مناظرات

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

وسلم ـ بمنزلة هارون من موسى ، ونفر قليل لقوا الله عزوجل على دينهم وإيمانهم ، ورجع الاخرون القهقرى على أدبارهم كما فعل أصحاب موسى ـ عليه السلام ـ باتخاذهم العجل وعبادتهم إياه ، وزعمهم أنه ربهم ، وإجماعهم عليه غير هارون وولده ونفر قليل من أهل بيته.

ونبينا ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قد نصب لأمته أفضل الناس وأولاهم وخيرهم بغدير خم (١) وفي غير موطن ، واحتج عليهم به وأمرهم بطاعته ، وأخبرهم أنه منه بمنزلة هارون من موسى (٢) ، وأنه ولي كل مؤمن بعده ، وأنه كل من كان وليه ، فعلي وليه ، ومن كان أولى به من نفسه فعلي أولي به ، وأنه خليفته فيهم ووصيه ، وأن من أطاعه أطاع الله ومن عصاه عصى الله ، ومن والاه والى الله ، ومن عاداه عادى الله ، فأنكروه

__________________

(١) وقد اثبت العلامة الحجة الاميني في كتابه الغدير ج ١ ص ١٤ ـ ٦١ رواة الغدير من الصحابة وهم : مائة وعشرون صحابيا ، وفي ص ٦٢ ـ ٧٣ رواة الغدير من التابعين وهم : أربعة وثمانون تابعيا ، وفي ص ٧٣ ـ ١٥١ رواة حديث الغدير من أئمة الحديث وحفاظه والاساتذة وهم : ثلاثمائة وستون نسمة.

(٢) هذا الحديث يعرف بحديث المنزلة ، وهو قول النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لعلي ـ عليه السلام ـ : (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) وهو من الاحاديث المتواترة المشهورة فقد روته جل مصادر العامة.

راجع : صحيح البخاري ج ٥ ص ٢٤ ، صحيح مسلم ب من فضائل علي بن أبي طالب ج ٤ ص ١٨٧٠ ح ٣٠ ـ (٢٤٠٤) ، صحيح الترمذي ج ٥ ص ٥٩٦ ح ٣٧٢٤ وص ٥٩٨ ح ٣٧٣٠ ، مسند أحمد بن حنبل ج ١ ص ١٧٩ وج ٣ ص ٣٢ وج ٦ ص ٣٦٩ وص ٤٣٨ ، سنن ابن ماجه ج ١ ص ٤٢ ح ١١٥ و ١٢١ ، المستدرك للحاكم ج ٣ ص ١٠٩ وج ٢ ص ٣٣٧ وصححه ، تاريخ الطبري ج ٣ ص ١٠٤ ، ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج ١ ح ١٥٠ ، الاصابة لابن حجر ج ٢ ص ٥٠٧ وص ٥٠٩ ، حلية الاولياء ج ٧ ص ١٩٥ ـ ١٩٦ وصححه ، ذخائر العقبى ص ٦٣ وص ٦٤ ، أسد الغابة ج ٤ ص ٢٦ وص ٢٧ ، كنز العمال ج ١١ ص ٥٩٩ ح ٣٢٨٨٠ وج ١٣ ص ١٥٠ ح ٣٦٤٧٠ ، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٦٨. وغيرها.

١٠١

وجهلوه وتولوا غيره!!

يا معاوية أما علمت أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حين بعث إلى مؤتة أمر عليهم جعفر بن أبي طالب ، ثم قال إن هلك جعفر فزيد ابن حارثة ، فإن هلك زيد فعبد الله بن رواحة ، ولم يرض لهم أن يختاروا لأنفسهم.

أفكان يترك أمته لا يبين لهم خليفته فيهم؟! بلى والله ، ما تركهم في عمياء ولا شبهة ، بل ركب القوم ما ركبوا بعد نبيهم ، وكذبوا على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فهلكوا وهلك من شايعهم ، وضلوا وضل من تابعهم ، فبعدا للقوم الظالمين.

فقال معاوية : يابن عباس إنك لتتفوه بعظيم! والاجتماع عندنا خير من الاختلاف ، وقد علمت أن الأمة لم تستقم على صاحبك.

فقال ابن عباس : إني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول : ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها (١) ، وإن هذه الأمة اجتمعت على أمور كثيرة ليس بينها اختلاف ولا منازعة ولا فرقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، والصلوات الخمس ، وصوم شهر رمضان ، وحج البيت ، وأشياء كثيرة من طاعة الله ونهي الله ، مثل : تحريم الزنا ، والسرقة ، وقطع الأرحام ، والكذب ، والخيانة ، واختلفت في شيئين :

أحدهما : اقتتلت عليه وتفرقت فيه وصارت فرقا ، يلعن بعضها بعضاً ويبرأ بعضها من بعض.

__________________

(١) مجمع الزوائد : ج ١ ص ١٥٧ ، كنز العمال ج ١ ص ١٨٣ ح ٩٢٩. بعضا ويبرأ بعضها من بعض.

١٠٢

والثاني : لم تقتتل عليه ولم تتفرق فيه ، ووسع بعضهم فيه لبعض ، وهو كتاب الله وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وما يحدث زعمت أنه ليس في كتاب الله ولا سنة نبيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ.

