دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

دكتور محمد بيومي مهران

دراسات تاريخيّة من القرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

دكتور محمد بيومي مهران


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار النهضة العربية للطباعة والنشر
المطبعة: دار النهضة العربية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٠

(٢) موطن الخليل وعصره

تروي التوراة أن الخليل عليه‌السلام ، إنما هو «أبرام (١) بن تارح» ، ومن ثم فإن القرآن الكريم يختلف مع التوراة في اسم والد إبراهيم ، حيث يقول سبحانه وتعالى (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً» (٢).

ويبدو أن بعض المفسرين والمؤرخين نظروا إلى رواية التوراة ، وكأنها السند الصحيح (٣) ، ومن ثم فقد حاولوا تأويل الآية الكريمة بما يخرجها عن صريح اللفظ ، محاولين بذلك أن يقضوا على التناقض بين ما جاء في القرآن ، وما ذهبت إليه التوراة ، الأمر الذي ناقشناه بالتفصيل في كتابنا إسرائيل ، وذهبنا إلى أن اسم والد الخليل ، إنما هو «آزر» ، طبقا لما جاء في القرآن الكريم والحديث الشريف ، فضلا عن أن الأدلة العلمية كلها تقف إلى جانبه ، ومن ثم فإن تأويلات المفسرين والمؤرخين لا معنى

__________________

(١) دعت التوراة الخليل أبرام حتى التاسعة والتسعين من عمره ، ثم إبراهيم بعد ذلك (انظر تكوين ١١ : ٢٧ ـ ٣١ ، ١٢ ، ٤ ، ٧ ، ٩ ، ١٠ ، ١٤ ، ١٦ ـ ١٨ ، ١٣ : ١ ـ ٨ ، ١٢ ، ١٤ ، ١٨ ، ١٤ : ١٣ ، ١٤ ، ١٩ ، ٢٢ ، ٢٣ ، ١٥ : ١ ـ ٣ ، ١٣ ، ١٨ ، ١٦ : ١ ـ ٦ ، ١٥ ، ١٧ : ١ ـ ٦

(٢) سورة الأنعام : آية ٧٤ وانظر : تفسير الطبري ١١ / ٤٦٥ ـ ٤٦٩ (دار الشعب ـ القاهرة ١٩٥٧) ، تفسير النسفي ٢ / ٥٣ ، الجواهر في تفسير القرآن الكريم (للشيخ طنطاوي جوهري) ٤ / ٥٦ (طبعة ثالثة ١٩٧٤).

(٣) ابن الأثير ١ / ٩٤ ، تاريخ الطبري ١ / ٢٢٣ ، أبو الفداء ١ / ١٣ ، المقدسي ٣ / ٤٧ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٢٣ ـ ٢٤ ، مروج الذهب ١ / ٥٦ ، ابن خلدون ٢ / ٣٣ ، تفسير روح المعاني ٧ / ١٩٤ ، تفسير القرطبي ص ٢٤٥٨ (طبعة الشعب) دائرة المعارف الاسلامية ١ / ٥٢ ـ ٥٥ ، تفسير الطبري ١١ / ٤٦٥ ـ ٤٦٦ ، ومع ذلك فهناك من يجمعون على أن «آزر» هو ابو إبراهيم طبقا لتصريح القرآن (تفسير الطبري ١١ / ٤٦٨ ـ ٤٦٩ ، تفسير الفخر الرازي ٣ / ٧٢ ، تفسير البحر المحيط ٤ / ١٦٣ ـ ١٦٤ ، تفسير روح المعاني ٧ / ١٩٤ ـ ١٩٥ ، تفسير الجواهر ٤ / ٥٦ ، البداية والنهاية لابن كثير ١ / ١٤٢ عباس العقاد : أبو الأنبياء ص ١٣٥ ـ ١٣٦)

١٢١

لها (١) :

وأما قوم إبراهيم ، فهناك من يجعلهم من المجموعة الآرامية التي تزوج منها إسحاق ويعقوب ، وسواء أصح هذا أم لا ، فأن قوم إبراهيم قد خرجوا من قلب الجزيرة العربية التي نشئوا فيها كجماعة من الجماعات السامية العديدة ، ولعل في تفكير إبراهيم في إسكان زوجته المصرية ، وابنه إسماعيل منها في منطقة مكة المكرمة ، هربا من ضرتها العجوز سارة ، لم يكن على الأرجح بمحض الصدفة ، ذلك لأن الصدفة لم يكن لها محل في تنظيم مثل هذه الخلافات العائلية عند رؤساء العشائر الأقدمين ، وأذا كان إبراهيم قد اختار هذه المنطقة ، فمما لا شك فيه أنه هو شخصيا كانت له صلات قرابة وصلات حلف وذمة مع سكانها ، وإلا لما اختار هذا المكان القفر البعيد مأوى لزوجته وابنه (٢).

وهكذا يمكن القول أن إبراهيم الخليل كان عربيا خالصا من سلالة العرب العاربة التي يرتفع نسبها إلى سام بن نوح ، عليه‌السلام ، كما أنه سوف يكون أبا العرب العدنانية الذين هم أبناء ولده إسماعيل ، وهو بهذا جد العرب ، قبل أن يكون جد الإسرائيليين.

هذا ويقدم لنا المؤرخون وجهتي نظر ، فيما يتصل بأور موطن الخليل عليه‌السلام ، الواحدة تذهب إلى أنها إنما تقع في جنوب العراق (٣) ، بينما تذهب الثانية إلى أن «أور» هذه ليست من بابل ، ولا تقع على الخليج العربي ، بل هي من إقليم العراق الأعلى في منطقة الجزيرة بين دجلة و «الفرات» وأن هناك كثيرا من الأدلة التي تؤيد هذا

__________________

(١) كتابنا اسرائيل ص ١٦٠ ـ ١٦٤

(٢) حسن ظاظا : الصهيونية العالمية واسرائيل ص ٢٦ ـ ٢٧.

