مناظرات

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

إليكم نبيكم يكون بعده خليفة؟

فقال : إنك لحدث السن وهذا شئ ما سألني عنه أحد ، نعم عهد إلينا نبينا يكون بعده اثنا عشر خليفة عدد نقباء بني إسرائيل ، والروايات في هذا المعنى كثيرة من طرق الجمهور لو أردنا الاستقصاء لطال علينا الأمر واتسع ، وقد دلت هذه الأحاديث على الحث والأمر بالاقتداء بأهل البيت ، ووجوب اتباعهم ، والتمسك بطريقهم ، فإنهم اثنا عشر خليفة من ذرية الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ولا قائل بالحصر في الاثني عشر سوى الأمامية القائلين بإمامة هؤلاء المشهورين بالفضل والعلم والزهد عند أهل الاسلام فوجب الاقتداء بهم والانحياز إلى فريقهم ، وظهر أن مذهب القائل بإمامتهم واجب الاتباع.

إنّ أحسن الاعتقادات ، وخير المقالات ما اشتمل عليه مذهب الأمامية أصولا وفروعا ، يعرف ذلك من اطلع على أصول المذاهب ، ونظر في فروع الاعتقادات ، فإنه بعد النظر الخالي عن مخالطة الشبه والتقليد يتحقق أن مذهب الامامية من بينهم أولى بالاتباع ، وأحق بالاقتداء وقد صدق فيهم قوله تعالى : (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) (١) ، فإن في أصولهم من تنزيه الله تعالى وتعظيمه وتنزيه الأنبياء والأئمة وتعظيمهم ما لا يكون في أصول غيرهم فإنهم نزهوا الله عن التشبيه ، والرؤية ، والاتحاد ، والحلول ، والمعاني القديمة ، وخلق أفعال العباد ، والرضى بالكفر والفسوق ، ونسبة القبائح والسرقة إليه وكون أفعاله لا لغرض وأنه كلف ما لا يطاق.

__________________

(١) سورة الزمر : الاية ١٨.

٤٠١

واعتقدوا في الأنبياء أنهم معصومون عن الخطأ والمعاصي ، الصغائر والكبائر ، والنسيان والسهو ، من أول أعمارهم إلى آخرها ، وأن أئمتهم أيضا معصومون عن الخطايا والمعاصي ، وأنهم أعلم الخلق بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأفضلهم ، وأكرمهم نفسا ، وأشرفهم نسبا (١).

وفي مذاهب السنة ما يخالف ذلك وينافيه فجوزوا التشبيه (٢) والجهة (٣) والاتحاد (٤) والحلول (٥) والتجسيم (٦) والرؤية (٨) ، والمعاني الزائدة القديمة ، وقالوا : إنه لا فاعل في الوجود إلا الله ، وإن جميع المعاصي والقبائح والشرور كلها بخلق الله وإرادته (٨) وإن العباد

__________________

(١) راجع : كتب العقائد للأمامية ، على سبيل المثال :

نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي ، تجريد الاعتقاد للشيخ الطوسي ، تنزيه الانبياء للشريف المرتضى ، الشافي في الامامة للشريف المرتضى وغيرها.

(٢) واصحاب هذا الرأي يسمون بالمشبهه راجع : معجم الفرق الاسلامية : ص ٢٢٥ ، الملل والنحل للشهرستاني ج ١ ص ٩٥.

(٣) الملل والنحل للشهرستاني : ج ١ ص ٩٩.

(٤) راجع : شرح التجريد للعلامة الحلي ص ٣١٨ (في نفي الاتحاد عنه تعالى) وقال ـ اعلى الله مقامه ـ في نهج الحق وكشف الصدق ص ٥٧ : الضرورة قاضية ببطلان الاتحاد ، فإنه لا يعقل صيرورة الشيئين شيئا واحدا ، وخالف في ذلك جماعة من الصوفية من الجمهور ، فحكموا بأنه تعالى يتحد مع أبدان العارفين ، حتى أن بعضهم قال : إنه تعالى نفس الوجود ، وكل موجود هو الله تعالى ، وهذا عين الكفر والالحاد.

(٥) مقالات الاسلاميين للاشعري : ص ٢١٤ وجاء فيه : واجاز عليه بعضهم الحلول في الاجسام ، واصحاب الحلول إذا رأوا انسانا يستحسنونه ، لم يدروا لعل الههم فيه!! ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٣ ص ٢٣٢ ، معجم الفرق الاسلامية ص ١٠٢.

(٦) مقالات الاسلاميين : ص ٢٠٧ ـ ٢٠٩ ، معجم الفرق الاسلامية : ص ٢١٣ ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج ٣ ص ٢٢٩.

(٧) مقالات الاسلاميين : ص ٢١٣ ـ ٢١٧ ، شرح نهج البلاغة لابن ابي البلاغة ج ٣ ص ٢٣ ٦.

(٨) مقالات الاسلاميين : ص ٢٤٥.

٤٠٢

مجبورون (١) وأنه راض بالكفر والمعاصي وان أفعاله لا لغرض ، وان القبائح بخلقه وانه كلف عباده فوق ما يطيقون ، وان الأنبياء يجوز عليهم الكفر والمعاصي والخطأ والنسيان (٢) ورووا في نبيهم روايات تقتضي الدناءة والخسة ورووا أنه نسي فصلى الظهر ركعتين ولم يذكر حتى ذكره بعض أصحابه (٣) ، وأنه دخل المحراب للصلاة بالناس جنبا ، وأنه يستمع إلى اللعب بالدفوف وغناء البغات (٤) ، وأنه بال قائما (٥) ... ، وغير ذلك من الأشياء القبيحة التي لا تليق بأدنى الناس.

