مناظرات

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

قال آخر : فما كان الواجب على علي ـ عليه السلام ـ بعد مضي رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ.

قال : ما فعله؟

قال : إنما وجب عليه أن يعلم الناس أنه إمام.

فقال : إن الأمامة لا تكون بفعل منه في نفسه ، ولا بفعل من الناس فيه من اختيار أو تفضيل أو غير ذلك ، وإنما تكون بفعل من الله تعالى فيه كما قال لإبراهيم ـ عليه السلام ـ : (إني جاعلك للناس إماما) (١) ، وكما قال تعالى لداود ـ عليه السلام ـ : (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) (٢) ، وكما قال عز وجل للملائكة في آدم : (إني جاعل في الأرض خليفة) (٣).

فالأمام إنما يكون إماما من قبل الله تعالى وباختياره إياه في بدء الصنيعة ، والتشريف في النسب ، والطهارة في المنشأ ، والعصمة في المستقبل ، ولو كانت بفعل منه في نفسه كان من فعل ذلك الفعل مستحقا للأمامة ، وإذا عمل خلافها اعتزل فيكون خليفة من قبل أفعاله.

قال آخر : فلم أوجبت الأمامة لعلي ـ عليه السلام ـ بعد الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ؟

فقال : لخروجه من الطفولية إلى الأيمان كخروج النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من الطفولية إلى الأيمان ، والبراءة من ضلالة قومه عن الحجة واجتنابه للشرك ، كبراءة النبي من الضلالة واجتنابه للشرك لأن الشرك ظلم ، ولا يكون الظالم أماما ولا من عبد وثنا بإجماع ، ومن شرك فقد

__________________

(١) سورة البقرة : الاية ١٢٤.

(٢) سورة ص : الاية ٢٦.

(٣) سورة البقرة : الاية ٣٠.

٢٤١

حل من الله تعالى محل أعدائه ، فالحكم فيه الشهادة عليه بما اجتمعت عليه الأمة حتى يجئ إجماع آخر مثله ، ولأن من حكم عليه مرة ، فلا يجوز أن يكون حاكما ، فيكون الحاكم محكوما عليه ، فلا يكون حينئذ فرق بين الحاكم والمحكوم عليه.

قال آخر : فلم لم يقاتل علي ـ عليه السلام ـ أبا بكر وعمر كما قاتل معاوية؟

فقال : المسألة محال لأن (لم) اقتضاء ، ولم يفعل نفي ، والنفي لا تكون له علة ، إنما العلة للأثبات ، وإنما يجب أن ينظر في أمر علي ـ عليه السلام ـ أمن قبل الله أم من قبل غيره فإن صح أنه من قبل الله تعالى فالشك في تدبيره كفر لقوله تعالى : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا تجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (١) ، فأفعال الفاعل تبع لأصله ، فإن كان قيامه عن الله تعالى فأفعاله عنه وعلى الناس الرضا والتسليم ، وقد ترك رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ القتال يوم الحديبية ، يوم صد المشركون هديه عن البيت ، فلما وجد الأعوان وقوي حارب كما قال الله تعالى في الأول : (فاصفح الصفح الجميل) (٢) ، ثم قال عز وجل : (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) (٣).

قال آخر : إذا زعمت أن إمامة علي ـ عليه السلام ـ من قبل الله تعالى وأنه مفترض الطاعة ، فلم لم يجز إلا التبليغ والدعاء للانبياء ـ عليهم

__________________

(١) سورة النساء : الاية ٦٥.

(٢) سورة الحجر : الاية ٨٥.

(٣) سورة التوبة : الاية ٥.

٢٤٢

السلام ـ وجاز لعلي أن يترك ما أمر به من دعوة الناس إلى طاعته؟

فقال : من قبل إنا لم نزعم أن عليا ـ عليه السلام ـ أمر بالتبليغ فيكون رسولا ولكنه ـ عليه السلام ـ وضع علما بين الله تعالى وبين خلقه ، فمن تبعه كان مطيعا ومن خالفه كان عاصيا ، فإن وجد أعوانا يتقوى بهم جاهد ، وإن لم يجد أعوانا فاللوم عليهم لا عليه ، لأنهم أمروا بطاعته على كل حال ولم يؤمر هو بمجاهدتهم إلا بقوة وهو بمنزلة البيت على الناس الحج إليه ، فإذا حجوا أدوا ما عليهم ، وإذا لم يفعلوا كانت للائمة عليهم لا على البيت.