وأما الذي اختلفت فيه وتفرقت وتبرأت بعضها من بعض ، فالملك والخلافة ، زعمت أنها أحق بهما من أهل بيت نبي الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فمن أخذ بما ليس فيه ـ بين أهل القبلة ـ أختلاف ورد علم ما اختلفوا فيه إلى الله سلم ونجا من النار ، ولم يسأله الله عما أشكل عليه من الخصلتين اللتين اختلف فيهما ، ومن وفقه الله ومن عليه ونور قلبه وعرفه ولاة الأمر ومعدن العلم أين هو ، فعرف ذلك كان سعيدا ولله وليا ، وكان نبي الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول : رحم الله عبدا قال حقا فغنم أو سكت فلم يتكلم (١).

فالأئمة من أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومنزل الكتاب ، ومهبط الوحي ومختلف الملائكة ، لا تصلح إلا فيها ، لأن الله خصها وجعلها أهلا في كتابه على لسان نبيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، فالعلم فيهم وهم أهله وهو عندهم كله بحذافيره ، باطنه وظاهره ، ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه.

يا معاوية إن عمر بن الخطاب أرسلني في إمرته إلى علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ أني أريد أن أكتب القرآن في مصحف فابعث الينا ما كتبت من القرآن.

فقال : تضرب والله عنقي قبل أن تصل إليه.

__________________

(١) كتاب الزهد لابن المبارك : ص ١٢٨ ح ٣٨٠ ، كشف الخفاء ج ١ ص ٥١٤ ح ١٣٧٤ ، الفردوس للديلمي ج ٢ ص ٢٥٩ ح ٣٢٠٤ بتفاوت.

١٠٣

قلت : ولم؟!

قال : إن الله يقول : (لا يمسه إلا المطهرون) (١). يعني لا يناله كله إلا المطهرون ، إيانا عنى ، نحن الذين أذهب الله عنا الرجس وطهرنا تطهيرا (٢) ، وقال : (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) (٣).

__________________

(١) سورة الواقعة : الاية ٧٩.

(٢) إشارة الى الاية الشريفة (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) الاحزاب ٣٣ ، وقد تقدمت تخريجات نزولها فيهم ـ عليهم السلام ـ.

(٣) سورة فاطر : الاية ٣٢.

فقد ذكروا انها نزلت في أمير المؤمنين على بن ابي طالب ـ عليه السلام ـ راجع ، شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج ٢ ص ١٥٥ ـ ١٥٧ ح ٧٨٢ ـ ٧٨٣ ، غاية المرام للبحراني ص ٣٥١.

وجاء في ينابيع المودة ب ٣٠ ص ١٠٣ (في تفسير قوله تعالى ومن عنده علم الكتاب) عن المناقب : سئل علي عليه السلام ـ ان عيسى بن مريم كان يحيي الموتى وسليمان بن داود كان يفهمن مني ق الي ير ، هل لكم هذه المنزلة ، قال ان سليمان بن داود ـ عليهما السلام ـ غضب على الهدهد لفقده لانه يعرف الماء ولا يعرف سليمان الماء تحت الهواء مع أن الريح والنمل والانس والجن والشياطين والمردة كانوا له ي ائعين وان الله يقول في كتابه (ولو ان قرآنا سيرت به الجبال أو قي عت به الارض أو كلم به الموتى) سورة الرعد : الاية ٣١ ، ويقول تعالى : (وما من غائبة في السماء والارض إلا في كتاب مبين) سورة النمل : الآية ٧٥.

ويقول تعالى : (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) سورة فاطر : الاية ٣ ٢ ، فنحن أورثنا هذا لالقرآن الذز فيه ما يسير به الجبال ، وقطعت به البلدان ، ويحي به الموتى ، ونعرف به الماء ، وأورثنا هذا الكتاب فيه تبيان كل شئ.

اضف الى ذلك إنه بعد ان ثبت لدذى الجمهور ان قوله تعالى : (ومن عنده علم الكتاب) سورة الرعد : الاية ٤٣ ، المراد به هو أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ نعلم بالضرورة انه هو المراد بمن أورثه الله الكتاب في قوله تعالى : (ثم اورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم طالم لنفسه ومن هم مقتصد ومنهم صابق بالخيرات).

قال الشيخ محمد الحسن المظفر (قدس سره) في كتابه دلائل اصدق ج ٢ ص ١٦٥ : ويشهد ايضا لارادة علي بمن أورثه الكتاب واصطفاه ، الأخبار المستفيضة الدالة على أن

١٠٤

فنحن الذين اصطفانا الله من عباده ، ونحن صفوة الله ولنا ضرب الامثال وعلينا نزل الوحي.

فغضب عمر وقال : ان إبن أبي طالب يحسب أنه ليس عند أحد علم غيره ، فمن كان يقرأ من القرآن شيئا فليأتنا به ، فكان إذا جاء رجل بقرآن فقرأه ومعه آخر كتبه ، وإلا لم يكتبه.

فمن قال ـ يا معاوية ـ : إنه ضاع من القرآن شئ فقد كذب ، هو عند أهله مجموع.