وقالوا : إن الخلفاء الذين تجب طاعتهم جائزوا الخطأ والمعاصي والكبائر ، وأنهم غير عالمين بما تحتاج إليه الأمة ، بل لهم الرجوع إلى الأمة والاحتياج في الفتاوى والأحكام إليهم ، وأنهم لا يحتاج إلى أن يكونوا أفضل الخلق ، ولا أشرفهم نسبا ، ولا أعلاهم محلا في الأسلام.

وأمّا الفروع فإن الأمامية لم يأخذوا بالقياس ، ولا بالرأي ، ولا بالاستحسان ، ولا اضطربوا في الفتاوى ، ولا اختلفوا في المسائل ، ولا كفر بعضهم بعضا ، ولا حرم بعضهم الاقتداء بالاخر ، لأنهم أخذوا فتاواهم وأحكامهم عن أئمتهم الذين هم ذرية الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ الذين يعتقدون عصمتهم ، وأنهم أخذوا علومهم واحدا عن واحد ، وكابرا عن كابر ، وآخر عن أول إلى جدهم ، فكانت فروعهم أوثق الفروع ،

__________________

(١) وهم الجبريه راجع : الملل والنحل للشهرستاني : ج ١ ص ٧٩ ، معجم الفرق الاسلامية : ص ٨١.

(٢) انظر : مقالات الاسلاميين : ص ١٥١ وص ٢٢٦ ـ ٢٢٧ ، معجم الفرق الاسلامية ص ٩٩ ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج ٧ ص ١١ و ١٢ و ١٩.

(٣) انظر : مسند أحمد : ج ٢ ص ٣٨٦ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٧ ص ١٩.

(٤) انظر : الموضوعات لابن الجوزي : ج ٣ ص ١١٥.

(٥) انظر : سنن النسائي : ج ١ ص ٢٥.

٤٠٣

وشرعهم أحسن الشرائع ، ودينهم أتم الأديان فإن غيرهم أخذوا بالقياس والاستحسان والرأي ، وأسندوا رواياتهم عن الفسقة والمتعمدين للكذب ، وافترقوا أربع فرق ، كل فرقة تطعن على الأخرى ، وتتبرأ منها (١) ، ويكفرون بعضهم بعضا ، ويحللون ويحرمون عمن هو جائز الخطأ والمعاصي والكبائر.

وانقطعت عنهم مواد الأخذ عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لأنهم لم يرضوا بالاتباع لأهل بيته ووضعوا الشرع على مقتضى رأيهم وزادوا فيه ونقصوا وحرفوا وغيروا ، فأحلوا ما حرم الله ، وحرموا ما أحل الله لأنهم لم يأخذوا الحلال والحرام عن من لا يجوز عندهم كذبه وخطاؤه كالأمامية فكان حينئذ حلالهم وحرامهم وفرائضهم وأحكام شرعهم معرضة للخطأ والكذب لأنها ليست عن الله تعالى ، ولا عن رسوله ، يعرف ذلك من اطلع على أصولهم وفروعهم ، فإنا نجد في فتاويهم الأشياء المنكرة التي تخالف المعقول والمنقول ومن له أدنى إنصاف واطلاع بأحوال المذاهب يعرف ذلك ويتحققه ، ومصنفات الفريقين تدل على صحة ذلك ، وإذا نظر العاقل المنصف في المقالتين ، ولمح المذهبين عرف موقع مذهب الإمامية في الأسلام وأنهم أولى بالاتباع ، وأحق بالاقتداء لأنهم الفرقة الناجية بنص الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ.

وقد روى أبو بكر محمد بن موسى الشيرازي في كتابه المستخرج من التفاسير الاثني عشر في إتمام الحديث المتقدم بعدما قال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : ستفترق أمتي بعدي على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة

__________________

(١) راجع مقالات الاسلاميين للاشعري : ص ٣ ـ ٤.

٤٠٤

ناجية ، والباقون في النار (١).

قال علي ـ عليه السلام ـ : يا رسول الله من الفرقة الناجية؟ قال : المتمسكون بما أنت عليه وأصحابك.

وفي الأحاديث المذكورة آنفا ما يدل على أن المتبعين لأهل البيت ـ عليهم السلام ـ ، والمقتدين بهم هم الفرقة الناجية بحث الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على الاقتداء بهم ، والتمسك بما هم عليه ، وإيجاب ذلك على جميع الخلق بروايات الكل فعلمنا علما ضروريا أن أهل البيت هم الفرقة الناجية ، فكل من اقتدى بهم ، وسلك آثارهم فقد نجا ، ومن تخلف عنهم وزاغ عن طريقهم فقد هوى ، ويدل عليه الحديث المشهور المتفق على نقله : مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، وهذا حديث نقله الفريقان وصححه القبيلان لا يمكن لطاعن أن يطعن فيه وأمثاله في الأحاديث كثيرة.

فقال الملا الهروي : ما ذكرته في وجوه هذه الدلالات على أن مذهب الأمامية واجب الاتباع ، وأنهم هم الفرقة الناجية يكثر على السامع بروايات الاحاد ، وأيضا فإن أهل السنة يقولون في مذهبهم من المدائح مثل ما ذكرت وأكثر ما يذمون مذاهب غيرهم بأقبح الذمائم وقد قال تعالى : (كل حزب بما لديهم فرحون) (٢).

وقال الشاعر :

كل بما عنده مستبشر فرح

يرى السعادة فيما قال واعتقدا

وفي المثل : الكل في ريقه في فيه حلق ، ولكن الذي ينبغي لذوي

__________________

(١) انظر : إحقاق الحق ج ٧ ص ١٨٥ ، وقد تقدم المزيد من تخريجاته.

(٢) سورة الروم : الاية ٣٢.

٤٠٥

العقول والعلم والإنصاف في المجادلة قلة الانشغال في المدح والذم فإنه باب واسع يطول فيه المجال ، ويكثر فيه من الطرفين التعداد والمقال.

