مناظرات

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

الخلفاء كبيرتيم (١) قال يوحنا : أفترى إذا قال أحد : إن عليا يكون خيرا من أبي بكر وأفضل منه تكفرونه؟

قالوا : نعم لأنه خالف الإجماع.

قال يوحنا : فا تقولون في محدثكم الحافظ أبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه؟

قال العلماء : هو ثقة مقبول الرواية صحيح المثل.

قال يوحنا : هذا كتاب المسمى بكتاب المناقب روى فيه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال : (علي خير البشر ، ومن أبى فقد كفر) (٢).

وفي كتابه أيضا عن سلمان ، عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أنه قال : (علي ابن أبي طالب خير من أخلفه بعدي) (٤).

وفي كتابه أيضا عن أنس بن مالك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال : (اخي ووزيري وخير من أخلفه بعدي علي بن أبي

__________________

مقالة الإمامية ومن نحا نحوها من الطاعنين في إمامة السلف مشهورة حينئذ على هذا النحو من الاشتهار ، فكان القائلون بالتفضيل هم المسمون الشيعة ، وجميع ما ورد من الآثار والأخبار في فضل الشيعة وأنهم موعودون بالجنة فهؤلاء هم المعنيون به دون غيرهم ....

(١) الرياض النضرة لمحب الدين الطبري ج ١ ص ١٣٦.

(٢) إحقاق الحق ج ٤ ص ٢٥٤ ، تاريخ بغداد ج ٧ ص ٤٢١ ، تهذيب التهذيب ج ٩ ص ٤١٩ ، وقد تقدمت بعض المصادر بالإضافة إلى ماهنا.

(٣) إحقاق الحق ج ٤ ص ٤٩ ـ ٥٠.

(٤) إحقاق الحق ج ٤ ص ٥٤ ، مواقف الايجي ج ٣ ص ٢٧٦ ، مجمع الزوائد ج ٩ ص ١١٣ ، الغدير للأميني ج ٣ ص ٢٢.

٤٤١

طالب) (١).

وعن إمامكم أحمد بن حنبل روى في مسنده أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قال لفاطمة : (أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما ، وأكثرهم علما ، وإعظمهم حلما) (٢).

وروي في مسند أحمد بن حنبل أيضا أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قال : (اللهم ائتني بأحب خلقك إليك) (٣) فجاء علي بن أبي طالب في حديث الطائر ، وذكر هذا الحديث النسائي والترمذي في صحيحهما (٤) وهما من علماتكم.

وروى أخطب خوارزم في كتاب المناقب وهو من علمائكم عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : (يا علي أخصمك بالنبوة ولا بنوة بعدي وتخصم الناس بسبع فلا يحاجك أحد من قريش :

__________________

(١) إحقاق الحق ج ٤ ص ٧٦ ، وفي هذا المعني يقول الازري عليه الرحمة :

حسبك الله في مآثر شتى

هي مثل الأعداد لا تتناهي

ليت عينا بغير روضك ترعى

قذيبت واستمر فيها قذاها

أنت بعد النبي خير البرايا

والسما خير ما بها قمراها

لك ذات كذاته حيث لو لا

أنها مثلها لما أخاها

قد تراضعتما بثدي وصال

كان من جوهر التجلي غذاها

(٢) مسند أحمد ج ٥ ص ٢٥ ، المعجم الكبير للطبراني ج ٢٠ ص ٢٢٩ ـ ٢٣٠ ح ٥٣٨ ، مجمع الي وائد ج ٩ ص ١٠٢ ، كنز العمال ج ١١ ص ٦٠٥ ح ٣٢٩٢٤.

(٣) المعجم الكبير للطبراني ج ١ ص ٢٢٦ ح ٧٣٠ ، تاريخ بغداد ج ٩ ص ٣٦٩ ، كنز العمال ج ١٣ ص ١٦٧ ح ٣٦٥٠٧ ، وقد أفردت لهذا الحديث كتاب مستقله ، مثل : قصة الطير للحاكم النيسابوري المتوفى سنة ٤٠٥ ه‍ ، وقد تقدم بعض المصادر لهذا الحديث فراجع.

(٤) صحيح الترمذي : ج ٥٩٥ ح ٣٧٢١ ، مجمع الزوائد ج ٩ ص ١٢٦ ، المستدرك ج ٣ ، ص ١٣٠ ـ ١٣١ ، مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي ج ٣٢ ص ١٧٢١ ح ٦٠٨٥ ، خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص ٣٤ ح ١٢.

٤٤٢

أنت أولهم إيمانا بالله وأوفاهم بأمر الله وبعهده ، وأقسمهم بالسوية ، وأعدلهم بالرعية ، وأبصرهم بالقضية ، وأعظمهم يوم القيامة عند الله عز وجل في المزية) (١).

وقال صاحب كفاية الطالب من علمائكم : هذا حديث حسن عال رواه الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء (٢).

قال يوحنا : فيا أئمة الإسلام فهذه أحاديث صحاح روتها أئمتكم وهي مصرحة بأفضلية علي وخيرته على جميع الناس ، فما ذنب الرافضة؟ وإنما الذنب لعلمائكم والذين يروون ما ليس بحق ، ويفترون الكذب على الله ورسوله.

قالوا : يا يوحنا ، إنهم لم يرووا غير الحق ، ولم يفتروا بل الأحاديث لها تأويلات ومعارضات.

قال يوحنا : فأي تأويل تقبل هذه الأحاديث بالتخصيص على البشر ، فإنه نص في أنه خير من أبي بكر إلا أن تخرجوا أبا بكر من البشر ، سلمنا أن الأحاديث لا تدل ذلك فأخبروني أيهم إكثر جهادا؟

فقالوا : علي.

قال يوحنا : قال الله تعالى : (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) (٣) وهذا نص صريح.

قالوا : أبو بكر أيضا مجاهد فلا يلزم تفضيله عليه.

