مناظرات

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

المناظرة الأولى

مناظرة العباس (١) بن عبد المطلب (ره) مع أبي بكر وعمر

قال البراء بن عازب من حديث له في أمر الخلافة :

فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح ، حتى دخلوا على العباس بن عبد المطلب في الليلة الثانية من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله.

قال : فتكلم أبو بكر فحمد الله جل وعز وأثنى عليه ثم قال : إن الله بعث لكم محمدا نبيا ، وللمؤمنين وليا ، فمن الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم ، حتى اختار له ما عنده ، وترك للناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم مصلحتهم متفقين لا مختلفين ، فاختاروني عليهم واليا ، ولأمورهم راعيا ، فتوليت ذلك وما أخاف بعون الله وهنا ولا حيرة ولا جبنا ، وما توفيقي إلا بالله ، غير أني لا أنفك من طاعن يبلغني فيقول بخلاف قول العامة ، فيتخذكم لجأ فتكونوا حصنه المنيع ، وخطبه البديع ، فإما دخلتم مع فيما اجتمعوا عليه ، أو صرفتموهم عما مالوا إليه ، فقد

__________________

(١) هو : العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، عم رسول الله صلى الله عليه وآله ، يكنى أبا الفضل ، كان شريفا مهيبا عاقلا جميلا ، صبيحا حلو الشمائل ، وله عدة احاديث يرويها عن رسول الله صلى اللله عليه وآله وسلم ، ووردت في حقه روايات تتضمن اصرا النبي ـ صلى الله عليه وآله وسمل ـ على اكرامه وعدم هضمه ، أسلم قبل الهجرة وخرج يوم بدر مع المشركين مكرها واستاسر للمسلمين ثم فدى نفسه ، كانت ولادته قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بثلاث سنين وتوفي سنة اثنين وثلاثين وهو ابن ثمان وثمانين سنة.

راجع ترجمته في : سير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٧٨ ، تاريخ البخاري ج ٧ ص ٢ ، تهذيب الكمال ج ١٤ ص ٢٢٥ ، تنقيح المقال للمامقاني ج ٢ ص ١٢٦.

٦١

جئناك ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا يكون لك ولعقبك من بعدك ، إذ كنت عم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وإن كان الناس أيضا قد رأوا مكانك ومكان صاحبك فعدلوا بهذا الأمر عنكما.

فقال عمر (١) : إي والله ، واخرى ، يا بني هاشم على رسلكم فإن رسول الله منا ومنكم ، ولم نأتكم لحاجة منا إليكم ولكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون ، فيتفاقم الخطب بكم فانظروا لأنفسكم وللعامة.

فتكلم العباس فقال : إن الله ابتعث محمدا ـ صلى عليه وآله وسلم ـ كما وصفت نبيا وللمؤمنين وليا ، فإن كنت برسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ طلبت هذا الأمر فحقنا أخذت ، وإن كنت بالمؤمنين طلبت فنحن منهم ، ما تقدمنا في أمرك ولا تشاورنا ولا تؤامرنا ، ولا نحب لك ذلك إذ كنا من المؤمنين وكنا لك من الكارهين!!

وأما قولك أن تجعل لي في هذا الأمر نصيبا ، فإن كان هذا الأمر لك خاصة ، فأمسك عليك فلسنا محتاجين إليك ، وإن كان حق المؤمنين فليس لك أن تحكم في حقهم ، وإن كان حقنا فإنا لا نرضى منك ببعضه دون بعض ، وأما قولك يا عمر إن رسول الله منا ومنكم ، فإن رسول الله شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها فنحن أولى به منكم؟!

وأما قولك إنا نخاف تفاقم الخي ب بلكم بهذا الذي فعلتموه أوائل

__________________

(١) فاعترض كلامه عمر وخرج الى مذهبه في الخشونة والوعيد ، وإتيان الأمر من أصعب جهاته. فقال : أي والله ، واخرى لم نأتكم حاجة اليكم ولكن كرهنا ... (الخ). هكذا في شرح النهج ج ١ ص ٢٢٠.

