مناظرات

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

المناظرة السابعة والأربعون

مناظرة الشيخ المفيد (ره) مع بعضهم

سئل (الشيخ المفيد عليه الرحمة) في مجلس الشريف أبي الحسن أحمد بن القاسم العلوي المحمدي ، فقيل له : ما الدليل على أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ كان أفضل الصحابة؟

فقال : الدليل على ذلك قول النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر ، فجاء أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ (١) ، وقد ثبت أن أحب الخلق إلى الله عز وجل أعظمهم ثوابا عند الله تعالى ، وأن أعظم الناس ثوابا لا يكون إلا لأنه أشرفهم أعمالا وأكثرهم عبادة لله تعالى ، وفي ذلك برهان على فضل أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ على الخلق كلهم سوى الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ.

فقال له السائل : ما الدليل على صحة هذا الخبر ، وما أنكرت أن يكون غير معتمد ، لأنه إنما رواه أنس بن مالك وحده ، وأخبار الاحاد ليست بحجة فيما يقطع على الله عز وجل بصوابه؟

فقال الشيخ ـ آدام الله عزه ـ : هذا الخبر وإن كان من أخبار الاحاد على ما ذكرت ، من أن أنس بن مالك رواه وحده فإن الأمة بأجمعها قد تلقته بالقبول ، ولم يروا أن أحدا رده على أنس ولا أنكر صحته عند روايته ،

__________________

(١) تقدمت تخريجات الحديث.

٢٨١

فصار الاجماع عليه وهو الحجة في صوابه ، ولم يخل ببرهانه كونه من أخبار الاحاد بما شرحناه ، مع أن التواتر قد ورد بأن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ احتج به في مناقبه يوم الدار (١) ، فقال : أنشدكم الله هل فيكم أحد قال له رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر فجاء أحد غيري؟

قالوا : اللهم لا.

قال : اللهم اشهد ، فاعترف الجميع بصحته ، ولم يك أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ليحتج بباطل ، لاسيما وهو في مقام المنازعة والتوصل بفضائله إلى أعلى الرتب التي هي الأمامة والخلافة للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ ، وإحاطة علمه بأن الحاضرين معه في الشورى يريدون الامر دونه ، مع قول النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : (علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار) (٢) وإذا كان الأمر على ما وصفناه دل على صحة الخبر حسبما بيناه.

فاعترض بعض المجبرة ، فقال : إن احتجاج الشيعة برواية إنس من

__________________

(١) قد احتج ـ عليه السلام ـ بحديث الطائر في عدة مواطن راجع : الاحتجاج للطبر سي ج ١ ص ١٢٤ وص ١٣٨ ، فرائد السمطين ج ١ ص ٣٢٢ ح ٢٥١.

(٢) راجع : الامامة والسياسة لابن قتيبة ج ١ ص ٧٣ ط مصطفى محمد بمصر وج ١ ص ٦٨ ط أخرى ، ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج ٣ ص ١١٩ ح ١١٦٢ ، صحيح الترمذي ج ٥ ص ٢٩٧ ح ٣٧٩٨ ، فرائد السمطين ج ١ ص ١٧٦ ـ ١٧٧ ح ١٣٨ ـ ١٤٠ ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج ١٠ ص ٢٧٠ ، مستدرك الحاكم ج ٣ ص ١١٩ و ١٢٤ ، مجمع الزوائد ج ٧ ص ٢٣٥ ، كنز العمال ج ١١ ص ٦٠٣ ح ٣٢٩١٢ ، الملل والنحل ج ١ ص ١٠٣ ، تاريخ بغداد ج ١٤ ص ٣٢١ ، بتفاوت. وقال الرازي في تفسيره ج ١ ص ٢٠٥ : ومن اقتدى بعلي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ فقد اهتدى ، والدليل عليه قوله ـ صلى الله عليه واله وسلم ـ : اللهم أدر الحق مع علي حيث دار.

٢٨٢

أطرف الأشياء وذلك إنهم يعتقدون تفسيق إنس بل تكفيره ، فيقولون : إنه كتم الشهادة في النص حتى دعا عليه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ببلاء لا يواريه الثياب ، فبرص (١) على كبر السن ومات وهو أبرص ، فكيف يستشهد برواية الكافرين؟ (٢)

فقالت المعتزلة : قد أسقط هذا الكلام الرجل ولم يجعل الحجة في الرواية أنسا ، وإنما جعلها الأجماع ، فهذا الذي أوردته هذيان وقد تقدم ابطاله.

