دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
المطبعة: دار النهضة العربية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٠

نزل القرآن الكريم بلغة العرب ، وعلى أساليب العرب وكلامهم (١) ، يقول تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢) ويقول (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٣) ، ويقول (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٤) ، ويقول (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (٥) ، وهذا طبيعي لأنه أتى يدعو العرب ـ بادئ ذي بدء ـ ثم الناس كافة ، إلى الإسلام ، فلا بد أن يكون بلغة يفهمونها ، تصديقا لقوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» (٦).

ورغم أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي ، وفي بيئة عربية كانت تفاخر من نواحي الحضارة بفن القول ، فإنه لم يكن كله في متناول الصحابة جميعا يستطيعون أن يفهموه ـ إجمالا وتفصيلا ـ بمجرد أن يسمعوه ، لأن العرب ـ كما يقول ابن قتيبة (٧) ـ لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه ، بل إن بعضها يفضل في ذلك على بعض ، ومن هنا فليس صحيحا ما ذهب اليه «ابن خلدون» (٨) من أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم ، فكانوا كلهم يفهمونه ،

__________________

(١) أنظر تأويل مشكلات القرآن لابن قتيبة ص ٦٢

(٢) سورة يوسف : آية ٢

(٣) سورة الزمر : آية ٢٨

(٤) سورة الزخرف : آية ٣

(٥) سورة الشعراء : آية ١٩٢ ـ ١٩٥ ، وانظر الرعد (٣٧) والنحل (١٠٢ ـ ١٠٣) وطه (١١٣) وفصلت (١ ـ ٣ ، ٤٤) والشورى (٧) والأحقاف (١٢)

(٦) سورة إبراهيم : آية ٤

(٧) ابن قتيبة : رسالة في المسائل والأجوبة ص ٨

(٨) مقدمة ابن خلدون ص ٣٦٦

١٠١

ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه لأن نزول القرآن بلغة العرب ، لا يقتضي أن العرب كلهم يفهمونه في مفرداته وتراكيبه ، وإنما كانوا يختلفون في مقدار فهمه حسب رقيهم العقلي ، بل إن ألفاظ القرآن نفسها لم يكن العرب كلهم يفهمون معناها ، كما لم يدع أحد أن كل فرد في كل أمة يعرف ألفاظ لغتها (١). وليس أدلّ على ذلك ، مما يروى عن أنس بن مالك ، أن رجلا سأل الفاروق عمر عن قوله تعالى (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) (٢) ، ما الأب؟ فقال عمر : نهينا عن التكلف والتعمق» ، وروي عن عمر أيضا ، أنه كان على المنبر ، فقرأ (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ» (٣) ، ثم سأل عن معنى «التخوف» ، فقال رجل من هذيل : التخوف عندنا التنقص (٤).

وقريب من هذا ، ما روي عن ابن عباس (٣ ق. ه ـ ٦٨ ه‍) أنه قال : ما كنت لأدري ما فاطر السموات والأرض ، حتى أحتكم إليّ أعرابيان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي ابتدأت حفرها (٥).

فإذا كان هذا شأن الفاروق ، يلتبس عليه معنى «التخوف» إلى أن يفسره له شيخ من هذيل ، لأن التخوف من لغة هذيل ، وإذا كان هذا شأن ابن عباس ـ وهو حبر الأمة ، وترجمان القرآن ، ومن دعا له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ، ومن كان عنده أدق الفهم لإشارات القرآن ودقائق معانيه (٦) ـ لا يدري معنى فاطر السموات

__________________

(١) احمد امين : فجر الاسلام ص ١٩٦

(٢) سورة عيسى : آية ٣١

(٣) سورة النحل : آية ٤٧

(٤) الموافقات ٢ / ٥٧ ـ ٥٨ ، فجر الاسلام ص ١٩٦

(٥) مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية ، تفسير الطبري ١٤ / ٧٧

(٦) الاتقان ٢ / ١٧٩ ، ١٨٧ ، تفسير القرطبي ١ / ٣٣ ، فتاوى ابن تيمية ٤ / ٩٣ ، ٩٤ ، ١٣ / ٣٦٥ ، ١٧ / ٤٠٢ ، تفسير الطبري ١ / ٩٠ ، مقدمتان في علوم القرآن ص ٥٧ ـ ٥٨ ، ٢٦٤

١٠٢

والأرض ، حتى يحتكم إليه أعرابيان في بئر ، فيقول أحدهما أنا فطرتها ، أي بدأت حفرها (١) ، بل ويروى عنه كذلك أنه قال : ما كنت أدري معنى قوله تعالى (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ» (٢) حتى سمعت بنت ذي يزن ، تقول لزوجها : تعال أفاتحك : أي أحاكمك (٣) ـ إذا كان هذا شأن الفاروق وابن عباس ، فحريّ بالعامة من العرب ـ ومن باب أولي حريّ بنا ، وفينا العجمة التي غلبت في كل مكان ـ ألا يفهموا جميعا لغة القرآن ؛ لأنهم لم يكونوا جميعا على مستوى واحد في فهم اللغة العربية (٤) فضلا عن أن هناك إشارات كثيرة في القرآن الكريم إلى أشياء في التوراة والانجيل ، والرد عليها ، وهي أمور لا يكفي في فهمها معرفة اللغة العربية (٥).