قال يوحنا : الجهاد الأقل إذا نسب إلى الجهاد الأكثر بالنسبة إليه

__________________

(١) مناقب الخوارزمي : ص ١١٠ ح ١١٨ ، فرائد السمطين ج ١ ص ٢٢٣ ح ١٧٤.

(٢) كفاية الطالب : ص ٢٧٠ ، حلية الأولياء ج ١ ص ٦٥ ـ ٦٦.

(٣) سورة النساء : الاية ٩٥.

٤٤٣

قعود ، وهب أنه كذلك فما مراد كم بالأفضل؟

قالوا : الذي تجتمع فيه الكمالات والفضائل الجبلية والكسبية كشرف الأصل والعلم والزهد والشجاعة والكرم وما يتفرع عليها.

قال يوحنا : فهذه الفضائل كلها لعلي ـ عليه السلام ـ بوجه هو أبلغ من حصولها لغيره.

قال يوحنا : أما شرف الأصل فهو ابن عم النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ، وزوج ابنته ، وأبو سبطيه.

وأما العم فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : (أنا مدينة العلم وعلي بابها) (١) وقد تقرر في العقل أن أحدا لا يستفيد من المدينة شيئا إلا إذا أخذ من الباب ، فانحصر طريق الاستفادة من النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في علي ـ عليه السلام ـ ، وهذه مرتبة عالية ، وقال ـ صلى الله عليه وآله ـ (أقضاكم علي) (٢) وإليه تعزى كل قضية وتنتهي كل فرقة ، وتنحاد إليه كل طائفة ، فهو رئيس الفضائل وينبوعها ، وأبو عذرها ، وسابق مضمارها ، ومجلي حلبتها ، كل من برع فيها فمنه أخذ ، وبه اقتفى ، وعلى مثاله احتذى ، وقد عرفتم أن أشرف العلوم العلم الإلهي ، ومن كلامه اقتبس ، وعنه نقل ، ومنه ابتدأ.

__________________

(١) راجع : ابن جرير الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار ص ١٠٥ ح ١٧٣ ، المستدرك ج ٣ ص ١٢٦ ، مجمع الزوائد ج ٩ ص ١١٤ ، المعجم الكبير للطبراني ج ١١ ص ٦٥ ـ ٦٦ ح ١١٠٦١ ، تاريخ بغداد ج ٤ ص ٣٤٨ ، كنز العمال ج ١١ ص ٦١٤ ، ح ٣٢٩٧٧ و ٣٢٩٧٨ ، ذخائر العقبى ص ٨٣ ، وقد أفردت لهذا الحديث كتب مستقلة ، مثل فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي ، للمغربي.

(٢) طبقات ابن سعد ج ١٢ ص ١٣٥ ، ذخائر العقبى ص ٨٣ ، مناقب الخوارزمي ص ٨١ ح ٦٦ ، مسند أحمد ج ٥ ص ١١٣.

٤٤٤

فإن المعتزلة الذين هم أهل النظر ومنهم تعلم الناس هذا الفن هم تلامذته ، فإن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية (١) ، وأبو هاشم عبد الله تلميذ أبيه ، وأبوه تلميذ علي بن أبى طالب ـ عليه السلام ـ.

وأما الاء شعريون فإنهم ينتهون إلى أبي الحسن الاءشعري وهو تلميذ أبي علي الجبائي ، وهو تلميذ واصل ابن عطاء (٢).

وأما الإمامية والزيدية فانتهاؤ هم إليه ظاهر.

وأما علم الفقه فهو أصله وأساسه ، وكل فقيه في الاسلام فإليه يعزي نفسه.

أما مالك فأخذ الفقه عن ربيعة الرأي ، وهو أخذ عن عكرمة ، وهو أخذ عن عبد الله ، وهو أخذ عن علي.

وأما أبو حنيفة فعن الصادق ـ عليه السلام ـ.

وأما الشافعي فهو تلميذ مالك ، والحنبلي تلميذ الشافعي (٣) ، وأما فقهاء الشيعة فرجو عهم إليه ظاهر ، وأما فقهاء الصحابة فرجو عهم إليه ظاهر كابن عباس وغيره ، وناهيكم قول عمر غير مرة : (لا يفتين أحد في المسجد وعلي حاضر) وقوله : (لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن) (٤) ، وقوله : (لو لا علي لهلك عمر) (٥).

__________________

(١) هو عبد لله بن محمد بن الحنفية الملقب بالأكبر ، والمكنى بإبي هاشم ، إمام الكيساينة مات سنة ٩٨ أو ٩٩. تنقيح المقال للمامقاني ج ٢ ص ٢١٢.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١ ص ١٧.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١ ص ١٧ ـ ١٨.

(٤) مناقب الخوارزمي ص ٩٦ ـ ٩٧ ، ح ٩٧ و ٩٨ ، فرائد السمطين ج ١ ، ص ٣٤٤ ـ ٣٤٥ ، ح ٢٦٦ و ٢٦٧.

(٥) فيض القدير ج ٤ ، ص ٣٥٧ ، فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ٢ ، ص ٣٠٩ ، على إمام المتقين لعبد الرحمن الشرقاوي ج ١ ص ١٠٠ ـ ١٠١ ، مناقب ابن شهر آشوب ج ٢ ، ص ٣ ٦١.

٤٤٥

وقال الترمذي في صحيحه والبغوي عن أبي بكر قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : (من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في فهمه ، وإلى يحيى بن زكريا في زهده ، وإلى موسى بن عمران في بطشه فلينظر إلى علي بن ابي طالب) (١).