فقال السائل : هب أنا سلمنا صحة الخبر ما أنكرت أن لا يفيد مإ

__________________

(١) راجع : المعارف لابن قتيبة (في باب البرص) ص ١٩٤ وص ٣٩١ ، بحار الانوار ج ٣٤ ص ٢٨٧ وج ٣٧ ص ١٩٧ وج ٤٢ ص ١٤٨ وج ٣٨ ص ٣٥١ ، سفينة البحار للقمي ج ١ ص ٤٧ ، عبقات الانوار (حديث الثقلين) ج ٢ ص ٣٠٩ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١٩ ص ٢١٧ ـ ٢١٨ ، وقال في ج ٤ ص ٧٤ (فصل في ذكر المنحرفين عن علي ـ عليه السلام ـ) :

وذكر جماعة من شيوخنا البغداديين أن عدة من الصحابة والتابعين والمحدثين كانوا منحرفين عن علي ـ عليه السلام ـ ، قائلين فيه السوء ، ومنهم من كتم مناقبه وأعان أعداءه ميلا مع الدنيا ، وإيثارا للعاجلة ، فمنهم أنس بن مالك ، ناشد علي ـ عليه السلام ـ الناس في رحبة القصر ـ أو قال : رحبة الجامع بالكوفة ـ : أيكم سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول : من كنت مولاه فعلي مولاه. فقام اثنا عشر رجلا فشهدوا بها ، وأنس بن مالك في القوم لم يقم ، فقال له : يا أنس ، ما يمنعك أن تقوم فتشهد ، ولقد حضرتها؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، كبرت ونسيت ، فقال : اللهم إن كان كاذبا فارمه بها بيضاء لا تواريها العمامة. قال طلحة بن عمير : فوالله لقد رأيت الوضح به بعد ذلك أبيض بين عينيه.

وروى عثمان بن مطرف أن رجلا سأل أنس بن مالك في آخر عمره عن علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ، فقال : إني آليت ألا أكتم حديثا سئلت عنه في علي ـ عليه السلام ـ بعد يوم الرحبة ، ذاك رأس المتقين يوم القيامة ، سمعته والله من نبيكم.

(٢) بل الاعتراض من أطرف الأشياء ، لأن المسلم في محله صحة استدلال الخصم في الحجاج بما يراه المستدل عليه صحيحا ، ولا يلزم أن يكون هو عند المستدل ايضا صحيحا.

٢٨٣

ادعيت من فضل أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ على الجماعة؟ وذلك أن المعنى فيه : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي ، يريد أحب الخلق إلى الله عز وجل في الأكل معه ، دون أن يكون أراد أحب الخلق إليه في نفسه لكثرة أعماله ، إذ قد يجوز أن يكون الله سبحانه يحب أن يأكل مع نبيه من غيره أفضل منه ، ويكون ذلك أحب إليه للمصلحة.

فقال الشيخ ـ أدام الله عزه ـ : هذا الذي اعترضت به ساقط ، وذلك أن محبة الله تعالى ليست ميل الطباع ، وإنما هي الثواب ، كما أن بغضه وغضبه ليسا باهتياج الطباع ، وإنما هما العقاب ولفظ أفعل في أحب وابغض لا يتوجه إلا إلى معناهما من الثواب والعقاب ، ولا معنى على هذا الأصل لقول من زعم أن أحب الخلق إلى الله عز وجل يأكل مع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ توجه إلى محبة الأكل والمبالغة في ذلك بلفظ أفعل ، لأنه يخرج اللفظ عما ذكرناه من الثواب إلى ميل الطباع ، وذلك محال في صفة الله سبحانه.

وشئ آخر : وهو أن ظاهر الخطاب يدل على ما ذكرناه دون ما عارضت به أن لو كانت المحبة على غير معنى الثواب ، لأنه ـ صلى الله عليه وآله ـ قال : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر ، وقوله : بأحب خلقك إليك كلام تام ، وبعده : يأكل معي من هذا الطائر كلام مستأنف ولا يفتقر الأول إليه ، ولو كان أراد ما ذكرت لقال : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك في الأكل معي ، فلما كان اللفظ على خلاف هذا وكان على ما ذكرناه لم يجز العدول عن الظاهر إلى محتمل على المجاز.

وشئ آخر : وهو أنه لو تساوى المعنيان في ظاهر الكلام لكان الواجب عليك تحميلهما اللفظ معا دون الاقتصار على أحدهما إلا بدليل ،

٢٨٤

لانه لا يتنافي الجمع بينهما فيكون إراد بقوله : (أحب خلقك إليك) في نفسه وللأكل معي ، وإذا كان الأمر على ما بيناه سقط اعتراضك.

فقال رجل من الزيدية ـ كان حاضرا ـ للسائل : هذا الاعتراض ساقط على أصلك وأصلنا ، لانا نقول جميعا إن الله تعالى لا يريد المباح ، والأكل مع النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ مباح وليس بفرض ولا نفل ، فيكون الله يحبه فضلا عن أن يكون بعضه أحب إليه من بعض ، وهذا السائل من أصحاب أبي هاشم فلذلك أسقط الزيدي كلامه على اصله ، إذ كان يوافقه في الأصول على مذهب أبي هاشم.

