساقط من ثمار الأشجار ، يمكن أن نقول عنهم أنهم وصلوا إلى درجة من الرخاء لم يصلها غيرهم ، وأي رخاء هذا الذي تضطر فيه نساء القوم إلى التجول بين الأشجار لجمع بقايا الفواكه التي تتساقط من أشجارها.

٣١٩

ومنها (تاسعا) تلك الصورة الأخرى التي يذهب فيها الأخباريون إلى أن المرأة لتخرج ومعها مغزلها ومكتلها ـ مرة أخرى ـ تروح من قرية وتغدوها ، وتبيت في قرية لا تحمل زادا ولا ماء لما بينها وبين الشام ، فهل هذا صحيح؟ أم أنها مجرد كلمات؟ وهل صحيح كذلك أن هناك قرى متصلة بعضها بالبعض الآخر فيما بين اليمن والشام؟ ليت الذين كتبوا ذلك كله يتذكرون أن طريق القوافل بين اليمن وشمال بلاد العرب ، إنما كانت ـ ولا زالت ـ تمر في صحراء مقفرة ، وأن القرى حتى الآن بعيدة عن بعضها ، ثم وهل كانت المرأة حقا تأمن على نفسها في صحراوات بلاد العرب ، في وقت كان السبي فيه أمرا معهودا ، ثم وهل من علامات الرخاء ان تمشي المرأة من اليمن إلى الشام ، تروح من قرية إلى اخرى ، ثم تبيت في ثالثه ، لا تحمل زادا ولا ماء ، وكأن الرخاء الذي يتحدثون عنه لا يتوفر إلا في الزاد والماء.

ومنها (عاشرا) تلك المبالغة التي يصفون بها جرذهم الذي خرب السد ، حتى أنه كان يقلب برجليه صخرة ، يعجز عنها خمسون رجلا ، ومنها (حادي عشر) ذلك الشعر الذي قاله «عمرو بن عامر الازدي» ، بلغة عربية بليغة إلى أرقى درجات البلاغة ، فهل صحيح أن عمرا هذا قال هذا الشعر ، أم أن الرجل بريء مما نسب إليه ، كما هو بريء مما سجله الأخباريون على لسانه ـ ولسان زوجته طريفة ـ من نثر هو غاية في الفصاحة والبلاغة ، ومرة أخرى ليت الذين نسبوا الى الرجل وزوجته من شعر أو نثر ، كانوا يعلمون أن سكان اليمن قبل الإسلام كانوا ينطقون بلهجات تختلف عن لهجة القرآن الكريم ، وأن من يأتي بعدهم سوف يكتشف سر «المسند» ـ الخط الذي يكتب به في جنوب بلاد العرب ـ ومن ثم يتمكن من قراءة نصوصه والتعرف على لغته ، وأن عربيته تختلف عن هذه العربية التي تدوّن بها ـ والتي زعم الأخباريون أن عمرا وزوجته قالا

٣٢٠