مناظرات

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

المناظرة الحادية والخمسون

مناظرة الشيخ المفيد (ره) مع الرماني (١)

يروى : أنه حضر لأول مرة درس أستاذه علي بن عيسى الرماني ، فقام رجل من البصرة وسأل الرماني عن خبر الغدير والغار.

فقال له الرماني : إن حديث الغار دراية ، وخبر الغدير رواية ، والرواية لا توجب ما توجبه الدراية ، فسكت البصري ولم يكن عنده شئ.

فلما خف المجلس تقدم المفيد إلى الرماني ، ولم يكن يعرفه قبل هذا ، وسأله عمن قاتل الأمام العادل.

فقال الرماني : إنه كافر (٢) ، ثم استدرك ، فقال : إنه فاسق.

__________________

(١) هو : أبو الحسن علي بن عيسى الرماني من شيوخ المعتزلة البارزين ولد سنة ٢٩ ٦ ، عد من مشايخ الشيخ المفيد (ره) ، كان من أهل المعرفة ، مفننا في علوم كثيرة ، من الفقه والقرآن ، والنحو واللغة والكلام على مذهب المعتزلة ، قال عنه الذهبي : وكان يتشيع ويقول علي أفضل الصحابة ، وأصله من سر من راى ، مات ببغداد سنة ٣٨٤.

انظر ترجمته في : تاريخ بغداد ج ١٢ ص ١٦ ـ ١٧ ترجمة رقم : ٦٣٧٧ ، سير أعلام النبلاء للذهبي ج ١٦ ص ٥٣٣ ـ ٥٣٤ ، لسان الميزان ج ٤ ص ٢٤٨.

(٢) وقد وردت أحاديث كثيرة في من قاتل عليا عليه السلام منها :

عن أبي ذر الغفاري قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : من ناصب عليا الخلافة بعدي فهو كافر وقد حارب الله ورسوله ، ومن شك في علي فهو كافر. المناقب لابن المغازلي ص ٤٦ ح ٦٨.

وروي عنه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : من قاتل عليا على الخلافة فاقتلوه كائنا من كان. ينابيع المودة للقندوزي ص ١٨١.

٣٠١

فقال المفيد : ما تقول في علي بن ابي طالب ـ عليه السلام ـ ويوم الجمل وطلحة والزبير؟

فقال الرماني : إنهما تابا.

فقال : أما خبر الجمل فدراية ، وخبر التوبة فرواية ، فأفحم الرماني ، ولم يأت بشئ ، غير أنه قال له : كنت حاضرا عند سؤال البصري؟

قال : نعم.

ثم دخل الرماني المنزل ، وجاء برقعة مختومة ، وقال له : أوصلها إلى من اتصلت به ، وهو أبو عبد الله البصري المعروف (بجعل) فلما وقف عليها جعل يبتسم ، وسأل المفيد عما جرى بينهما فأعاد عليه القصة ، فقال : إنه كتب إلي بذلك وقد لقبك بالمفيد (١).

__________________

(١) مجموعة الشيخ ورام ص ٤٥٦ وج ٢ ص ٣٠٢ ط طهران ، منتهى المقال ص ٢٩٢.

٣٠٢

المناظرة الثانية والخمسون

مناظرة الشيخ المفيد (ره) مع بعض مشايخ العباسيين في سامراء (١)

حضر الشيخ أبو عبد الله المفيد ـ أيده الله ـ بسر من رأى ، واحتج عليه من العباسيين وغيرهم جمع كثير.

فقال له بعض مشايخ العباسيين : أخبرني من كان الأمام بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ؟

فقال له : كان الأمام من دعاه العباس إلى أن يمد يده لبيعته على حرب من حارب وسلم من سالم.

فقال له العباسي : ومن هذا الذي دعاه العباس إلى ذلك؟

فقال له الشيخ : هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ

__________________

(١) سامراء : جاء في الراصد : وهي المدينة التي أنشأها المعتصم ـ بين بغداد وتكريت ـ وهو على دجلة من شرقيها ـ تحت تكريت ـ وحين انتقل المعتضد عتها وسكن بغداد خربت ، ولم يبقى منها الان إلا يسير ، ولها أخبار طويلة ، والباقي منها الان موضع يسمى بالعسكر ، كان ـ الأمام ـ علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر ـ عليهم السلام ـ وابنه ـ الأمام ـ الحسن بن علي ـ عليه السلام ـ وهما المعسكران يسكنان به فنسبا إليه وبه دفنا ، وعليهما مشهد يزار فيه. وروي في أمالي الطوسي : عن الأمام الهادي ـ عليه السلام ـ قال : أخرجت إلى سر من رأى كرها ولو أخرجت منها أخرجت كرها ، قيل ولم يا سيدي؟ قال : لطيب هوائها وعذوبة مائها وقلة دائها. وروي في سبب تسميتها سر من رأى : أنه لما شرع في بنائها المعتصم ثقل ذلك على عسكره فلما انتقل بهم إليها سر كل منهم برؤيتها فلزمها هذا الاسم أي سر من رأى ، وسامراء : لغة في سر من رأى. أنظر : مراصد الاطلاع ج ٢ ص ٦٨٤ ـ ٦٨٥ ، سفينة البحار ج ١ ص ٦١٤ ـ ٦١٥.