ثم أمر عمر قضاته وولاته فقال : اجتهدوا رأيكم ، واتبعوا ما ترون أنه الحق ، فلم يزل هو وبعض ولاته قد وقعوا في عظيمة فكان علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ يخبرهم بما يحتج به عليهم ، وكان عماله وقضاته يحكمون في شئ واحد بقضايا مختلفة فيجيزها لهم ، لأن الله لم يؤته الحكمة وفصل الخطاب ، وزعم كل صنف من أهل القبلة أنهم معدن العلم والخلافة دونهم ، فبالله نستعين على من جحدهم حقهم ، وسن للناس ما يحتج به مثلك عليهم ، ثم قاموا فخرجوا (١).

__________________

عليا مع القرآن والقرآن معه ، فإن المعية تستدعي أن يكون علم القرآن عنده وأنه وارثه.

وقال في ص ١٦٦ : فإن قلت : لا يمكن أن يراد وحده أو مع الأئمة خاصة لأنهم معصومون عندكم ، والاية قسمت من أورثه الله الكتاب واصطفاه إليه الظالم لنفسه ، والمقتصد ، والسابق بالخيرات فيتعين ان يراد بالاية مطلق المؤمنين.

قلت : التقسيم راجع إلى العباد والضمير في قوله تعالى : (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) عائد إلى قوله تعالى : عبادنا ، لا لمن أورثه الكتاب واصطفاه منهم ، إذ لا يصح تقسيم من اصطفاه الى الظالم وغيره ، ولا شمول من أورثه الكتاب لكل مؤمن عالم وجاهل ، فهي نظير قوله تعالى في سورة الحديد : (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) سورة الحديد : الاية ٢ ٦.

(١) كتاب سليم بن قيس الكوفي : ص ١٩٠ ح ٤٧ ، بحار الانوار ج ٤٤ ص ٩٧ بتفاوت.

١٠٥

المناظرة الرابعة عشرة

مناظرة قيس بن سعد (١) وابن عباس مع معاوية بن أبي سفيان

قدم معاوية حاجا في خلافته المدينة بعد ما قتل أمير المؤمنين ـ صلوات الله عليه ـ وبعد ما مات الحسن ـ عليه السلام ـ ، فاستقبله أهل المدينة ، فنظر فإذا الذي استقبله من قريش أكثر من الأنصار ، فسأل عن

__________________

(١) هو : قيس بن سعد بن عبادة بن ديلم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج ابن ساعدة بن كعب بن الخزرج ، الأمير المجاهد ، صحابي جليل ، ومن أصحاب امير المؤمنين والحسن ـ عليهما السلام ـ ، وكان من الجماعة الذين شهدوا باستخلاف النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عليا ـ عليه السلام ـ يوم الغدير عند استشهاد امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وعدم نكولهم الشهادة فيمن شهدوا ، وجاء في شرح النهج لابن أبي الحديد : وكان قيس بن سعد بن عبادة من شيعة علي ومناصحيه ، وكان مع شجاعته ونجدته جوادا مفضالا ، وكان طوالا اطول الناس وامدهم قامة ، شجاعا مجربا مناصحا لعلي ولولده ، ولم يزل على ذلك إلى أن مات ، وفي أسد الغابة : انه كان من فضلاء الصحابة وأحد دهاة العرب وكرمائهم ، وكان من ذوي الرأي الصائب والمكيدة في الحرب مع النجدة والشجاعة وكان شريف قومه. له أحاديث عديدة ، وروى عنه الكثير ، منهم : عبد الله بن مالك الأشجعي ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهما ، كان صاحب لواء النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في بعض مغازيه ، ولي مصر من قبل أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ثم عزله عنها فقدم المدينة ، ثم لحق بعلي وكان على شرطة الخميس ، وبعد وفاة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ صار مع الحسن ـ عليه السلام ـ فوجهه على مقدمة جيشه إلى معاوية ، وبعد إبرام الصلح رجع إلى المدينة وتوفي فيها في خلافة معاوية.

تجد ترجمته في كثير من الكتب الرجالية وغيرها منها : طبقات ابن سعد ج ٦ ص ٥٢ ، تاريخ الطبري ، ج ٤ ص ٥٤٦ ، الاستيعاب ج ٣ ص ١٢٨٨ رقم : ٢١٣٣ ، تاريخ بغداد ج ١ ص ١٧٧ ، أسد الغابة ج ٤ ص ٢١٥ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٦ ص ٥٧ ـ ٦٤ ، سفينة البحار للقمي ج ٢ ص ٤٥٧ ، تنقيح المقال للمامقاني ج ٢ ص ٣١ ـ ٣٣ وغيرها الكثير فمن أراد الاطلاع فليراجع.

١٠٦

ذلك فقيل : إنهم محتاجون ليست لهم دواب.

فالتفت معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة فقال : يا معشر الأنصار ما لكم لا تستقبلوني مع إخوانكم من قريش؟

فقال قيس وكان سيد الأنصار وابن سيدهم : أقعدنا يا أمير المؤمنين أن لم تكن لنا دواب.

قال معاوية فأين النواضح؟

فقال قيس : أفنيناها يوم بدر ويوم أحد وما بعدهما في مشاهد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ حين ضربناك وأباك على الأسلام حتى ظهر أمر الله وأنتم كارهون.

قال معاوية : اللهم غفرا.

قال قيس : أما إن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال : سترون بعدي أثرة (١).