(٣) تكوين ١١ : ٢٨ ، ٣١ ، ١٥ : ٧ ، نحميا ٩ : ٧ وكذاW.Keller ,op - cit ,P.٢٤

١٢٢

الإتجاه ، موجودة في نصوص التوراة نفسها (١) ، إلى جانب أدلة أخرى ، سبق لنا مناقشتها في كتابنا إسرائيل (٢) ، وكلها تؤيد الفكرة القائلة أن «أور» ، إنما كانت من مجاورات «حاران» ، وبالذات إلى الشرق منها طبقا لتقاليد محلية ترجع إلى القرن الرابع الميلادي ، ولعل «إميانوس مركليوس» كان يعنيها في إشارة له من نفس التاريخ إلى قلعة تقع بين سنجار والدجلة (٣) ، ومن ثم فقد ارتضينا الرأي الذي يجعل من حاران ـ وليس أور المشهورة في جنوب العراق (٤) ـ موطنا للخليل (٥).

هذا وقد اختلف المؤرخون كذلك في عصر الخليل (٦) ، فبينما يذهب «يونجر» إلى أنه ربما كان في الفترة (١٢٦١ ـ ١٩٨٦ ق. م.) (٧) ، بينما يرى «ويجال» أن الخليل إنما ولد في حوالي منتصف القرن الحادي والعشرين ق. م. (٨) ، وأما أطلس وستمنستر ، فيحدد

__________________

(١) تكوين ٢٤ : ٧ ، ٤٠ ، ٢٧ : ٤٣ ـ ٤٤ ، ٢٨ : ١٠ ، يشوع ٢٤ : ٢ ، نجيب ميخائيل مصر والشرق الأدنى ٣ / ١٨٣ ، حسن محمود : حضارة مصر والشرق القديم : ص ٣٤٩ ، وكذاA Lods ,op - cit ,p.٦٦١ وكذاJ.Finegan ,op - cit ,P.٠٧

(٢) راجع كتابنا إسرائيل ص ١٦٥ ـ ١٧١

(٣) A.Lods ,op - cit ,PP.٥٦١ ـ ٦

(٤) تذهب بعض الروايات الإسلامية إلى أن موطن الخليل ، إنما كان في كوثي من سواد العراق ، وتذهب روايات أخرى إلى أنه في بابل ، بينما تذهب رواية ثالثة إلى السوس من أرض الاهواز ، ورابعة الى حران ، غير سادسة تذهب إلى الوركاء ، بل ان رواية سابعة ترى أنه ولد بغوطة دمشق (تفسير الطبري ٢٠ / ١٤٢ ، ابن كثير ١ / ١٤٠ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ٢٣ ، تاريخ الطبري ١ / ٢٢٣ ، ياقوت ٢ / ٢٣٥ ، ٤ / ٤٨٧ ، أبو الفداء ١ / ١٣)

(٥) جون الدر : الاحجار تتكلم ص ٤٣ ، ٤٤ وكذا I. Epstetin, Judaism, P. P. ١٢ ـ ١٣, J. Finegan, op - cit, P. P. ٠٧ ـ ١٧, L. Woolley, The Beginnings of Civilization, P. P. ٢٩٤ ـ ٤١٥, A. LLods, op - cit, P. P. ٥٦١ ـ ٦, J. Gray, op - cit, P ٤٠١

(٦) راجع كتابنا إسرائيل ص ١٧١ ـ ١٧٧

(٧) M.Unger ,op - cit ,P.P.٠١ ـ ٤١

(٨) A.Weigall ,AHistory of the Pharaohs ,P.٠٤

١٢٣

عصر الخليل فيما بين عامي ٢٠٠٠ ، ١٧٠٠ ق. م. (١) ، بينما حددت موسوعة وستمنستر ـ اعتمادا على تقدير الأسقف يوشر ـ مولد الخليل بعام ١٩٩٦ ق. م. (٢) ، وأما السير «ليونارد وولي» فيراه معاصرا لعصر «لارسا» ، أعني ما بين عامي ١٩٢٠ ، ١٨٠٠ ق. م. ، مستشهدا في ذلك بما دونه العهد القديم ، وبتحقيق كلمة «عابيرو» (٣) ، التي يرى أنها استعملت في ذلك الوقت للدلالة على العبرانيين (٤).

ويذهب «كيلر» إلى أن الخليل قد عاش حوالي عام ١٩٠٠ ق. م. (٥) ، وأما «جورج روكس» فيرى أن الرحلة التي قام بها إلى كنعان ، قد تمت في حوالي عام ١٨٥٠ ق. م. ، أو بعد ذلك بقليل (٦) ، وهذا يعني أن الخليل قد ولد في الربع الأخير من القرن العشرين ق. م. ، ويحدد «جاك فينجان» عام ١٩٠٠ ق. م. ، كتاريخ لدخول إبراهيم كنعان ، وأنه قد ترك ميز وبوتاميا في عصر الغزو الأموري والعيلامي ، وأن الاضطرابات التي حدثت هي التي اضطرته إلى الرحيل من موطنه الأصلي (٧).

وهناك طائفة من العلماء حاولت الربط بين إبراهيم الخليل ، وبين حمورابي الملك البابلي الشهير ، بصلة من نوع ما عن طريق «امرافل ملك

__________________

(١) W ? stminester Historical Atlas to the Bible, P. ٤٣٢

(٢) عباس العقاد إبراهيم أبو الأنبياء ص ٦٩ ، قاموس الكتاب المقدس ص ١٢

(٣) انظر عن كلمة عابيرو وصلتها بالعبرانيين ، كتابنا إسرائيل ص ١ ـ ٥ ، حسن ظاظا : الساميون ولغاتهم ص ٧١ ،. R. Halt, op - cit, P. ٦٠٤ ـ ٧, W. O. Oesterley, op - cit, P. ٢١٢, I. Epstein, op - cit, PP. ٣١ ـ ٤١