فخلط السائل هنيئة ثم قال للشيخ ـ أدام الله عزه ـ : فأنا أعترض باعتراض آخر وهو : أن أقول ما أنكرت أن يكون هذا القول إنما أفاد أن عليا ـ عليه السلام ـ كان أفضل الخلق في يوم الطائر ، ولكن بم تدفع أن يكون قد فضله قوم من الصحابة عند الله تعالى بكثرة الأعمال والمعارف بعد ذلك؟ وهذا الأمر لا يعلم بالعقل ، وليس معك سمع في نفس الخبر يمنع من ذلك ، فدل على أنه ـ عليه السلام ـ أفضل من الصحابة كلهم إلى وقتنا هذا ، فإنا لم نسألك عن فضله عليهم وقتا بعينه.

فقال الشيخ ـ أدام الله عزه ـ : هذا السؤال أوهن مما تقدم ، والجواب عنه أيسر ، وذلك أن الأمة مجمعة على إبطال قول من زعم أن أحدا اكتسب أعمالا زادت على الفضل الذي حصل لأمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ على الجماعة ، من قبل أنهم بين قائلين :

فقائل يقول : إن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ كان أفضل من الكل في وقت الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يساوه أحد بعد ذلك ، وهم : الشيعة الأمامية ، والزيدية ، وجماعة من شيوخ المعتزلة ، وجماعة من أصحاب

٢٨٥

الحديث.

وقائل يقول : إنه لم يبن لأمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في وقت من الأوقات فضل على سائر الصحابة يقطع به على الله تعالى ويجزم الشهادة بصحته ، ولا بان لأحد منهم فضل عليه ، وهم : الواقفة في الأربعة من المعتزلة ، منهم : أبو علي وأبو هاشم وأتباعهما.

وقائل يقول : إن أبا بكر كان أفضل من أمير المؤمنين ـ عليه والسلام ـ في وقت الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ وبعده ، وهم : جماعة من المعتزلة ، وبعض المرجئة ، وطوائف من أصحاب الحديث.

وقائل يقول : إن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ خرج عن فضله بحوادث كانت منه فساواه غيره ، وفضل عليه من أجل ذلك من لم يكن له فضل عليه ، وهم : الخوارج وجماعة من المعتزلة ، منهم : الأصم والجاحظ وجماعة من أصحاب الحديث أنكروا قتال أهل القبلة ، ولم يقل أحد من الأمة إن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ كان أفضل عند الله سبحانه من الصحابة كلهم ولم يخرج عن ولاية الله عز وجل ولا أحدث معصية الله تعالى ثم فضل عليه غيره بعمل زاد به ثوابه على ثوابه ، ولا جوز ذلك فيكون معتبرا ، فإذا بطل الاعتبار به للاتفاق على خلافه سقط ، وكان الأجماع حجة يقوم مقام قول الله تعالى في صحة ما ذهبنا إليه ، فلم يأت بشئ.

وذاكرني الشيخ ـ أدام الله عزه ـ هذه المسألة بعد ذلك فزادني فيها زيادة ألحقتها ، وهي أن قال : إن الذي يسقط ما اعترض به السائل من تأويل قول النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ (اللهم ائتني بأحب خلقك اليك) على المحبة للأكل معه دون محبته في نفسه بإعظام ثوابه بعد الذي ذكرناه في

٢٨٦

إسقاطه : أن الرواية جاءت عن أنس بن مالك أنه قال :

لما دعا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أن يأتيه الله تعالى بأحب الخلق إليه ، قلت : اللهم اجعله رجلا من الأنصار ليكون لي الفضل بذلك ، فجاء علي ـ عليه السلام ـ فرددته ، وقلت له : رسول الله على شغل ، فمضى ثم عاد ثانية فقال لي : استأذن على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، فقلت له : إنه على شغل ، فجاء ثالثة فاستأذنت له ودخل ، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : قد كنت سألت الله تعالى أن يأتيني بك دفعتين ، ولو أبطأت علي الثالثة لأقسمت على الله عز وجل أن يأتيني بك.

فلو لا أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ سأل الله عز وجل أن يأتيه بأحب خلقه إليه في نفسه وأعظمهم ثوابا عنده ، وكانت هذه من أجل الفضائل لما آثر أنس أن يختص بها قومه ، ولو لا أن أنسا فهم ذلك من معنى كلام الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ لما دافع أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ عن الدخول ، ليكون ذلك الفضل لرجل من الأنصار فيحصل له جزء منه.