٣٠٣

حيث قال له العباس في اليوم الذي قبض فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بما اتفق عليه أهل النقل : ابسط يدك يابن أخ أبايعك فيقول الناس : عم رسول الله بايع ابن أخيه فلا يختلف عليك اثنان (١).

فقال له شيخ من فقهاء أهل البلد : فما كان الجواب من علي؟ فقال : كان الجواب أن قال : إن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عهد إلي أن لا أدعو أحدا حتى يأتوني ، ولا أجرد سيفا حتى يبايعوني ، ومع هذا فلي برسول الله شغل.

فقال العباسي : فقد كان العباس ـ رحمه الله ـ إذن على خطأ في دعائه له إلى البيعة.

فقال له الشيخ : لم يخطئ العباس فيما قصد لأنه عمل على الظاهر وكان عمل أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ على الباطن وكلاهما أصاب الحق ولم يخطئه والحمد لله رب العالمين.

فقال له العباسي : فإن كان علي بن أبي طالب هو الأمام بعد النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقد أخطأ أبو بكر وعمر ومن اتبعهما وهذا أعظم في الدين.

فقال له الشيخ : لست أنشط الساعة للفتيا بتخطئة أحد ، وإنما أجبتك عن شئ سألت عنه ، فإن كان صوابا وضمن تخطئة إنسان فلا تستوحش من اتباع الصواب ، وإن كان باطلا فتكلم على إبطاله فهو أولى من التشنيع بما لا يجدي نفعا ، مع أنه إن استعظمت تخطئة من ذكرت فلا بد لك من تخطئة علي والعباس من قبل أنهما قد تأخرا عن بيعة أبي بكر ولم يرضيا

__________________

(١) راجع : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١٠ ص ٢٥٣ ، الأمامة والسياسة لابن قتيبة ج ١ ص ١٢.

٣٠٤

بتقدمه عليهما ، ولا عملا له ولصاحبه عملا ولا تقلدا لهما ولاية ولا راهما أبو بكر ولا عمر أهلا أن يشركاهما في شئ من أمورهما ، وخاصة ما صنعه عمر بن الخطاب فإنه ذكر من يصلح للأمامة في الشورى ومن يصلح للنظر في الاختيار فلم يذكر العباس من إحدى الطائفتين ، ولما ذكر عليا ـ عليه السلام ـ عابه ووصفه بالدعابة تارة وبالحرص على الدنيا أخرى وأمر بقتله إن خالف عبد الرحمن بن عوف وجعل الحق ، في حين عبد الرحمن دونه وفضله عليه.

هذا وقد أخذ منه ومن العباس ومن جميع بني هاشم الخمس الذي جعله الله تعالى لهم وأرغمهم فيه وحال بينهم وبينه ، وجعله في السلاح والكراع ، فإن كنت أيها الشريف تنشط للطعن على علي والعباس بخلافهما الشيخين بكراهتهما لأمامتهما وتأخرهما عن بيعتهما وترى من العقد فيهما ماسنه الشيخان من أمرهما في التأخير لهما عن شريف المنازل والغض منهما والحط من أقدارهما فصر إلى ذلك فإنه الضلال بغير شبهة ، وإن كنت ترى ولايتهما والتعظيم لهما والاقتداء بهما فاسلك سبيلهما ولا تستوحش من تخطئة من خالفهما ، وليس ها هنا منزلة ثالثة.

فقال العباسي عند سماع هذا الكلام : اللهم أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون (١).

__________________

(١) الفصول المختارة : ص ٢٧٧ ـ ٢٧٩ ، بحار الأنوار ج ١٠ ص ٤٥١ ح ١٨.