(٤) L.Wooley ,op - cit ,P.P.٢٩٤ ,٢١٥

(٥) W.Keller ,op - cit ,P.٩٦

(٦) G.Roux ,Ancient Iraq ,P.٥١٢

(٧) J.Finegan ,op - cit ,P.P.٢٧ ـ ٣

١٢٤

شنعار» الذي هزمه إبراهيم عند محاولته إنقاذ ابن أخيه لوط (١) ، ومن ثم فقد رأى البعض أن امرافل ، إنما هو «امرابل» والد حمورابي (٢) ، أو أنه حمورابي نفسه على رأي آخر (٣) ، أو على الأقل ـ فيما يرى فريق ثالث ـ أن إبراهيم كان يعيش في نفس الوقت الذي كان يعيش فيه حمورابي في بابل (٤) ، غير أن هناك من يرى ان عصر حمورابي متأخر عن عصر الوقائع التي تنسب إلى أمرافل بمائة سنة أو أكثر ، وأن أمرافل وحمورابي لا يدلان على شخص واحد ، هذا فضلا عن أن الرأي قد استقر بين العلماء ، على أن تاريخ حمورابي إنما كان في الفترة (١٧٢٨ ـ ١٦٨٦ ق. م.) فلو افترضنا جدلا أن إبراهيم كان يعاصر حمورابي على الأقل ، وطبقا لنص التوراة ـ العبري أو السبعيني ـ فإن مدة إقامة آباء الإسرائيليين في كنعان قبل دخولهم مصر قدرت بـ ٢١٥ سنة ، وهذا يجعل دخولهم مصر في عام ١٥١٣ ق. م. ، وهذا تاريخ يقع في أخريات عهد الفرعون تحوتمس الأول (١٥٢٨ ـ ١٥١٠ ق. م.) ، وبعد طرد الهكسوس من مصر (في عام ١٥٧٥ ق. م.) ، بأكثر من نصف القرن ، والذين يفترض دخول الإسرائيليين مصر على أيامهم ، هذا فضلا عن أنه رغم ما يذهب إليه البعض من أن «أمرافل» قريب من اسم حمورابي ، فالأمر ما يزال مجال مناقشة واعتراض من جانب العلماء ، وأن اسم إمرافل هذا ما يزال حتى الآن يصعب تعيين صاحبه ، كما يصعب تعيين زملائه الآخرين الذين

__________________

(١) تكوين ١٤ : ١ ـ ٢٣

(٢) ول ديورانت : قصة الحضارة ٢ / ٣٢٤ وكذاW.F.Petrie ,Egypt and Israel ,P.٧١

(٣) عباس العقاد : المرجع السابق ص ٦١ ـ ٦٤ ، وكذا S. smith, The Early, Historyof Assyria,. ٠٧ ـ ١٧ وكذا انظر.H.Halley The Backet Bible Handbook

(٤) J.Finegan ,op - cit ,p.٣٧ H.G.Wells ,op - cit ,p.٤٧

١٢٥

جاء ذكرهم في سفر التكوين (١٤ : ١) (١).

وأخيرا فهناك من يوحّد إبراهيم بـ «دمقي اليشو» ، ذلك لأن «ديوتي» يترجم اسم «دمقي اليشو» بحبيب الله ، من المقة بمعنى الحب ، والإيل بمعنى الله ، وضمير الاضافة ، ثم جاء «جون فلبي» فظن أن هذا الإسم يطابق في الزمن والصفة اسم الخليل إبراهيم ، وأن الخليل كان ملكا من الملوك الذين حكموا جنوب العراق عند الخليج العربي ، لأن الأقوال متواترة لمقام الخليل هناك في أور الكلدانيين ، ولأن اسم «دمشقي إليشو» ورد في الآثار البابلية بين عدة ملوك يسمون بملوك الشاطئ أو ملوك الأرض البحرية ، وهو اصطلاح يطلق على العرب من سكان تلك الجهات (٢) ، هذا وقد حدد «ديلابورت» لهذه الاسرة الفترة (١٩٢٥ ـ ١٧٦١ ق. م.) (٣) ، غير أن هناك عقبات تقف في وجه هذا الإتجاه ، منها ان واحدا من الكتب المقدسة ـ مصادرنا الأصلية عن الخليل عليه‌السلام ـ لم يقل بأنه كان ملكا من الملوك ، ومنها ذلك الرأي الذي يجعل من حاران ـ وليس أور ـ موطنا للخليل ، والذي ارتضيناه من قبل ، وأخيرا فإن هذه الفكرة تجعل هجرة إبراهيم ، بسبب استيلاء الكاشيين على بابل ، وليس من أجل دعوة التوحيد التي حمل لواءها طوال حياته.

ولهذا كله ، فليس أمامنا سوى أن نفترض ـ حدسا عن غير يقين ـ أن الرأي الذي يجعل الخليل يعيش حوالي عام ١٩٠٠ ق. م. ، أقرب إلى الصواب من غيره ، على أساس أن الإسرائيليين قد خرجوا من مصر في أخريات القرن الثالث عشر ق. م. ، في عصر مرنبتاح (١٢٢٤ ـ ١٢١٤

__________________

(١) راجع كتابنا إسرائيل ص ١٧٥ ـ ١٧٦

(٢) J. B. Philby, The Background of Islam, Alexandria, ٧٤٩١ وكذا : عباس العقاد : المرجع السابق ص ٦٤ ، ١٣٤

(٣) ل. ديلابورت : بلاد ما بين النهرين ، ترجمة محرم كمال ص ٧٤

١٢٦

ق. م.) ، وأنهم جاءوها على أيام الهكسوس ، حوالي عام ١٦٥٠ ق. م. ، ولما كانت مدة إقامتهم في مصر ـ كما يحددها سفر الخروج (١) ـ ٤٣٠ سنة ، فإن قدوم إبراهيم إلى كنعان يصبح حينئذ في حوالي عام ١٨٥٠ ق. م. ، ولما كان قد هاجر إلى كنعان ، وهو في الخامسة والسبعين من عمره (٢) ، فهو قد ولد حوالي عام ١٩٤٠ ق. م. ، وبهذا يكون قد عاش في الفترة (١٩٤٠ ـ ١٧٦٥ ق. م.) ، على أساس أنه قد انتقل إلى الرفيق الأعلى ، وعمره ١٧٥ عاما (٣).

(٣) هجراته

كانت أولى هجرات الخليل ـ طبقا لرواية التوراة ـ من أور الكلدانيين ، على اعتبار أنها الموطن الأول له ، وهو أمر سبق أن ناقشناه ، وخلصنا منه إلى أن ذلك إنما كان في حاران ، وليس في أور ، وعلى أي حال ، فإن التوراة تنسب هذه الهجرة إلى تارح ، وليس إلى إبراهيم ، كما أنها تجعل كنعان هدف الرحلة من أور ، وأن حاران لم تكن أكثر من محطة وقوف يستريح فيها المهاجرون أياما ، أو يقيمون سنين عددا (٤).