فقلت : أنت محق في ذلك ، وقد قلت الأنصاف ، ولكن ما تقول في هذه الأحاديث المروية في كتبكم التي تشتمل على حصر الخلفاء في اثني عشر من قريش أليس هي دالة على صحة مذهب الأمامية لأنهم قائلون بتخصيصها في اثني عشر من ذرية الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ دون غيرهم من الفرق؟

فقال : هذه الأحاديث معارضة بأمثالها والذنب فيها على الرواة.

فقلت : إن الروايات إذا وردت من الطرفين ، وتظافرت من رجال الفريقين ، وساعد على إيرادها الخصمان صارت متواترة عند الأمة فيجب المصير إليه والترك لما ورد من الطرف الواحد وهذه الأحاديث المعارضة لهذه الأخبار المروية من الطرفين لم تروها الكل ولم يتفق على نقلها الفريقان ، بل ردها الخصم وأنكرها ، فكان حينئذ الأولى في الترجيح الواجب على السامع العمل بما اتفق على نقله ، وطرح ما اختلف فيه من المعارضة لأنه الاحتياط التام ، والأخذ بالحزم من الرأي.

ثم قلت : ومع هذا فهنا برهان واضح ، ودليل لائح موجود الان مشاهد بالأبصار ، وقد شاع في جميع الأمصار.

فقال : وما هو؟

فقلت : هذا مشهد الحسين ـ عليه السلام ـ يزوره الزوار من كل البلاد في ميقات ، وله في كل سنة ميقات ، هو أول ليلة من شهر رجب يجتمع عنده عالم كثير من الأمامية وأهل السنة وغيرهم بعمي وصم ويأتون أهل السنة يرونهم مقعدين ويضعونهم على ساحته ـ عليه السلام ـ تلك الليلة

٤٠٦

فكل من خرج من أولئك العمي والصم والمقعدين من دين السنة ، وتبرأ منهم ، ونظف قلبه ، وخلص اعتقاده برئ من علته ، وصار بصيرا ماشيا بعد العمى والإقعاد ، ومن بقي على حالته فلم يبرأ مما به ، فما تقول في هذه المعجزة؟

فهل عندك في هذا طعن ، أو لك إلى القدح فيه سبيل؟ وهل ذلك دال على أن مذهب أهل السنة على الخطأ والباطل وأنه يجب على كل مكلف الخروج منه والدخول في مذهب الأمامية ، وهذا دليل واضح وبرهان لائح مشاهد بالأبصار ، لا يمكن لأحد رده ، ولا الطعن فيه.

فقال : ومن شاهد هذا ، ومن عرف صحته؟

فقال السيد محسن : إن هذا ثابت بالتواتر من الأمة إن ذلك يقع عند الحسين ـ عليه السلام ـ في كل عام ، لا ينكره إلا مكابر ولو شئت لأسمعتك هذه المعجزة ممن شاهدها ورآها أربعون رجلا وخمسون ، وأكثر من أهل الصلاح والدين.

فقال : إن صح ما ذكرتم فهو حجة قاطعة ، ودليل ظاهر ، ولما وصلت المجادلة إلى هذا الحد أذن المؤذن للصلاة ، فقمنا لصلاة الجمعة ، وتفرق المجلس ولم ألقه بعد ذلك ، وقد حكى لي السيد محسن أنه لقيه بعد مفارقته لنا بأيام وسأله عن حاله فظهر له منه أنه بقي مترددا لا مذهب له ، وأنه قال : أريد أمضي إلى الحسين ـ عليه السلام ـ لأنظر ما حكيتموه من المقعد والأعمى إذا خرجا من مذهب أهل السنة ودخلا في مذهب الأمامية.

وبعد ذلك لا نعرف ما صار إليه أمره ، وهذا ما كان بيني وبينه من المجادلة في المجالس الثلاثة التي ذكرت ، ومن المجادلة على الاستقصاء.

والحمد لله على ظهور الحق ، وزهوق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا ،

٤٠٧

ونستغفر الله عن الزيادة والنقصان فإنه هو الغفور الرحيم المستعان.

تمت الرسالة يوم الثلاثاء حادي عشر من شهر جمادى الاخرة من سنين خمس وتسعين وتسعمائة من الهجرة النبوية حرره الفقير الحقير المذنب الجاني ، المحتاج إلى رحمة الله صالح بن محمد بن عبد الأله السلامي في بلدة إصفهان ، رحم الله من دعا لمالكها ولكاتبها بالغفران آمين رب العالمين ، والحمد لله رب العالمين (١).

__________________

(١) حصلنا على مخطوطة هذه المناظرة من مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي (قدس سره) ، ضمن المجموعة رقم : ٦٨٩٦ ، وذكرت في فهرس المكتبة (المطبوع) ج ١٨ ص ٨٩. ونص عليها أيضا أغا بزرك الطهراني في الذريعة : ج ٢٢ ص ٢٨٥ تحت رقم : ٧١٢٤.

وانظر : صورة الصفحة الأولى والصفحة الأخيرة من مخطوطة هذه المناضرة في آخر الكتاب.

وأما منهجنا في تحقيقها فقد اعتمدنا طريقة التلفيق بين المخطوطة وما جاء في هامشها حسب ما جاء من الاشارة إليه من الاختلاف والزيادة في بعض النسخ ـ آخذين بالارجح منها ، كما أن بعض الكلمات لا تتم إلا بما في الهامش ، ولذا آثرنا هذه الطريقة ، كما قمنا بتخريج أحاديثها وإرجاعها الى مصادرها الاصلية إن وجدت ، وتخريج بقية الاحاديث من أهم المصادر المتبعة عند الجمهور حسب ما أمكن ، وبالله التوفيق.