٣٠٥

المناظرة الثالثة والخمسون

مناظرة الكراجكي مع رجل من العامة

قال الشيخ الكراجكي (١) ـ اعلى الله مقامه ـ :

سألني رجل من أهل الخلاف فقال : إنا نراكم معشر الشيعة تكثرون القول بأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ، وتناظرون على ذلك ، وترددون هذا الكلام ، وإطلاق هذا اللفظ منكم يضاد مذهبكم ، ويناقض معتقدكم ، ولستم تعلمون أن التفضيل بين الشيئين لا يكون إلا وقد شمل الفضل لهما ، ثم زاد في الفضل أحدهما على صاحبه ، وأن ذلك لا يجوز مع تعري أحدهما من خلال الفضل على كل حال ، لم جهلتم ذلك من معنى الكلام؟ فإن زعمتم أن لأبي

__________________

(١) هو : أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان المعروف بالكراجكي ، من أجلاء علماء وفقهاء ورؤساء الشيعة في حلب ، له عدة كتب منها عدة المصير في صحيح الغدير ، التلقين لأولاد المؤمنين ، ردع الحاصل وتنبيه الغافل ، نهج البيان في مناسك النسوان ، روضة العابدين ، كنز الفوائد ، وغيرها ، وكان جوالا بين دمشق وبغداد وحلب وطبرية وصيدا وصور وطرابلس ، ومن شيوخه : الشيخ المفيد والشريف المرتضى وغيرهم من أجلة العلماء ، ومن تلاميذه : المفيد النيسابوري ، وعبد العزيز الطرابلسي وغيرهما.

والكراجكي من أئمة عصره في الفقه والكلام والفلسفة والطب والفلك والرياضيات وغيرها من العلوم ، قال عنه العماد الحنبلي : كان نحويا لغويا ، منجما طبيبا متكلما متقنا ، من كبار أصحاب الشريف المرتضى ، وتوفي في حوادث سنة ٤٩٩ ه‍.

راجع ترجمته في : شذرات الذهب ج ٣ ص ٢٨٣ في حوادث سنة ٤٩٩ ه‍ ، سير أعلام النبلاء ج ١٨ ص ١٢١ ، لسان الميزان ج ٥ ص ٣٠٠ ، مرآة الجنان ج ٣ ص ٦٩ ـ ٧٠.

٣٠٦

بكر وعمر وعثمان قسطا من الفضل يشملهم به ، يصح به القول أن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أفضلهم ، تركتم مذهبكم وخالفتم سلفكم ، وإن مضيتم على أصلكم ونفيتم عنهم جميع خلال الفضل على ما عهد من قولكم لم يصح القول بأن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أفضل منهم.

فقلت له : ليس في إطلاق أن القول بأن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ما يوجب على قائله ما ذكرتم في السؤال.

والشيعة أعرف من خصومهم بمواقع الألفاظ ومعاني الكلام ، وذلك : أن التفضيل ، وإن كان كما وصفت يكون بين الشيئين إذا اشتركا في الفضل وزاد أحدهما على الاخر فيه ، فقد يصح أيضا فيهما إذا اختص بالفضل أحدهما ، وعرى الاخر منه ، ويكون معنى قول القائل : هذا أفضل من هذا ، أنه الفاضل دونه ، وأن الاخر لا فضل له ، وليس في هذا خروج عن لسان العرب ، ولا مخالفة لكلامها ، وكتاب الله تعالى يشهد به ، وأن أشعار المتقدمين يتضمنه ، قال الله جل اسمه : (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) (١).

يعني أنهم خير من أصحاب النار ، وقد علم أن أصحاب النار أصحاب شر ، ولا خير فيهم. ووصف النار في آية أخرى فقال : (بل كذبوا بالساعة واعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا ، إذا رأتهم من كان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا) إلى قوله (وادعوا ثبورا) (٢) ثم قال : (قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون ، كانت لهم جزاء

__________________

(١) سورة الفرقان : الاية ٢٤.

(٢) سورة الفرقان : الاية ١١ ـ ١٤.

(٣) سورة الفرقان : الاية ١٥.

٣٠٧

ومصيرا) (١) فذكر سبحانه أن الجنة وما أعد فيها خير من النار ، ونحن نعلم أنه لا خير في النار.

وقال تعالى في آية أخرى : (قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا ، وبئس المصير) (٢). وقال : (وهو أهون عليه) (٣).

والمعنى في ذلك هين ، لأن شيئا لا يكون أهون على الله من شئ ، فكذلك قولنا : هذا أفضل ، يكون المراد به هذا الفاضل.

وليس بعد إيراد هذه الايات لبس في السؤال يعترض العاقل ، وقد قال حسان بن ثابت في رجل هجا سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من المشركين :

هجوت محمدا برا تقيا

وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكفؤ

فشركما لخيركما فداء (٤).

وقد علمنا أنه لا شر في النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، ولا خير فيمن هجاه.

وقال غيره من الجاهلية :

خالي بنو أنس وخال سراتهم

أوس ، فأيهما أدق وألأم

يريد فأيهما الدقيق واللئيم ، وليس المعنى فيه أن الدقة واللؤم قد اشتملا عليهما ثم زاد أحدهما على صاحبه فيهما.

__________________

(١) سورة الفرقان : الاية ١٥.

(٢) سورة الحج : الاية ٧٢.