٦٢

ذلك والله المستعان (١). فخرجوا من عنده وأنشأ العباس يقول (٢) :

ما كنت أحسب هذا الأمر منحرفاً

عن هاشم ثم منهم عن أبي حسن

أليس أول من صلى لقبلتكم

وأعلم الناس بالاثار والسنن

وأقرب الناس عهدا بالنبي ومن

جبريل عون له بالغسل والكفن

من فيه ما في جميع الناس كلهم

وليس في الناس ما فيه من الحسن

من ذا الذي ردكم عنه فنعرفه

ها أن بيعتكم من أول الفتن (٣)

__________________

(١) الى هنا تجد هذه المناظرة في شرح ابن أبي الحديد ج ١ ص ٢٢٠.

(٢) ذكر هذه الابيات الجويني في فرائد السمطين ج ٢ ص ٨٢ ونسبها الى العباس بن عبد المطلب (رض). وذكرها ايضا اليعقوبي في تاريخه ج ٢ ص ١٢٦ ط دار صادر بيروت ، وج ٢ ص ١٠٣ ط الغري النجف ، ونسبها الى عتبة ابن أبي لهب ، ولم يذكر البيت الخامس. وذكرها الشيخ المفيد (ره) في كتابه الجمل ص ٥٨ ونسبها الى عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب. وذكرها ايضا ابن أبي الحديد في شرح النهج ج ١٣ ص ٢٣٢ ، ونسبها الى أبي سفيان بن حرب بن أمية.

(٣) كتاب سليم بن قيس ص ٧٦ منشورات دار الكتاب الاسلامية وط آخرى ص ٢٧ بتحقيق السيد علاء الدين الموسوي.

كتاب سليم بن قيس كتاب مشهور معتمد عليه عند المحدثين والمؤرخين ، قال عنه ابن النديم في الفهرس ص ٣٠٧ : أول كتاب ظهر للشعية كتاب سليم ، وذكر ذلك أيضا في محاسن الرسائل في معرفة الأوائل ، وروى عن سليم غير واحد من أعلام العامة منهم : الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ، والجمويني في فرائد السمطين ، والقندوزي الحنفي في ينابيع المودة ، والسيد أبو شهاب الهمداني في مودة القربى وغيرهم.

٦٣

المناظرة الثانية

مناظرة العباس بن عبد المطلب مع عمر

عن طارق بن شهاب قال : لما قدم عمر الشام لقيه أساقفتها ورؤساؤها وقد تقدمه العباس بن عبد المطلب على فرس ، وكان العباس جميلا بهيا فجعلوا يقولون : هذا أمير المؤمنين ، ويقولون له : السلام عليك يا أمير المؤمنين فيقول : لست بأمير المؤمنين وأمير المؤمنين ورائي وأنا والله أولى بالأمر منه ، فسمعه عمر فقال : ما هذا يا أبا الفضل؟

قال : هو الذي سمعت.

فقال : لكن أنا وإياك قد خلفنا بالمدينة من هو أولى بها مني ومنك.

قال العباس : ومن هو؟

فقال : على بن أبي طالب.

قال : فما الذي منعك وصاحبك أن تقدماه؟

فقال : خشية أن يتوارثها عقبكم إلى يوم القيامة ، وكرهنا أن تجتمع لكم النبوة والخلافة.

قال له العباس : من حسدنا فاءنما يحسد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ (١).

__________________

(١) المسترشد في إمامة علي بن أبي طالب لمحمد بن جرير الطبري ص ١٦٨ ، بحار الأنوار ج ٨ ص ٢٠٩ ط حجر ، وفي هامش الأيضاح لابن شاذان ص ٩١.