هذا ويرجح البعض أسباب هذه الهجرة إلى أن أور ، إنما كانت في زمن إبراهيم قد فقدت شهرتها وطغت عليها بابل ، فبارت تجارتها ، ورسب الطين في مرفئها ، وباتت الحياة فيها قلقة غير مستقرة ، مما حمل أهلها على مغادرتها والارتحال شمالا ، ومن هنا رحل إبراهيم من أور إلى حاران (٥) ، وتقول تعليقات «أبنجدون» أنه ربما كان من أسباب هذه

__________________

(١) سفر الخروج ١٢ : ٤٠

(٢) تكوين ١٢ : ٤

(٣) تكوين ٢٥ : ٧ ، (انظر ابن كثير ١ / ٥٦ ـ ٥٧ ، والمقدس ٣ / ٥٣

(٤) تكوين ١١ : ٣١

(٥) حبيب سعيد : المرجع السابق ص ٨.

١٢٧

الهجرة اضطراب سياسي في جنوب العراق ، أصابت جرائره معيشة أهل أور ، فلم تستقر عليه أحوال المعيشة والتجارة في أور (١).

ويرى أستاذنا الدكتور الناضوري أن هجرة إبراهيم عليه‌السلام ، تتصل اتصالا وثيقا بالأحداث التاريخية التي كانت سائدة في جنوب بلاد الرافدين في بداية الألف الثاني ق. م. ، حيث كان عصر الاختلال الاموري والعيلامي ، أو كما يطلق عليه أيضا عصر إيسين ولارسا ، وهو المرحلة التاريخية التي حدثت أثناءها عدة تحركات بشرية مثل تحركات العناصر العيلامية من سوسة بعيلام ، وتحركات العناصر الآمورية من سورية بحذاء نهر الفرات ، مما أدى إلى ازدياد ظاهرة الصراع السياسي والحضاري بين حكومات المدن السومرية والأكدية ، وتلك العناصر الوافدة ، وكان ذلك من الأسباب المباشرة والتي أدت إلى هجرة إبراهيم عليه‌السلام وجماعته إلى حاران (٢) ، وهكذا ترجع هجرة الخليل إلى الأسباب السياسية والاقتصادية في نفس الوقت ، كما أنها كانت من «أور» ، ولم تكن من حاران كذلك.

وليس هناك من شك ـ فيما نعتقد ـ في أهمية الأسباب الاقتصادية والسياسية في الهجرات بصفة عامة ، غير أن الأمر في حالة الخليل ـ عليه‌السلام ـ جد مختلف ، ومن ثم فعلينا أن نتذكر ـ بادئ ذي بدء ـ أن إبراهيم لم يكن ملكا من الملوك ، وإنما كان نبيا رسولا ، هذا إلى أن هجرة رجل بأسرته ، لا تعني في كل الأحوال اضطراب الأمور في البلد الذي هاجر منه ، إلا إذا كانت هناك هجرة جماعية ، ولهذا فالرأي عندي أن هجرة إبراهيم لم تكن لأسباب سياسية أو اقتصادية في الدرجة

__________________

(١) عباس العقاد : المرجع السابق ص ٦٢

(٢) رشيد الناضوري : المدخل في التطور التاريخي للفكر الديني ص ١٧٣ ـ ١٧٤

١٢٨

الأولى ، وإنما كانت دينية ، كانت هجرة نبي يريد أن يبشر بدعوة التوحيد في مكان غير هذه الأرض التي لم تتقبل دعوته بقبول حسن.

ويقص علينا القرآن الكريم ـ في آيات كريمة من سورة مريم (١) ـ كيف بدأ إبراهيم دعوته مع أبيه يهديه بها صراطا مستقيما ـ كما أشرنا من قبل ـ وكيف أن أباه قد رفض الدعوة ، وهدده إن لم ينته عنها ليرجمنه وليهجرنه مليا ، فما كان من الخليل تأدبا مع أبيه وحدبا عليه ، إلا أن يدعو له بالمغفرة ، وإلا أن ينتظر إجابة دعوته إلى حين.

غير أن الأمور سرعان ما بدأت تتأزم بين الخليل وقومه ، حين بذل أبو الأنبياء الجهد ـ كل الجهد ـ لصرفهم عن عبادة الأوثان ، والإتجاه إلى عبادة الله الواحد القهار ، إلا أن القوم ظلوا في طغيانهم يعمهون ، مما دفع الخليل إلى أن يجرب معهم وسائل حسية ، ومن ثم فقد حطم الأصنام وترك كبيرهم ، لعل القوم يفكرون في الموقف الجديد ، أملا في أن يهديهم الله سواء السبيل ، فيعرفوا أن هذه الأصنام لا تملك لنفسها نفعا ، ولا تمنع عنها ضرا ، فضلا عن أن يكون ذلك للقوم أنفسهم ، إلا أن هذه العقول المتحجرة ، لم تزد على أن تلجأ إلى العنف لنصرة أصنامها ، ولم تجد لها مخرجا من الموقف الجديد ، إلا أن تلقي بإبراهيم في نار ، ظنوا أنها ستكون القاضية على الخليل ، وأنها الحل السعيد لمشكلتهم ، مع هذا الذي سفه عقولهم وحطم أصنامهم ، دون أن يفكروا مرة في مقابلة الحجة بالحجة ، ودون أن يرجعوا إلى الحق ، ما دام الحق مع إبراهيم ، وتلك ـ ويم الله ـ عادة من طمس الله على قلوبهم في كل زمان ومكان ، لا يعرفون إلا القوة الطاغية ضد العقول المستنيرة ، التي تبغي لهم الخير والفلاح.

__________________

(١) سورة مريم : آية ٤١ ـ ٤٨

١٢٩

ولنقرأ هذه الآيات الكريمة من سورة الانبياء (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ، قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ ، قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ، قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ، وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ، فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ، قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ، قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ، قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ، قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ ، قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ، فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ، قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ، قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ، قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ، وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ» (١).