وشي آخر : وهو أنه لو احتمل معنى لا يقتضي الفضيلة لأمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ لما احتج به أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ يوم الدار ، ولا جعله شاهدا على أنه أفضل من الجماعة ، وذلك أنه لو لم يكن الأمر على ما وصفناه وكان محتملا لما ظنه المخالفون من أنه سأل ربه تعالى أن يأتيه بأحب الخلق إليه في الأكل معه لما أمن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ من أن يتعلق بذلك بعض خصومه في الحال ، أو يشتبه ذلك على إنسان ، فلما احتج به ـ عليه السلام ـ على القوم واعتمده في البرهان دل على أنه لم يك مفهوما منه إلا فضله ، وكان إعراض الجماعة أيضا عن دفاعه عن ذلك بتسليم ما ادعى دليلا على صحة ما ذكرناه ، وهذا بعينه

٢٨٧

يسقط قول من زعم أنه يجوز مع إطلاق النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ما يقتضي فضله عند الله تعالى على الكافة وجود من هو أفضل منه في المستقبل ، لأنه لو جاز ذلك لما عدل القوم عن الاعتماد عليه ، ولجعلوه شبهة في منعه مما ادعاه من القطع على نقصانهم عنه في الفضل ، وفي عدول القوم عن ذلك دليل على أن القول مفيد بإطلاقه فضله ـ عليه السلام ـ ، ومؤمن من بلوغ أحد منزلته في الثواب بشئ من الأعمال ، وهذا بين لمن تدبره (١).

__________________

(١) الفصول المختارة ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٩ ، بحار الانوار ج ١٠ ص ٤٣١ ح ١٢.

٢٨٨

المناظرة الثامنة والأربعون

مناظرة الشيخ المفيد مع أبي بكر بن صراما

حضر الشيخ المفيد مجلس أبي منصور بن المرزبان وكان بالحضرة جماعة من متكلمي المعتزلة ، فجرى كلام وخوض في شجاعة الأمام ـ عليه السلام ـ.

فقال أبو بكر بن صراما : عندي أن أبا بكر الصديق كان من شجعان العرب ومتقدميهم في الشجاعة!

فقال الشيخ ـ أدام الله عزه ـ : من أين حصل ذلك عندك؟ وبأي وجه عرفته؟

فقال : الدليل على ذلك أنه رأى قتال أهل الردة وحده في نفر معه ، وخالفه على رأيه في ذلك جمهور الصحابة وتقاعدوا عن نصرته. فقال : أما والله لو منعوني عقالا لقاتلتهم ، ولم يستوحش من اعتزال القوم له ، ولا ضعف ذلك نفسه ، ولا منعه من التصميم على حربهم ، فلولا أنه كان من الشجاعة على حد يقصر الشجعان عنه لما أظهر هذا القول عند خذلان القوم له!

فقال الشيخ ـ أدام الله عزه ـ : ما أنكرت على من قال لك : إنك لم تلجأ إلى معتمد عليه في هذا الباب ، وذلك أن الشجاعة لا تعرف بالحس لصاحبها فقط ولا بادعائها ، وإنما هي شئ في الطبع يمده الاكتساب ، والطريق إليها أحد الأمرين : إما الخبر عنها من جهة علام الغيوب المطلع

٢٨٩

على الضمائر جلت عظمته ، فيعلم خلقه حال الشجاع وإن لم يبد منه فعل يستدل به عليها.

والوجه الاخر : أن يظهر منه أفعال يعلم بها حاله كمبارزة الأقران ، ومقاومة الشجعان ، ومنازلة الأبطال ، والصبر عند اللقاء ، وترك الفرار عند تحقق القتال ، ولا يعلم ذلك أيضا بأول وهلة (١) ، ولا بواحدة من الفعل حتى يتكرر ذلك على حد يتميز به صاحبه ممن حصل له ذلك اتفاقا ، أو على سبيل الهوج (٢) والجهل بالتدبير ، وإذا كان الخبر عن الله سبحانه بشجاعة أبي بكر معدوما وكان هذا الفعل الدال على الشجاعة غير موجود للرجل فكيف يجوز لعاقل أن يدعي له الشجاعة بقول قاله ليس من دلالتها في شئ عند أحد من أهل النظر والتحصيل؟ لاسيما ودلائل جبنه وهلعه (٣) وخوفه وضعفه أظهر من أن يحتاج فيها إلى التأمل ، وذلك أنه لم يبارز قط قرنا (٤) ولا قاوم بطلا ولا سفك بيده دما ، وقد شهد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مشاهده ، فكان لكل أحد من الصحابة أثر في الجهاد إلا له ، وفر في يوم أحد ، وانهزم في يوم خيبر ، وولى الدبر يوم التقى الجمعان ، وأسلم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في هذه المواطن مع ما كتب الله عز وجل عليه من الجهاد! فكيف تجتمع دلائل الجبن ودلائل الشجاعة لرجل واحد في وقت واحد لو لا أن العصبية تميل بالعبد إلى الهوى؟

__________________

(١) يقال : لقيته أول وهلة أو واهلة أي أول شئ.

(٢) الهوج محركة : الطيش والتسرع.

(٣) الهلع : الجبن عند اللقاء.