وقال آخر : إذا وجب أنه لابد من إمام مفترض الطاعة بالاضطرار ، كيف يجب بالاضطرار أنه علي ـ عليه السلام ـ دون غيره؟

فقال : من قبل أن الله تعالى لا يفرض مجهولا ، ولا يكون المفروض ممتنعا ، إذ المجهول ممتنع فلابد من دلالة الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على الفرض ، ليقطع العذر بين الله عز وجل وبين عباده ، أرأيت لو فرض الله تعالى على الناس صوم شهر فلم يعلم الناس أي شهر هو؟ ولم يوسم بوسم ، وكان على الناس استخراج ذلك بعقولهم حتى يصيبوا ما أراد الله تعالى ، فيكون الناس حينئذ مستغنين عن الرسول المبين لهم وعن الأمام الناقل خبر الرسول إليهم.

وقال آخر : من أين أوجبت أن عليا ـ عليه السلام ـ كان بالغا حين دعاه النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فإن الناس يزعمون أنه كان صبيا حين دعي ولم يكن جاز عليه الحكم ولا بلغ مبلغ الرجال.

فقال : من قبل أنه لا يعرى في ذلك الوقت من أن يكون ممن أرسل إليه النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ليدعوه ، فإن كان كذلك فهو محتمل التكليف قوي على أداء الفرائض ، وإن كان ممن لم يرسل إليه ، فقد لزم

٢٤٣

النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قول الله عز وجل (ولو تقول علينا بعض الاقاويل ، لأخذنا منه باليمين ، ثم لقطعنا منه الوتين) (١) ، وكان مع ذلك فقد كلف النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عباد الله ما لا يطيقون عن الله تبارك وتعالى ، وهذا من المحال الذي يمتنع كونه ولا يأمر به حكيم ، ولا يدل عليه الرسول تعالى الله عن أن يأمر بالمحال ، وجل الرسول من أن يأمر بخلاف ما يمكن كونه في حكمة الحكيم ، فسكت القوم عند ذلك جميعا.

فقال المأمون : قد سألتموني ونقضتم علي ، أفاسألكم؟

قالوا : نعم.

قال : أليس قد روت الأمة بإجماع منها أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (٢).

قالوا : بلى.

قال : ورووا عنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال : من عصى الله بمعصية صغرت أو كبرت ثم اتخذها دينا ومضى مصرا عليها ، فهو مخلد بين أطباق الجحيم؟

قالوا : بلى.

قال : فخبروني عن رجل تختاره الأمة فتنصبه خليفة ، هل يجوز أن يقال له خليفة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، ومن قبل الله عز وجل ، ولم يستخلفه الرسول؟

فإن قلتم : نعم فقد كابرتم ، وإن قلتم : لا ، وجب أن أبا بكر لم يكن

__________________

(١) سورة الحاقة : الاية ٤٤ ـ ٤٦.

(٢) صحيح مسلم ج ١ ص ١٠ ح ٣ ، مسند احمد بن حنبل ج ١ ص ٤٧ و ٧٨ و ٩٠ و ١٣٠ و ١٦٥ ، مجمع الزوائد ج ١ ص ١٤٣.

٢٤٤

خليفة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ولا كان من قبل الله عز وجل ، وأنكم تكذبون على نبي الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فإنكم متعرضون لأن تكونوا ممن وسمه النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بدخول النار.

وخبروني : في أي قوليكم صدقتم ، أفي قولكم مضى ـ صلى الله عليه وآله ـ ولم يستخلف ، أو في قولكم لأبي بكر ، يا خليفة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ؟ فإن كنتم صدقتم في القولين فهذا ما لا يمكن كونه ، إذ كان متناقضا ، وإن كنتم صدقتم في أحدهما بطل الاخر ، فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم ودعوا التقليد وتجنبوا الشبهات ، فوالله ما يقبل الله تعالى إلا من عبد لا يأتي إلا بما يعقل ولا يدخل إلا فيما يعلم أنه حق والريب شك وإدمان الشك كفر بالله تعالى وصاحبه في النار.

وخبروني : هل يجوز أن يبتاع أحدكم عبدا فإذا ابتاعه صار مولاه وصار المشتري عبده؟

قالوا : لا.

قال : فكيف جاز أن يكون من اجتمعتم عليه أنتم لهواكم واستخلفتموه صار خليفة عليكم وأنتم وليتموه ألا كنتم أنتم الخلفاء عليه ، بل تأتون خليفة وتقولون إنه خليفة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ثم إذا سخطتم عليه قتلتموه كما فعل بعثمان بن عفان؟

فقال قائل منهم : لأن الأمام وكيل المسلمين إذا رضوا عنه ولوه وإذا سخطوا عليه عزلوه.

قال : فلمن المسلمون والعباد والبلاد؟

قالوا : لله تعالى.

قال : فوالله أولى أن يوكل على عباده وبلاده من غيره لأن من إجماع الامة أنه من أحدث حدثا في ملك غيره فهو ضامن وليس له أن يحدث ،

٢٤٥

فإن فعل فآثم غارم.

ثم قال خبروني عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ هل استخلف حين مضى أم لا؟

فقالوا : لم يستخلف.