إلا أن هذا لا يمنعنا من القول ، بأن الصحابة على العموم كانوا أقدر الناس على فهم القرآن ، لأنه نزل بلغتهم ، ولأنهم شاهدوا الظروف التي نزل فيها القرآن ، ومع ذلك فقد اختلفوا في الفهم حسب اختلافهم في أدوات الفهم ، وذلك لأسباب منها (أولا) أنهم كانوا يعرفون العربية على تفاوت فيما بينهم ، وان كانت العربية لغتهم ومنها (ثانيا) ان منهم من كان يلازم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقيم بجانبه ، ويشاهد الأسباب التي دعت إلى نزول الآية ، ومنهم من ليس كذلك ، ومنها (ثالثا) اختلافهم في معرفة عادات العرب في أقوالهم وأفعالهم ، فمن عرف عادات العرب في الحج في

__________________

(١) تفسير القرطبي ١ / ٤٤ ، التفسير والمفسرون ١ / ٣٥ ، أمين مدني : التاريخ العربي ومصادره ص ٤٧ ـ ٤٨

(٢) سورة الاعراف : آية ٨٩

(٣) تفسير القرطبي ١ / ٤٤

(٤) محمد أبو زهرة : القرآن ص ٥٨٤

(٥) احمد أمين : فجر الاسلام ص ١٩٦.

١٠٣

الجاهلية ، استطاع أن يعرف آيات الحج أكثر من غيره ممن لم يعرف (١).

وهكذا نشأ علم التفسير لفهم القرآن وتدبره ، ولتبيان ما أوجز فيه ، أو ما أشير إليه فيه إشارات غامضة ، أو لما غمض علينا نحن من تشابيهه واستعاراته وألفاظه أو لشرح أحكامه (٢) ، هذا وقد نشأ التفسير في عصر الرسول ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان النبي أول المفسرين له ، ثم تابعه أصحابه من بعد (٣) ، على أساس أنهم الواقفون على أسراره ، المهتدون بهدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤) ، ولعل أشهر المفسرين من الصحابة ، الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن مسعود (٥).

وجاء عصر التابعين ، الذين أخذوا عن الصحابة ، وأشهرهم تلاميذ ابن عباس في مكة ، كمجاهد (٢١ ـ ١٠٣ ه‍) وعطاء بن رباح (٢٧ ـ ١١٤ ه‍) وعكرمة (٢٥ ـ ١٠٥ ه‍) مولى ابن عباس ، وسعيد بن جبير (٤٥ ـ ٩٤ ه‍) ، ومن أهل المدينة عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ومحمد كعب القرضي (ت ١١٧ ه‍) ورافع بن مهران ، أو كما يكنى أبو العالية الرياحي (ت ٩٣ ه‍) ، وأما تلاميذ عبد الله بن مسعود في العراق ، فمسروق بن الأجدع ـ وهو عربي من همدان ـ وقتادة أبو الخطاب السدوسي ـ وهو عربي كان يسكن البصرة ـ وعطاء الخراساني

__________________

(١) نفس المرجع السابق ص ١٩٧ ـ ١٩٨

(٢) عمر فروخ : تاريخ الجاهلية ص ١٦ ، وانظر : البرهان ٢ / ١٣

(٣) فتاوى الإمام ابن تيمية ١٣ / ٣٣١ ـ ٣٣٣

(٤) اشتهر بتفسير القرآن عشرة من الصحابة ، وهم الخلفاء الاربعة وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو موسى الاشعري وعبد الله بن الزبير ، وأما الخلفاء فأكثر ما روي عنه هو الإمام علي ، والرواية عن الثلاثة نذرة جدا (كشف الظنون ١ / ١٧٨ ، الاتقان ٢ / ١٨٧ ـ ١٨٩ ، فتاوي ابن تيمية ١٣ / ٣٦٤ ـ ٣٦٦ ، ١٧ / ٤٠٢ ، فجر الاسلام ص ٢٠٢ ـ ٢٠٤)

(٥) راجع شروط المفسر وآدابه (الاتقان ٢ / ١٧٥ ـ ١٨٧ ، تفسير المنار ١ / ١٧ ـ ٢٦ ، التبيان في علوم القرآن ص ١٧٧ ـ ١٨١)

١٠٤

(٥٠ ـ ١٣٥ ه‍) ، فضلا عن الإمام الحسن البصري ، ذلك العالم الزاهد ، الذي ولد في المدينة المنورة ، وشب في كنف الإمام علي بن أبي طالب ، ثم استكتبه الربيع بن زياد والي خراسان في عهد معاوية ، فسكن البصرة ، وتوفي بها عام ١١٠ ه‍ (١).

وفي هذا العصر ـ عصر التابعين ـ تضخم التفسير بالإسرائيليات والنصرانيات ، لأسباب كثيرة ، منها (أولا) أن كثيرا من اليهود كان ـ إبان ظهور الإسلام وقبله ـ يقيمون في المدينة المنورة وفي مجاوراتها ، كبني قينقاع وبني قريظة وبني النضير ، فضلا عن يهود خيبر وفدك وتيماء ، وكان هؤلاء وأولئك قد حملوا معهم إلى بلاد العرب ـ يوم وفدوا إليها خلال القرنين ، الأول والثاني بعد الميلاد ، على ما نرجح (٢) ـ ما حملوا من ثقافات مستمدة من كتبهم الدينية ، وما يتصل بها من شروح ، وما توارثوه جيلا بعد جيل عن أنبيائهم وأحبارهم ، هذا وقد كان لليهود في بلاد العرب مواضع يقيمون فيها عبادتهم وشعائر دينهم ، ويتدارسون فيها أحكام شريعتهم وأيامهم الماضية ، وأخبارهم الخاصة برسلهم وأنبيائهم وكتبهم وغير ذلك ، عرفت عند الجاهليين «بالمدارس» أو «بيت