ثم قال : يا معاوية تعيرنا بنواضحنا ، والله لقد لقيناكم عليها يوم بدر وأنتم جاهدون على إطفاء نور الله ، وأن تكون كلمة الشيطان هي العليا ، ثم دخلت أنت وأبوك كرها في الأسلام الذي ضربناكم عليه.

فقال معاوية : كأنك تمن علينا بنصرتك إيانا ، فلله ولقريش بذلك المن والطول ، ألستم تمنون علينا يا معشر الأنصار بنصرتكم رسول الله

__________________

(١) راجع : صحيح البخاري ج ٩ ص ٥٩ ، مسند أحمد ج ٣ ص ١٨٢ ، سنن الترمذي ج ٤ ص ٤١٨ ح ٢١٨٩ ، شرح السنة للبغوي ج ١٤ ص ١٧٣ ح ٣٩٧٣ ، صحيح مسلم ج ٣ ص ١٤٧٤ ح ٤٨ ـ (١٨٤٥) ، كنز العمال ج ١٣ ص ٦١٤ ح ٣٧٥٧٠ ، وللحديث مصادر كثيرة. قال الجزري في النهاية ج ١ ص ٢٢ بمادة (أثر) : قال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ للأنصار : (إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا). الاثرة بفتح الهمزة والثاء الاسم من أثر يؤثر إيثارا إذا أعطى اراد انه يستأثر عليكم فيفضل غيركم في نصيبه من الفئ ، والاستئثار الانفراد بالشئ.

١٠٧

وهو من قريش ، وهو ابن عمنا ومنا ، فلنا المن والطول أن جعلكم الله أنصارنا وأتباعنا فهداكم بنا.

فقال قيس : إن الله بعث محمدا ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ رحمة للعالمين ، فبعثه إلى الناس كافة ، وإلى الجن والأنس ، والأحمر والأسود والأبيض ، اختاره لنبوته واختصه برسالته ، فكان أول من صدقه وآمن به ابن عمه علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ وأبو طالب يذب عنه ، ويمنعه ويحول بين كفار قريش وبين أن يردعوه أو يؤذوه ، فأمره أن يبلغ رسالة ربه ، فلم يزل ممنوعا من الضيم والأذى ، حتى مات عمه أبو طالب وأمر ابنه بمؤازرته ، فآزره ونصره وجعل نفسه دونه في كل شديدة ، وكل ضيق ، وكل خوف ، واختص الله بذلك عليا ـ عليه السلام ـ من بين قريش ، وأكرمه من بين جميع العرب والعجم.

فجمع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ جميع بني عبد المطلب ، فيهم أبو طالب ، وأبو لهب وهم يومئذ أربعون رجلا ، فدعاهم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وخادمه علي ـ عليه السلام ـ ورسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في حجر عمه أبي طالب.

فقال أيكم ينتدب أن يكون أخي ووزيري ووصيي وخليفتي في أمتي ، وولي كل مؤمن بعدي؟ فسكت القوم حتى أعادها ثلاثا.

فقال علي ـ عليه السلام ـ : أنا يا رسول الله عليك ـ فوضع رأسه في حجره وتفل في فيه.

وقال : اللهم املا جوفه علما وفهما وحكما ، ثم قال لأبي طالب : يا أبا

١٠٨

طالب اسمع الان لابنك وأطع (١) ، فقد جعله الله من نبيه بمنزلة هارون من موسى واخى ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بين علي وبين نفسه (٢).

فلم يدع قيس شيئا من مناقبه الا ذكرها واحتج بها.

وقال : منهم جعفر بن أبي طالب الطيار في الجنة بجناحين ، اختصه الله بذلك من بين الناس ، ومنهم حمزة سيد الشهداء ، ومنهم فاطمة سيدة نساء اهل الجنة ، فإذا وضعت من قريش رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأهل بيته منكم.

لقد قبض رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فاجتمعت الأنصار إلى أبي ، ثم قالوا نبايع سعدا (٣) فجاءت قريش فخاصمونا بحجة علي وأهل بيته ـ عليهم السلام ـ وخاصومنا بحقه وقرابته ، فما يعدوا قريش أن يكونوا ظلموا الانصار وظلموا آل محمد ـ عليهم السلام ـ ولعمري ما لأحد من الأنصار ولا لقريش ولا لأحد من العرب والعجم في الخلافة حق مع علي ـ عليه السلام ـ وولده من بعده.

فغضب معاوية وقال : يا بن سعد عمن أخذت هذا ، وعمن رويته ،

__________________

(١) انظر : فرائد السمطين ج ١ ص ٨٥ ـ ٨٦ ح ٥٥ ، معالم التنزيل للحسكاني ج ١ ص ٣٧١ ح ٥١٤. وقد ذكرنا المزيد من المصادر وذلك في مناظرة الانطاكي مع العالم الشافعي فراجع.

(٢) فرائد السمطين ج ١ ص ١١٦ ح ٨١ وص ١١٧ ح ٨٢ وص ١٢١.

(٣) راجع : تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٠٥ ، الكامل في التاريخ لابن الاثير ج ٢ ص ٣٢٥ ، طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٦١٦ ، سير اعلام النبلاء للذهبي ج ١ ص ٢٧٦ ، أسد الغابة ج ٢ ص ٢٨٤ ، تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٢٣ والحادثة لها شواهد كثيرة.