(٤) القرن بالكسر : نظيرك في الشجاعة أو العلم.

٢٩٠

وقال رجل من طياب الشيعة كان حاضرا : عافاك الله أي دليل هذا؟ وكيف يعتمد عليه وأنت تعلم أن الأنسان قد يغضب فيقول : لو سامني السلطان هذا الأمر ما قبلته ، وإن عندنا لشيخا ضعيف الجسم ، ظاهر الجبن ، يصلي بنا في مسجدنا فما يحدث أمر يضجره وينكره إلا قال : والله لأصبرن على هذا أو لأجاهدن فيه ولو اجتمعت فيه ربيعة ومضر!. فقال : ليس الدليل على الشجاعة ما ذكرت دون غيره ، والذي اعتمدنا عليه يدل كما يدل الفعل والخبر ، ووجه الدلالة فيه أن أبا بكر باتفاق لم يكن مؤوف العقل ، ولا غبيا ناقصا ، بل كان بالأجماع من العقلاء ، وكان بالاتفاق جيد الاراء ، فلو لا أنه كان واثقا من نفسه عالما بصبره وشجاعته لما قال هذا القول بحضرة المهاجرين والأنصار وهو لا يأمن أن يقيم القوم على خلافه فيخذلونه ، ويتأخرون عنه ويعجز هو لجبنه أن لو كان الأمر على ما ادعيتموه عليه فيظهر منه الخلف في قوله ، وليس يقع هذا من عاقل حكيم ، فلما ثبتت حكمة أبي بكر دل مقاله الذي حكيناه على شجاعته كما وصفناه.

فقال الشيخ ـ أدام الله عزه ـ : ليس تسليمنا لعقل أبي بكر وجودة رأيه تسليما لما ادعيت من شجاعته بما رويت عنه من القول ، ولا يوجب ذلك في عرف ولا عقل ولا سنة ولا كتاب ، وذلك أنه وإن كان ما ذكرت من الحكمة فليس يمنع أن يأتي بهذا القول من جبنه وخوفه وهلعه ليشجع أصحابه ، ويحض (١) المتأخرين عنه على نصرته ، ويحثهم على جهاد عدوه ، ويقوي عزمهم في معونته ، ويصرفهم عن رأيهم خذلانه ،

__________________

(١) حضه على الأمر : حمله عليه وأغراه به.

٢٩١

وهكذا تصنع الحكماء في تدبيراتهم ، فيظهرون من الصبر ما ليس عندهم ، ومن الشجاعة ما ليس في طبائعهم حتى يمتحنوا الأمر وينظروا عواقبه ، فإن استجاب المتأخرون عنهم ونصرهم الخاذلون لهم وكلوا الحرب إليهم وعقلوا الكلفة بهم ، وإن أقاموا على الخذلان واتفقوا على ترك النصرة لهم والعدول عن معونتهم أظهروا من الرأي خلاف ما سلف ، وقالوا : قد كانت الحال موجبة للقتال ، وكان عزمنا على ذلك تاما فلما رأينا أشياعنا وعامة أتباعنا يكرهون ذلك أوجبت الضرورة إعفاءهم مما يكرهون ، والتدبير لهم بما يؤثرون ، وهذا أمر قد جرت به عادة الرؤساء في كل زمان ، ولم يك تنقلهم من رأي إلى رأي مسقطا لأقدارهم عند الأنام ، فلا ينكر أن يكون أبو بكر إنما أظهر التصميم على الحرب لحث القوم على موافقته في ذلك ، ولم يبد لهم جزعه لئلا يزيد ذلك في فشلهم ، ويقوي به رأيهم ، واعتمد على أنهم إن صاروا إلى أمره ونجع هذا التدبير في تمام غرضه فقد بلغ المراد ، وإن لم ينجع ذلك عدل عن الرأي الأول! كما وصفناه من حال الرؤساء في تدبيراتهم ، على أن أبا بكر لم يقسم بالله تعالى في قتال أهل الردة بنفسه ، وإنما أقسم بأنصاره الذين اتبعوه على رأيه ، وليس في يمينه بالله سبحانه لينفذن خالدا وأصحابه ليصلوا بالحرب دليل على شجاعته في نفسه.