٦٤

المناظرة الثالثة

مناظرة ابن عباس (١) مع عمر بن الخطاب

قال ابن عباس :

دخلت على عمر في أول خلافته ، وقد القي له صاع من تمر على خصفة (٢) ، فدعاني إلى الأكل ، فأكلت تمرة واحدة ، وأقبل يأكل حتى أتى

__________________

(١) هو : عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، أبو العباس الهاشمي المكي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أمه لبابة بنت الحارث أخت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وولد قبل الهجرة في الشعب بثلاث سنين ، هاجر الى المدينة المنورة مع أبويه عام الفتح ، وصحب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ثلاثين شهرا ، وكان عمره حين وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، كما روى عنه الكثير من الصحابة والتابعين ، كان محبا لعلي ـ عليه السلام ـ وتلميذه ، وحاله في الاخلاص والموالات والنصرة لأمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ والذب عنه والخصام في رضاه والموازرة من لا شبهة فيه ، وهو حبر هذه الأمة وعالمها ، دعى له النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بالفقه والحكمة والتأويل ، وقال عنه معروف : كنت إذا رأيت عبد الله بن عباس قلت : أجمل الناس ، فإذا تحدث قلت أعلم الناس ، فإذا تكلم قلت : افصح الناس ، وقد استفاض في الأخبار من مجادلته مع عمر بن الخطاب ، ومعاوية وغيرهم في الخلافة ، وكف بصره في آخر عمره ، ومات بالطائف سنة ثمان أو تسع وستين ، وقال في مرضه الذي توفي فيه : اللهم اني أحيا على ما حيي به علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ وأموت على ما مات علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ثم مات ، وصلى عليه محمد بن الحنفية.

راجع ترجمته في : تنقيح المقال للمامقاني ج ٢ ص ١٩١ ، سير أعلام النبلاء ج ٣ ص ٣٣١ ، الطبقات لابن سعد ج ٢ ص ٣٦٥ ، حلية الاولياء ج ١ ص ٣١٤.

(٢) الخصفة : الجلة تعمل من الخوص للتمر.

٦٥

عليه ، ثم شرب من جر (١) كان عنده ، واستلقى على مرفقة له ، وطفق يحمد الله ، يكرر ذلك ، ثم قال : من أين جئت يا عبد الله؟

قلت : من المسجد.

قال : كيف خلفت ابن عمك؟ فظننته يعني عبد الله بن جعفر.

قلت : خلفته يلعب مع أترابه.

قال : لم أعن ذلك ، إنما عنيت عظيمكم أهل البيت.

قلت : خلفته يمتح بالغرب (٢) على نخيلات من فلان ، وهو يقرأ القرآن.

قال : عبد الله ، عليك دماء البدن إن كتمتنيها؟ هل بقي في نفسه شئ من أمر الخلافة؟

قلت : نعم.

قال : أيزعم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ نص عليه؟

قلت : نعم وأزيدك ، سألت أبي عما يدعيه ، فقال : صدق.

فقال عمر : لقد كان من رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في أمره ذرو (٣) من قول لا يثبت حجة ، ولا يقطع عذرا ، ولقد كان يربع في أمره وقتا ما ، ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه (٤) فمنعت من ذلك (٥) إشفاقا

__________________

(١) الجر : آنية من خزف ، الواحدة جرة.

(٢) الغرب : الدلو.

(٣) ذرو : طرف (٤) اشارة الى قول النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : آتوني بدواة وكتف لا كتب لكم كتابا لن تضلو بعده.

(٥) اعتراف الخليفة عمر انما صد عن كتابة الكتاب حتى لا يجعل الامر لعلي ـ عليه السلام ـ.

٦٦

وحيطة على الأسلام! لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا؟

ولو وليها لا نتقضت عليه العرب من أقطارها ، فعلم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أني علمت ما في نفسه ، فأمسك ، وأبى الله إلا إمضاء ما حتم (١).