وقال البيهقي بإسناده إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ (من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في تقواه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في هيبته ، وإلى عيسى في عبادته ، فلينظر إلى على بن ابي طالب) (٢) وهو الذي بين حد الشرب (٣) ، وهو الذي أفتى في المرأة التي وضت لستة أشهر (٤) ، وبقسمة الدارهم على صاحب الأرغفة (٥) والأمر بشق الولد نصفى (٦) ، والأمر بضرب عنق العبد ، والحاكم في ذي الرأسين (٧) مبين أحكام البغاة (٨) ، وهو الذي أفتى في الحامل

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٧ ، ص ٣٥٦ ، كفاية الطالب ص ١٢١.

(٢) كنز العمال ص ٢٢٦ ، الرياض النضرة ج ٢ ص ٢١٨ ، كفاية الطالب ص ١٢٢ ، الغدير ج ص ٣٥٣.

(٣) الموطأ لمالك ج ٢ ص ٨٤٢ ح ٢ ، المستدرك ج ٤ ص ٣٧٥ ، فضائل الخمسة ج ٢ ص ٣١٠.

(٤) الاستعياب ج ٣ ، ص ١١٠٣ ، شرح البلاغة لابن أبي الحديد ج ١ ص ١٩ ، وذكر القرطبي في تفسيره ج ١٦ ص ٣٩٠ ، عند الكلام على تفسير قوله تعالى : (وحمله وفصاله ثل ثون شهرا) سورة الاحقاف : الاية ١٥ ، ان عثمان قد أوتي بامرأة ولدت لستة اشهر ، فأراد أن يقضي عليها الحق فقال له علي ـ عليه السلام ـ ليس ذلك عليها ، قال الله تعالى (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا).

(٥) الاستعياب ج ٣ ، ص ١١٠٥ ـ ١١٠٦ ، فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ٢ ص ٣٠٢ ، ذخائر العقبى ص ٨٤ ، الصواعق المحرقة ص ٧٧.

(٦) مناقب ابن شهر اشوب ج ٢ ص ٣٦٧ ، الفصول المائة ج ٥ ص ٣٣٦ ح ٥١ ، كنز العمال ج ٣ (٧) كنز العمال ج ٣ ص ١٧٩ ، بحار الانوار ج ٤٠ ص ٢٥٧.

(٨) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج ٩ ص ٢٣١ ، كتاب الأم ج ٤ ص ٢٣٣ ، باب الخلاف في

٤٤٦

الزانية (١).

ومن العلوم علم التفسير ، وقد علم الناس حال ابن عباس فيه وكان تلميذ علي ـ عليه السلام ـ وسئل فقيل له : أين علمك من علم اين عمك؟

فقال : كبشة مطر في البحر المحيط (٢).

ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة ، وعلم التصوف ، وقد علمتم أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الاسلام إليه ينتهون ، وعنده يفقون ، وقد صرح بذلك الشبلي والحنبلي وسرى السقطي وأبو زيد البسطامي وأبو محفوظ معروف الكرخي وغيرهم ، ويكفيكم دلالة على ذلك الخرقة التي هي شعارهم وكونهم يسدونها بإسناد معنعن إليه أنه واضعها (٣).

ومن العلوم علم النحو والعربية ، وقد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه وأنشأه ، وأملى على أبي الأسود الدؤلي جوامع تكاد تلحق بالمعجزات ، لأن القوة البشرية لا نفي بمثل هذا الاستنباط.

فأين من هو بهذه الصفة من رجل يسألونه ما معنا (أبا) فيقول : لا أقول في كتاب الله برأيي ، ويقضي في ميراث بمائة قضية يغاير

__________________

قتال أهل البغي ، وقد قال الشافعي : عرفنا حكم البغاة من علي ـ عليه السلام ـ.

(١) فقد روي أنه أتي عمر بن الخطاب بامرأة حامل قد اعترفت بالفجور فأمر برجمها فلقاها علي فقال : ما بال هذه فقالوا : أمر عمر برجمها ، فردها علي ـ عليه السلام ـ وقال : هذا سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها ولعلك انتهر تها ، أو أخفتها ، قال قد كان ذلك ، أو ما سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال : لا حد على معترف بعد بلاء أنه من قيد أو حبس أو تهدد فلا إقرار له ، فخلى سبيلها ثم قال : عجزت النساء أن تلد مثل علي بن ابي طالب ، لو لا علي لهلك عمر. راجع : الرياض النضره ج ٣ ص ١٦٣ ، ذخائر العقبى ص ٨١ ، مطالب السؤول ص ١٣ ، مناقب الخوارزمي ص ٤٨ ، الاربعين للفخر الرازي ص ٤٦٦ ، الغدير ج ٦ ص ١١٠.

(٢) نهج الحق وكشف الصدق ص ٢٣٨ ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج ١ ص ١٩.

(٣) نهج الحق وكشف الصدق ص ٢٢٨ ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج ١ ص ١٩.

٤٤٧

بعضها بعضا ، ويقول : إن زغت فقوموني وإن استقمت فاتبعوني (١). وهل يقيس عاقل مثل هذا إلى من قال : سلونى قبل أن تفقدوني (٢) ، سلوني عن طرق السماء فوالله اني لأعلم لها منكم من طرق الأرض؟ وقال إن هاهنا لعلما جما ، وضرب بيده على صدره ، وقال : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا فقد ظهر أنه أعلم (٣).

وأما الزهد فإنه سيد الزهاد ، وبد الأبدال ، وإليه تشد الرحال ، وتنقص الأحلاس ، وما شبع من طعام قط ، وكان أخشن الناس لبسا ومأكلا.

قال عبد الله بن أبي رافع : دخلت على علي ـ عليه السلام ـ يوم عيد فقدم جرابا مختوما فوجد فيه خبزا شعيرا يابسا مرضوضا فتقدم فأكل.