وشئ آخر : وهو أن أبا بكر قال هذا القول عند غضبه لمباينة القوم له ، ولا خلاف بين ذوي العقول أن الغضبان يعتريه عند غضبه من هيجان الطباع ما يفسد عليه رأيه حتى يقدم من القول على مالا يفي به عند سكون نفسه ، ويعمل من الأعمال ما يندم عليه عند زوال الغضب عنه ، ولا يكون وقوع ذلك منه دليلا على فساد عقله ، ووجوب إخراجه عن جملة أهل

٢٩٢

التدبير ، وقد صرح بذلك الرجل في خطبة المشهورة عنه التي لا يختلف اثنان فيها ، وأصحابه خاصة يصولون بها ، ويجعلونها من مفاخره ، حيث يقول : إن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ خرج من الدنيا وليس أحد يطالبه بضربة سوط فما فوقها وكان ـ صلى الله عليه وآله ـ معصوما من الخطأ ، يأتيه الملائكة بالوحي ، فلا تكلفوني ما كنتم تكلفونه فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبي ، فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني ، لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم (١) فقد أعذر هذا الرجل إلى القوم فيما يأتيه عند غضبه من قول وفعل ، ودلهم على الحال فيه ، فلذلك أمن من نكير المهاجرين والأنصار عليه مقاله عند غضبه مع إحاطة العلم منهم بما لحقه في الحال من خلاف المخالفين عليه حتى بعثه على ذلك المقال ، فلم يأت بشئ (٢).

__________________

(١) تقدمت تخريجاته.

(٢) الفصول المختارة ج ١ ص ٨٥ ـ ٨٩ ، البحار ج ١٠ ص ٤٣٦ ح ١٣.

٢٩٣

المناظرة التاسعة والأربعون

مناظرة الشيخ المفيد مع بعضهم ردا على الحشوية والمعتزلة

سأله بعض أصحابه فقال له : إن المعتزلة والحشوية يدعون أن جلوس أبي بكر وعمر مع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في العريش كان أفضل من جهاد أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ (١) بالسيف

__________________

(١) وادعى ذلك أيضا الجاحظ أبو عثمان وقال : إن فضل أبي بكر بمقامه في العريش مع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يوم بدر أعظم من جهاد علي ـ عليه السلام ـ ذلك اليوم وقتله أبطال قريش.

وقد تصدى للرد عليه أبو جعفر الأسكافي كما ذكر ذلك ابن أبي الحديد في شرح النهج ج ١٣ ص ٢٨١ وإليك جوابه نصا :

وكيف يقول الجاحظ : لا فضيلة لمباشرة الحرب ، ولقاء الأقران ، وقتل أبطال الشر ك! وهل قامت عمد الأسلام إلا على ذلك! وهل ثبت الدين واستقر إلا بذلك! أتراه لم يسمع قول الله تعالى : (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) سورة الصف : الاية ٤ ، والمحبة من الله تعالى هي إرادة الثواب ، فكل من كان أشد ثبوتا في هذا الصف ، وأعظم قتالا ، كان أحب إلى الله ، ومعنى الأفضل هو الأكثر ثوابا ، فعلي ـ عليه السلام ـ إذا هو أحب المسلمين إلى الله ، لأنه أثبتهم قدما في الصف المرصوص ، لم يفر قط بإجماع الأمة ، ولا بارزه قرن إلا قتله.

أتراه لم يسمع قول الله تعالى : (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) ، سورة النساء : الاية ٩٥ وقوله : (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والأنجيل والقرآن) ، ثم قال سبحانه مؤكدا لهذا البيع والشراء : (ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) سورة التوبة الاية ١١١ ، وقال الله تعالى : (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا

٢٩٤

لأنهما كانا مع النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في مستقره يدبران الأمر معه ولو لا أنهما أفضل الخلق عنده لما اختصهما بالجلوس معه ، فبأي شئ يدفع هذا؟

فقال له الشيخ ـ ادام الله عزه ـ : سبيل هذا القول أن يعكس وهذه القصة أن تقلب وذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لو علم أنهما لو كانا في جملة المجاهدين بأنفسهما يبارزان الأقران ويقتلان الأبطال ويحصل لهما جهاد يستحقان به الثواب ، لما حال بينهما وبين هذه المنزلة التي هي أجل وأشرف وأعلى وأسنى من القعود على كل حال بنص الكتاب حيث يقول الله سبحانه : (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) (١). فلما رأينا الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قد منعهما هذه

__________________

إلا كتب لهم به عمل صالح) سورة التوبة : الاية ١٢٠.

فمواقف الناس في الجهاد على أحوال ، وبعضهم في ذلك أفضل من بعض ، فمن دلف إلى الأقران ، واستقبل السيوف والأسنة ، كان أثقل على أكتاف الأعداء ، لشدة نكايته فيهم ، ممن وقف في المعركة ، وأعان ولم يقدم ، وكذلك من وقف في المعركة ، وأعان ولم يقدم ، إلا أنه بحيث تناله السهام والنبل أعظم عناء ، وأفضل ممن وقف حيث لا يناله ذلك ، ولو كان الضعيف والجبان يستحقان الرياسة بقلة بسط الكف وترك الحرب ، وأن ذلك يشاكل فعل النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، لكان أوفر الناس حظا في الرياسة ، وأشدهم لها استحقاقا حسان بن ثابت ، وإن بطل فضل علي ـ عليه السلام ـ في الجهاد ، لأن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كان أقلهم قتالا ، كما زعم الجاحظ ليبطلن على هذا القياس فضل أبي بكر في الأنفاق ، لأن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كان أقلهم مالا! ... الخ.