١٠٩

وعمّن سمعته ، أبوك أخبرك بذلك وعنه أخذته؟!

فقال قيس : سمعته وأخذته ممن هو خير من أبي ، وأعظم عليَّ حقاً من أبي.

قال : مَن؟

قال : علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ عالم هذه الامة وصدّيقها الّذي أنزل الله فيه : (قُل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومَن عنده علم الكتاب) (١) فلم يدع آية نزلت في عليّ إلّا ذكرها.

__________________

(١) سورة الرعد : الاية ٤٣.

فقد روى الجمهور أنها نزلت في أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وهو الذي عنده علم الكتاب ، وممن روى ذلك :

الثعلبي في تفسيره ، من طريقين ، احدهما : عن عبد الله بن سلام ، أنه قال : إنما ذلك علي بن أبي طالب ، كما في ينابيع المودة ص ١٠٢ ، وابن المغازلي.

والثاني : عن أبي سعيد الخدري ، كما في الإتقان للسيوطي ج ١ ص ١٣ ، وينابيع المودة ص ١٠٣ ، رواه بطرق.

وقيل. إنها نزلت في عبد الله بن سلام ورفيقيه ، ومضافا إلى رد ابن سلام على هذا القائل ، فقد أجاب الشعبي كما في تفسير الخازن ج ٣ ص ٦٩ ، وسعيد بن جبير ، بأن السورة مكية ، فلا يجوز أن يراد منها ابن سلام وإصحابه ، لأنهم آمنوا في المدينة راجع : تفسير الطبري ج ١٢ ص ١١٧ ، والدر المنثور ج ٤ ص ٦٨٦ ، والاتقان ج ١ ص ١٣.

وأجاب أيضاً عدة من الأعلام ، كالفخر الرازي ، بأن إثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع جواز الكذب على أمثالهم لكونهم غيرمعصومين ، لايجوز ، فلا معنى لتفسيرها بابن سلام وأصحابه. راجع (تفسير الرازي ج ١٩ ص ٦٩ ـ ٧٠).

وجاء في ينابيع المودة ص ١٠٤ ـ ١٠٥ : وقال بعض المحققين في هذه الاية الشريفة : ولما فتح الله الله الواب السعادة الكبرى والهداية العظمى برسالة حبيبه على العرب وقريش وخصوصا على بني هاشم بقوله تعالى : (وأنذر عشيرتك الأقربين) سورة الشعراء : الاية ٢١٤ ورهطك المخلصين اقتضى العقل أن يكون العالم بجميع أسرار كتاب الله لابد أن يكون رجلا من بني هاشم بعد النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لأنه أقرب له من سائر قريش وأن يكون إسلامه

١١٠

قال معاوية : فإن صديقها أبو بكر ، وفاروقها عمر ، والذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام.

قال قيس : أحق هذه الاسماء وأولى بها الذي أنزل الله فيه : (أفمن كان علي بينه من ربه ويتوله شاهد منه) (١) والذي نصبه رسول الله ـ صلى

__________________

أولا ليكون واقفا (على) أسرار الرسالة وبدأ الوحي وأن يكون جميع الاوقات عنده بحسن المتابعة ليكون خيبرا عن جميع أعماله وأقواله وأن يكون من طفولته منزها عن أعمال الجاهلية ليكون متخلفا بأخلافه ومؤدبا بادآبه ونظيرا بالرشد من أولاده ، فلم توجد هذه الشروط لاحد إلا في علي ـ عليه السلام ـ.

واما عبد الله بن سلام فإنه لم يسلم إلا بعد الهجرة فلم يعرف سبب نزولالسور التي نزلت قبل الهجرة ولما كان حاله هذا لم يعرف حق تأويلها بعد إسلامه ، مع أن سلمان الفارسي الذي صرف عمره الطويل ثلثمائة وخمسين سنة في تعلم أسرار الإنجيل والتوراة والزبور وكتب الأنبياء السابقين والقرآن ، لم يكن من عنده علم الكتاب ، لفقده الشوي المذكورة ، فكيف يكون من عنده علم الكتاب ابن سلام الذي لم يقرأ الاإنجيلو لم توجد فيه الشروط ، ولم يصدر منه مثل ما صدر من علي ـ عليه السالم ـ يعسوب الدين من الأسارر والحقائق في الخطبات ، مثل قوله : سلوني قبل أن تفقدوني ، فإن بين جنبي علوما كالبحار الزواخر ، ومثل ما صدر من أولاده الائمة الهداة ـ عليهم السلام وبركاته ـ من المعارف والحكم في تأويلات كتاب الله وأسراره.

(١) سورة هود : الاية ١٧.

فقد روى الجمهور : أن (من كان على بينه من ربه) هو رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ والشاهد هو أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ

راجع : الدر المنثور ج ٤ ص ٤٠٩ ، رو ح المعاني ج ٢١ ص ٢٧ ، تفسير الخازن ج ٢ ص ٣٢١ ، تفسير الطبري ج ٢١ ص ١٠ ، وفي هامش تفسير النيسابوري ص ١٦ ، فتح القدير ج ٤ ص ٢٤٧ ، شواهد التنزيل ، تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٢٠١ ، المناقب للخوارزمي ص ٢٧٨ ح ٢٦٨ ، ينابيع المودة ص ١٠٤ ب ٢٦ ص ٩٩.