فقلت : يا أمير المؤمنين فكيف تختمه وأنما هو خبز شعير؟

فقال : خفت هذين الولدين يلتانه بزيت أو سمن (٤). وكان ثوبه مرقوعا بجلد تارة وبليف أخرى ، ونعلاه من ليف ، وكان يلبس الكرباس الغليظ فإن وجد كمه طويلا قطعه بشفرة ولم يخيطه ، وكان يلبس الكرباس على ذراعيه حتى يبقى سدى بلا لحمة ، وكان يأتدم إذا إئتدم بالخل والملح فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الأرض ، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان لإبل ، ولا يأكل اللحم إلا قليلا ويقول : لا تجلعوا بطونكم مقابر الحيوانات ، وكان مع ذلك أشد الناس قوة ، وأعظمهم يدا (٥).

__________________

(١) تقدمت تخريجاته.

(٢) تقدمت تخريجاته.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن الحديد ج ٧ ص ٢٥٣ ، وقد تقدمت تخريجاته فيما سبق.

(٤) فرائد السمطين ج ١ ص ٣٥٢ ح ٢٧٧ ، مناقب الخوارزمي ص ١١٨ ح ١٣٠.

(٥) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج ١ ص ٢٦.

٤٤٨

وأما العبادة فمنه تعلم الناس صلاة الليل ، وملازمة الأوراد ، وقيام النافلة ، وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير ، ومن محافظته على ورده أن بسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير ليلة الهرير فيصلي عليه والسهام تقع عليه وتمر على صماخيه يمينا وشمالا فلا يرتاع لذلك ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته.

فأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وتعالى وإجلاله وما تضمنته من الخضوع لهيبته والخشوع لعزته عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص.

وكان زين العابدين ـ عليه السلام ـ يصلي في كل ليلة ألف ركعة ويقول : أني لي بعبادة علي ـ عليه السلام ـ (١).

وأما الشجاعة فهو ابن جلاها وطلاع ثناهايا ، نسى الناس فيها ذكر من قبله ، ومحى اسم من يأتي بعده ، ومقاماته في الحروب مشهورة تضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة ، وهو الشجاع الذي ما فرقط ولا ارتاع من كتبية ، ولا بارز أحدا إلا قتله ، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت إلى ثانية.

وجاء في الحديث إذا ضرب واعتلا قد ، وإذا ضرب واعترض قط ، وفي الحديث : كانت ضرباته وترا (٢) ، وكان المشركون إذا أبصروه في الحرب عهد بعضهم إلى بعض ، وبسيفه شيدت مباني الدين ، وثبتت دعائمه ، وتعجبت الملائكة من شدة ضرباته وحملاته.

وفي غزوة بدر الداهية العظمى على المسلمين قتل فيها صناديد قريش كالوليد بن عتبة والعاص بن سعيد ونوفل بن خويلد الذي قرن

__________________

(١) الإرشاد للمفيد ص ٢٥٦ ، إعلام الورى ص ٢٥٥ ، بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٧٤ ح ٦٢.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج ١ ص ٢٠.

٤٤٩

أبا بكر وطلحة قبل الهجرة وعذبهما ، وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : (الحمد لله الذي أجاب دعوتي فيه) (١) ولم يزل في ذلك يصرع صنديدا بعد صنديد حتى قتل نصف المقتولين فكان سبعين ، وقتل المسلمون كافة مع ثلاثة الآف من الملائكة مسومين النصف الآخر (٢). وفيه نادى جبرئيل :

(لا سيف إلا ذو الفقار

ولا فتى الا علي) (٣)

ويوم أحد لما انهزم المسلمون عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ورمي رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى الأرض وضربه المشركون بالسيوف والرماح وعلي ـ عليه السلام ـ مصلت سيفه قدامه ، ونظر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بعد إفاقته من غشوته فقال : يا علي ما فعل المسلمون؟

فقال : نقضوا العهود وولوا الدبر.

فقال : اكفني هؤلاء ، فكشفهم عنه ولم يزل يصادم كتبية بعد كتيبة وهو ينادي المسلمين حتى تجمعوا وقال جبرئيل ـ عليه السلام ـ : إن هذه لهي الموساة ، لقد عجبت الملائكة من حسن موالاة علي لك بنفسه.

فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : وما يمنعه من ذلك وهو مني

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ١ ص ٩٢.

(٢) المغازي ج ١ ص ١٤٧ ـ ١٥٢ ، الإرشاد للشيخ المفيد ص ٤١ ـ ٤٣ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١ ص ٢٤.

(٣) مناقب الخوارزمي ص ١٦٧ ـ ٢٠٠ ، مناقب ابن المغازلي ص ١٩٩ ـ ١٩٨ ، ح ٢٣٥ ، كفاية الطالب ص ٢٧٧ ، الطبري ج ٢ ص ١٩٧ ، ابن هشام في السيرة ج ٣ ص ٥٢ ، سنن البيهقي ج ٣ ص ٢٧٦ ، المستدرك ج ٢ ص ٣٨٥ ، الرياض النضرة ج ٣ ص ١٥٥ ، ذخائر العقبى ص ٧ ٤ ، ميزان الاعتدال ج ٢ ص ٣١٧ ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج ١ ص ٢٩.

٤٥٠

وأنا منه (١). ولثبات علي ـ عليه السلام ـ رجع بعض المسلمين ورجع عثمان بعد ثلاثة أيام ، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : فقد ذهبت بها عريضة (٢).

وفي غزاة الخندق إذ أحدق المشركون بالمدينة كما قال الله تعالى : (إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر) (٣) ، ودخل عمرو بن عبدود الخندق على المسلمين ونادى بالبراز فأحجم عنه المسلمون وبرز علي ـ عليه السلام ـ متعمما بعمامة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وبيده سيف فضربه ضربة كانت توازن عمل الثقلين إلى يوم القيامة (٤) ، وأين هناك أبو بكر وعمر وعثمان.

ومن نظر غزوات الواقدي وتاريخ البلازري علم محله من رسول الله من الجهاد وبلاء يوم الأحزاب ، وهو يوم بني المصطلق ، ويوم قلع باب خيبر ، وفي غزاه خيبر ، وهذا باب لا يغني الإطناب فيه لشهرته.