ويحاول بعض المؤرخين الإسلاميين أن يقدموا لنا قصصا تدعو إلى العجب في هذه المواقف الجادة ، فيروون أن نمرودا أمر بجمع الحطب ، حتى أن المرأة العجوز كانت تحمل الحطب على ظهرها ، وتقول «اذهب به إلى هذا الذي يذكر آلهتنا» ، وحتى أن المرأة لتنذر إن بلغت ما تريد أن تحتطب لنار إبراهيم ، وأن أمه نظرت إليه في النار ، فطلبت أن تجيء إليه فيها ، على أن يدعو الله ألا يضرها شيء من حر النار ، ففعل ، وهكذا

__________________

(١) سورة الأنبياء : آية ٥١ ـ ٧٠.

١٣٠

ذهبت إليه فاعتنقته وقبلته ثم عادت وقد اطمأنت على ولدها (١) ، ويتسابق البعض الآخر في رواية الأساطير ، فيذهب إلى أنها أنما كانت ابنة نمرود ـ وليست أم الخليل ـ وأن الخليل قد زوجها بعد ذلك من ولده مدين ، فحملت منه عشرين بطنا ، أكرمهم الله بالنبوة (٢).

ولست أدري كيف احتاج نمرود ـ وهو في رأي هذا النفر من المؤرخين قد ملك الدنيا بأسرها ـ إلى أن تحمل المرأة العجوز ما لا تطيق ، وإلى أن ينتظر نذر النساء بجمع الحطب لناره ، وهل كان جمع الحطب يحتاج إلى فترة تمضي بين أن يتحقق للمرأة ما طلبت وبين أن توفي بنذرها حطبا للنار التي أعدها النمرود لإبراهيم؟. وأما قصة أم إبراهيم ، فأمرها عجب ، فكيف رأته في النار سليما معافى ، ثم اعتنقته وقبلته ، ثم كيف سمح لها القوم بأن تذهب إليه ، أم أن أصحابنا المؤرخين أرادوا لها أن تذهب خلسة ـ كما وضعته خلسة فيما يزعمون؟. وإن كان الأعجب من ذلك أن تكون هذه المرأة بنت النمرود ، وأن يزوجها إبراهيم من ولده مدين ، وأن تنجب له عشرين بطنا من الأنبياء ، وأخيرا ما الهدف من هذا القصص وأمثاله ، كقصة الميرة ، وقصة جيوش الذباب ، وقصة أفراخ النور (٣).

وأما روايتهم بأن النمرود من الأنباط ، الذين لم يستقلوا بشبر واحد من الأرض ، ومن ثم فإن النمرود كان عاملا للضحاك ـ وهو فارسي ـ على السواد وما اتصل به يمنة ويسرة (٤) ، فليت الذين كتبوا كل هذا

__________________

(١) تاريخ الطبري ١ / ٢٤١ ، تفسير القرطبي ١٥ / ٩٨ ابن الأثير ١ / ٩٨ ـ ٩٩ ، ابن كثير ١ / ١٤٦

(٢) تاريخ الخميس ص ٩٣ ـ ٩٥

(٣) ابن الأثير ١ / ١١٥ ـ ١١٧ ، ابن كثير ١ / ١٤٩ ، تاريخ الطبري ١ / ٢٨٨ ـ ٢٩٠ ، تاريخ الخميس ص ٩٥ ـ ٩٦ ، المقدسي ٣ / ٥٦ ، أخبار الزمان للمسعودي ص ١٠٤ ـ ١٠٩ ، تفسير مقاتل ١ / ١٢٣ ـ ١٢٤

(٤) تاريخ الطبري ١ / ٢٩١ ـ ٢٩٢ ، ابن الأثير ١ / ١١٦ ـ ١١٧

١٣١

يعرفون أن الأنباط لم يكونوا في العراق ، وإنما في شمال غرب الجزيرة العربية ، وأن عاصمتهم إنما كانت «البتراء» ، وأنهم أقاموا دولة مستقلة ، فيما بين القرن الثاني قبل الميلاد ، وأوائل الثاني الميلادي ، ثم استولى الرومان عليها في عام ١٠٦ م ، على أيام تراجان (٩٨ ـ ١١٧) م ، ومن ثم فالفرق بين عهد الخليل ، عليه الصلاة والسلام ـ وبين عهد الأنباط ، جد كبير (١).

وعودا على بدء ، إلى الخليل وقومه ، حيث ترى أبا الأنبياء قد بدأ يفقد الأمل في إيمان القوم ، وبخاصة بعد المناظرة التي جرت بينه وبين الذي آتاه الله الملك (٢) ، فإن الله لا يهدي القوم الظالمين ، وهنا يقرر الخليل الهجرة ، (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» (٣) ، ويعلن القرآن الكريم في وضوح ـ لا لبس فيه ولا غموض ـ إيمان لوط عليه‌السلام ، (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ، وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (٤) ، ويبدو أن النبي الكريم قد تحمل بعض الأذى الذي تحمله أبو الأنبياء ـ عليه‌السلام ـ ومن ثم فقد ربط القرآن الكريم نجاة الواحد منهما بالآخر ، من عذاب هؤلاء القوم الظالمين ، يقول سبحانه وتعالى (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ، قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ، وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ ، وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ» (٥).

__________________

(١) راجع عن دولة الانباط ، كتابنا «بلاد العرب»

(٢) سورة البقرة : آية ٢٥٨ وانظر : تفسير الطبري ٥ / ٤٢٩ ـ ٤٣٨ (دار المعارف بمصر) ، الكشاف ١ / ٣٠٤ ـ ٣٠٦ ، تفسير النسفي ١ / ١٣٠ ـ ١٣١ ، الدرر المنثور ١ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣ ، تفسير القرطبي ٣ / ٢٨٣ ـ ٢٨٤ ، تفسير روح المعاني ٣ / ١٥ ـ ١٩

(٣) سورة الصافات : آية ٩٩

(٤) سورة العنكبوت : آية ٢٦

(٥) سورة الأنبياء : آية ٦٨ ـ ٧١

١٣٢

وبدهى أنه ليس في هذه الآيات الكريمة ما يشير إلى هجرة أبيه معه ، ولو كان أبوه آمن به وهاجر معه ، لكان ذلك حدثا هاما جديرا بالتنصيص عليه ، تكريما له ولإبراهيم في نفس الوقت ، ولم يكن ابن أخيه لوط أقرب إليه من أبيه ، حتى ينال لوط وحده شرف الهجرة ومثوبة التوحيد (١) ، هذا فضلا عن أن الآيات الكريمة تشير إلى أن الهجرة إنما كانت (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) (٢) ، وليست هذه الارض ـ بحال من الاحوال ـ حاران ، فإذا تذكرنا أن موطن الخليل كان في حاران ، لتبين لنا أن هجرة الخليل هذه إنما كانت من حاران إلى كنعان ، وبالتالي فلا صلة لها بأور.