قال : فتركه ذلك هدى أم ضلال؟

قالوا : هدى.

قال : فعلى الناس أن يتبعوا الهدى ويتركوا الباطل ويتنكبوا الضلال؟

قالوا : قد فعلوا ذلك.

قال : فلم استخلف الناس بعده وقد تركه هو فترك فعله ضلال ، ومحال أن يكون خلاف الهدى هدى ، وإذا كان ترك الاستخلاف هدى ، فلم استخلف أبو بكر ولم يفعله النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، ولم جعل عمر الأمر من بعده شورى بين المسلمين خلافا على صاحبه؟ لأنكم زعمتم أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لم يستخلف وأن أبا بكر استخلف وعمر لم يترك الاستخلاف كما تركه النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بزعمكم ولم يستخلف كما فعل ، أبو بكر وجاء بمعنى ثالث ، فخبروني : أي ذلك ترونه صوابا؟ فإن رأيتم فعل النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ صوابا فقد خطأتم أبا بكر ، وكذلك القول في بقية الأقاويل.

وخبروني : أيهما أفضل ما فعله النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بزعمكم من ترك الاستخلاف أو ما صنعت طائفة من الاستخلاف؟

وخبروني : هل يجوز أن يكون تركه من الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ هدى ، وفعله من غيره هدى فيكون هدى ضد هدى؟ فأين الضلال حينئذ؟

وخبروني : هل ولي أحد بعد النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ

٢٤٦

باختيار الصحابة منذ قبض النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلى اليوم؟ فإن قلتم : لا ، فقد أوجبتم أن الناس كلهم عملوا ضلالة بعد النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وإن قلتم : نعم ، كذبتم الأمة وأبطل قولكم الوجود الذي لا يدفع ، وخبروني : عن قول الله عز وجل : (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله) (١) ، أصدق هذا أم كذب؟

قالوا : صدق.

قال : أفليس ما سوى الله لله إذ كان محدثه ومالكه؟

قالوا : نعم.

قال : ففي هذا بطلان ما أوجبتم من اختياركم خليفة تفترضون طاعته وتسمونه خليفة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأنتم استخلفتموه وهو معزول عنكم إذا غضبتم عليه وعمل بخلاف محبتكم ومقتول إذا أبى الاعتزال ، ويلكم لا تفتروا على الله كذبا ، فتلقوا وبال ذلك غدا إذا قمتم بين يدي الله تعالى ، وإذا وردتم على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وقد كذبتم عليه متعمدين ، وقد قال : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (٢) ، ثم استقبل القبلة ورفع يديه ، وقال : اللهم إني قد أرشدتهم ، اللهم إني قد أخرجت ما وجب علي إخراجه من عنقي ، اللهم إني لم أدعهم في ريب ، ولا في شك ، اللهم إني أدين بالتقرب إليك بتقديم علي ـ عليه السلام ـ على الخلق بعد نبيك محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما أمرنا به رسولك ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال : ثم افترقنا فلم نجتمع بعد ذلك حتى قبض المأمون (٣).

__________________

(١) سورة الأنعام : الاية ١٢.

(٢) تقدمت تخريجاته.

(٣) عيون أخبار الرضا ـ عليه السلام ـ للشيخ الصدوق (ره) ج ٢ ص ١٨٣.

٢٤٧

المناظرة الحادية والأربعون

مناظرة ابن شاذان النيسابوري (١) مع بعضهم

قيل لأبي محمد الفضل بن شاذان النيسابوري ـ رحمه الله ـ ما الدليل على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ؟

فقال : الدليل على ذلك من كتاب الله عز وجل ، ومن سنة نبيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، ومن إجماع المسلمين.

فأما كتاب الله سبحانه وتعالى ، قوله عز وجل : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (٢) ، فدعانا سبحانه وتعالى

__________________

(١) هو : أبو محمد الفضل بن شاذان بن الخليل الازدي النيسابوري ، أحد أعلام الاسلام المفكرين ، ومن شيوخ الشيعة القدامى المشهورين ، اشتهر بمركزه العلمي والديني ، وبمكانته الاجتماعية ، وبإنتاجه الخصب ، وبآثاره ومؤلفاته التي عالج فيها مواضيع الساعة التي طغت في ذلك العهد على تفكير المجتمع الاسلامي ، وأخذ العلم عن الامام الرضا ، والامام الجواد والامام الهادي ـ عليهم السلام ـ ، وقد اتفق مترجموه على أنه كان ثقة من أجلاء فقهاء الشيعة الامامية ومتكلميهم ، عده الشهرستاني في الملل والنحل من مؤلفي الشيعة الكلاميين وكذلك الاشعري في المقالات ، ويعتبر النيسابوري من أكثر العلماء والمفكرين انتاجا وتأليفا ، وقد احصى له مترجموه مائة وثمانين كتابا في الفقه والتفسير والكلام والملاحم والفضائل والقراءات والبلدان وغيرها ، وله ردود كثيرة على الفرق المنحرفة ، ويستفاد من بعض النصوص ان وفاته كانت سنة ٢٦٠ ه‍.