وروى أبو بكر الأنبازي في أماليه أن عليا ـ عليه السلام ـ جلس إلى عمر في المسجد وعنده اناس ، فلما قام عرض واحد بذكره ونسبه إلى التيه والعجب.

فقال عمر : لمثله أن يتيه والله لولا سيفه لما قام عمود الدين ، وهو

__________________

(١) ذخائر العقبى ص ٦٨ ، فضائل الصحابة لأحمد ج ٢ ص ٥٩٤ ح ١٠١٠ ، مجمع الزوائد ج ٦ ص ١١٤ ، نهج الحق وكشف الصدق ص ٢٤٩.

(٢) تاريخ الطبري ج ٢ ص ٢٠٣ ، الكامل لابن الأثير ج ٢ ، ص ١١٠ ، السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٢٧ ، البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨ ، السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٥ ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج ١٥ ص ٢١ ، الدر المنثور ج ٢ ص ٨٩.

(٣) سورة الأحزاب : الاية ١٠.

(٤) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٤٧٠ ـ ٤٧١ ، وقد تقدم حديث قتل عمر بن ود.

٤٥١

بعد أقضي الأمة وذو سابقتها ، وذو شأنها.

فقال له ذلك القائل : فما منعكم يا أمير المؤمنين منه؟

فقال : ما كرهناه إلا على حداثة سنه ، وحبه لبني عبد المطلب ، وحمله سورة براءة إلى مكة.

ولما دعا معاوية إلى البراز لتسريح الناس من الحرب بقتل أحدهما فقال له عمرو : قد أنصفك الرجل.

فقال له معاوية : ما غششتني كلما نصحتني إلا اليوم ، أتأمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطوق؟ أراك طمعت في إمارة الشام بعدي (١).

وكانت العرب تفتخر لوقوعها في الحرب في مقابلة ، فأما قتلاه فافتخر رهطهم لأنه ـ عليه السلام ـ قتلهم وأظهر وأكثر من أن يحصى وقالت (٢) في عمر بن عبدود ترثيه :

لو كان قاتل عمر وغير قاتله

بكيته أبداً ما عشت في الأبد

لكن قاتله من لا نظير له

قد كان يدعى أبوه بيضة البلد (٣)

وجملة الأمر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتمي ، وباسمه من مشارق الأرض ومغاربها.

وأما كرمه وسخاؤه فهو الذي كان يطوي في صيامه حتى صام طاوياً ثلاثة أيام يؤثر السؤال كل ليلة بطعامه حتى أنزل الله فيه : (هل أتى على

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج ١ ص ٢٠ وج ٨ ص ٥٣.

(٢) وهي أخته عمرة وكنيتها أم كلثوم.

(٣) المستدرك على الصحيحين ج ٣ ص ٣٣ ، الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٦٢ ، الإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٠٨ ، لسان العرب لابن منظور ج ٧ ص ١٢٧.

٤٥٢

الإنسان) (١) وتصدق بخاتمه في الركوع فنزلت الآية : (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (٢) ، وتصدق بأربعة دراهم فأنزل الله فيه الآية : (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرآ وعلانية) (٣) وتصدق بعشرة دراهم يوم

__________________

(١) سورة الانسان : الآية ١ ، تقدمت تخريجاتها.

(٢) سورة المائدة : الآية ٥٥.

نزول هذه الآية في امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ مما اتفق عليه المفسرون والمحدثون راجع : شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج ١ ص ١٦١ ـ ١٨٤ ح ٢١٦ ـ ٢٤١ ، ترجمة الإمام علي بن ابي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج ٢ ص ٤٠٩ ح ٩٠٨ و ٩٠٩ ، كفاية الطالب للكنجي الشافعي ص ٢٢٨ و ٢٥٠ و ٢٥١ ، ط الحيدرية وص ١٠٦ و ١٢٢ و ١٢٣ ، ط الغربي ، ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري الشافعي ص ٨٨ و ١٠٢ ، المناقب للخوارزمي الحنفي ص ١٨٧ ، الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ١٢٣ و ١٠٨ ، الدر المنثور للسيوطي ج ٢ ، ص ٢٩٣ ، فتح القدير للشوكاني ج ٢ ص ٥٣ ، الكشاف للزمخشري ج ١ ص ٦٤٩ ، تفسير الطبري ج ٦ ص ٢٨٨ ، تفسير القرطي ج ٦ ص ٢١٩ ، أسباب النزول للواحدي ص ١٤٨ ط الهندية وص ١١٣ ط الحلبي بمصر ، نور الابصار للشبلنجي ص ٧١ ، ص العثمانية وص ٧٠ ط السعيدية بمصر ، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص ١١٥ ط اسلامبول وص ١٣٥ ط الحيدرية ، تفسير الفخر الرازي ج ١٢ ص ٢٦ و ٢٠ ط البهية بمصر و ج ٤٣١ ٣ ط الدار العامرة بمصر ، تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٢٦ و ٢٠ ، ط البهية بمصر وج ٣ ص ٤٣١ ، ط الدار العامرة بمصر ، تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٧١ ط دار إحياء الكتب ، أحكام القرآن للجصاص ج ٤ ص ١٠٢ ط عبد الرحمن محمد ، مجمع الزوائد ج ٧ ص ١٧ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١٣ ص ٢٧٧ ط مصر بتحقيق محمد أبو الفضل وج ٣ ص ٢٧٥ ط ١ بمصر ، الصواعق المحرقة لابن حجر ص ٢٤ ط الميمنية وص ٣٩ المحمدية ، جامع الاصول ج ٩ ص ٤٧٨ ، احقاق الحق ج ٤ ص ٣٩٩ ، الغذير للاميني ج ٢ ص ٥٢ وج ٣ ص ١٥٦.