__________________

راجع : شرح نهج البلاغة ج ١٢ ص ٧٨ ـ ٧٩. ومما يفيد ذكره هنا بمناسبة منع عمر لكتابة الكتاب ما ذكره المرحوم الشهيد الصدر (قدس سره) يقول الدكتور التيجاني في كتابه ثم اهتديت ص ٩٨ ـ ٩٩ : وإني لا زلت أذكر إجابة السيد محمد باقر الصدر ، عندما سألته : كيف فهم سيدنا عمر من بين الصحابة ما يريد الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كتابته وهو استخلاف علي ـ عليه السلام ـ على حد زعمكم ، فهذا ذكاء منه؟! قال السيد الصدر : لم يكن عمر وحده فهم مقصد الرسول ، ولكن أكثر الحاضرين فهموا ما فهمه عمر ، لأنه سبق لرسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أن قال مثل هذا إذ قال لهم : إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا ، وفي مرضه قال لهم : هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا ، ففهم الحاضرون ومن بينهم عمر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يريد أن يؤكد ما ذكره في غدير خم كتابيا ، وهو التمسك بكتاب الله وعترته ، وسيد العترة هو علي ـ عليه السلام ـ ، فكأنه ـ صلى الله عليه وآله ـ أراد أن يقول : عليكم بالقرآن وعلي ، وقد قال مثل ذلك في مناسبات أخرى كما ذكر المحدثون.

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١٢ ص ٢٠ ـ ٢١ ، كشف اليقين في فضائل امير المؤمنين للحلي ص ٤٦٢ ح ٥٦٢ ، كشف الغمة ج ٢ ص ٤٦ ، بحار الأنوار ج ٣٨ ص ١٥٦.

٦٧

المناظرة الرابعة

مناظرة ابن عباس مع عمر

يقول ابن عباس :

إني لأماشي عمر في سكة من سكك المدينة ، يده في يدي.

فقال : يابن عباس ، ما أظن صاحبك إلا مظلوما ، فقلت في نفسي : والله لا يسبقني بها.

فقلت : يا أمير المؤمنين ، فاردد إليه ظلامته ، فانتزع يده من يدي ، ثم مر يهمهم ساعة ثم وقف ، فلحقته.

فقال لي : يابن عباس ، ما أظن القوم منعهم من صاحبك إلا أنهم استصغروه.

فقلت في نفسي : هذه شر من الأولى ، فقلت : والله ما استصغره الله حين أمره أن يأخذ سورة براءة من أبي بكر (١).

__________________

(١) روى احمد بن حنبل في مسنده ج ١ ص ٣ : عن أبي بكر ان النبي صلى الله عليه وآله ـ بعثه ببراءة لأهل مكة (لا يحج بعد العام مشترك ، ولايي وف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة الا نفس مسلمة من كان بينه وبين رسول الله مدة فأجله الى مدته والله برئ من المشركين ورسوله).

قال : فسار بها ثلاثا ثم قال ـ صلى الله عليه وآله ـ : لعلي ـ عليه السلام ـ الحقه فرد علي ابا بكر وبلغها أنت ، قال : ففعل قال : فلما قد م على النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أبو بكر بك وقال : يا رسول الله حدث في شئ.

٦٨

قال : فأعرض عني وأسرع ، فرجعت عنه (١).

__________________

قال ـ صلى الله عليه وآله ـ : ما حدث فيك الاخير ولكن أمرت ان لا يبلغه إلا أنا أو رجل مني. وللحديث مصادر كثيرة منها :

صحيح الترمذي ج ٥ ص ٢٥٧ ح ٣٠٩١ ، المستدرك للحاكم ج ٢ ص ٣٣١ ، تفسير الطبري ج ١٠ ص ٤٥ ، الدر المنثور للسيوطي ج ٣ ص ٢٠٩ وص ٢١٠ ، الكشاف للزمخشري ج ٢ ص ٢٤٣ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٦ ص ٤٥ ، فرائد السمطين ج ١ ص ٦١ ح ٢٨ و ص ٣٢٨ ح ٢٥٥ ، الغدير للاميني ج ٣ ص ٢٤٥ وج ٦ ص ٣٣٨.

(١) السقيفة للجوهري ص ٧٠ ، شرح النهج لابن أبي الحديد ج ٤ ص ٤٥ ، كشف اليقين للحلي ص ٤٦١ ح ٥٦١ ، كشف الغمة ج ٢ ص ٤٥.

٦٩

المناظرة الخامسة

مناظرة ابن عباس مع عمر

قال ابن عباس :

كنت أسير مع عمر بن الخطاب في ليلة وعمر على بغل وأنا على فرس فقرأ آية فيها ذكر علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ.