راجع ترجمته في : فلاسفة الشيعة للشيخ عبد الله نعمة ص ٣٥٨ ـ ٢٦٣ ، تأسيس الشيعة ص ٣٧٧ ، فهرست ابن النديم ص ٣٢٣ ، الكنى والالقاب ج ١ ص ٣٦ ، سفينة البحار ج ٢ ص ٢٦٩ ، الملل والنحل ج ١ ص ١٧٠ ، مقالات الاسلاميين ج ١ ص ١٦٣.

(٢) سورة النساء : الاية ٥٩.

٢٤٨

إلى إطاعة إولى الأمر كما دعانا إلى طاعة نفسه وطاعة رسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فاحتجنا إلى معرفة أولي الأمر كما وجبت علينا معرفة الله ومعرفة رسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، فنظرنا في أقاويل الأمة فوجدناهم قد اختلفوا في أولي الأمر وأجمعوا في الاية على ما يوجب كونها في علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ.

فقال بعضهم : أولوا الأمر هم أمراء السرايا ، وقال بعضهم : هم العلماء ، وقال بعضهم : هم القوام على الناس والامرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، وقال بعضهم : هم علي بن أبي طالب والأئمة من ذريته ـ عليهم السلام ـ.

فسألنا الفرقة الأولى ، فقلنا لهم : أليس علي بن أبي طالب من أمراء السرايا؟

فقالوا : بلى.

فقلنا للثانية : ألم يكن علي ـ عليه السلام ـ من العلماء؟

قالوا : بلى.

وقلنا للثالثة : أليس علي ـ عليه السلام ـ قد كان من القوام على الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

فقالوا : بلى ، فصار أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ معنيا بالاية باتفاق الأمة وإجماعها ، وتيقنا ذلك بإقرار المخالف لنا في إمامته ـ عليه السلام ـ والموافق عليها ، فوجب أن يكون إماما بهذه الاية لوجود الاتفاق على أنه

__________________

والمراد ب‍ (أولي الأمر) هم أمير المؤمنين والأئمة من ولده ـ عليهم السلام ـ كما نص على ذلك المفسرون وغيرهم من الجمهور وقد تقدمت تخريجات نزولها فيهم ـ عليهم السلام ـ فراجع.

٢٤٩

معني بها ، ولم يجب العدول إلى غيره والاعتراف بإمامته لوجود الاختلاف في ذلك ، وعدم الاتفاق وما يقوم مقامه في البرهان.

وأما السنة : فإنا وجدنا النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ استقضى عليا ـ عليه السلام ـ على اليمن ، وأمره على الجيوش ، وولاه الأموال ، وأمره بأدائها إلى بني جذيمة الذين قتلهم خالد بن الوليد ظلما ، واختاره ـ عليه السلام ـ لأداء رسالات الله عز وجل والأبلاغ عنه في سورة البراءة (١) ، واستخلفه عند غيبته على من خلف ، ولم نجد النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ سن هذه السنن في غيره ولا اجتمعت هذه السنن في أحد بعد النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما اجتمعت في علي ـ عليه السلام ـ ، وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بعد موته واجبة كوجوبها في حياته.

وإنما تحتاج الأمة إلى الأمام لهذه الخصال التي ذكرناها فإذا وجدناها في رجل قد سنها الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فيه كان أولى بالأمامة ممن لم يسن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فيه شيئا من ذلك.

وأما الأجماع : فإن إمامته تثبت من جهته من وجوه :

منها : أنهم قد أجمعوا جميعا على أن عليا ـ عليه السلام ـ قد كان إماما ولو يوما واحدا ، ولم يختلف في ذلك أصناف أهل الملة ثم اختلفوا.

فقالت طائفة : كان إماما في وقت كذا دون وقت كذا ، وقالت طائفة : كان إماما بعد النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في جميع أوقاته ، ولم تجتمع الإمة على غيره أنه كان أماما في الحقيقة عين ، والإجماع أحق

__________________

(١) تقدمت تخريجاته.

٢٥٠

أن يتبع من الخلاف.

ومنها : أنهم إجمعوا جميعا على أن عليا ـ عليه السلام ـ كان يصلح للأمامة وأن الأمامة تصلح لبني هاشم ، واختلفوا في غيره ، وقالت طائفة : لم تكن تصلح لغير علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ولا تصلح لغير بني هاشم ، والأجماع حق لا شبهة فيه ، والاختلاف لا حجة فيه.