(٣) سورة البقرة الآية ٢٧٤.

فقد روى الجمهور أن هذه الايه نزلت في أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ كانت معه أربعه دراهم ، أنفق في الليل درهما ، وفي النهار درهما ، وفي السر درهما ، وفي العلانية درهما.

راجع : شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج ١ ، ص ١٠٩ ، ح ١٥٥ ـ ١٦٣ ، مناقب علي بن

٤٥٣

النجوى (١) فخفف الله سبحانه عن سائر الأمة بها ، وهو الذي كان يستسقي للنخل بيده ويتصدق بأجرته ، وفيه قال معاوية بن أبي سفيان الذي كان عدوه لمحفن الضبي لما قال له : جئتك من عند أبخل الناس فقال ، ويحك كيف قلت؟ تقول له أبخل الناس ولو ملك بيتا من بتر وبيتا من تبن لأنفق تبره قبل تبنه (٢) ، وهو الذي يقول : يا صفراء ويا بيضاء غري غيري ، بى تعرضت أم لي تشوقت ، هيهات هيهات قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها (٣) ، وهو الذي جاد بنفسه ليلة الفراش وفدى النبي صلى الله عليه وآله ـ حتى نزل في حقه : (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) (٤).

قال يوحنّا : فلما سمعوا هذا الكلام لم ينكره أحد منهم ، وقالوا : صدقت إن هذا الذي قلت قرأناه من كتبنا ونقلناه عن أئمتنا لكن محبة الله

__________________

أبي طالب لابن المغازلي ص ٢٨٠ ، ح ٣٢٥ ، كفاية الطالب للكنجي الشافعي ص ٢٣٢ ، ط الحديدريه وص ١٠٨ ، ط الغزي ، أسباب النزول للواحدي ص ٥٠ ، ط الحلبي وص ٦٤ ، ط الهندية بمصر الكشاف للزمخشري ج ١ ، ص ٣١٩ ط بيروت وج ١ ص ١٦٤ ط مصر ، ذخائر العقبى للطبري الشافعي ص ٨٨ ، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي الحنفي ص ١٤ ، نور الأبصار للشبلنجي ص ٧١ ، ط العثمانية وص ٧١ ، ط السعيديه ، تفسير الفخر الرازي ج ٧ ، ص ٨٩ ، ط البهية بمصر ، تفسير القرطبي ج ٣ ، ص ٣٤٧ ، تفسير ابن كثير ج ١ ، ص ٣٢٦ ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج ١ ، ص ٢١ وج ١٣ ، ص ٢٧٦ ، مجتمع الزوائد ج ٦ ، ص ٣٢٤ ، الدر المنشور للسيوطي الشافعي ج ١ ، ص ٣٦٣ ، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص ٩٢ و ٢١٢ ، ط اسلامبول وص ١٠٦ و ٢٥٠ ، ط الحيدرية ، المناقب المودة للخوارزمي الحنفي ص ١٩٨. ترجمة الأمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي بهامش تفسير الخازن ج ١ ، ص ٢٤٩ ، احقاق الحق للتستري ج ٣ ، ص ٢٤٦ ، فرائد السمطين ج ١ ، ص ٣٥٦.

(١) تقدمت تخريجاته.

(٢) شرح نهج البلاغه لابن أبي الحديد ج ١ ص ٢٢.

(٣) نهج البلاغه (صبحي الصالح) ، ص ٤٨٠ ـ ٤٨١ ، قصار الحكم ٧٧.

(٤) سورة البقرة : الآية ٢٠٧ ، تخريجاته نزولها.

٤٥٤

ورسوله وعنايتهما أمر وراء هذا كله ، فعسى الله أن يكون له عناية بأبي بكر اكثر من على فيفضله عليه.

قال يوحنا. إنا نعلم الغيب ، ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى ، وهذا الذي قلتموه تخرص ، وقال الله تعالى : (قتل الخراصون) (١) ونحن إنما نحكم بالشواهد التي لعلي ـ عليه السلام ـ على أفضليته فذكرناها.

وأما عناية الله به فتحصل من هذه الكمالات دليل قاطع عليها ، فأي عناية خير من أن يجعل بعد نبيه أشرف الناس نسبا ، وأعظمها حلما ، وإشجعهم قلبا ، واكثر هم جهادا وزهدا وعبادة وكرما وورعا ، وغير ذلك من الكمالات القديمية ، هذا هو العناية.

وأما محبة الله ورسوله فقد شهد بها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في مواضع ، منها : الموقف الذي لم ينكر وهو يوم خبير ، إذ قال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) (٢) فأعطاها عليا.

__________________

(١) سورة الذاريات : الاية ١٠.

(٢) ترجمة الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج ١ ص ٢٠٥ ح ٢٦٩ و ص ١٥٧ ح ٢١٩ ـ ٢٣١ ، سننن الترمذي ج ٥ ص ٥٩٦ ح ٣٧٢٤ : فرائد السمطين ج ١ ص ٢٥٩ ، مجمع الزوائد ج ٦ ص ١٥١ ، المستدرك للحاكم ج ٣ ص ٣٨ وص ٤٣٨ ، عيون الأثر ج ٢ ص ١٣٢ ، مسند أحمد بن حنبل ج ٢ ص ٣٨٤ ، صحيح مسلم ج ٤ ص ١٨٧١ ح ٣٣ ـ (٢٤٠٥) ، انساب الأشراف للبلاذري ج ٢ ص ٩٣ ، خصائص النسائي ص ٣٤ ح ١١ ، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي ص ١٨١ ح ٢١٦ ، الطبقات لابن سعد ج ٢ ص ١١٠ ، ينابيع تذكره الخواص للسبط بن الجوزي ص ٢٤ ، السنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ١٠٦ وص ١٣١ حلية الاولياء ج ١ ص ٦٢ ، أسنى المطالب للجزري ص ٦٢ ، صحيح البخاري ج ٥ ص ٢٢ ، اسد الغابة ج ٤ ص ٢١ ، البداية والنهاية ج ٤ ص ١٨٢ ، تاريخ الطبري ج ٣ ص ١٢ ، ذخائر

٤٥٥

وروى عالمكم أخطب خوارزهم في كتاب المناقب أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قال : «يا علي لو أن عبدا عبد الله عزوجل مثلما قام نوح في قومه ، وكان له مثل جبل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ، ومد في عمره حتى حج ألف حجة على قدميه ، ثم قتل ما بين الصفا والمروة مظلوما ثم لم يوالك يا علي لم يشم رائحة الجنة ولم يدخلها» (١).