فقال : أما والله يا بني عبد المطلب؟ لقد كان علي فيكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر. فقلت في نفسي : لا أقالني الله إن أقلته.

فقلت : أنت تقول ذلك يا أمير المؤمنين؟ وأنت وصاحبك وثبتما وأفرغتما الأمر منا دون الناس.

فقال : إليكم يا بني عبد المطلب؟ أما إنكم أصحاب عمر بن الخطاب.

فتأخرت وتقدم هنيهة.

فقال : سر لا سرت ، وقال : أعد على كلامك.

فقلت : إنما ذكرت شيئا فرددت عليه جوابه ولو سكت سكتنا.

فقال : إنا والله ما فعلنا الذي فعلنا عن عداوة ولكن استصغرناه ، وخشينا أن لا يجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها.

قال : فأردت أن أقول : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يبعثه فينطح كبشها فلم يستصغره ، أفتستصغره أنت وصاحبك؟

فقال : لا جرم ، فكيف ترى؟ والله ما نقطع أمرا دونه ، ولا نعمل شيئا حتى نستأذنه (١).

__________________

(١) محاضرات الراغب الاصفهاني ح ٧ ص ٢١٣ ، الغدير للاميني ج ١ ص ٣٨٩.

٧٠

المناظرة السادسة

مناظرة ابن عباس مع عمر بن الخطاب

قال عبد الله بن عمر :

كنت عند أبي يوما ، وعنده نفر من الناس ، فجرى ذكر الشعر ، فقال : من أشعر العرب؟

فقالوا : فلان وفلان ، فطلع عبد الله بن عباس ، فسلم وجلس ، فقال عمر : قد جاءكم الخبير ، من أشعر الناس يا عبد الله؟

قال : زهير بن أبى سلمى.

قال : فأنشدني مما تستجيده له.

فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه مدح قوما من غطفان ، يقال لهم بنو سنان ، فقال :

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم

قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا

قوم أبوهم سنان حين تنسبهم

طابوا وطاب من الاولاد ما ولدوا

إنس إذا أمنوا ، جن إذا فزعوا

مرزؤون بها ليل إذ جهدوا

محسدون على ما كان من نعم

لا ينزع الله منهم ماله حسدوا

فقال عمر : والله لقد أحسن ، وما أرى هذا المدح يصلح إلا لهذا البيت من هاشم ، لقرابتهم من رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ.

فقال ابن عباس : وفقك الله يا أمير المؤمنين ، فلم تزل موفقا.

فقال : يابن عباس ، أتدري ما منع الناس منكم؟

٧١

قال : لا يا أمير المؤمنين.

قال : لكني أدري.

قال : ما هو يا أمير المؤمنين؟

قال : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة ، فيجخفوا جخفا (١) ، فنظرت قريش لنفسها فاختارت ووفقت فأصابت.

فقال ابن عباس : أيميط أمير المؤمنين عني غضبه فيسمع؟

قال : قل ما تشاء.

قال : أما قول أمير المؤمنين : إن قريشا كرهت ، فإن الله تعالى قال لقوم : (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) (٢).

واما قولك : (إنا كنا نجخف) ، فلو جخفنا بالخلافة جخفنا بالقرابة ، ولكنا قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ الذي قال الله تعالى : (وإنك لعلى خلق عظيم) (٣) ، وقال له : (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) (٤).

وأما قولك : «فإن قريشا اختارت» ، فإن الله تعالى يقول : (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) (٥) وقد علمت يا أمير المؤمنين أن الله اختار من خلقه لذلك من اختار (٦) ، فلو نظرت قريش من حيث نظر

__________________

(١) جخف : تكبر.

(٢) سورة محمد : الاية ٩.

(٣) سورة ن : الاية ٢١٥.

(٤) سورة الشعراء : الاية ٢١٥.

(٥) سورة القصص : الاية ٦٨.

(٦) هذه الكلمة من ابن عباس تدل على أنه من المتسالم عليه عندهم أن الخلافة قد ثبتت بالنص

٧٢

الله لها لوفقت وأصابت قريش.