وقد جاء في فرائد السمطين ج ١ ص ٣٣٨ ح ٢٦٠ : عن ابن عباس في قوله تعالى : (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) قال : أوريد منه علي خاصة.

وجاء في ص ٣٣٩ ح ٢٦١ عن زاذان قال : سمعت عليا ـ عليه السلام ـ يقول : ... والذي فلق

١١١

الله عليه وآله وسلم ـ بغدير خم فقال : من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به من نفسه (١) وفي غزوة تبوك أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي (٢).

وكان معاوية يومئذ بالمدينة ، فعند ذلك نادى مناديه وكتب بذلك نسخة إلى عماله ، إلا برئت الذمة ممن روى حديثا في مناقب علي وأهل بيته ، وقامت الخطباء في كل كورة (٣) ومكان على المنابر بلعن علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ والبراءة منه والوقيعة في أهل بيته ـ عليهم السلام ـ واللعن لهم بما ليس فيهم (٤) ـ عليهم السلام ـ.

ثم إن معاوية مر بحلقة من قريش فلما رأوه قاموا إليه غير عبد الله ابن العباس.

فقال له : يا بن عباس ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلا لموجدة علي بقتالي اياكم يوم صفين ، يابن عباس إن عمي عثمان قتل مظلوما.

قال ابن عباس : فعمر بن الخطاب قد قتل مظلوما (٥) فسلم الأمر إلى

__________________

الحبة وبرأ النسمة ما من رجل من قريش جرت عليه المواسي الا وأنا أعرف له آية تسوقه إلى جنة أو تقوده إلى نار. فقام رجل فقال : ما آيتك يا أمير المؤمنين التي نزلت فيك؟ قال : (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) فرسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على بينة من ربه ، وأنا الشاهد منه أتلوه : أتبعه ومثل هذا الحديث أيضا بتفاوت في نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٦ ص ١٣٧ ، عن كتاب الغارات.

(١) تقدمت تخريجاته.

(٢) تقدم تخريخاته.

(٣) الكورة : جمعها كور وهي التي تجمع فيها المساكن والقرى.

(٤) انظر : شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج ٤ ص ٥٦ ـ ٦٢ و ٧٢ وج ١١ ص ٤٤ ـ ٤٥ ، النصائح الكافية لمن يتولى معاوية لمحمد عقيل ، تقوية الايمان في الرد على بن أبي سفيان (٥) إنما قال ابن عباس هذا الكلام ليحج به معاوية.

١١٢

ولده وهذا ابنه.

قال : إن عمر قتله مشرك.

قال ابن عباس : فمن قتل عثمان؟

قال : قتله المسلمون.

قال : فذلك أدحض لحجتك وأحل لدمه ، إن كان المسلمون قتلوه وخذلوه فليس إلا بحق.

قال : فإنا كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب علي وأهل بيته ، فكف لسانك يابن عباس وأربع على نفسك (١).

قال : فتنهانا عن قراءة القرآن؟

قال : لا.

قال : فتنهانا عن تأويله؟

قال : نعم.

قال : فنقرأه ولا نسأل عما عنى الله به؟

قال : نعم.

قال : فأيما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟

قال : العمل به.

قال : فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل علينا؟

قال : سل عن ذلك من يتأوله على غير ما تتأوله أنت وأهل بيتك.

قال : أنما أنزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان وآل أبي معيط واليهود والنصارى والمجوس؟!!

__________________

(١) يقال اربع عليك أو على نفسك أو على ظلعك ، أي توقف.

١١٣

قال : فقد عدلتنا بهم.

قال : لعمري ما أعدلك بهم ، إلا إذا نهيت الأمة أن يعبدو الله بالقرآن وبما فيه من أمر ونهي ، أو حلال وحرام ، أو ناسخ أو منسوخ ، أو عام أو خاص ، أو معكم أو متشابه ، وإن لم تسأل الأمة عن ذلك هلكوا واختلفوا وتاهوا.

قال معاوية : فاقرؤا القرآن ولا ترووا شيئا مما أنزل الله فيكم وما قال رسول الله وارووا ما سوى ذلك.

قال ابن عباس : قال الله تعالي في القرآن (يريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم ويأبي الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) (١).

قال معاوية : يابن عباس اكفني نفسك وكف عني لسانك وإن كنت لا بد فاعلا فليكن سرا ولا تسمعه أحدا علانية ثم رجع الى منزله (٢)

__________________

(١) سورة التوبة : الاية ٣٢.

(٢) كتاب سليم بن قيس الكوفي ص ١٦١.

١١٤

المناظرة الخامسة عشرة

مناظرة أروى (١) بنت الحارث بن عبد المطلب

مع معاوية روى ابن عائشة عن حماد بن سلمة عن حميد الطويل عن أنس بن مالك ، قال : دخلت أروى بنت الحارث بن عبد المطلب على معاوية بن أبي سفيان بالموسم وهي عجوز كبيرة ، فلما راها قال : مرحبا بك يا عمه.

__________________

(١) هي : أروى بنت الحارث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ، ابنة عم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، أمها غزية بنت قيس بن طريق بن عبد العزيز بن عامر بن عميرة ابن وديعة بن الحارث بن فهر ، تزوجها أبو وداعة بن صبرة بن سعيد بنسعد ابن سهم فولدت له : المطلب ، وإبا سفيان ، وأم جميل ، وأم حكيم ، والربعة بني أبي وداعة ، توفيت حدود سنة ٥٠ ه‍.