٤٠٨

المناظرة الحادية والستون

مناظرة (٢) مع قطب الدين عيسى

قد ورد علينا قديما إلى الشام ، سيد من سادات شيراز الصفوية ، اسمه قطب الدين عيسى ، كان قد هرب قديما مع أبيه من الشاه إسماعيل إلى الهند وكان في الطبقة العليا من الفضل ، وله مصنفات وتحقيقات شتى ، قرأت عليه جانبا من شرح التجريد وكان لقنا منصفا ، وعلم مني الميل إلى أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وشيعتهم ، وكان يميل إلى البحث معي في المذهب ويقول : قل كل ما تعلمه من جهتهم.

فقلت له يوما : هل أوجب الله في كتابه أو نص رسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أو أجمع أهل الأسلام أو قام دليل عقلي على وجوب اتباع الشافعي بخصوصه؟

قال : لا.

قلت : فلم اتبعته؟

قال : لأنه مجتهد وأنا مقلد! فيجب علي اتباع مجتهد.

قلت : فما تقول في الأمام جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ـ عليهم السلام ـ هل كان مجتهدا؟

__________________

(١) وجدنا مخطوطة هذه المناظرة ضمن مجموعة تحت رقم : ٦٨٩٦ ، من مكتبة آية الله العظمى السيد المرعشي (قدس سره) ، ولم يذكر اسم صاحب المناظرة ، انظر : صورة الصفحة الأولى ، والصفحة الأخيرة من هذه المخطوطة في آخر الكتاب.

٤٠٩

فقال : كيف لا يكون ذلك وتلاميذه المجتهدون كانوا نحو أربعمائة مجتهد ، أحدهم أبو حنيفه.

قلت : فما تقول فيمن تبعه؟

قال : هو على الحق بغير شبهة ، ولكن مذهبه لم ينقل كما نقل مذهب أبي حنيفة.

فقلت له : تعني أنه لم ينقله أحد أصلا أم أهل السنة لم ينقلوه ، فإن أردت الأول لم يتمش أما أولا ، فلأنه شهادة على نفي فلا تسمع ، لأن مضمونها أني لا أعلم أن أحدا نقله ، وأما ثانيا ، فلأنه مكابرة على المتواترات المشتهرة لأن نقل أحاديثهم وآدابهم وعباداتهم ومذهبهم في فروع الفقه ومعتقداتهم بين شيعتهم أظهر من الشمس ، وقد نقلوا من ذلك ما يزيد على ما في الصحاح الست بأسانيد معتبرة ، ونقحوا رجال الأسانيد بالجرح والتعديل غاية التنقيح ، ولم يقبلوا رواية إلا من ثبت توثيقه ، ويقولون إن أئمتهم ومجتهديهم في كل عصر من لدن علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ إلى يومنا هذا لا يقصرون عن علماء فرقة من الفرق ، بل هم في كل زمان أعلم وأكثر مما في زمن أئمتهم الاثني عشر ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ فواضح أنه لم يماثلهم أحد في علم ولا عمل ، لأن قولهم لم يكن بظن واجتهاد وإنما كان بالعلم الحقيقي اما بنقل كل واحد عن أبيه إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وإما بالكشف والألهام ، بحيث يتساوى صغيرهم وكبيرهم ، ولهذا ما روي أن أحدا منهم في صغره ولا في كبره تردد الى معلم أو استفاد من أستاذ ، ولا سئل أحدهم عن سؤال فتوقف أو تعلم أو رجع إلى كتاب أو احتاج إلى فكر ، ومن وقف على سيرهم التي نقلها مخالفوهم فضلا عن مناقبهم وفضائلهم كتبا لا تدخل

٤١٠

تحت الحصر.

وأما تلاميذهم كمحمد بن مسلم (١) وهشام بن الحكم ، وزرارة بن أعين (٢) ، وجميل بن دراج (٣) ، وأشباههم ، فإنهم يزيدون عن الحصر حتى كان بيت جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ كالتجار أو السوق يزدحم حتى المستفيدون منه والاخذون عنه من كل الفرق ، وأكثر هم كانوا مجتهدين أصحاب مذاهب ، ذكرهم علماء السنة وأثنوا عليهم بالعلم والعمل بما لا مزيد عليه ، ومن طالع كتب الرجال لأهل السنة علم صدق ذلك.

وأما بعدهم فإن لهم من العلماء من لا يقصر عنهم مثل الشيخ محمد

__________________

(١) محمد بن مسلم بن رباح أبو جعفر ، من الأعلام الرؤساء المأخود عنهم العلم في الحلال والحرام والفتيا والأحكام ، يعد في مقدمة فقهاء أصحاب الأمامين الباقرين ـ عليهما السلام ـ ، وروى عنهما وكان من اوثق الناس وممن أجمعت الصحابة على تصديقه ، ومن اكبر رجال الشيعة فقها وحديثا ومعرفة بالكلام والتشيع ، وكان شاعرا اديبا قد اجتمعت فيه خلال الفضل والدين ، صادقا فيما يرويه ، ووثقه كل من صنف في الرجال وان اختلفت في حاله الاخبار فالأصحاب متفقون على ان هذا الرجل بلغ من الجلالة والعظم ورفعة الشأن وسمو المكان إلى ما فوق الوثاقة المطلوبة للقبول والاعتماد ، توفي سنة ١٥٠ للهجرة ، وله نحو من سبعين سنة. تنقيح المقال ج ٣ ص ١٨٤ ، معجم رجال الحديث ج ١٧ ص ٢٣٣ رقم : ١١٧٧٦.

(٢) زرارة بن أعين واسمه عبد ربه يكنى أبو الحسن وزرارة لقب له ، من أصحاب الأمام الباقر والصادق والكاظم ـ عليهم السلام ـ له كتب ومصنفات عديدة منها كتاب الاستطاعة والجبر وله كتاب يسمى الاربعمائة مسألة في ابواب الحلال والحرام ، ويعد في الطبقة الأولى من رجالات الشيعة الثقات توفي سنة ١٥٠ للهجرة.