ومنها : أنهم أجمعوا على أن عليا ـ عليه السلام ـ كان بعد النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ظاهر العدالة واجبة له الولاية ، ثم اختلفوا فقال قوم : إنه كان مع ذلك معصوما من الكبائر والضلال.

وقال آخرون : لم يك معصوما ، ولكن كان عدلا برا تقيا على الظاهر لا يشوب ظاهره الشوائب ، فحصل الأجماع على عدالته ، واختلفوا في نفي العصمة عنه.

ثم أجمعوا كلهم جميعا على أن أبا بكر لم يك معصوما واختلفوا في عدالته ، فقالت طائفة : كان عدلا ، وقالت أخرى : لم يكن عدلا لأنه أخذ ما ليس له ، فمن أجمعوا على عدالته واختلفوا في عصمته أولى بالأمامة ممن اختلفوا في عدالته وأجمعوا على نفي العصمة عنه. (١)

__________________

(١) الفصول المختارة : ج ١ ص ٨٣ ـ ٨٥ ، بحار الانوار ج ١٠ ص ٣٧٤ ح ٣.

٢٥١

المناظرة الثانية والأربعون

مناظرة الشيخ الصدوق (١) (ره) مع الملك ركن الدولة بن بابويه

لقد ذكر في المجلس الذي جرى بين الشيخ الأمام أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي مع الملك ركن الدولة أبي علي الحسين بن بابويه الديلمي ، قيل : إنه وصف للملك المذكور حال أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ، وما يقعده في المجالس وما عليه م الآثار وما يجيب عنه من المسائلو الأخبار ورجوع الإمامية

__________________

(١) هو : الشيخ الأجل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي المشتهر بالصدوق ، شيخ من مشايخ الشيعة ، وركن من أركان الشريعة ، رئيس المحدثين ، ولد بقم حدود سنة ٣٠٦ بدعاء الامام ـ الثاني عشر ـ الحجة ـ عجل الله تعالى فرجه الشريف ـ ، ونال بذلك عظيم الفضل والفخر ، ووصفه الامام ـ عليه السلام ـ في التوقيع الخارج من ناحيته المقدسة بأنه : فقيه خير مبارك ينفع الله به ، فعمت بركته ببركة الامام ـ عليه السلام ـ وانتفع به الخاص والعام ، وبقيت آثاره ومصنفاته مدى الأيام ، وعم الانتفاع بفقهه وحديثه الفقهاء الاعلام ، وكان جليلا حافظا للاحاديث بصيرا بالرجال ناقدا للأخبار لم ير في القميين مثله في حفظه وكثرة علمه ، له نحو من ثلاثمائة مصنف في شتى فنون العلم وانواعه ، واشهرها كتاب من لا يحضره الفقيه ، عيون أخبار الرضا ، علل الشرائع ، اكمال الدين وإتمام النعمة ، أمالي الصدوق ، معاني الأخبار.

توفي في بلدة الري سنة ٣٨١ ه‍ وقبره بالقرب من قبر السيد عبد العظيم بن عبد الله الحسني (رضي الله عنه).

تجد ترجمته في : تنقيح المقال للعلامة المامقاني ج ٣ ص ١٥٤ ، الفهرست للشيخ الطوسي ص ١٨٤ ، روضات الجنات ج ٦ ص ١٣٢ ترجمة رقم : ٥٧٤ وفي أكثر كتبه في المقدمة ، وفي العديد من الكتب الرجالية.

٢٥٢

إليه وإلى أقواله في البلدان والأمصار.

فأحب لقاءه ومسألته فقدم إلى حاجبه البرمكي إحضاره ، فركب الحاجب إليه وأحضره إلى مجلس السلطان ، فلما دخل عليه قربه وأدناه وأكرمه ورفع مجلسه ، فلما استقر به المجلس.

قال له السلطان : أيها الشيخ الفقيه العالم ، اختلف الحاضرون في القوم الذين طعنوا فيهم الشيعة ، فقال بعضهم : يجب الطعن ، وقال بعضهم : لا يجب ولا يجوز ، فما عندك في هذا؟

فقال الشيخ (ره) : أيها الملك ، إن الله تعالى لم يقبل من عباده الأقرار بتوحيده حتى ينفوا كل إله سواه ، وكل صنم عبد من دون الله ، ألم تر أنا أمرنا أن نقول : (لا إله إلا الله) ، فلا إله نفي كل إله عبد من دونه.

وقوله : إلا ، إثبات الله عز وجل ، وكذلك لم يقبل الأقرار بنبوة محمد نبينا ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حتى ينفوا كل متنبئ كان في وقته ، مثل مسيلمة الكذاب ، وسجاح بنت الأسود العنسي وأشباههم ، وهكذا لا يقبل القول بإمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ إلا بعد نفي كل ضد نصب للأمامة دونه.