__________________

(١) الاتقان ٢ / ١٩٠ ، ٢٢٤ ، ٢٢٥ ، فتاوى ابن تيمية ١٣ / ٣٣٢ ، ٣٤٧ ، ٣٦٨ ، ٣٦٩ ، ١٥ / ٦٧ ، ٦٨ ، ٢٠١ ، مقدمتان في علوم القرآن ص ٢٦٣ ، ٢٦٤ ، فجر الاسلام ص ١٧٤ ، ١٨٤ ، ٢٠٤ ، ٢٠٥ ، التبيان في علوم القرآن ص ١٦٠ ـ ١٧٠

(٢) يختلف المؤرخون في العصر الذي جاء فيه اليهود إلى بلاد العرب ، ففريق يراه على أيام موسى (القرن ١٣ ق. م.) وفريق يراه على أيام داود (١٠٠٠ ـ ٩٦٠ ق. م.) وفريق يراه عقب استيلاء سرجون الثاني على السامرة عام ٧٢٢ ق. م. ، وفريق يراه بعد استيلاء نبوخذ نصر على أورشليم عام ٥٨٦ ق. م. ، وأخيرا هناك من يراه بعد القضاء النهائي على اليهود في فلسطين على أيام تيتوس عام ٧٠ م ، وعلى أيام هدريان فيما بين عامي ١٣٢ ، ١٣٥ م ، وهذا ما نرجحه (أنظر التفصيلات في كتابنا «بلاد العرب» ، وهو الجزء الخامس ، من «دراسات في تاريخ الشرق الادنى القديم ـ تحت الطبع)

١٠٥

المدارس» (١) ، ويروي أبو داود عن ابن عباس ، أن هذا الحي من الأنصار كانوا ـ وهم أهل وثن ـ مع هذا الحي من اليهود ـ وهم أهل كتاب ـ يرون لهم فضلا ، ويقتدون بكثير من أفعالهم (٢).

ومنها (ثانيا) أن العرب كانوا يقومون برحلات إلى الشام واليمن ، وبدهي أنه كانت تتم بين العرب واليهود الذين كانوا يستوطنون هذه البلاد ، لقاءات لا شك أنها كانت عاملا قويا من عوامل تسرب الثقافة اليهودية إلى العرب الذين كانت ثقافتهم ـ بحكم بداوتهم وجاهليتهم ـ محدودة ضيقة ، وزاد الطين بلة ، أن اليهود الذين نقل العرب عنهم ، كانوا في غالبيتهم بداة مثلهم ، لا يعرفون من كتبهم ، إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب (٣).

ومنها (ثالثا) دخول جماعات من علماء اليهود وأحبارهم في الإسلام ، كعبد الله بن سلام ، وعبد الله بن صوريا ، وكعب الأحبار وغيرهم ، ممن كانت لهم ثقافة يهودية واسعة ، وكانت لهم بين المسلمين مكانة مرموقة ومركز ملحوظ ، بهذا كله التحمت الثقافة الإسرائيلية بالثقافة الإسلامية ، بصورة أوسع وعلى نطاق أرحب (٤) ، ومنها (رابعا) ميل النفوس لسماع التفاصيل عما يشير اليه القرآن من أحداث يهودية ونصرانية (٥) ، ومنها (خامسا) أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم ، وإنما

__________________

(١) أنظر : المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي ٢ / ١٢٠ ، رمزي نعناعة : الاسرائيليات وأثرها في كتب التفسير ص ١٠٧ ، صحيح البخارى ٩ / ١٣١ ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة.

(٢) انظر : تفسير ابن كثير ١ / ٢٦١

(٣) محمد السيد الذهبى : الإسرائيليات في التفسير والحديث ص ٢٤ ـ ٢٥ ، مقدمة ابن خلدون ص ٢٨٣ ـ ٢٨٤.

(٤) محمد السيد الذهبي : المرجع السابق ص ٢٦

(٥) احمد امين : فجر الإسلام ص ٢٠٥

١٠٦

غلبت عليهم البداوة والأمية ، وإذا ما تشوقوا إلى معرفة شيء مما تشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكنونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود ، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ، ويستفيدون منهم (١) ، لأنهم ـ كما يقول ابن إسحاق ـ أهل العلم الأول (٢) ، وكانت التوراة ـ والتلمود ـ من بعدها ـ تشتمل على كثير مما يشتمل عليه القرآن الكريم من وقائع وأحداث تتصل بالمصطفين والأخيار ، من أنبياء الله الكرام ، ولكن بإسهاب وتفصيل ، قد يغري ، في كثير من الاحايين ، عواطف العامة ، اكثر مما يرضي عقول العلماء.

ومنها (سادسا) أن العرب لم يكونوا يعرفون العبرية ـ لغة التوراة ـ وكان أحبار يهود ـ كما يروي عن أبي هريرة ـ يقرءون التوراة بالعبرية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام (٣) ، ومن ثم فلم تكن هناك من وسيلة أمام المسلمين للتأكد من صدق يهود ، فضلا عن أنهم كانوا أقل منهم دهاء ومكرا ، ومن ثم فقد راجت بينهم سوق أكاذيب ما يسمونهم أهل العلم الأول ، وتساهل المفسرون وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات ، والتي كانت إما من التوراة ، أو مما يفتري أحبار التوراة ، ولهذا حذر «النظام» من بعض المفسرين ، فإن بعضا منهم ـ وبخاصة عكرمة والكلبي والسدي والضحاك ومقاتل وابو بكر الأصم ـ يقول بغير رواية إلى غير أساس ، وكلما كان المفسر أغرب عند العامة كان أحب اليهم (٤).