ومن هنا فليست الهجرة لأسباب سياسية أو اقتصادية ، وإنما لأسباب دينية تتصل بدعوة التوحيد التي حمل لواءها جدنا الأكبر أبو الأنبياء إبراهيم الخليل ـ عليه‌السلام ـ بخاصة وأن حاران ـ وتقع على نهر بلخ على مبعدة ٦٠ ميلا إلى الغرب من تل حلفا ـ كانت أثناء هذه الهجرة ـ حوالي عام ١٨٦٥ ق. م. ـ وطوال القرنين ١٩ ، ١٨ ق. م. مدينة مزدهرة ، وتقع على طريق التجارة القادمة إليها من الشرق والغرب ، أضف إلى ذلك أن الخليل كان يقيم المحاريب لله العلي القدير ـ كما سوف ترى ـ مما يدل على أن الأسباب الدينية لعبت أهم الأدوار في هجراته ، الأمر الذي يبدو واضحا في آيات القرآن الكريم ، وكذا في بعض نصوص التوراة.

وأيا ما كان الأمر ، فان الرحلة قد بدأت من كنعان ، ولا تشير

__________________

(١) محمود عمارة : اليهود في الكتب المقدسة ص ٢١ ، ٢٣

(٢) انظر عن تفسير الآية الكريمة : تفسير البيضاوي ٢ / ٧٦ ـ ٧٧ ، تفسير الجلالين ص ٧٧ (نسخة على هامش البيضاوي).

١٣٣

التوراة من قريب أو بعيد إلى أماكن حط الخليل فيها ركبه ورحالهم أثناء هجرتهم هذه ، حتى وصلوا إلى شكيم ، وإن كان المؤرخ اليهودي «يوسف بن متى» ، قد ذهب إلى أن إبراهيم كان «ملك دمشق» ، وأن «نقولا الدمشقي» يقول في الكتاب الرابع من تاريخه ، أن ابراميس (إبراهيم) حكم في دمشق ، وكان مغيرا قدم من أرض بابل من البلاد التي تسمى بلاد الكلدانيين ، ولم يمض عليه طويل وقت حتى هجرها وقومه إلى كنعان ، وهو أمر لم يذكره القرآن من بعد ، ولا التوراة أو الإنجيل من بعد ، وإن ورد اسم «اليعاذر الدمشقي» في التوراة ـ وهو وكيل بيت إبراهيم ـ وإن أشار كذلك المؤرخون الإسلاميون إلى رواية ابن عباس من أن الخليل قد ولد بغوطة دمشق في قرية يقال لها برزة في جبل يقال له قاسيون ، وقد صحح ذلك الحافظ بن عساكر ، فقال أنه ولد في بابل ، وإنما نسب إليه هذا المقام لأنه صلى فيه ، إذ جاء معينا للوط عليه‌السلام (١) ، وكل ذلك يدل على أن هناك علاقة من نوع ما بين إبراهيم الخليل وبين دمشق ، وإن كانت وصلت إلينا من مصادر متأخرة.

وعلى أي حال ، فإن إبراهيم الخليل قد اختار ـ كما تشير التوراة ـ في ريادته الأولى لأرض كنعان ، الطريق الشاق والموحش ، إذ كان متجولا فوق التلال نحو الجنوب ، وهنا نجد حواف التلال المليئة بالأشجار ، تقدم ملجأ وملاذا للغريب في الأرض الأجنبية بينما يقدم الخلاء الواسع المرعى الواسع لقطعانه ورعاته ، وعند ما أراد الخليل أن يستقر في بادئ الأمر ، فضل ذلك أن يكون فوق هضبة ، ذلك لأنه ـ بأقواسه ومقاليعه ـ لم يكن في حالة تمكنه من أن يخاطر بالصدام مع الكنعانيين ، الذين كانوا ـ بسيوفهم وحرابهم ـ أكبر من ند له ، ولم يكن إبراهيم بعد مستعدا

__________________

(١) ابن كثير : قصص الأنبياء ١ / ١٦٨ ، البداية والنهاية ١ / ١٤٠

١٣٤

للمغامرة بعيدا عن الهضاب ، وأياما كان الأمر ، فقد نزل إبراهيم عند شكيم في مكان بلوطة مورة ، بين جبل عيبال وجرزيم ، وهناك بنى مذبحا للرب ، وربما قد تحرش به الكنعانيون ، ولهذا نراه ينتقل إلى المنطقة الجبلية بين بيت إيل وعاي ، فيضرب خيامه هناك ، ويقيم مذبحا للرب ، ثم يرتحل ارتحالا متواليا نحو الجنوب (١).

ويقيم الخليل ـ ما شاء الله له أن يقيم ـ في أرض كنعان ، ثم يرحل عنها صوب أرض النيل الطيبة ، بسبب مجاعة حلت بأرض كنعان (٢) ، ومصر كانت دائما وأبدا ، للبدو والكنعانيين ـ وبخاصة في أوقات القحط ـ ملاذهم ، وغالبا منقذهم الوحيد ، فحينما كانت الأرض تجف في أوطانهم ، كانت أرض الكنانة الطيبة تقدم لهم المأوى والمرعى ، وكان النيل بفيضانه المنتظم يتعهد بذلك (٣).