تنقيح المقال : ج ١ ص ٤٣٨ ـ ٤٣٩ ، معجم رجال الحديث ج ٧ ص ٢١٨ رقم : ٤٦٦٢ ، الفهرست لابن النديم ص ٣٠٨.

(٣) جميل بن دارج : أبو الصبيح بن عبد الله أبو علي النخعي من أصحاب الأمامين الصادق والكاظم ـ عليهما السلام ـ ثقة ثبت معروف ، توفي في حياة الأمام الرضا ـ عليه السلام ـ. تنقيح المقال : ج ١ ص ٢٣١ ، معجم رجال الحديث ج ٤ ص ١٤٩ ، رقم : ٢٣٦١.

٤١١

ابن يعقوب الكليني (١) ، وابني بابويه (٢) ، والصاحب بن عباد (٣) وشيخ

__________________

(١) محمد بن يعقوب بن إسحاق أبو جعفر الكليني الرازي ، عالم فقيه محدث ثقة ورع جليل الشأن عظيم القدر ، قال عنه بعضهم : في العلم والفقه والحديث والثقة والورع وجلالة الشأن وعظم القدر وعلو المنزلة وسمو المرتبة أشهر من ان يحيط به قلم ويستوفيه رقم ، له كتب عديدة وأشهرها كتابه الكافي حيث ألفه في عشرين عاما ، ومن كتبه : كتاب الرد على القرامطة ، كتاب رسائل الأئمة ـ عليهم السلام ـ ، كتاب تعبير الرؤيا ، كتاب الرجال ، كتاب ما قيل في الائمة ـ عليهم السلام ـ من الشعر ، ومن طريف ما نقل في ترجمته ما ذكره كتاب روضة العارفين ، عن بعض الثقات المعاصرين له : ان بعض حكام بغداد رأى قبره عطر الله مرقده فسأل عنه فقيل له : انه قبر بعض الشيعة فأمر بهدمه فحفر القبر فراى أنه بكفنه لم يتغير ، ومدفون معه آخر صغير بكفنه ايضا ، فأمر بدفنه وبنى عليه قبة فهو الى الان قبره مزار ومشهد ، وعن بعضهم في سبب الحفر المذكور ان ذلك الحاكم لما راى اقبال الناس على زيارة قبر مولانا باب الحوائج موسى بن جعفر ـ عليه السلام ـ حمله النصب على حفر القبر وقال : الرافضة يدعون في أئمتهم أنهم لا تبلى أجسامهم بعد موتهم ، وأريد أن أكذبهم حتى امنع الناس من زيارته ، فقال وزيره : إنهم يدعون في علمائهم ايضا ما يدعون في أئمتهم ، وهنا قبر محمد بن يعقوب الكليني من علمائهم ، فأمر بحفره ، فإن كان على ما يدعونه عرفنا صدق مقالتهم في أئمتهم ، وإلا تبين للناس كذبهم ، فأمر بحفره ـ إلى آخر القصة ، توفي في بغداد عام ٣٢٩ ودفن بباب الكوفة.

تنقيح المقال : ج ٣ ص ٢٠١ ـ ٢٠٢ ، معجم رجال الحديث ج ١٨ ص ٥٠ رقم : ١٢٠٣٨.

(٢) تقدمت ترجمة الابن ، وأما الأب فهو أبو الحسن علي بن الحسين بن بابويه القمي والد الشيخ الصدوق ، شيخ القميين ومقدمهم وفقيههم وثقتهم ، كان معاصرا للأمام العسكري ـ عليه السلام ـ ، ولد بقم وتوفي عام ٣٢٩ ه‍.

تنقيح المقال : ج ٣ ص ٤٢ ، مقدمة الامامة والتبصرة.

(٣) هو إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن العباس بن عباد أحمد بن إدريس الديلمي الأصفهاني ولد سنة ٣٢٦ في فارس ، عالم فاضل ماهر شاعر أديب محقق متكلم عظيم الشأن جليل القدر في العلم والأدب والدين والدنيا ، وكان من الشيعة الأمامية ومن شعراء أهل البيت ـ عليهم السلام ـ المتجاهرين ، ولأجله ألف ابن بابويه عيون الأخبار ، وألف الثعالبي يتيمة الدهر في ذكر أحواله وأحوال شعرائه ، ومن مؤلفاته : الشواهد ، والتذكرة ، والتعليل ، والأنوار ، وديوان شعره ، وكتاب الأمامية ذكر فيه تفضيل علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ وتثبيت إمامته ، وقال

٤١٢

الطائفة محمد بن النعمان المفيد (١) ، والشيخ أبي جعفر الطوسي (٢) ، وابن البراج (٣) ، والسيد المرتضى علم الهدى (٤) ، وأبي القاسم جعفر بن سعيد الحلي (٥) ، والشيخ سديد الدين الحلي (٦) ، وولده الشيخ جمال الدين (٧) ،

__________________

ابن خلكان عند ذكره ، كان نادرة الزمان وأعجوبة العصر في فضائله ومكارمه وكرمه ، ولي الوزارة لمؤيد الدولة ثم فخر الدولة من بعده ، توفي سنة ٣٨٥ ه‍ بالري ونقل إلى أصفهان ودفن في بيته. راجع : تنقيح المقال للمامقاني ج ١ ص ١٣٥ ، أعيان الشعية ج ٣ ص ٣٢٨ ، لسان الميزان ج ١ ص ٤١٣ ، سير أعلام النبلاء ج ١٦ ص ٥١١.

(١) تقدمت ترجمته.

(٢) الشيخ الطوسي : أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي نسبة إلى طوس من مدن خراسان حيث ولد فيها سنة ٣٨٥ ، هاجر إلى بغداد حيث كانت قبلة للعلماء عام ٤٠٨ ه‍ ، فتتلمذ على الشيخ المفيد ثم السيد المرتضى من بعده ، فاستقل بالزعامة الدينية من بعده إلى أن توفي في النجف الأشرف عام ٤٦٠ ه‍ وله مؤلفات كثيرة جدا. لؤلؤة البحرين ص ٢٩٣.