ومنها (سابعا) ما يرويه «ابن النديم» من أن «أحمد بن عبد الله بن

__________________

(١) مقدمة ابن خلدون ص ٤٣٩ ـ ٤٤٠ ، وانظر : تفسير الطبري ٦ / ٩ ، ١٠ ، ١٧ / ١٠ ، ٢٧ / ٣١ ، تفسير ابن كثير ابن كثير ٣ / ١٠٢

(٢) معجم الأدباء ١٨ / ٨

(٣) صحيح البخاري ٢ / ٢٨٥

(٤) الحيوان للجاحظ ١ / ٣٤٣ ـ ٣٤٦

١٠٧

سلام» قد ترجم التوراة ترجمة دقيقة ، (١) فاذا صح ذلك ، فإن الرجل يكون قد قدم مادة جديدة خصبة من الاسرائيليات يضيفونها إلى تفسير القرآن الكريم ، ومن ثم فقد توسع المفسرون والمؤرخون في الاستعانة بهذه الترجمة ـ إن كانت قد وجدت حقا ـ في تصوير أخبار ما قبل البعثة وكانوا أحيانا يزيدون في هذه الأخبار ، كلما استبد بالمفسر الميل إلى الإغراب والتقصي لجزئيات الأحداث ، وقد جرأهم على ذلك ضعف ملكة النقد عند معاصريهم (٢) ، بل إن الأمر لم يقتصر على ضعف ملكة النقد هذه ، وإنما تجاوزها إلى أن عدم معرفة العرب للغة العبرية جعلهم لا يعرفون مدى صحة هذه التوراة المترجمة ، ثم إن اليهود أنفسهم ـ في دمشق وحلب مثلا ـ كانوا ينكرون على يهود بلاد العرب يهوديتهم ، لأنهم لم يحافظوا على الديانة اليهودية التوحيدية (٣) ، كما أننا نعرف أن التوراة يصعب على رجل واحد القيام بترجمتها ، فضلا عن أن تكون تلك الترجمة دقيقة (٤) ـ وان بخاصة الذي قام بها ، فيما يزعمون ، من يهود بلاد العرب ، وهم ليسوا أعلم من العرب بكثير ـ وعلى أي حال ، فالمعروف أن التوراة ، إنما ترجمت إلى اللغة العربية حوالي عام ٧١٨ م ، وبالتأكيد أن أحمد هذا لم يكن واحدا ممن شاركوا فيها.

ومنها (ثامنا) أن معلومات العرب الجاهليين عن أسفار التوراة معلومات مشوهة ، بل إن العربي الجاهلي كان ينظر إلى ما في أيدي الرهبان والأحبار ، نظرة احترام تمنعه من أن يجادل فيها ، بل إن ما جاء في

__________________

(١) الفهرست ص ٣٢

(٢) رمزي نعناعة : المرجع السابق ١٩٨

(٣) اسرائيل ولفنسون : تاريخ اليهود في بلاد العرب ص ١٣ ، حسن إبراهيم : تاريخ الاسلام السياسى ١ / ٧٣ وكذا D. S. Margoliouth, The Relations Between Arabs and Israelites وكذا Prior to the Rise of Islam, P. ٠٦ Greatz, History of the Jews, IIIP. P. ١٥, ٥٧

(٤) راجع ترجمات التوراة في كتابنا اسرائيل ص ٤٨ ـ ٥١

١٠٨

«الفهرست» وفي «الطبقات» ليؤكد لنا أن حرص المسلمين على حرفية ما ينقلونه من الأسفار إلى اللغة العربية ، ليس بأقل من حرصهم على ما يرويه الأحبار ونقله حرفيا ، وهذا ما جعل القصص اليهودي ينتشر كما هو بين العامة ، ويصدقه ضعاف المؤرخين (١) ، بل لقد بلغ الأمر بالبعض ـ ومنهم كعب الأحبار ووهب بن منبه ـ إلى أن ينسب إلى التوراة ، وغيرها من كتب الرسل ، ما ليس فيها شيء منه ، ولا حومت حوله (٢).

ومنها (تاسعا) ما يروي من أن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قد أصاب يوم اليرموك (١٥ ه‍ ـ ٦٣٦ م) (٣) ، زاملتين من أهل الكتاب ، فكان يحدث منهما ، بعد ذلك ، بقدر ما فهمه من حديث «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» (٤) ، ولعل هذا كله هو الذي دفع الإمام أحمد بن

__________________

(١) أمين مدني : المرجع السابق ص ٩٠

(٢) تفسير المنار ١ / ٩

(٣) انظر عن معركة اليرموك : ابن الاثير ٢ / ٤١٠ ـ ٤١٥ وكذا تاريخ الطبري ٣ / ٣٩٤ ـ ٤١٤ ، فتوح البلدان ص ١٣٧ ، فتوح الشام ٢ / ١٢٠ ـ ١٢٤ ، ٢٣٧ ـ ٢٣٩ ، العقاد : معاوية في الميزان ص ٤١ ، عبد المنعم ماجد : المرجع السابق ص ١٨٤ ـ ١٨٨.