فقال عمر : على رسلك يابن عباس ، أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشا في أمر قريش لا يزول ، وحقدا عليها لا يحول. فقال ابن عباس : مهلا يا أمير المؤمنين؟ لا تنسب هاشما إلى الغش ، فإن قلوبهم من قلب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ الذي طهره الله وزكاه ، وهم أهل البيت الذين قال الله تعالى لهم : (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (١).

وأما قولك : (حقدا) فكيف لا يحقد من غصب شيئه ، ويراه في يد غيره.

فقال عمر : أما أنت يا بن عباس ، فقد بلغني عنك كلام أكره أن

__________________

على الامام علي ـ عليه السلام ـ وأنها بأمر الله واختياره ، ولو لم يكن كذلك لاعترض عليه الخليفة في ذلك ، والحق يقال أن انعقاد الخلافة بالشورى أو الاجماع أو البيعة ما هو الا اجتهاد في مقابل النص وقد قال تعالى : (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله امرا أن يكون لهم الخيرة من امرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) سورة الاحزاب : الاية ٣٦.

(١) سورة الاحزاب : الاية ٣٣.

فقد روى الجمهور أن هذه الاية الشريفة نزلت في خمسة وهم : النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم السلام ـ.

راجع : صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل أهل بيت النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ج ٤ ص ١٨٨٣ ح ٦١ ، صحيح الترمذي ج ٥ ص ٣٢٧ ح ٣٢٠٥ وح ٣٢٠٦ ، المستدرك للحاكم ج ٣ ص ١٣٣ وص ١٤٦ وج ٢ ص ٤١٦ ، شواهد التنزيل للحسكاني ج ٢ ص ١٨ ـ ١٤١ ح ٦٣٧ وح ٤٧٤ ، مسند أحمد بن حنبل ج ٣ ص ٢٥٩ ج ٤ ص ١٠٧ وج ٦ ص ٢٩٢ ، أسباب النزول للواحدي ص ٢٣٩ ، المناقب للخوارزمي ص ٦٠ ـ ٦١ ح ٢٨ ـ ٢٩ ، تفسير القرطبي ج ١٤ ص ١٨٢ ، الكشاف للزمخشري ج ٣ ص ٥٣٧ ، الدر المنثور للسيوطي ج ٦ ص ٦٠٣ ، فرائد السمطين ج ٢ ص ٩ ح ٣٥٦ ، الصواعق المحرقة ص ١٤٣ ، فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج ١ ص ٢٧٠ ـ ٢٨٩ ، وغيرها الكثير من المصادر.

٧٣

أخبرك به ، فتزول منزلتك عندي.

قال : وما هو يا أمير المؤمنين؟ أخبرني به ، فإن يك باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه ، وإن يك حقا فإن منزلتي لا تزول به.

قال : بلغني أنك لا تزال تقول : أخذ هذا الأمر منك حسدا وظلما.

قال : أما قولك يا أمير المؤمنين : (حسدا) ، فقد حسد إبليس آدم ، فأخرجه من الجنة ، فنحن بنو آدم المحسود.

وأما قولك : (ظلما) فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو!

ثم قال : يأمير المؤمنين ، ألم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، واحتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ! فنحن أحق برسول الله من سائر قريش.

فقال له عمر : قم الان فارجع إلى منزلك ، فقام ، فلما ولى هتف به عمر : أيها المنصرف ، إني على ما كان منك لراع حقك!

فالتفت ابن عباس فقال : إن لي عليك يا أمير المؤمنين وعلى كل المسلمين حقا برسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، فمن حفظه فحق نفسه حفظ ، ومن أضاعه فحق نفسه أضاع ، ثم مضى.

فقال عمر لجلسائه : واها لا بن عباس ، ما رأيته لاحى أحدا قط إلا خصمه! (١).

__________________

(١) شرح النهج لابن ابي الحديد ج ١٢ ص ٥٢ ـ ٥٥ ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٢٣ ، الكامل لابن الاثير ج ٣ ص ٦٢ (في حوادث سنة ٢٣) ، الايضاح لابن شاذان ص ٨٧.