(١) سورة النساء : الاية ٩٥.

٢٩٥

الفضيلة وإجلسهما معه ، علمنا أن ذلك لعلمه بأنهما لو تعرضا للقتال أو عرضا له لأفسدا ، إما بأن ينهزما أو يوليا الدبر ، كما صنعا في يوم أحد (١) ، وخيبر (٢) ، وحنين (٣) ، فكان يكون في ذلك عظيم الضرر على المسلمين ولا يؤمن وقوع الوهن فيهم بهزيمة شيخين من جملتهم ، أو كانا لفرط ما

__________________

(١) فرار أبي بكر يوم أحد :

راجع : شرح نهج البلاغة ج ١٣ ص ٢٩٣ ، طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٤٦ ـ ٤٧ ، السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٨ ، تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٣١ ، البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٩ ، كنز العمال ج ١٠ ص ٢٦٨ وص ٢٦٩.

فرار عمر يوم أحد :

راجع : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١٥ ص ٢٠ وص ٢٣ وص ٢٤ ، حياة محمد لهيكل ص ٢٦٥ ، كنز العمال ج ٢ ص ٢٤٢ ، حياة الصحابة ج ٣ ص ٤٩٧ ، المغازي للواقدي ج ١ ص ١٩٩ ، الكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٤٨.

وقال الفخر الرازي في تفسيره ج ٩ ص ٥٠ في ذيل تفسير قوله تعالى : (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) سورة آل عمران : الاية ١٥٥ ، قال : ومن المنهزمين ـ يعني يوم أحد ـ عمر ، إلا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين ... ومنهم : عثمان ، انهزم مع رجلين من الأنصار يقال لهما : سعد وعقبة ، انهزموا حتى بلغوا موضعا بعيدا ، ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام ، فقال لهم النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : لقد ذهبتم فيها عريضة.

(٢) فرار أبي بكر وعمر يوم خيبر :

راجع : أسد الغابة ج ٤ ص ٢١ ، مسند أحمد ج ٦ ص ٣٥٣ ، البداية والنهاية ج ٤ ص ١٨٦ ، مجمع الزوائد ج ٩ ص ١٢٢ وص ١٢٤ ، الكامل لابن الأثير ج ٢ ص ٢١٦ ، المستدرك للحاكم ج ٣ ص ٣٧.

(٣) فرار أبي بكر يوم حنين :

راجع : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١٣ ص ٢٩٣ ، الصحيح من سيرة النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ج ٣ ص ٢٨٢.

فرار عمر يوم حنين :

راجع : صحيح البخاري ج ٦ ص ٨٠ ، كتاب التفسير باب قوله تعالى : (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم) سورة التوبة : الاية ٢٥ ، سيرة المصطفى لهاشم معروف الحسيني ص ٦١٨.

٢٩٦

يلحقهما من الخوف والجزع يصيران إلى أهل الشرك مستأمنين أو غير ذلك من الفساد الذي يعلمه الله تعالى ، ولعله لطف للأمة بأن أمر نبيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بحبسهما عن القتال.

فأما ما توهموه من أنه حبسهما للاستعانة برأيهما فقد ثبت أنه كان كاملا وأنهما كانا ناقصين عن كماله ، وكان معصوما وكانا غير معصومين ، وكان مؤيدا بالملائكة وكانا غير مؤيدين ، وكان يوحى إليه وينزل القرآن عليه ولم يكونا كذلك ، فأي فقر يحصل له مع ما وصفناه إليهما لو لا عمى القلوب وضعف الرأي وقلة الدين ، والذي يكشف لك عن صحة ما ذكرناه آنفا في وجه إجلاسهما معه في العريش قول الله سبحانه : (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والأنجيل والقرآن) (١).

فلا يخلو الرجلان من أن يكونا مؤمنين أو غير مؤمنين ، فإن كانا مؤمنين ، فقد اشترى الله أنفسهما منهما بالجنة ، على شرط القتال المؤدي إلى القتل منهما لغيرهما أو قتل غيرهما لهما ، ولو كانا كذلك لما حال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بينهما وبين الوفاء بشرط الله عليهما من القتل ، وفي منعهما من ذلك دليل على أنهما بغير الصفة التي يعتقدها فيهما الجاهلون ، فقد وضح بما بيناه أن العريش وبال عليهما ودليل على نقصهما وأنه بالضد مما توهموه لهما والمنة لله (٢).

__________________

(١) سورة التوبة : الاية ١١١.

(٢) الفصول المختارة ص ١٤ ـ ١٦ ، بحار الأنوار ج ١٠ ص ٤١٧ ح ٧.