(٤) فتاوى ابن تيمية ١٣ / ٣٦٦ ، وانظر عن الحديث الشريف : صحيح البخارى ٦ / ٣١٩ ـ ٣٢٠ ، هذا وهناك ما يشير إلى النهي عن الأخذ عن بني إسرائيل (أنظر : صحيح البخاري ٣ / ١٨١ ، ٨ / ١٢٠ ، مسند الإمام احمد ٣ / ٣٨٧ ، فتح الباري ١٣ / ٢٥٩ ، ٤٠٤ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٦ ـ ٨ ، البداية والنهاية ١ / ١٩٨ ، محمد السيد الذهبي : المرجع السابق ص ٦٨ ـ ٧١) ، ويروي ابن حجر أن النهي كان قبل استقرار الأحكام الإسلامية ، والقواعد الدينية خشية الفتنة ، فلما زال المحظور وقع الإذن في ذلك لما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار (فتح الباري ٦ / ٣٨٨) ، فضلا عن الاحتياج الى الرد على المخالف ، بدليل نقل الأئمّة قديما وحديثا من التوراة ، وإلزام اليهود بالتصديق لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يستخرجونه من كتابهم (فتح الباري ١٧ / ٣٠٩ ، وانظر وجهات نظر أخرى في : مقدمة من أصول التفسير ص ١٧ ـ ٢٠ ، ٤٥ ـ ٤٦ ، عمدة التفسير ، تعليق احمد شاكر ١ / ١٥ ، تفسير ابن كثير ١ / ٤ ، محاسن التأويل للقاسمي ١ / ٤٤ ـ ٤٥ ، البداية والنهاية ١ / ٦ ـ ٧ ، تفسير البقاعي ص ٨٩ ـ ٩٠ ، محمد السيد الذهبي ص ٧١ ـ ٩٠).

١٠٩

حنبل إلى أن يقول كلمته المشهورة «ثلاثة ليس لها أصل : التفسير والملاحم والمغازي ، أي ليس لها إسناد ، لأن الغالب عليها المراسيل (١) ، وإلى أن يقول ابن تيمية : «والموضوعات في كتب التفسير كثيرة» (٢).

ومع ذلك كله ، فإن الأمر لم يكن خطيرا على أيام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن صحابته كانوا أعرف الناس بأمور دينهم ، إلا أن عصر التابعين كان جد مختلف ، إذ كثر النقل فيه عن يهود ، ومن ثم فقد وجدت أسفار يهود وأناجيل النصارى طريقها إلى كتب التفسير ، وزاد الطين بلة أن وجد في تلك الفترة جماعة من المفسرين أرادوا ان يسدوا ما يرونه ثغرة قائمة في التفسير ، بما وصل إليهم من الإسرائيليات ، فجاء ما روي عنهم في التفسير مليئا بقصص كله سخف ونكارة ، كالذي نراه في كتب التفسير منسوبا إلى قتادة ومجاهد ، ثم جاء في عصر التابعين من عظم شغفه بالإسرائيليات وأفرط في الأخذ منها إلى درجة جعلتهم لا يردون قولا ، ولا يحجمون عن أن يلصقوا بالقرآن كل ما يروى لهم ، وإن كان لا يتصوره عقل ، واستمر الشغف بالإسرائيليات ، والولع بنقل الأخبار التي كان يعتبر الكثير منها نوعا من الخرافة ، إلى أن جاء عصر التدوين (٣).

وعلى أي حال ، سواء أكانت هذه هي كل الأسباب ، أم أن هناك أسبابا أخرى ، فالذي لا شك فيه أن كثيرا من كتب التفسير قد اتسع لما قيل من ذلك وأكثر ، حتى أصبح فيها مزيجا متنوعا من مخلفات الأديان المختلفة والمذاهب المتباينة ، التي ترامت إلى علم العرب (٤) ، وحتى حوت

__________________

(١) ابن تيمية : مقدمة في أصول التفسير ص ١٤ (طبعة دمشق) ، تفسير المنار ١ / ٨ ، وأنظر : الأسرار المرفوعة ص ٣٣٩ ، كشف الخفاء ٢ / ٤٠٢ ، المقاصد الحسنة ص ٤٨١ ، تمييز الطيب من الخبيث ص ١٩٨.

(٢) ابن تيمية : الرجع السابق ص ١٩

(٣) محمد السيد الذهبي : المرجع السابق ص ٣٦ ـ ٣٧ مقدمة ابن خلدون ص ٤٩٠ ـ ٤٩١

(٤) أمين الحولي : التفسير : معالم حياته ، منهجه اليوم ص ١٠ ـ ١١ ، دائرة المعارف الاسلامية ٩ / ٤١٥ ، محمد السيد الذهبي : التفسير والمفسرون ١ / ٨٨

١١٠

من الإسرائيليات كل عجيب وعجيبة ، واستوت في ذلك تفاسير المتقدمين والمتأخرين ، والمتساهلين والمتشددين (١) ، على تفاوت بينها في ذلك قلة وكثرة ، وتعقيبا عليها ، وسكوتا عليها (٢).

وأيا ما كان الأمر ، ورغم هذه الشوائب ، فالذي لا شك فيه ، أنه في كتب التفسير (٣) ، ثروة تاريخية قيمة ، تفيد المؤرخ في تدوين التاريخ العربي القديم ، وتشرح ما جاء مجملا في القرآن العظيم ، وتبسط ما كان عالقا بأذهان الناس عن الأيام التي سبقت عصر الإسلام ، وتحكي ما سمعوه عن القبائل العربية البائدة ، التي ذكرت على وجه الإجمال في القرآن الكريم ، وما ورد عندهم من أحكام وآراء ومعتقدات

__________________

(١) لعل أشهر كتب التفسير التي روت كثيرا من الاسرائيليات هي : تفسير مقاتل بن سليمان (ت ١٥٠ ه‍) والطبري (٢٢٤ ـ ٣١٠ ه‍) والثعلبي (ت ٤٢٧ ه‍) والخازن (٦٧٨ ـ ٧٤١ ه‍) ، واما التي تحرجت عن التوسع فيها ، فأشهرها : تفسير ابن كثير (٧٠٠ ـ ٧٧٤ ه‍) والألوسي (١٢١٧ ـ ١٢٧٠ ه‍) ومحمد رشيد رضا (١٢٨٢ ـ ١٣٥٤ ه‍) [أنظر : دارة المعارف الإسلامية ٩ / ٤٥١ ـ ٤٥٢ ، محمد السيد الذهبي : الاسرائيليات في التفسير والحديث ص ١٦١ ـ ٢٤٩