٧٤

المناظرة السابعة

مناظرة ابن عباس مع عمر

عن ابن عباس قال :

مرّ عمر بعلى ـ عليه السلام ـ ، وأنا معه بفناء داره فسلم عليه.

فقال له على ـ عليه السلام ـ : أين تريد؟

قال : البقيع.

قال : أفلا تصل صاحبك ويقوم معك.

قال : بلى.

فقال لي علي ـ عليه السلام ـ : قم معه ، فقمت فمشيت إلى جانبه ، فشبك أصابعه في أصابعي ، ومشينا قليلا ، حتى إذا خلفنا البقيع.

قال لي : يابن عباس ، أما والله إن صاحبك هذا لأولى الناس بالأمر بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ إلا أنا خفناه على اثنين.

قال ابن عباس : فجاء بكلام لم أجد بدا من مسألته عنه.

فقلت : ما هما يا أمير المؤمنين؟

قال : خفناه على حداثة سنه ، وحبه بني عبد المطلب (١).

__________________

(١) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ٦ ص ٥٠.

٧٥

المناظرة الثامنة

مناظرة ابن عباس مع عمر

قال ابن عباس :

كنت عند عمر ، فتنفس نفسا ظننت أن أضلاعه قد انفرجت.

فقلت : ما أخرج هذا النفس منك يا أمير المؤمنين إلا هم شديد!

قال : إي والله يا بن عباس! إني فكرت فلم أدر فيمن أجعل هذا الامر بعدي ، ثم قال : لعلك ترى صاحبك لها أهلا!

قلت : وما يمنعه من ذلك مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه!

قال : صدقت ، ولكنه امرؤ فيه دعابة.

قلت : فأين أنت عن طلحة!

قال : ذو البأو (١) وبإصبعه المقطوعة!

قلت : فعبد الرحمن؟

قال : رجل ضعيف لو صار الأمر إليه لوضع خاتمه في يد امرأته.

قلت : فالزبير؟

قال : شكس لقس (٢) يلاطم في النقيع في صاع من بر!

قلت : فسعد بن أبي وقاص؟

__________________

(١) البأو : العجب والتفاخر.

(٢) الشكس اللقس : سي الخلق.

٧٦

قال : صاحب سلاح ومقنب (١).

قلت : فعثمان؟

قال : أوه! ثلاثا ، والله لئن وليها ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس ، ثم لتنهض العرب إليه.

ثم قال : يا بن عباس ، إنه لا يصلح لهذا الاءمر إلا خصف العقدة ، قليل الغرة ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، ثم يكون شديدا من غير عنف ، لينا من غير ضعف ، سخيا من غير سرف ، ممسكا من غير وكف (٢).

قال : ثم أقبل علي بعد أن سكت هنيئة ، وقال : أجرؤهم والله إن وليها أن يحملهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم لصاحبك! أما إن ولي أمرهم حملهم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم (٣).

__________________

(١) المقنب : جماعة الخيل.

(٢) الوكف : العيب.

(٣) شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٢ ص ٥١ ـ ٥٢.

٧٧

المناظرة التاسعة

مناظرة ابن عباس مع عثمان

ومن كلام دار بينهما ، قال له عثمان : إني أنشدك يا بن عباس الأسلام والرحم ، فقد والله غلبت وابتليت بكم ، والله لوددت أن هذا الأمر كان صار إليكم دوني فحملتموه عني ، وكنت أحد أعوانكم عليه ، إذا والله لوجدتموني لكم خيرا مما وجدتكم لي ، ولقد علمت أن الأمر لكم ، ولكن قومكم دفعوكم عنه واختزلوه دونكم ، فو الله ما أدري أدفعوه عنكم أم دفعوكم عنه؟!

قال ابن عباس : مهلا يا أمير المؤمنين ، فإنا ننشدك الله والأسلام والرحم ، مثل ما نشدتنا ، أن تطمع فينا وفيك عدوا ، وتشمت بنا وبك حسودا! إن أمرك إليك ما كان قولا ، فإذا صار فعلا فليس إليك ولا في يديك ، وإنا والله لنخالفن إن خولفنا ، ولننازعن إن نوزعنا ، وما تمنيك أن يكون الأمر صار إلينا دونك إلا أن يقول قائل منا ما يقوله الناس ويعيب كما عابوا!