وتأبى التوراة أن تمر رحلة الخليل ـ عليه‌السلام ـ إلى أرض الكنانة بخير ، فتقول إن خليل الله قد هاجر بزوجته سارة إلى مصر ، بسبب قحط قد أصاب أرض كنعان ، وعند ما أشرف على التخوم المصرية ، اتفق مع سارة على أن تقول أنها أخته ، وليست زوجته ، ذلك لأن المصريين إن علموا أنها زوجته قتلوه ، وأما إن كانت أخته فمن أجلها أكرموه ، وحدث ما توقعه ، وأبرت سارة بوعدها ، وأخذت إلى بيت فرعون ، ونال إبراهيم خيرا بسببها ، إذ أسبغ عليه فرعون وافر نعمته ، من غنم وبقر ، وحمير وأتن وجمال ، وعبيد وإماء ، إلا أن المصائب سرعان ما أخذت

__________________

(١) M.F.Unger ,op - cit ,P.٠١. وانظر : تكوين ١٢ : ٦ ـ ٩

(٢) تكوين ١٢ : ١٠

(٣) W.Keller ,op - cit ,P.٧٨

١٣٥

تتوالى على فرعون وبيته ، مما اضطره أن يستدعي إبراهيم ويؤنبه على فعلته هذه ، «لما ذا لم تخبرني أنها امرأتك ، لما ذا قلت أنها أختي ، حتى أخذتها لي لتكون زوجتي» ثم يصدر أمره بطرد إبراهيم وامرأته من مصر ، وإن سمح له بأن يأخذ ما كان قد أعطاه إياه من قبل (١).

ويعلم الله ، وتشهد ملائكته ، أن نفسي تتأفف من مجرد التعليق على هذه الفرية الدنيئة التي يلصقها كاتب سفر التكوين بأبى الأنبياء ، فتلك فعلة لا يقبلها على نفسه ، ولا يرتضيها لعرضه أحط الناس ، فضلا عن أن يكون ذلك نبي الله وخليله العظيم ، ومع ذلك فإذا رجعنا إلى نصوص التوراة نفسها ، لعلمنا أن إبراهيم قد جاء إلى كنعان ، وهو في الخامسة والسبعين من عمره ، وأن سارة كانت في الخامسة والستين (٢) ، وأنهما أقاما في أرض كنعان ـ ما شاء الله لهما أن يقيما ـ ثم هاجر إلى مصر ، فهل كانت سارة ، وقد جاوزت الخامسة والستين من عمرها بسنين عددا ، تفتن الرجال ، فضلا عن أن يكون فيها لملوك مصر المترفين إربا ، ثم أليست هي نفسها قد وصفت في إصحاح قبل هذا الإصحاح من سفر التكوين نفسه ، بعد أن بشرت بإسحاق ، بأنها قد صكت وجهها وضحكت وقالت : أيحدث هذا مع عجوز عقيم ، انقطعت عنها عادة النساء ، وبعلها شيخ كبير (٣) ، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ ، قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ

__________________

(١) تكوين ١٢ : ١٠ ـ ٢٠ ، وانظر قصة مشابهة لابراهيم مع سارة وملك جيرار في (تكوين ٢٠ : ١ ـ ١٨) غير أن سارة هنا قد جاوزت التسعين من عمرها

(٢) تكوين ١٢ : ٤ ، ١٧ : ١٧

(٣) تكوين ١٨ : ٩ ـ ١٥

١٣٦

عَجِيبٌ) (١) ، أضف إلى ذلك أن التاريخ ما حدثنا أن الفراعين كانوا يأخذون النساء من أهليهم غصبا ، ولكنه حدثنا أن عقوبة الزنا كانت عندهم من أقسى العقوبات.

ومن عجب أن بعض المؤرخين الإسلاميين قد تابعوا التوراة في مزاعمها ، فيروون القصة ـ كما جاءت في التوراة ـ وإن حاولوا صبغها بالصبغة الإسلامية ، فعند ما يطلب إبراهيم من سارة أن تقول لفرعون أنها أخته ، إنما يفسرون ذلك لأنه ليس على وجه الأرض غيرهما مؤمن ، فهي إذن أخته في الإسلام ، ثم إن فرعون ـ وهو هنا سنان بن علوان ـ لم يستطع أن يقضي منها وطره (٢).

ولعل سائلا يتساءل : هل عرفت مصر ـ حتى في أيام الهكسوس ، والذين يسميهم المؤرخون المسلمون العماليق ـ ملكا يحمل اسم «سنان بن علوان» ـ أو حتى «صاروف بن صاروف» سواء أكان أخو الضحاك أو كان غلاما للنمرود ـ والجواب : أن التاريخ المصري كله لا يعرف هذه الأسماء ، ولست أدري من أين جاء به أصحابنا المؤرخون الإسلاميون ، على أن الأمر الذي يدعو إلى العجب حقا ، ادعاء الرواة إن إبراهيم قال عن سارة أنها أخته ، لأنه لا يوجد على ظهر الارض غيرهما من المؤمنين ، والأعجب من ذلك أن تأتي الرواية من كبار المفسرين ، والقرآن الكريم لا يشير إلى ذلك ، وإنما هو يصرح ـ دونما لبس أو

__________________

(١) سورة هود : آية ٧١ ـ ٧٢

(٢) أنظر : تاريخ الطبري ١ / ٢٤٤ ـ ٢٤٧. ابن كثير ١ / ١٥٠ ـ ١٥٢ ، ابن الأثير ١ / ١٠٠ ـ ١٠١ ، المقدس ٣ / ٥٢ ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٣٥ ، محمد احمد جاد المولى وآخرون : قصص القرآن ص ٥٣ ـ ٥٥ ، قارن : مؤتمر تفسير سورة يوسف ١ / ١٣٦ ـ ١٣٩

١٣٧

غموض ـ أن الذي آمن بابراهيم ، إنما هو لوط ، يقول تعالى (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (١) ويقول (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ» (٢) ، بل إن هناك ما يشير إلى مؤمنين آخرين مع إبراهيم غير لوط ، يقول سبحانه وتعالى (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ» (٣) ، فما ذا يقول هؤلاء الرواة في هذه الآيات الكريمة ، التي تتعارض ورواياتهم ، ولعل هذا هو الذي دعا الإمام ابن كثير إلى أن يرى أن إبراهيم إنما كان يعني زوجين مؤمنين غيري وغيرك ، لأن لوطا كان معهم وهو نبي عليه‌السلام (٤) ، وكأن ابن كثير إنما يسلم بالقصة ، ولكنه يحاول أن يخفف من تعارضها مع القرآن الكريم بتفسيره هذا الذي يخالف إجماع رواة القصة التوراتية من المؤرخين المسلمين.