(٢) نفس المرجع السابق ص ١٥٨ ، ٢٨٣

(٣) أشهر كتب التفسير : تفسير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) وتفسير الثعلبي (الكشف عن بيان تفسير القرآن) (تفسير المرتضى) (آمالي الشريف) وتفسير المشكاة (مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار) وتفسير البغوي (معالم التنزيل) وتفسير الزمخشري (الكشاف على حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) وتفسير الطبرسي (مجمع البيان) وتفسير ابن العربي (أحكام القرآن) وتفسير ابن عطية (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) وتفسير الرازي (مفاتيح الغيب) وتفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) وتفسير النسفي (مدارك التنزيل وحقائق التأويل) وتفسير النيسابوري (غرائب القرآن ورغائب الفرقان) وتفسير الخازن (لباب التأويل في معاني التنزيل) وتفسير أبي حيان (البحر المحيط) وتفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) وتفسير البيضاوي (أنوار التنزيل وأسرار التنزيل) وتفسير الجواهر (الجواهر الحسان في تفسير القرآن) لعبد الرحمن الثعالبي الجزائري وتفسير السيوطي

١١١

__________________

(الدر المنثور في التفسير بالمأثور) وتفسير الجلالين ، وتفسير أبي السعود (إرشاد العقل السليم) وتفسير الألوسي (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني) وتفسير القاسمي (محاسن التأويل) وتفسير المنار (تفسير القرآن الحكيم) وتفسير وجدي (المصحف المفسر) وتفسير سيد قطب (في ظلال القرآن) وتفسير طنطاوي جوهري (الجواهر في تفسير القرآن الكريم).

١١٢

الفصل الرّابع

إبراهيم الخليل

جدّ العرب

١١٣
١١٤

إبراهيم أبو الانبياء ، والجد الأعلى لرسول الله ، وأشدّ الناس شبها به ، خليل الله ، وإمام المتقين ، رمز الإيمان والأسوة الحسنة للمؤمنين جميعا (١) ، وأول من أعطى المسلمين اسمهم (٢) ، وأول من دعا لهم ربهم أن يبعث فيهم رسولا منهم ، يهديهم سواء السبيل (٣) ، وصدق رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث يقول «أنا دعوة أبي إبراهيم» (٤).

وتاريخ الحجاز لن يكون مفهوما إلا عن طريق دراسة تاريخ أبي الانبياء ـ سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ـ فهو أبو العرب (٥) ، وهو باني كعبتهم (٦) ، وجاعل مكة أقدس بقاع الأرض قاطبة (٧) ، وهو أول من أذن في الناس بالحج (٨) ، وأول من دعا لهذه الأرض الطيبة بالأمن والسكينة ، والخير والبركة (٩).

وهكذا كان الحجاز الشريف مهد خاتم الأنبياء والمرسلين ، محمد رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ مهبط الوحي ، ومنزل القرآن ، تتجه إليه ملايين قلوب المسلمين ووجوههم في كل يوم خمس مرات (١٠) ،

__________________

(١) سورة الممتحنة : آية ٤

(٢) سورة الحج : آية ٧٨

(٣) سورة البقرة : آية ١٢٩

(٤) تفسير القرطبي ٢ / ١٣١

(٥) سورة الحج : آية ٧٨

(٦) سورة البقرة : آية ١٢٧

(٧) سورة آل عمران : آية ٩٦ ، وانظر : تفسير الطبري ٣ / ٤٥

(٨) سورة الحج : آية ٢٧

(٩) سورة البقرة : آية ١٢٦

١١٥

وتؤمه في كل سنة آلاف مؤلفة من الحجيج ، استجابة لدعوة إبراهيم ، وأداء للفريضة الخامسة من فرائض الإسلام (٢).

وهكذا يبدو بوضوح أن الخليل عليه‌السلام ، لم يرتبط بدين من الأديان ، كما ارتبط بالإسلام ، ولم يؤمن أصحاب دين بالخليل ، كما آمن به المسلمون ، ولم يتباه جنس بانتسابهم إلى الخليل ، كما تباهى العرب بعامة ـ وقريش بخاصة ـ ولم يتمسك أصحاب دين بدعوة الخليل ، كما تمسك بها المسلمون ـ رغم دعاوى يهود ، ومزاعم النصارى ـ لأنهم ورثة الخليل في الإيمان والتوحيد الصحيح.

(١) مولد الخليل عليه‌السلام

تقدم لنا المصادر العربية عن مولد الخليل رواية مؤداها أنه ولد في عصر ملك دعوة «نمرود بن كنعان بن كوش» والذي كان واحدا من ملوك أربعة ملكوا الأرض كلها (نمرود وبختنصر وهما كافران ، وسليمان بن داود وذي القرنين وهما مؤمنان). وأن أصحاب النجوم قد أخبروه أن غلاما ـ يقال له إبراهيم ـ سوف يولد في شهر كذا من سنة كذا من عهده ، وأنه سوف يفارق دين القوم ويحطم أصنامهم ، ومن ثم فإن الرجل قد أمر بقتل كل غلام يولد في تلك الفترة ، غير أن أم إبراهيم قد أخفت حملها ، فضلا عن أنها قد وضعته سرا في مغارة قريبة من المدينة ، ومن ثم فقد نجا من القتل ، ثم أعلمت زوجها بأن الغلام قد مات على زعم ، وأخبرته بالحقيقة على زعم آخر ، وعلى أي حال ، فإنها ـ طبقا للرواية ـ قد أخذت تتردد على وليدها يوما بعد آخر ، وأنها كانت تتعجب كثيرا ، حينما كانت

__________________

(١) سورة البقرة : آية ١٤٤

(٢) سورة آل عمران : آية ٩٧

١١٦

تراه يشب في اليوم ما يشبه غيره في الشهر (١).