__________________

العقبى ص ٨٧ ، تاريخ الإسلام للذهبي ج ٢ ص ١٩٤ ، العقد الفريد ج ٢ ص ١٩٤ ، الكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٤٩ ، مروج الذهب ج ٣ ص ١٤ ، إحقاق الحق ج ٥ ص ٤٠٠ ، فضائل الخمسة ج ٢ ص ١٦١.

ولقد تمنى عمر بن الخطاب أن تكون له هذه الفضيلة التى حاز عليها أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ.

فقد روي أن عمر قال : (لقد اعطى علي بن ابي طالب ـ عليه السلام ـ ثلاثا لأن تكون لي واحدة منها أحب إلي من حمر النعم : زوجته بنت رسول الله ، وسكناه المسجد مع رسول الله يحل له ما يحل له فيه ، والراية يوم خبير).

انظر : المستدرك للحاكم ج ٣ ص ١٢٥ ، مسند احمد ج ٢ ص ٢٦ ، ينابيع المودة للقندوزي ص ٢١٠ ، المناقب للخوارزمي ص ٣٢٢ ح ٣٥٤ ، ترجمة الامام علي بن ابي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر ج ١ ص ٢٢٠ ح ٣٥٤ ، تجرمة الامام علي بن ابى طالب من تاريخ ص ١٢٠ ، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٧٢ ، نظم درر السمطين ص ١٢٩ ، فرائد السمطين ج ١ ص ٣٤٥ ح ٢٦٨ ، أسنى المطالب للجزري ص ٦٥ ، فضائل الخمسة ج ٢ ص ٢٥٠ ، الغدير ج ٣ ص ٢٠٤.

(١) المناقب للخوارزمي ص ٦٧ ، لسان الميزان ج ٥ ص ٢١٩ ، ميزان الاعتدال ج ٣ ص ٥٩٧.

وفي هذا المعنى قال بعضهم ـ عليه الرحمة ـ.

لو أن عبداً أتى بالصالحات غداً

وود كل نبي مرسل وولي

وقام ما قام قوماً بلا كسل

وصام ما صام صواماً بلا ملل

وحج ما حج من فرض ومن سنن

وطاف بالبيت حاف غير منتعل

وطار في الجو لا يأوي إلى أحد

وغاص في البحر لا يخشى من البلل

وعاش في الناس الافاً مؤلفة

خلواً من الذنب معصوماً من الزلل

يكسو اليتامى من الديباج كلهم

ويطعم البائسين البر بالعسل

ماكان في الحشر عند الله منتفعاً

إلا بحب أمير المؤمنين علي

٤٥٦

وفي الكتاب المذكور قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : (لو اجتمع الناس على حب علي بن أبي طالب لم يخلق الله النار) (١) وفي كتاب الفردوس : حب علي حسنتة لا تضر معها سيئة ، وبغضه سيئة لا تنفع معها حسنة (٢).

وفي كتاب ابن خالويه عن حذيقة بن اليمان قال ، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : (من أراد أن يتصدق بفصه الياقوت التي خلق الله بيده ثم قال لها : كوني فكانت فليتول علي بن أبي طالب بعدي).

وفي مسند أحمد بن حنبل في المجلد الاول : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أخذ بيد حسن وحسين وقال : (أحبني وأحب هذين وأحب أبا هما كان معي في درجتي يوم القيامة (٣).

قال يوحنا : يا أئمة الإسلام هل بعد هذا كلام في قول الله تعالى ورسوله في محبته وفي تفضيله على من هو عاطل عن هذه الفضائل؟

قالت الأئمة : يا يوحنا ، الرافضة يزعمون أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أوصى باالخلافة إلي علي ـ عليه السلام ـ ونص عليه بها ، وعندنا أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يوص إلى أحد بالخلافة.

قال يوحنا : هذا كتابكم فيه : (كتب عليكم إذا حضر أحدكم المت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين) (٤). وفي بخاريكم يقول : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : (ما من

__________________

(١) مناقب الخوارزمي ص ٦٧ ح ٣٩٨ ، الفردوس ج ٣ ص ٣٧٣ خ ٥١٣٥.

(٢) الفردوس ج ٢ ص ١٤٢ ح ٢٧٢٥ ، مناقب الخوارزمي ص ٧٥ ح ٥٦.

(٣) مسند احمد ج ١ ص ٧٧ ، سنن الترمذي ج ٥ ص ٥٩٩ ح ٣٧٣٣ ، تاريخ بغداد ج ١٣ ص ٢٨٨ ، كنز العمال ج ١٣ ص ٦٣٩ ح ٣٧٦١٣.

(٤) سورة البقرة : الآية ١٨٠.