(٤) رحلة الخليل الى الحجاز

انفردت المصادر الإسلامية بأخبار إبراهيم في الحجاز ، وعلق بعض المؤرخين الغربيين على هذه الأخبار بشيء كثير من الدهشة والاستنكار ، وكأن المصادر الإسلامية قد نسبت إلى إبراهيم خارقة من

__________________

(١) سورة العنكبوت : آية ٢٦

(٢) سورة الأنبياء : آية ٧١

(٣) سورة الممتحنة : آية ٤ وانظر : تفسير روح المعاني ٢٨ / ٦٩ ـ ٧٣ ، تفسير الفخر الرازي ٢٩ / ٣٠٠ ـ ٣٠١ ، تفسير الطبري ٢٨ / ٦٢ ـ ٦٣ ، تفسير الطبرسي ٢٨ / ٤٧ ـ ٤٩ ، تفسير الكشاف ٤ / ٩٠ ، تفسير القاسمي ١٦ / ٥٧٦٥ ـ ٥٧٦٦ ، تفسير ابن كثير ٨ / ١١٣ ، تفسير القرطبي ص ٦٥٣٥ (دار الشعب ١٩٧٠)

(٤) ابن كثير : البداية والنهاية ١ / ١٥٢ (طبعة ١٩٦٦)

١٣٨

خوارق الفلك ، وأسندت إليه واقعة بينة البطلان بذاتها ، وغير قابلة الوقوع ... وواضح من أسلوب نقدهم أنهم يكتبون لإثبات دين ، وإنكار دين ، ولا يفتحون عقولهم للحجة حيث تكون ، فضلا عن الاجتهاد في طلب الحقيقة ، قبل أن يوجههم إليها المخالفون والمختلفون ، أما الواقع الغريب حقا ، فهو طواف إبراهيم بين أنحاء العالم المعمور ، ووقوفه دون الجنوب ، لغير سبب بل مع تجدد الأسباب التي تدعوه إلى الجنوب ، ولو من قبيل التجربة والاستطلاع.

ويستطرد الأستاذ العقاد (١) ـ طيب الله ثراه ـ مبينا الأسباب التي تدعو الخليل إلى الاتجاه نحو الجنوب ـ نحو الحجاز ـ ذلك لأنه لم يكن صاحب وطن عند بيت المقدس ، سواء نظرنا إلى وطن السكن أو وطن الدعوة أو وطن المرعى ، فالمتواتر من روايات التوراة أنه لم يجد هناك مدفنا لزوجه فاشتراه من عفرون الحثي (٢) ، أما الدعوة الدينية فقد كانت الرئاسة فيها الأحبار «إيل عليون» وكان إبراهيم يقدم العشر أحيانا لأولئك الأحبار (٣) ، ومن المعروف أن من كان معه أتباع يخرجون في طلب المرعى ، فلا بد لهم من مكان يسيمون فيه إبلهم وماشيتهم بعيدا عن المزاحمة والمنازعة ، وهكذا كان إبراهيم يعمل في أكثر أيامه ـ كما تواترت أبناؤه في سفر التكوين ـ فلا يزال متجها نحو الجنوب.

وهناك أسباب دينية غير الأسباب الدنيوية توحي إليه أن يجرب المسير الى الجنوب ، حيث يستطيع أن يبني لعبادة الله هيكلا ، غير الهياكل التي كان يتولاها الكهان والأحبار من سادة بيت المقدس في ذلك الحين ، فقد بدا له أن

__________________

(١) عباس العقاد : المرجع السابق ص ١٩١ ـ ١٩٣

(٢) تكوين ٢٣ : ٤ ـ ٢٠ ، وانظر مقالنا «قصة أرض الميعاد بين الحقيقة والأسطورة»

(٣) تكوين ١٤ : ١٨ ـ ٢٠

١٣٩

إقامة المذابح المتعددة فتنت أتباعه وجعلتهم يتقربون في كل مذبح إلى الرب المعبود بجواره ، ومثل هذه الفتنة بعد عصر إبراهيم قد أقنعت حكماء الشعب بحصر القربان في مكان واحد ، فاتخذوا له خيمة وانتظروا الفرصة السانحة لبناء الهيكل حيث يقدرون على البناء ، هذا إلى جانب أن الأهمية الدينية لبيت المقدس جاءت متأخرة بعد عصر إبراهيم وعصر موسى بزمن طويل ، حتى استولى داود (١٠٠٠ ـ ٩٦٠ ق. م.) على المدينة المقدسة في العام الثامن من حكمه ، ثم اتخذها عاصمة له (١) ، ثم جاء من بعده ولده سليمان (٩٦٠ ـ ٩٢٢ ق. م.) ، فأقام فيها هيكله المشهور (٢) ، وبقي أمرها كذلك حتى عهد «يوآش» (٨٠١ ـ ٧٨٦ ق. م.) ملك إسرائيل ، الذي حارب «أمصيا» (٨٠٠ ـ ٧٨٣ ق. م.) ملك يهوذا ، وهدم أسوار أورشليم من باب أفرايم (٣)

أما الجنوب المسكوت عنه ، فقد كان له شأن من القداسة الى أيام «أرمياء» وما بعدها ، وكانت كلمة «تيمان» مرادفة لكلمة الحكمة والمشورة الصادقة ، وهي تقابل كلمة «يمن» في اللغة العربية بجميع معانيها ، ومنها الإشارة إلى الجنوب ، ففي سفر حبقوق «الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فاران» (٤) ، وأوضح من ذلك قول إرمياء متسائلا «ألا حكمة بعد في تيمان ، هل بادت المشورة من الفهماء» (٥) ، وأيسر ما يستوجب طالب الحقيقة أن يتساءل : كيف يكون هذا الجنوب موصدا أمام إبراهيم ، وكيف يطوف الأقطار جميعا ولا ينفتح له الباب

__________________

(١) انظر كتابنا اسرائيل ص ٤٥٥ ـ ٤٦٤

(٢) انظر كتابنا اسرائيل ص ٤٦٤ ـ ٤٧١

(٣) ملوك ثان ١٣ : ١٣ ـ ١٤

(٤) حبقوق ٣ : ٣

(٥) إرمياء ٤٩ : ٧

١٤٠