والرواية على هذا النحو مزيج عجيب من روايات مختلفة ، فضلا عن أن سهام الريب توجه إليها من كل جانب ، وليس بالوسع القول أنها ترقى إلى ما فوق مظان الشبهات ، ولعل أهم ما يوجه إليها من شبهات يتلخص في نقاط : منها (أولا) أن تلك الأسطورة التي تتردد في المصادر العربية ـ دون غيرها من المصادر والحقائق التاريخية ـ عن الملوك الاربعة الذين حكموا الدنيا بأسرها ، لا تتفق والحقائق التاريخية أبدا ، فأول هؤلاء الملوك ـ وأعني به نمرود ـ قد لا يعلم أصحاب هذه الأسطورة أن التاريخ البابلي لا يعرف ملكا بهذا الإسم ـ حتى الآن على الأقل ـ ولست أدري من أين جاء به أصحابنا المؤرخون الإسلاميون ، وأكبر الظن أنهم أخذوه من توراة يهود ، حيث جاء فيها «وكوش ولد نمرود الذي ابتدأ يكون جبارا في الأرض ... وكان ابتداء مملكته بابل وأرك وأكد وكلنه في أرض شنعار» (٢) ، على أن التاريخ يعرف بلدا باسم «نمرود» ـ على مجرى الزاب الأعلى ـ وقد كانت عاصمة للامبراطورية الآشورية على أيام سرجون الثاني (٧٢٢ ـ ٧٠٥ ق. م.) ، وهي نفسها مدينة «كالح» في التوراة (٣) ، وهكذا خلط كاتب سفر التكوين بين الملك والمدينة ، ثم جاء مؤرخونا ونقلوا ما في التوراة ، وكأنه التاريخ الذي يرقي فوق كل هواتف الريبة والشك.

وأما «نبوخذ نصر» ـ أو بختنصر كما يدعونه ـ (٦٠٥ ـ ٥٦٢

__________________

(١) ابن الأثير ١ / ٩٤ ـ ٩٥ ، الطبري ١ / ٢٣٣ ـ ٢٣٧ ، أبو الفداء ١ / ١٣ ، ابن كثير ١ / ١٤٨ ، المحبر ص ٣٩٢ ـ ٣٩٤ ، تفسير ابن كثير ٣ / ١٨١ ، ١٨٢ ، مروج الذهب ١ / ٥٦ ، تاريخ الخميس ص ٨٩ ـ ٩١ ، ١١٤ ، المقدسي ٣ / ٤٥ ـ ٤٨ ، ٥٣ ، ٥٤

(٢) تكوين ١٠ : ٨ ـ ١٠

(٣) تكوين ١٠ : ١١

١١٧

ق. م.) ، فلم يكن ملكه يزيد ـ بحال من الأحوال ـ عن سورية بمعناها القديم ، فضلا عن العراق ، ومرة أخرى ، ربما تأثر الكتاب المسلمون بروايات التوراة عن «نبوخذ نصر» الذي كتب له القضاء على البقية الباقية من الكيان السياسي لليهود في فلسطين ، ثم القيام بالأسر البابلي المعروف في التاريخ (١) ، وهكذا بدأ كتابنا يتأثرون بكتابات اليهود عن الرجل ، حتى أنهم جعلوه يغزو بلاد العرب على أيام «عدنان» لسبب لا يخطر على بال مؤرخ ، ذلك السبب هو الغيرة على أنبياء الله الذين قتلهم العرب ، ولست أدري كيف قبل المؤرخون الإسلاميون هذه الاسطورة ، وهم يعتقدون ـ في نفس الوقت ـ أن الرجل إنما كان كافرا ، وقد يزول العجب حين ينسبون إصدار أمر الغزو إلى «برخيا» اليهودي ، وكأن مذلّ اليهود ، إنما يعمل بأمر اليهود (٢) ، ثم قد يعود العجب مرة أخرى ، إذا علمنا أن توراة اليهود تخلو تماما من هذه الروايات ، وأن الفترة ما بين عهد «عدنان» وعهد نبوخذ نصر جد بعيدة (٣).

واما سليمان بن داود ـ عليه‌السلام ـ فإن المصادر التاريخية جميعا ، بما فيها التوراة ، تتفق ـ هذا إذا استثنينا المصادر العربية ـ على أن ملك

__________________

(١) انظر كتابنا اسرائيل ص ٥٢٩ ـ ٥٣٥ وكذا W. Keller, The Bible as History, PP. ٠٨٢ ـ ٤٨٢ A. Malamat, The Last Wars of the Kingdom of Judah. PP. ٣٢٢ ـ ٥٢٢, M. Noth, The History of Israel, PP. ٥٨٢ ـ ٨٨٢, S. Cook, in CHA, II, ٥٦٩١, PP. ٩٩٣ ـ ٢٠٤. Finegan, Light from the Ancient Past, P. ٦٢٢, W. O. E. Oesterley, Egypt and Israel, P. ٣٣٢

(٢) تاريخ الطبري ١ / ٥٥٨ ـ ٥٦٠ ، ابن الأثير ١ / ٢٧٠ ـ ٢٧٢ ، المسعودي ٢ / ١٣٠ ـ ١٣١ ، معجم البلدان ٢ / ٣٢٨ ـ ٣٣١ ، الإكليل ٢ / ٢٨٦

(٣) أنظر : كتابنا «بلاد العرب»

١١٨

النبي الكريم لم يتجاوز فلسطين بحدودها المعروفة (١) ، بل إن التوراة نفسها ـ رغم المبالغات المعروفة عنها ، بخاصة إذا كان الأمر يتصل بملك سليمان ـ ترى أن مملكة إسرائيل ، في أقصى اتساع لها ، وفي أزهى العهود ، إنما كان «من دان إلى بئر سبع» (٢) ، وهي حدود قد لا تشمل حتى فلسطين كلها.