وهي : من ربات الفصاحة والبلاغة ، كانت أغلي الوافدات على معاوية بن أبي سفيان ، حيث إسمعته ومن معه كلاما قارصا ـ ووبخته على أخذه ما ليس له واحتجت بأدلة وبراهين على خلافة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وإظهرت مظلوميته.

نعم هكذا كن نساء العقيدة والمبدأ يتحلين بالشجاعة والصبر والثبات على ما أنعم الله عليهن بمعرفة الولاية الحقة ، والمبدأ يتحلين بالشجاعة والصبر والثبات على ما أنعم الله يجاهدن بمعرفة الولاية الحقة ، فتراهن في حياة الإمام علي ـ عليه السلام ـ يقفن إلى جنبه يجاهدون بلسانهن ، ويحضرون معه واقعة صفين بحرضن الرجال على القتال بشعر أو نثر ، وبعد استشهاده ـ عليه السلام ـ واغتصاب معاوية الخلافة نراه يبعث وراءهن قاصدا أذا لا لهن وإظهار نفسه أمام الناس بأنه يتحلى بالعفو عند المقدرة أذ يعفو عنهن ويكرم بعضهن ، إلا انهن يقفن موقفا بطوليا ويسمعن معاوية ومن معه كلاما قارصا يدل على ثبات عقيدتهن ورسوخها ، نعم إنها كلمة حق عند سلطان جائر. عن كتاب أعلام النساء المؤمنات ص ٩٩ ـ ١٠٣ (لمحمد الحسون وأم علي مشكور).

راجع ترجمتها في : الطبقات الكبري لابن سعد ج ٨ ص ٥٠ ، اعلام النساء ج ١ ص ٢٨ ، الاعلام للزركلي ج ١ ص ٢٩٠ ، أعيان النساء ص ٢٤.

١١٥

قالت : كيف أنت يا بن أخي ، لقد كفرت بعدي بالنعمة إسأت لابن عمك الصحبة ، وتسميت بغير اسمك ، وأخذت غير حقك ، بغير بلاء كان منك ، ولا من آبائك في الاسلام ، ولقد كفرتم بما جاء به محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فأتعس الله منكم الجدود ، وأصعر منكم الخدود حتى رد الله الحق إلى أهله ، وكانت كلمة الله هي العليا ، ونبينا محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ هو المنصور على من ناواه ولو كره المشركون ، فكنا أهل البيت أعظم الناس في الدين حظا ونصيبا وقدرا ، حتى قبض الله نبيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مغفورا ذنبه مرفوعا درجته ، شريفا عند الله مرضيا ، فصرنا أهل البيت منكم بمنزلة قوم موسى من آل فرعون ، يذبحون أبناءهم ، يستحيون نساءهم ، وصار ابن عم سيد المرسلين فيكم بعد نبينا بمنزلة هارون من موسى (١) ، حيث يقول : (ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) (٢) ولم يجمع بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لنا شمل ولم يسهل لنا وعر وغايتنا الجنة وغايتكم النار.

__________________

(١) تقدمت تخريجاته.

(٢ سورة الاعراف : الاية ١٥٠.

جاء في كتاب الامامة والسياسة لابن قتيبة ج ١ ص ٢٠ : تحت عنوان : (كيف بيعة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه) ... وبقي عمر ومعه قوم ، فأخرجوا عليا ، فمضوا به إلى أبي بكر ، فقالوا له : بايع ، فقال : إن أنا لم أفعل فمه؟

قالوا : إذا والله الذي لا اله الا هو نضرت عنقك ، قال : إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله ، قال عمر : أما عبد الله فنعم ، وأما إخو رسوله فلا ، وأبو بكر ساكت لا يتكلم ، فقال له عمر : إلا تأمر فيه بأمرك ، فقال : لا أكرهه على شئ ما كانت فاطمة إلى جنبه ، فلحق علي بقبر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يصبح ويبكي ، وينادي (يا ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) ... الخ.

١١٦

قال عمرو بن العاص : أيتها العجوز الضالة ، أقصري من قولك ، وغضي من طرفك.

قالت : ومن أنت لا أم لك؟

قال : عمرو بن العاص.

قالت : يا بن اللخناء النابغة ، أتكلمني أربع على ظلعك ، واعن بشأن نفسك فوالله ما أنت من قريش في اللباب من حسبها ، ولا كريم منصبها ، ولقد ادعاك ستة من قريش ، كل يزعم أنه أبوك ولقد رأيت أمك أيام منى بمكة مع كل عبد عاهر (أي فاجر) فأتم بهم فإنك بهم أشبه.

فقال مروان الحكم : أيتها العجوز الضاله ، ساخ بصرك مع ذهاب عقلك ، فلا يجوز شهادتك.

قالت : يا بني ، أتتكلم فوالله لأنت إلى سفيان بن الحارث بن كلدة أشبه منك بالحكم وإنك لشبهه في رزقه عينيك وحمرة شعرك مع قصر قامته وظاهر دمامته ، ولقد رأيت الحكم ماد القامة ، طاهر الأمة سبط الشعر ، وما بينكما قرابة ألا كقرابة الفرس الضامر من الاتان المقرب ، فاسأل أمك عما ذكرك لك فإنها تخبرك بشأن أبيك إن صدقت.