قال الملك : هذا هو الحق ، وأخبرني أيها الشيخ بشئ جلي واضح من أمر من انتصب للأمامة دونه؟

قال الشيخ : أيها الملك ، اجتمعت الأمة على نقل خبر سورة براءة (١) ، وفيه خروج أبي بكر من الأسلام ، وفيه نزول ولاية أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ من السماء وعزل أبي بكر ، وفيه أنه لم يكن من النبين.

__________________

(١) تقدمت تخريجاته.

٢٥٣

قال الملك : وكيف ذلك؟

فقال الشيخ ـ رحمه الله ـ : روى جميع أهل النقل منا ومن مخالفينا أنه لما نزلت سورة براءة على رسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ دعا أبا بكر فقال : يا أبا بكر خذ هذه السورة فأدها عني بالموسم بمكة ، فأخذها أبو بكر وسار ، فلما بلغ بعض الطريق هبط جبرئيل ـ عليه السلام ـ فقال : يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك : لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ، فدعا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وأمره أن يلحق أبا بكر ويأخذ منه سورة براءة ويؤديها عن الله تعالى أيام الموسم بمكة ، فلحقه أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وأخذ منه سورة براءة وأداها عن الله تعالى.

حيث أنهم أخروا من قدمه الله تعالى وقدموا من أخره الله استهانة بالله سبحانه ، وقد صح أن أبا بكر ليس من النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لقول جبرئيل ـ عليه السلام ـ : لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك ، فإذا لم يكن من النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لم يكن تابعا له ، قال الله تعالى : (فمن تبعني فإنه مني) (١) ، وإن لم يكن متبعا للنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لم يكن محبا لله عز وجل لقوله تعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) (٢) ، وإذا لم يكن محبا كان مبغضا وبغض النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كفر.

وقد صح بنفس هذا الخبر أن عليا ـ عليه السلام ـ من النبي ، هذا مع ما رواه المخالف في تفسير قوله : (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد

__________________

(١) سورة إبراهيم : الاية ٣٦.

(٢) سورة آل عمران : الاية ٣١.

٢٥٤

منه) (١) أن الذي على بينة من ربه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ والشاهد الذي يتلوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ.

وما رواه عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال : علي مني وأنا من علي (٢) ، وما رواه عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : لينتهين أو لأبعثن عليه رجلا نفسه نفسي وطاعته كطاعتي ومعصيته كمعصيتي (٢).

ومما روي عن جبرئيل ـ عليه السلام ـ في غزوة أحد أنه نزل على النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فنظر إلى علي ـ عليه السلام ـ وجهاده بين يدي رسول الله ، فقال جبرئيل : هذه المواساة ، فقال : يا جبرئيل لأنه مني وأنا

__________________

(١) سورة هود : الاية ١٧.

فقد روى الجمهور أن الشاهد هو أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ وقد تقدمت الاية مع تخريجاتها من كتب العامة فراجع.

(٢) قول النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : (علي مني وأنا من علي ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي) هو من الاحاديث المتواترة عند الجمهور ، فراجع :

سنن ابن ماجة ج ١ ص ٤٤ ح ١١٩ ، صحيح الترمذي ج ٥ ص ٥٩٤ ، خصائص امير المؤمنين للنسائي الشافعي ص ٨٢ ح ٧١ ، ترجمة الامام علي من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج ٢ ص ٣٧٦ ح ٨٧٨ ـ ٨٨٠ ، المناقب للخوارزمي الحنفي ص ١٦٥ ح ١٩٧ ، مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي الشافعي ص ٢٢١ ح ٢٦٧ وح ٢٧٢ وح ٢٧٣ ، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص ٥٥ وص ١٨٠ وص ١٨١ وص ٣٧١ ، الصواعق المحرقة لابن حجر ص ١٢٢ ، إسعاف الراغبين بهامش نور الابصار ص ١٤٠ ط ـ العثمانية وص ١٥٤ ط ـ السعيدية بمصر ، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي الحنفي ص ٣٦ ، نور الأبصار للشبلنجي ص ٧٢ ط ـ العثمانية وص ٧١ ط ـ السعيدية ، مصابيح السنة للبغوي ج ٤ ص ١٧٢ ح ٤٧٦٨ ، جامع الاصول لابن الأثير ج ٩ ص ٤٧١ ح ٦٤٨١ ، التاج الجامع للاصول ج ٣ ص ٣٣٥ ، فرائد السمطين ج ١ ص ٥٨ و ٥٩ ح ٢٤ و ٢٥.

(٣) مجمع الزوائد ج ٧ ص ١١٠ ، فضائل الصحابة لاحمد : ج ٢ ص ٥٧١ ح ٩٦٦ ، وص ٥٩٣ ح ١٠٠٨ ، الكتاب المصنف لابن أبي شيبة ج ١٢ ص ٨٥ ح ١٢١٨٦ ، المطالب العالية لابن حجر ج ٤ ص ٥٦ ح ٣٩٤٩.