(٣) سعد الدين أبو القاسم عبد العزيز بن البراج ، وجه من وجوه الأصحاب وفقيههم ، كان قاضيا في طرابلس ، له كتب ومصنفات عديدة منها المهذب والمعتمد والروضة وغيرها وقيل إنه كان خليفة الشيخ الطوسي في البلاد الشامية وقد تتلمذ على يدي علم الهدى والشيخ الطوسي ، توفي عام ٤٨١. لؤلؤة البحرين ص ٣٣١.

(٤) علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر ـ عليه السلام ـ ولد سنة ٣٥٥ في بغداد ، له كتب ومؤلفات كثيرة وكان من الأذكياء والأولياء ، توفي في سنة ٤٣٦ في بغداد عن عمر يناهز الثمانين عاما. تنقيح المقال : ج ٢ ص ٢٨٤ ، سير أعلام النبلاء ج ١٧ ص ٥٨٨ ، تاريخ بغداد ج ١١ ص ٤٠٢.

(٥) جعفر بن سعيد الحلي : أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن بن أبي زكريا يحي بن الحسن ابن سعيد الهذلي الحلي ، المعروف بالمحقق الحلي ، ولد عام ٦٠٢ صاحب الشرائع ، وأخباره معروفة مشهورة ، توفي سنة ٦٧٦ عن عمر يناهز أربع وسبعين عاما ، أعيان الشيعة ج ٤ ص ٨٩.

(٦) الشيخ سديد الدين يوسف بن علي بن المطهر الحلي والد العلامة الحلي عالم فقيه متكلم ، يروي عن جماعة من العلماء منهم الشيخ راشد البحراني والسيد العريضي ويروي عنه ولده العلامة واخوه رضي الدين ، أمل الامل ج ٢ ص ٣٥٠ ، رياض العلماء ج ٥ ص ٣٩٥.

(٧) جمال الدين أبو منصور الحسن بن سديد الدين يوسف بن زين الدين علي بن محمد بن

٤١٣

وولده فخر المحققين (١) ، ومولانا نصير الدين الطوسي (٢) ، والشيخ. الشهيد (٣) ، وأمثالهم ممن لا يحصرهم حد ولا عد ، ومصنفاتهم وتحقيقاتهم في العلوم العقلية والنقلية قد ملأت الخافقين ، ونقلها أهل السنة في مصنفاتهم كما لا يخفى ، ولا يدعون أن الشيعة أكثر من أهل السنة بل ولا يرضون ذلك ويجدونه نقصا في شأنهم لأنه قد صح عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال لأمته : لتركبن سنة من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة (٤) وهو كما قال.

والباري عزوجل قد أخبر في كتابه العزيز أن الفرقة القليلة من كل الأمم كانت هي المحقة الناجية كقوله تعالى : (وما آمن معه إلا

__________________

مطهر الحلي المعروف بالعلامة الحلي ، انتهت رئاسة الأمامية إليه في المعقول والمنقول ولد سنة ٦٤٨ وتوفي سنة ٧٢٦. ودفن في الحلة ثم نقل إلى النجف ودفن في حجرة في الحضرة المقدسة لأمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ إلى جهتها اليمنى. أعيان الشيعة ج ٥ ص ٣٩٦ ، لسان الميزان ج ٢ ص ٣١٧ ، رياض العلماء ج ١ ص ٣٥٨.

(١) فخر المحققين : أبو طالب محمد بن الحسن بن يوسف بن مطهر ، من وجوه الطائفة وأعيانها درس على يد أبيه فخر آل المطهر ، ولد سنة ٦٨٢ وتوفي سنة ٧٧١ عن عمر يناهز التسع والثمانين ، لؤلؤة البحرين ص ١٩٠.

(٢) نصير الدين الطوسي : هو محمد بن محمد بن الحسن الجهروردي القمي الطوسي ، ولد بمشهد سنة ٥٩٧ ، فيلسوف كبير وصاحب علوم رياضة والرصد ، كان رأسا " في العلم له مصنفات كثيرة ، توفي سنة ٦٧٢ ، ودفن في الكاظمية ببغداد ، لؤلؤة البحرين ص ٢٤٥.

(٣) الشيخ الشهيد : أبو عبد الله محمد بن الشيخ جمال الدين مكي بن شمس الدين محمد الدمشقي الجزيني ، ولد سنة ٧٣٤ في جبل عامل من ألمع تلامذة فخر المحققين العلامة الحلي في الفقه والفلسفة ، سافر إلى أقطار الأرض طلبا للعلم والمعرفة ، له تصانيف عديدة منها الذكرى ، واللمعة الدمشقية ، توفي سنة ٧٨٦ بدمشق حيث قتل فيها بالسيف ثم صلب ورجم ثم أحرق بفتوى القاضي برهان الدين المالكي ابن جماعة الشافعي ، لؤلؤة البحرين ص ١٤٣.

(٤) تقدمت تخريجاته.

٤١٤

قليل) (١) ، (وما كان أكثرهم مؤمنين) (٢) (وما وجدنا لأكثر هم من عهد) (٣) (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك) (٤) وأمثال ذلك كثير ، وعلى هذا القياس كلما كان في الدنيا أقل فهو أعز ، كالأنبياء في نوع والمعادن وهلم جرا ويقولون لا يضرنا قلتنا بل هي دليل احقيتنا.