ثم التفتت إلى معاوية فقالت : والله ما عرضني لهؤلاء غيرك وإن أمك للقائلة في يوم أحد في قتل حمزة ـ رحمة الله عليه ـ :

نحن جزيناكم بيوم بدر

والحرب يوم الحرب ذات سعر

ما كان عن عتبة لي من صبر

أبي وعمي وأخي وصهري

شفيت وحشي غليل صدري

شفيت نفسي وقضيت نذري

فشكر وحشي علي عمري

حتى تغيب أعظمي في قبري

فأجبتها :

١١٧

يا بنت رقاع عظيم الكفر

خزيت في بدر وغير بدر

صبحك الله قبيل الفجر

بالهاشميين الطول الزهر

بكل قطاع حسام يفري

حمزة ليثي وعلي صقري

إذ رام شبيب وابوك غدري

أعطيت وحشي ضمير الصدر

هتك وحشي حجاب الستر

ما للبغايا بعدها من فخر

فقال معاوية لمروان وعمرو ويلكما أنتما عرضتماني لها واسمعتماني ما أكره ، ثم قال لها : يا عمة اقصدي قصد حاجتك ودعي عنك أساطير النساء.

قالت : تأمر لي بألفي دينار وألفي دينار والفي دينار.

قال : ما تصنعين يا عمة بألفي دينار؟

قالت : أشتري بها عينا خرخارة في أرض خوارة تكون لولد الحارث بن المطلب.

قال : نعم الموضع وضعتها ، فما تضيعين بألفي دينار؟

قالت : أزوج بها فتيان عبد المطلب من أكفائهم.

قال : نعم الموضع وضعتها ، فما تصنعين بألفي دينار؟

قالت : أستعين بها على عسر المدينة وزيارة بيت الله الحرام.

قال : نعم الموضع وضعتها ، هي لك نعم وكرامة ، ثم قال : أما والله لو كان علي ما أمر لك بها.

قالت : صدقت إن عليا أدى الامانة ، وعمل بأمر الله ، وأخذ به ، وأنت ضيعت أمانتك ، وخنت اللله في ماله ، فأعطيت مال الله من لا يستحقه ، وقد فرض الله في كتابه الحقوق لأهلها وبيئها ، فلم تأخذ بها ودعانا (أي علي) إلى أخذ حقنا الذي فرض الله لنا فشغل بحر بك عن وضع الأمور

١١٨

مواضعها ، وما سألتك من ما لك شيئا فتمن به إنما سألتك من حقنا ولا نرى أخذ شئ وغير حقنا ، أتذكر عليا فض الله فاك وأجهد بلاءك ، ثم علا يكاؤها وقالت :

ألا يا عين ويحك أسعدينا

ألا وابكي أمير المومنينا

رزينا خير من ركب المطايا

وفارسها ومن ركب السفينا

ومن لبس النعال أو احتذاها

ومن قرأ المثاني والمثينا

إذا استقبلت وجه أبي حسن

رأيت البدر راع الناظرينا

ولا والله لا أنسي عليا

وحسن صلاته في الراكعينا

أفي الشهر الحرام فجعتمونا

بخير الناس طرا أجمعينا

فأمر معاوية لها بستة آلاف ، وقال لها : يا عمة أنفقي هذه في ما تحبين ، فإذا احتجتيني فاكتبي إلى ابن أخيك يحسن صفدك ومعونتك إن شاء الله (١).

__________________

(١) بلاغات النساء لابن طيفور ص ٢٧ ، العقد الفريد لابن عبد ربه الاندلسي ج ١ ص ٣٥٧ باختلاف

١١٩

المناظرة السادسة عشرة

مناظرة دارمية الحجونية (١) مع معاوية

روى سهل بن أبي سهل التميمي عن أبيه ، قال :

حج معاوية ، فسأل عن امرأة من بني كنانة تنزل بالحجون (٢) ، يقال لها : دارمية الحجونية ، وكانت سوداء كثيرة اللحم ، فاخبر بسلامتها ، فبعث إليها فجئ بها.

فقال : ما حالك يا ابنة حام؟

فقالت : لست لحام إن عبتني ، أنا امرأة من بني كنانة.

قال : صدقت ، أتدرين لِمَ بعثت إليك؟

قال : لا يعلم الغيب إلا الله.

قال : بعثت إليك لأسألك علام أحببت عليا وأبغضتني ، وواليته وعاديتني؟

قالت : أو تعفيني؟

قال : لا إعفيك.

قالت : أما إذ أبيت ، فإني أحببت عليا على عدله في الرعية ، وقسمه

__________________

(١) كانت من فضليات النساء ، راجحة العقل ، فصيحة اللسان ، صادقة الولاء لعلي سيد الاوصياء ـ عليه السلام ـ ، لها حكاية مع معاوية بن أبي سفيان أظهرت بها فصاحتها ، وقوة حجتها ، ورجاحة عقلها ، وصدق ولائها واشراق ثنائها. اعلام النساء المؤمنات ص ٣٣٣.

(٢) الحجون : جبل بمعلاة مكة.

١٢٠