٢٥٥

منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما (١).

فكيف يصلح أيها الملك للأمامة رجل لم يأتمنه الله تعالى على تبليغ آيات من كتابه أن يؤديها إلى الناس أيام الموسم ، فكيف يجوز أن يكون مؤتمنا على أن يؤدي جميع دين الله عز وجل بعد النبي ويكون واليا عليهم وعزله الله عز وجل وولى عليا ـ عليه السلام ـ؟

وكيف لا يكون علي مظلوما وقد أخذوا ولايته وقد نزل بها جبرئيل من السماء؟

فقال الملك : هذا بين واضح. وكان رجل واقفا على رأس الملك يقال له : (أبو القاسم) فاستأذنه في كلامه ، فأذن له.

فقال : أيها الشيخ كيف يجوز أن تجتمع هذه الأمة على خطأ مع قول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : لا تجتمع أمتي على ضلالة (٢)؟

فقال الشيخ : إن صح هذا الحديث فيجب أن تعرفه الأمة ، ومعناها أن الأمة في اللغة هي الجماعة وأقل الجماعة رجل وامرأة ، وقد قال الله تعالى : (إن إبراهيم كان أمة قانتا) (٣) ، فسمى واحدا أمة ، قال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : رحم الله قسا يحشر يوم القيامة أمة واحدة (٤) ، فما ينكر

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٢ ص ٥١٤ ، فرائد السمطين ج ١ ص ٢٥٧ ح ١٩٨ ، ترجمة امير المؤمنين من تاريخ دمشق ج ١ ص ١٦٧ ح ٢١٥ ، الفصول المائة ج ١ ص ٣٣٥.

(٢) سنن الترمذي ج ٤ ص ٤٠٥ ح ٢١٦٧ ، مسند أحمد ج ٥ ص ١٤٥ ، كتاب السنة لابن أبي عاصم ص ٤١ ح ٨٤.

(٣) سورة النحل : الاية ١٢٠.

(٤) دلائل النبوة للبيهقي ج ٢ ص ١١٣ ، المعجم الكبير للطبراني ج ١٨ ص ٢٦٥ ح ٦٦٣ ، كنز العمال ج ١٢ ص ٧٧ ح ٣٤٠٧٢ و ٣٤٠٧٣ ، أمالي الشيخ المفيد ص ٣٤٢ ح ٧.

٢٥٦

أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أن كان قال هذا الحديث ـ عنى به عليا ـ عليه السلام ـ ومن تبعه.

فقال : عنى به الأعظم ومن هو كان أكثر عددا.

فقال الشيخ (ره) : وجدنا الكثرة في كتاب الله عز وجل مذمومة والقلة مرحومة محمودة في قوله عز وجل : (لا خير في كثير من نجواهم) (١) ، (بل أكثرهم لا يعقلون) (٢) ، (ولكن أكثرهم لا يعلمون) (٣) ، (بل أكثرهم لا يؤمنون) (٤) ، (ولكن أكثرهم لا يشكرون) (٥) ، (ولكن أكثرهم يجهلون) (٦) ، (وأن أكثركم فاسقون) (٧) ، (وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) (٨) ، وقال الله تعالى في مدح القلة : (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم) (٩) ، (وقليل من عبادي الشكور) (١٠) ، (وما آمن معه إلا قليل) (١١). وذكر الله في قول موسى : (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) (١٢).

قال الملك : كيف يجوز الارتداد على العدد الكثير مع قرب العهد

__________________

(١) سورة النساء : الاية ١١٤.

(٢) سورة العنكبوت : الاية ٦٣.

(٣) سورة الدخان : الاية ٣٩.

(٤) سورة البقرة : الاية ١٠٠.

(٥) سورة النمل : الاية ٧٣.

(٦) سورة الأنعام : الاية ١١١.

(٧) سورة المائدة : الاية ٥٩.

(٨) سورة الاعراف : الاية ١٠٢.

(٩) سورة ص : الاية ٢٤.

(١٠) سورة سبأ : الاية ١٣.

(١١) سورة هود : الاية ٤٠.

(١٢) سورة الاعراف : الاية ١٥٩.

٢٥٧

بموت صاحب الشريعة؟

فقال الشيخ (ره) : كيف لا يجوز الارتداد عليهم مع قوله تعالى : (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ، وسيجزي الله الشاكرين) (١) ، وليس ارتدادهم ذلك بأعجب من ارتداد بني إسرائيل حين مضى موسى ـ عليه السلام ـ لميقات ربه واستخلف عليهم أخاه هارون وقال : (اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) (٢) ووعد قومه بأنه يعود إليهم بعد ثلاثين ليلة وأتمها الله بعشر ، فتم ميقات ربه أربعين ليلة ، فلم يصبر قومه إلى أن خرج فيهم السامري وصنع لهم من حليهم عجلا جسدا له خوار ، فقال لهم : هذا إلهكم وإله موسى ، واستضعفوا هارون خليفة موسى وأطاعوا السامري في عبادة العجل ، ولم يحفظوا في هارون وصية موسى به ولا خلافته عليهم ، (ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين) (٣).