٢٩٧

المناظرة الخمسون

مناظرة المفيد (ره) مع شيخ من المعتزلة

وذكرت بحضرة الشيخ أبي عبد الله ـ أدام الله عزه ـ ما ذكره أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي ـ رحمه الله ـ في كتاب (الأنصاف) حيث ذكر أن شيخا من المعتزلة أنكر أن تكون العرب تعرف المولى سيدا وإماما ، قال : فأنشدته قول الأخطل (١) :

فما وجدت فيها قريش لأمرها

أعف وأولى من أبيك وأمجدا

وأورى بزنديه ولو كان غيره

غداة اختلاف الناس أكدى وأصلدا

فأصبحت مولاها من الناس كلهم

وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا

قال أبو جعفر : فأسكت الشيخ كأنما ألقم حجرا ، وجعلت أستحسن ذلك.

فقال لي الشيخ أبو عبد الله ـ أدام الله عزه ـ : قد قال لي أيضا شيخ من المعتزلة : إن الذي تدعونه من النص الجلي على أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ شئ حادث ، ولم يك معروفا عند متقدمي الشيعة ولا اعتمده أحد منهم وإنما بدأ به وادعاه ابن الراوندي في كتابه في الأمامة ، وناضل عليه ولم يسبقه إليه أحد ، ولو كان معروفا فيما سلف لما أخل السيد إسماعيل بن محمد (٢) ـ رحمه الله ـ به في شعره ولا ترك ذكره في نظمه مع

__________________

(١) هو أبو مالك غياث بن غوث التغلبي ، من شعراء الدولة الأموية البارزين مات سنة ٩٢ ه‍.

(٢) هو السيد الحميري ، الشاعر الطائر الصيت المولود سنة ١٠٥ والمتوفى سنة ١٧ ٣ أو

٢٩٨

إغراقه في ذكر فضائل أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ومناقبه حتى تعلق بشاذ الحديث وأورد من الفضائل ما لا نسمع به إلا منه ، فما باله إن كنتم صادقين لم يذكر النص الجلي ولا اعتمده في شئ من مقاله وهو الأصل المعول عليه لو ثبت.

فقلت له : قد ذهب عنك أيها الشيخ مواضع مقاله في ذلك لعدولك عن العناية برواية شعر هذا الرجل ، ولو كنت ممن صرف همته إلى تصفح قصائده لعرفت ما ذهب عليك من ذلك ، وأسكنتك المعرفة به عن الاعتماد على ما اعتمدته من خلو شعره على ما وصفت في استدلالك بذلك ، وقد قال السيد إسماعيل بن محمد ـ رحمه الله ـ في قصيدته الرائية التي يقول في أولها :

ألا الحمد لله حمدا كثيرا

ولي المحامد ربا غفورا

حتى انتهى إلى قوله :

وفيهم علي وصي النبي

بمحضرهم قد دعاه أميرا

وكان الخصيص به في الحياة

وصاهره واجتباه عشيرا (١).

__________________

سنة ١٧٩. صاحب القصيدة المشهورة :

لأم عمرو باللوى مربع

طامسة اعلامها بلقع

من اصحاب الصادق ـ عليه السلام ـ ، ومن شعراء اهل البيت ـ عليهم السلام ـ المجا هرين ، حاله في الجلالة ظاهر ، ومجده باهر ، قال العلامة في حقه : ثقة جليل القدر عظيم الشأن والمنزلة ، وكان في بدء الأمر كيسانيا ثم إماميا ، وقيل له كيف تشيعت وأنت شامي حميري فقال : صبت علي الرحمة صبا فكنت كمؤمن آل فرعون ، وروي ان الصادق ـ عليه السلام ـ لقاه ، فقال : سمتك امك سيدا ووفقت في ذلك أنت سيد الشعراء ، وقيل ان له في اهل البيت ـ عليهم السلام ـ نحو الفين وثلاثمائة قصيدة. انظر ترجمته في تنقيح المقال للمامقاني ج ١ ص ١٤٢ ـ ١٤٤ ، سفينة البحار ج ١ ص ٣٣٥ ـ ٣٣٧.

(١) ديوان السيد الحميري ص ٢٢٤ ، رقم القصيدة : ٧٨ باختلاف في البيت الثاني والمذكور

٢٩٩

أفلا ترى أنه قد أخبر في نظمه أن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ دعا علياً ـ عليه السلام ـ في حياته بإمرة المؤمنين واحتج بذلك فيما ذكره من مناقبه ـ عليه السلام ـ فسكت الشيخ وكان منصفاً (١).

__________________

هكذا.

علي إمام وصي النبي

بمحضره قد دعاه أميرا

والبيت الأول قد ذكر في ص ٢١٠ قصيدة رقم : ٧٥ ، راجع : مناقب ابن شهر آشوب ج ٣ ص ٥٦ ، أعيان الشيعة ج ٣ ص ٤٢٣.

(١) الفصول المختارة ص ٤ ـ ٥.

٣٠٠