٤٥٧

حق امرئ مسلم أن يبيت إلا وصيته تحت رأسه) (١) أفتصدقون أن نبيكم يأمر بما لا يفعل مع أن في كتابكم تقريعا للذي يأمر بما لا يفعل من قوله : (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنمت تتلون الكتاب أفلا تعقلون) (٢) فوالله إن كان نبيكم قد مات بغير وصية فقد خالف أمر ربه ، وناقض قول نفسه ، ولم يقتد بالأنبياء الماضية من أيصائهم ألى من يقوم بالأمر من بعدهم ، على أن الله تعالى يقول : (فيهداهم اقتده) (٣) لكنه حاشاه من ذلك وإنما تقولون هذا لعدم علم منكم وعناد ، فإن إمامكم أحمد بن حنبل روى في مسنده أن سلمان قال : يا رسول الله فمن وصيك؟

قال : يا سلمان من كان وصي أخي موسى ـ عليه السلام ـ؟

قال : يوشع بن نون! قال : فإن وصيي ووارثي بإسناده علي بن أبي طالب.

وفي كتاب ابن المغازلي الشافعي بإسناده عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال : لكل نبي وصي ووارث ، وأنا وصيي ووارثي علي بن ابي طالب (٤).

وهذا الإمام البغوي محيي سنة الدين ، وهو من أعاظم محدثيكم م مفسر يكم ، وقدر روى في تفسيره المسمى بمعالم التنزيل عند قوله تعالى : (وأنذر عشيرتك الأقربين) (٥) ، عن علي ـ عليه السلام ـ أنه قال : لما نزلت هذه الاية أمرني رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أن أجمع

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٤ ص ٢ ، صحيح مسلم ج ٣ ص ١٢٤٩ ح ١ ، سنن ابن ماجة ج ٢ ص ٩٠١ ح ٢٦٩٩.

(٢) سورة البقرة : الاية ٤٤.

(٣) سورة الانعام : الاية ٩٠.

(٤) سورة ابن المغازلي : ص ٢٠٠ ـ ٢٣٨ ، ذخائر العقبى ص ٧١.

(٥) سورة الشعراء : الاية ٢١٤.

٤٥٨

له بني عبد المطلب فجمعتهم وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون ، فقال لهم بعد أن أضافهم برجل شاة وعس من لبن شبعا وريا وأنه كان أحدهم ليأكله ويشربه : يا بني عبد المطلب إني قد جئتكم بخير الدنيا والأخرة ، وقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني عليه ، ويكون أخي ووصيي وخليفتي من بعدي؟ فلم يجبه أحد.

قال علي : فقمت إليه ، وقلت : أنا أجيبك يار رسول الله.

فقال لي : أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي ، فاسمعوا له وأطيعوا ، فقاموا يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (١).

وهذه الرواية قد رواها أيضا أمامكم أحمد بن حنبل في مسنده (٢) ومحمد بن إسحاق الطبري في تاريخه (٣) والخركوشي أيضا رواها ، فإن كانت كذبا فقد شهدتم على أئمتكم بأنهم يروون الكذب على الله ورسوله ، والله تعالى يقول : (ألا لعنة الله على الظالمين) (٤) (الذين يفترون على الله الكذب) (٥) ، قال الله تعالى في كتابه : (فنجعل لعنة الله على الكاذبين) (٦) وإن كان لم يكذبوا وكان الأمر على ذلك فما ذنب الرافضة؟ إذن فاتقوا الله يا أئمة الإسلام ، بالله عليكم ما ذا تقولون في خبر الغدير الذي تدعيه الشيعة؟

__________________

(١) معالم التنزيل للبغوي ج ٣ ص ٤٠٠.

(٢) مسند أحمد ج ١ ص ١٥٩.

(٣) تاريخ الطبري ج ٢ ص ٣١٩ ـ ٣٢١.

(٤) سورة هود : الاية ١٨.

(٥) سورة يونس : الاية ٦٠ و ٦٩ ، وسورة النحل : الاية ١١٦.

(٦) سورة آل عمران : الاية ٦١.

٤٥٩

قال الائمة : أجمع علماؤنا على أنه كذب مفترى.

قال يوحنا : الله اكبر ، فهذا إمامكم ومحدثكم أحمد بن حنبل روى في مسنده إلى البراء بن عازب قال : كنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في سفر فنزلنا بغدير خم (١) فنودي فينا الصلاة جامعة وكشح

__________________

(١) غدير خم : قبل : موضع تصب فيه عين ، بئر من الميثب ، حفرها مرة بن كعب ، نسب إلى ذلك غدير خم ، وهو بين مكة والمدينة ، قيل : على ثلاثة أميال من الجحفة ، وقيل : على ميل ، وهي التي عناها الشاعر في قوله :

وقالت بالغدير غدير خم

أخي إلى متى هذا الركوب

وهناك مسجد للنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقال الشهيد (ره) في الذكرى : من المساجد الشريفة مسجد الغدير وهو بقرب الجحفة جدرانه باقية إلى اليوم وهو مشهور بين وقد كان طريق الحج عليه غالبا.

انظر : مراصد الاطلاع ج ١ ص ٤٨٢ ، سفنية البحار ج ٢ ص ٣٠٩.

وقد جاء اسم هذا المكان ـ غدير خم ـ كثيرا في الشعرا وذلك بمناسبة تنصيب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ خليفة من بعده ، في هذا المكان وذلك بعد عودته من حجة الوداع ، وقال فيه يومئذ : إلا من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه ، وعاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله .... الخ.

ومن الشعراء الذين ذكروا ذلك في شعرهم : حسان بن ثابت في قصيدته الشهيرة حيث يقول :

يناديهم يوم الغدير نبيهم

بخم وأكرم بالنبي مناديا

والكميت أيضا حيث يقول :

ويوم الدوح دوح غدير خم

أبان اله الولاية لو أطيعا

ولكن الرجال تدافعوها

فلم أر مثلها خطرا منيعا

وقال أبو تمام في قصيدته الرائية كما في ديوانه :

ويوم الغدير استوضح الحق أهله

بفيحاء ما فيها حجاب ولا ستر

أقام رسول الله يدعوهم بها

ليقربهم عرف ويناهم ، نكر

يمد بضبيعه ويعلم أنه

ولي ومولاكم فهل لكم خبر

وقال السيد الحميري في ذلك أيضا :

٤٦٠