هذا مما قص الله تعالى من تمام هذه القصة ، وإذا جاز على بني إسرائيل ـ وهم من أمة أولي العزم ـ أن يرتدوا بغيبة موسى ـ عليه السلام ـ بزيادة عشر ليال حتى خالفوا وصيته وأطاعوا السامري في عبادة العجل ،

__________________

(١) سورة آل عمران : الاية ١٤٤.

(٢) سورة الاعراف : الاية ١٤٢.

(٣) سورة الاعراف : الاية ١٥٠.

٢٥٨

فكيف لا يجوز على هذه الأمة بعد موت النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أن تخالف وصيه وخليفته وخير الخلق بعده وتطيع سامري هذه الأمة؟ وإنما علي ـ عليه السلام ـ بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبى بعد محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لما روي عن جميع أهل النقل.

فقال الملك للشيخ الفاضل : ما سمعت في المعنى كلاما أحسن من هذا ولا أبين.

فقال الشيخ (ره) : أيها الملك زعم القائلون بإمامة سامري هذه الأمة أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مضى ولم يستخلف واستخلفوا رجلا وأقاموه ، فإن كان ما فعله النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على زعمهم من ترك الاستخلاف حقا فالذي أثبته القوم من الاستخلاف باطل ، وإن كان الذي أثبته الأمة من الاستخلاف صوابا فالذي فعله النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ خطأ ، فمن لم يحكم بالخطأ عليه يحكم به على النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وعليهم.

فقال الملك : بل عليهم.

قال الشيخ (ره) : فكيف يجوز أن يخرج النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من الدنيا ولا يوصي بأمر الأمة الى أحد ، ونحن لا نرضى من عقل أكار (١) في قرية إذا مات وخلف مسحاة وفأسا لا يوصي به إلى أحد من بعده (٢)؟

__________________

(١) وهو : الزراع يقال : أكرت الارض أي حفرتها وبه سمي الأكار ويراد هنا احتقاره (النهاية لابن الاثير ج ١ ص ٥٧).

(٢) حتى راعي الغنم لابد أن يوص على غنمه إذا اراد تركها في نظر العقلاء ، فكيف بمن يترك أمة كاملة ولا يوصي الى أحد!!

٢٥٩

فقال الملك : القول كما يقوله المخالفون.

فقال الشيخ : وهنا حكاية أخرى ، وهي أنهم زعموا أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لم يستخلف فخالفوه باستخلافهم من أقاموه وخالف النبي من أقامه بالأمر ، فلما حضرته الوفاة لم يعتد بالنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في ترك الاستخلاف على رغمه واستخلف بعده الثاني ، والثاني لم يعتدوا به ولا بالنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حتى جعل الأمر شورى في قوم معدودين ، وأي بيان أوضح من هذا؟

فقال الملك : هذا بين واضح ، فأي شبهة ولدوها في إمامة هذا الرجل وإقامته؟

فقال الشيخ : إنهم زعموا أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال : قدمه للصلاة ، وهذا خير لا يضر ، وقد اختلفوا فيه ، فمنهم من روى أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال لعائشة : أمرت أباك أن يصلي بالناس ، وأن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لما عرف تقدم أبي بكر خرج متكئا على علي ـ عليه السلام ـ وعلى الفضل بن العباس حتى دخل المسجد ، فنحى أبا بكر وصلى بالناس قاعدا وأبو بكر خلفه والناس كانت خلف أبي بكر (١).

__________________

ولهذا يعترض عبد الله بن عمر على أبيه حين لم يستخلف ، فقد روي عن سالم عن عبد الله ، قال : دخلت على أبي ، فقلت : سمعت الناس يقولون مقالة ، وآليت أن أقولها لك ، زعموا أنك غير مستخلف ، وأنه لو كان لك راعي إبل أو غنم ثم جاءك وتركها رأيت أنه قد ضيع ، فرعاية الناس أشد؟!!.

انظر : شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٢ ص ١٩٠.

(١) راجع مسند أحمد ج ٦ ص ١٢١ ، صحيح البخاري ج ١ ص ١٧٦ ، سنن ابن ماجة ج ١ ص ٣٨٩ ح ١٢٣٢ ، تاريخ الطبري ج ٣ ص ١٩٧ ، طبقات ابن سعد ج ٢ ص ٢١٧ ، تاريخ الاسلام للذهبي ج ٢ ص ٥٥٤.

٢٦٠