فأما صرف قومنا عنا الأمر فعن حسد قد والله عرفته ، وبغي قد والله علمته ، فالله بيننا وبين قومنا!

وأما قولك : إنك لا تدري أدفعوه عنا أم دفعونا عنه؟ فلعمري إنك لتعرف أنه لو صار إلينا هذا الأمر ما زدنا به فضلا إلى فضلنا ولا قدرا إلى قدرنا وإنا لأهل الفضل وأهل القدر ، وما فضل فاضل إلا بفضلنا ، ولا سبق سابق إلا بسبقنا ، ولولا هدينا ما اهتدى أحد ولا أبصروا من عمى ، ولا قصدوا من جور ... الخ (١).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج ٩ ص ٩ ، الموفقيات ص ٦٠٦.

٧٨

المناظرة العاشرة

مناظرة عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ مع الحرورية (١)

قال عبد الله بن عباس : لما خرجت الحرورية اعتزلوا في دارهم وكانوا ستة آلاف.

فقلت لعلي ـ عليه السلام ـ : يا أمير المؤمنين أبرد بالظهر ، لعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم.

قال : إني أخاف عليك.

قلت : كلا.

قال : فقمت وخرجت ودخلت عليهم في نصف النهار وهم قائلون ، فسلمت عليهم.

فقالوا : مرحبا بك يابن عباس ، فما جاء بك؟

__________________

(١) الحرورية : جماعة من الخوارج النواصب ، والنسبة لبلد قرب الكوفة على ميلين منها تسمى حروراء ، نزل بها هؤلاء بعد خروجهم على أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ حينما قبل بالتحكيم بينه وبين معاوية ، قيل لهم حينئذاك : أنتم الحرورية لاجتماعكم بحروراء ، وقال شاعرهم :

إذا الحرورية الحرى ركبوا

لا يستطيع لهم أمثالك الطلبا

وقالوا يومها : لا حكم إلا لله ، فقال علي ـ عليه السلام ـ : كلمة حق أريد بها باطل ...).

وسموا ايضا بالخوارج والمحكمة ، والسبب الذي له سموا خوارج : خروجهم على أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ، والذي له سموا محكمة : إنكارهم الحكمين ، وقولهم لا حكم الا لله.

راجع : معجم الفرق الاسلامية لشريف الأمين ص ٩٤ ، مقالات الاسلامين للأشعري ص ١٢٧ ـ ١٢٨.

٧٩

قلت لهم : أتيتكم من عند أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وصهره ، وعليهم نزل القرآن ، وهم أعلم بتأويله منكم ، وليس فيكم منهم أحد ، لأبلغكم ما يقولون ، وأخبرهم بما تقولون.

قلت : أخبروني ماذا نقمتم على أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وابن عمه؟

قالوا : ثلاث.

قلت : ما هن؟

قالوا : أما إحداهن ، فإنه حكم الرجال في أمر الله ، وقال الله تعالى : إن الحكم إلا لله (١) ، ما شأن الرجال والحكم؟!

فقلت : هذه واحدة.

قالوا : وأما الثانية ، فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم ، فإن كانوا كفارا سلبهم ، وإن كانوا مؤمنين ما أحل قتالهم (٢).

قلت : هذه اثنتان ، فما الثالثة؟

قالوا : إنه محى نفسه عن أمير المؤمنين ، فهو أمير الكافرين.

قلت : هل عندكم شئ غير هذا؟

قالوا : حسبنا هذا.

قلت : أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله ومن سنة نبيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ما يرد قولكم ، أترضون؟

قالوا : نعم.

__________________

(١) سورة الانعام : الاية ٥٧.

(٢) المقصود من كانوا في حرب الجمل ، فان أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ نهى عن قتل جريحهم وسبيهم وسلبهم واتباع مدبرهم.

٨٠