والذي أوجب خمولنا في الجملة استيلاء أعدائنا على أئمتنا ـ عليهم السلام ـ وعلى شيعتهم لأن أعداءنا كانوا ملوك الأرض الناس على دين ملوكهم إما ظاهرا فقط ، وإما ظاهرا وباطنا ، وأكثر أئمتنا ـ عليهم السلام ـ مات قتلا بالسيف أو سما في الحبس ، وأكابر علمائنا في أكثر الأوقات كانوا خائفين مستترين بالتقية ، والملوك إنما يقبلون ويرفعون من يوافقهم في العقيدة ويعظمون محله ليضعوا من أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وشيعتهم ، ومع كثرة أعدائنا وعظمتهم في الدنيا لم يمكنهم إخفاء نور الحق ، بل ظهر من علمائنا وشيعتهم ومصنفاتهم ما قد اشتهر وبهر ولم يضمحل نور الحق كما اضمحل باطل الخوارج والمجبرة والمعتزلة والمرجئة وأمثالهم من الفرق الكثيرة.

رجعنا إلى ما كنا بصدده ، وإن أردت أن أهل السنة لم ينقلوا مذهب جعفر الصادق ـ عليه السلام ـ فهذا ليس نقصا ولا طعنا فيما نقل عن شيعتهم ، كما أنه لا يقتضي عدم نقل الشيعة مذهب الشافعي نقصا فيه ، ولا

__________________

(١) سورة هود : الاية ٤٠.

(٢) سورة الشعراء : الاية ٨.

(٣) سورة الأعراف : الاية ١٠٢.

(٤) سورة الأنعام : الاية ١١٩.

٤١٥

يقتضي عدم نقل الشافعية مذهب أبي حنيفة نقصا فيه ، وبالعكس.

ثم إنهم يتنزلون بالبحث ويقولون : سلمنا أن أئمتنا لم يكونوا معصومين كما ندعيه فقد كانوا مجتهدين ، لم يخالف في ذلك أحد وسلمنا أن أئمتكم الأربعة كانوا مجتهدين أيضا أبرارا ولكن لم يقم لنا دليل عقلي ولا نقلي من الله ولا من رسوله على وجوب التمسك بواحد منهم كما قام ذلك في أهل البيت ـ عليهم السلام ـ كما سمعته من أن المتمسك بهم وبكتاب الله لن يضل أبدا (١).

سلمنا أن الباري لم ينص في كتابه على طهارتهم ، ولا أمر النبي بالتمسك بهم ، فالمزية التي في أئمتكم المجوزة لاتباعكم لهم وهو الاجتهاد حاصل فيهم ، مع زيادة أخرى وهي اتفاق جميع الفرق على طهارتهم وتعففهم وغزارة علمهم ، بحيث لا يشك فيه أحد ولم يتمكن أحد من أعدائهم من الطعن عليهم بما ينقصهم ولا بطريق الكذب تقربا إلى أعدائهم مع كثرتهم وعلو شأنهم في الدنيا ، كخلفاء بني أمية وبني العباس.

وما ذاك إلا لعلم جميع الناس بطهارتهم والكاذب عليهم يعلم أنه يكذبه كل من يسمعه ، وهذه المزية لم تحصل لغيرهم ، فإن من سواهم قد طعن بعضهم على بعض ، حتى صنف بعض الشافعية كتابا سماه النكت الشريفة في الرد على أبي حنيفة ، وأثبت كفره بمخالفة السنة المطهرة بما يطول شرحه.

والحنفية والمالكية وأكثر الطوائف ويكفرون الحنابلة لقولهم

__________________

(١) اشارة إلى حديث الثقلين ومصادره كثيرة جدا منها على سبيل المثال : المستدرك ج ٣ ص ١٩ ، المناقب لابن المغازلي ص ١٦ ح ٢٣ ، وتقدمت مصادر أخرى له.

٤١٦

بالتجسيم ، ولا ريب في وجوب اتباع المتفق على عدالته وعلمه ولا يجوز العمل بالمرجوح مع إمكان العمل بالراجح ، فقد لزمكم القول بصحة مذهبنا لأرجحية أهل البيت ـ عليهم السلام ـ على غيرهم ، بل يلزم ذلك كل من وقف نفسه على جادة الأنصاف ولم يغلب عليه الهوى ، لأن المقتضي للنجاة عندكم تقليد المجتهد ، وهذا حاصل لنا باعترافكم ، مع ما في أهل البيت ـ عليهم السلام ـ من المرجحات التي لا يمكن إنكارها وقد بيناها ، ولا يلزمنا القول بصحة مذهبكم لأنا شرطنا في المتبع العصمة حتى يؤمن من الخطأ منه.

فنكون نحن الفرقة الناجية اجماعا ، بالدليل المسلم المقدمات عندكم ، فأي مسلم يخاف الله واليوم الاخر يحكم بخطأ متبع أهل البيت ـ عليهم السلام ـ لولا ظلمة اتباع الهوى والتعصب.

وكان هذا السيد لا يبعد عن الأنصاف وإنما كان يمسك عن المكابرة ويتأمل ، وكان يقول إذا كان هذا حالهم فالباري ثبتهم لأنه لا يكلف بما لا يطاق ، وقد جعل لكل مجتهد نصيبا من كرمه.

٤١٧

المناظرة الثانية والستون

مناظرة يوحنا (١) مع علماء المذاهب الأربعة في بغداد

يقول يوحنا بن إسرائيل الذمي : إني كنت رجلا ذميا (٢) ، متقنا للفنون العقلية ، ممتعا من العلوم النقلية ، لا يحيدني عن الحق مموهات الدلائل ، ولا يلقيني في الباطل مزخرفات العبارات ، ومنمقات الرسائل ، أنجر ينابيع التحقيق من أطواد الحلوم ، وأستخرج بالفكر الدقيق المجهول من العلوم ، أتصفح بنظر الاعتبار ومعتقد فريق فريق ، وأميز بين ذلك سواء الطريق ، والناس إذ ذاك قد مزقوا دينهم وكانوا شيعا وتمزقوا كل ممزق وتبروا قطعا ، فلهم قلوب لا يفقهون ، بها ولهم أعين لابيبصون بها ، ولهم

__________________

(١) وقد وجدنا مناظرة يوحنا مخطوطة (بالفارسي) في مكتبة آية العظمى المرعشي النجفي (قدس سره) ضمن مجموعة تحت رقم : ٦١٥٤ ، وذكرت في فهرس المكتبة (الخطي) ج ١٦ ص ١٥٣.