وأما الإسكندر المقدوني (٣٣٦ ـ ٣٢٣ ق. م.) ـ إن كان هو المقصود بذي القرنين ، وهو أمر تحيط به الشكوك ـ فلعله أكثر الأربعة اتساعا في الملك ، ولكنه بالتأكيد لم يملك الدنيا بأسرها ، كما أنه لم يكن مؤمنا ، بل إن الرجل إنما كان يؤله في كل بلد تضعه الأقدار تحت حكمه (٣).

ومنها (ثانيا) هذا التردد في معرفة آزر بمولد ولده ، ألا يدعو إلى التساؤل : كيف أخفت أم إبراهيم وليدها عن أبيه؟ ثم مرة أخرى : آزر يخاف على وليده من الملك ، فأي الروايتين هي الصحيحة؟ ومنها (ثالثا) هذا الإصرار العجيب في المصادر العربية ، على ترديد رواية إعلام المنجمين للملوك بمولد الأنبياء ـ يحدث هذا في مولد إبراهيم ، كما يحدث في مولد الكليم والمسيح عليهما‌السلام ، بل لقد رآه البعض كذلك في مولد «زرادشت» نبي الفرس المزعوم ، وإن كانت الاسرائيليات تبلغ

__________________

(١) أنظر مقالنا «العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة» مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية ـ العدد السادس ، ١٩٧٦ ، ملوك أول ٩ : ١١ ، ١٦ ، وكذا J. Breasted, A History of Egypt, From the Earliest Times to Persian Conquest, P. ٩٢٥. C. Roth. Ashort History of the Jewish People, P. ١٢ H. G. Wells, Ashort History of the World, PP. ٦٧ ـ ٧٧, A. Lods, Israel, Fromits Beginnings to the Middle of the Eight Century, P. ٨٦٣, H. R. Hall, The Ancient History of the Near East, P. ٣٣٤, M. Noth, op - cit, P. P. ٥٠٢ ـ ٦٠٢

(٢) قضاة ٢٠ : ١ ، صموئيل أول ٣ : ٢٠ ، صموئيل ثان ٢٣ : ٢ ، أخبار أيام ثان ٢١ : ٣١

(٣) و. و. تارن : الإسكندر الأكبر ، ترجمة زكي علي ، ص ١٧٨ ـ ١٨٠

١١٩

قمتها فيما يتصل بموسى عليه‌السلام ، بل إن بعض المؤرخين إنما جعل بني إسرائيل انفسهم ـ وليس المنجمين ـ هم الذين كانوا يرددون هذه النبوءة ، وأن صاحبها هو الخليل نفسه (١).

ولعل سؤال البداهة الآن : لم يصرّ هؤلاء المؤرخون على أن يجعلوا المنجمين يعلمون الغيب من الأمر؟ حتى أنهم في قصة إبراهيم ، إنما يحددون مولده بالسنة ، بل والشهر كذلك ، وإن لم يقل لنا أصحابنا المؤرخون : متى كان هذا الشهر ، وتلك السنة ، ثم ألا تبدو الصنعة واضحة في ولادة الخليل في مغارة ، ثم تركه وحيدا فيها ، ثم زيارة أمه له يوما بعد يوم ، دون أن يدري الملك ـ أو حتى أبو الخليل نفسه ـ شيئا عن ذلك ، ثم من أين اتى المؤرخون بكل هذا القصص؟

والرأي عندي أنه ربما صاحبت مولد الخليل عليه‌السلام بعض الخوارق ، فذلك أمر لا ننكره ، وما كان لنا أن ننكره ، ولكن أن تكون الخوارق بهذه الطريقة التي يذكرها مؤرخونا ، وأن تتكرر مع بعض الأنبياء على نفس الوتيرة ، مع تغيرات طفيفة في السرد القصصي ، فذلك ما نراه أمر اختلاق ، لعبت الإسرائيليات فيه الدور الأول ، ثم شاء لمؤرخينا علمهم أن يزيدوا فيها ، وهم يعلمون أن التوراة محرفة ، فما زادوا ـ والحال هذه ـ على أن نقلوا التحريف ، بل وربما في بعض الأحايين أن حرفوا التحريف نفسه ، فأتت كتاباتهم على هذا النحو أو ذاك.

__________________

(١) ابن الأثير ١ / ١٧٠ ، تاريخ الطبري ١ / ٢٣٤ ـ ٢٣٧ ، ٣٨٧ ـ ٣٨٨ ، ابن كثير ١ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٢٣ ، مروج الذهب ١ / ٥٦ ، متى ٢ : ١ ـ ٢٢ ، قارن : تفسير المنار ١ / ٣١٣ ، المقدسي ٣ / ٤٥ ، تفسير الطبري ١٢ / ٦٥ ـ ٦٧ ، قصة مشابهة عن قوم صالح عليه‌السلام.

١٢٠