وقد ذكر هذه المناظرة آغا بزرك الطهراني في الذريعة ج ٢٣ ص ١٧٦ ـ ١٧٧ باسم : منهاج المناهج تحت رقم : ٨٥٤٧ ، وقال عنها رحمه الله تعالى : منهاج المناهج في تحقيق المذاهب الاربعة واثبات الأمامة على اسلوب اصحابنا ، ليوحنا بن اسرائيل المصري المستبصر ، وكان عند شيخنا النوري هذه النسخة بخط جده الميرزا علي محمد النوري ، وهو المعروف ب‍ (رسالة يوحناي اسرائيلي) أو (كتاب يوحنا) أو (إمامت) أو (رسالة كلامي) ولم أدر الى من انتقلت النسخة بعد شيخنا وبما ان وفاة والده كانت في سنة ١٢٦٤ ، فيكون تاريخ خط جده حدود سنة ١٢٠٠ ، وذكر في ص ٨٩٠ و ٩٥٠ و ٩٩٧ من (فهرست نسخه هاي خطي فارسي) ١٢ نسخة منها ، أقدمها كتابة في مكتبة امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ (٧٧٠ بالنجف) ضمن المجموعة المؤرخة (١٧ رجب ١٠٧٨) وأخرى في (الملك ٢ / ٥٢١٦) كتبت بقلم النستعليق في سنة ١٠٨٩ ، ونسخة منه مع الترجمة الانجليزية ، توجد في المتحف البريطاني (١١٩٣) or كتبت في القرن الثالث عشر.

(٢) بما أن هذه المناظرة ترتبط ببعض هذه المقدمات التي ذكرها صاحبها لذا نذكرها بمقدماتها.

٤١٨

آذان لايسعمون بها ، يخبطون خبط عشواء فهم لا يبصرون ويتعسفون مهامة الضلالة فهم في ريبهم يترددون ، فبعضهم دينه صابئي ، وغيرهم مجوسي ، وهذا يهودي ، وهذا نصراني ، وآخر محمدي ، وبعض عبدوا الكواكب ، وبعض عبدوا الشمس ، وطائفة عبدوا النار ، وقوم عبدوا العجل ، وكل فرقة من هؤلاء صاروا فرقا لا تحصى.

فلما رأيت تشعب القول ، وشاهدت تناقض النقول ، طابقت المعقول بالمنقول ، وميزت الصحيح من المعلول ، وأقمت الدليل على وجوب اتباع ملة الأسلام ، والاقتداء بها إلى يوم الحساب والقيام ، فأظهرت كلمة الشهادة ، وألزمت نفسي بما فيه من العبادة ، وجمعت الكتب الأسلامية من التفاسير والأحاديث والأصول والفروع من جميع الفرق المختلفة ، وجعلت أطالعها ليلا ونهارا وأتفكر في المناقضات التي وقعت في دين الأسلام.

فقال بعضهم : إن صفات الله تعالى عين ذاته ، وبعض قال : لا عين ذاته ولا زائدة ، وبعض قال : إن الله عز وجل أراد الشر وخلقه ، وبعض نزهه عن ذلك ، وبعض جوز على الأنبياء الصغائر ، وبعض جوز الكبائر ، وبعض جوز الكفر (١) ، وبعض أوجب عصمتهم ، وبعض أوجب النص بالأمامة (٢) ، وبعض أنكره ، وبعض قال : بإمامة أبي بكر وأنه أفضل ، وبعض كفره ، وبعض قال : بإمامة علي ، وبعض قال : بإلهيته ، وبعض ساق الأمامة في أولاد الحسن ، وبعض ساقها في أولاد الحسين ، وبعض وقف على

__________________

(١) تقدمت تخريجاته في ما سبق.

(٢) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ج ١ ص ١٣١.

٤١٩

موسى الكاظم (١) ، وبعضهم قال : باثنى عشر إماما ، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تحصى.

وكل هذه الاختلافات إنما نشأت من استبدادهم بالرأي في مقابلة النص ، واختيارهم الهوى في معارضة النفس وتحكيم العقل على من لا يحكم عليه العقل وكان الأصل فيما اختلف فيه جميع الأمم السالفة واللاحقة من الأصول شبهة إبليس ، وكان الأصل في جميع ما اختلف فيه المسلمون من الفروع مخالفة وقعت من عمر بن الخطاب لرسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ واستبداده برأي منه في مقابلة الأمر النبوي ، فصارت تلك الشبهة والمخالفة مبدأ كل بدعة ، ومنبع كل ضلالة.

أما شبهة إبليس فتشعبت منها سبع شبه ، فصارت في الخلائق ، وفتنت العقلاء ، وتلك الشبهات السبع مسطورة في شرح الأناجيل ، مذكورة في التوارة ، متفرقة على شكل مناظرة بين إبليس وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود والامتناع منه.

فقال إبليس للملائكة : إني سلمت أن الباري تعالى إلهي وإله الخلق ، عالم قادر ، ولا يسأل عن قدرته ومشيئته ، وإنه مهما أراد شيئا قال له : كن فيكون ، وهو حكيم إلا أنه يتوجه على مساق حكمته أسئلة.

قالت الملائكة : وما هي؟ وكم هي؟

قال إبليس : سبع.

الأول : أنه قد علم قبل خلقي أي شئ يصدر عني ، ويحصل مني ، فلم خلقني أولا؟ وما الحكمة في خلقه إياي؟

__________________

(١) انظر : فرق الشيعة للنوبختي ص ٨٠.

٤٢٠