(٣) سورة الروم : الاية ٢٧.

(٤) ديوان حسان بن ثابت ص ٩ ، من قصيدة يمدح فيها النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قبل فتح مكة ويهجو أبا سفيان.

٣٠٨

وعلى هذا المعنى فسر عثمان بن الجني (١) قول المتنبي :

أعق خليليه الصفيين لائمه.

وأنهما لم يشتركا في العقوق ثم زاد أحدهما على الاخر صاحبه فيه ، مع كونهما خليلين صفيين ، وإنما المراد إن الذي يستحيل منهما عن الصفا ، فيصير عاقا لائمه.

والشواهد في ذلك كثيرة ، وفيما أوردته منها كفاية في إبطال ما ألزمت ، ودلالة على أن الشيعة في قولها إن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان ، لم تناقض لها مذهبا ، ولا خالفت معتقدا ، وإن المراد بذلك أنه الفاضل دونهم ، والمختص بهذا الوصف عنهم ، فتأمل ذلك تجده صحيحا ، والحمد لله.

على أن من الشيعة من امتنع من إطلاق هذا المقال عند تحقيق الكلام ، ويقول في الجملة : إنه ـ عليه السلام ـ بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أفضل الناس ، فسؤالك ساقط عنه ، إذ كان لا يلفظ بما ذكرته إلا على المجاز.

فلما سمع السائل الجواب اعترف بأنه الصواب ، ولم يزد حرفا في هذا الباب ، والحمد لله على خيرته من خلقه سيدنا محمد رسوله وآله الطيبين الطاهرين وسلامه وبركاته (٢).

__________________

(١) أبو الفتح عثمان بن جني ولد ونشأ في الموصل وسكن وتوفي ببغداد عام (٣٩٢ هـ) ، من أكابر علماء النحو والصرف والأدب وهو من أساتذه الشريفين الرضي والمرتضي ، وله مؤلفات عديدة ومنها شرح ديوان المتنبي

(٢) كنز الفوائد للكراجكي ج ٢ ص ٥٧.

٣٠٩

المناطرة الرابعة والخمسون

مناظرة ابن أبي الحديد المعتزلي (١) مع أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي

قال بن أبي الحديد :

سألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوي نقيب البصرة ، وقت قراءتي عليه ، عن هذا الكلام ، وكان ـ رحمه الله ـ على ما يذهب إليه من مذهب العلوية منصفا وافر العقل ، فقلت له : من يعني ـ عليه السذم ـ بقوله : «

__________________

(١) هو : عبد الحميد أبو حامد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد عز الدين المدائني ، أحد جهابذة العلماء ، وأثبات المؤرخين ، كان فقهيا أصوليا ، ومتكلما جدليا نظارا ، وكان مذهبه الاعتزال كما شهد لنفسه في إحدى قصائده في مدح امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ :

ورأيت دين الأعتزال وانني

أهوى لأجلك كل من يتشيع

وعلى أساسه جادل وناظر ، وحاج وناقش ، وله مع الأشعري والغزالي والرازي كتب ومواقف ، وكان أديبا ناقدا ، ثاقب النظر خبيرا بمحاسن الكلام ومساوئه ، متضلعا في فنون الأدب ، متقنا لعلوم اللسان ، عارفا بأخبار العرب ، مطلعا على لغاتها ، جامعا لخطبها ومنافراتها ، راويا لأشعارها وأمثالها ، قارئا مستوعبا لكل ما حوته الكتب والأسفار في زمانه ، ولد بالمدائن سنة ٥٨٦ ه‍ ، ونشأ بها وتلقى عن شيوخها ، ودرس المذاهب الكلامية فيها ، ثم مال إلى مذهب الاعتزال منها ، ثم ارتحل إلى بغداد ، واختلط بالعلماء من أصحاب المذاهب ، وكان أحد الكتاب والشعراء بالديوان الخليفتي وكان حظيا عند الوزير ابن العلقمي وكما فوض إليه أمر خزائن الكتب ، وله عدة مصنفات منها : شرح نهج البلاغة ، الاعتبار ، ديوان شعر ، العبقري الحسان ، القصائد السبع العلويات ، المستنصريات ، الوشاح الذهبي في العلم الأبي ، وغيرها ، توفي سنة ٦٥٥ ه‍ ، وقيل سنة ٦٥٦ ه‍.

راجع ترجمته في : مقدمة شرح نهج البلاغة تحقيق محمد أبو الفضل ، وفيات الأعيان ج ٥ ص ٣٩١ ـ ٣٩٢ ، البداية والنهاية ج ١٣ ص ١٩٩ ، سفينة البحار ج ١ ص ٢٣٣.

٣١٠

كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين)؟ (١) ومن القوم الذين عناهم الأسدي بقوله : (كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به)؟ هل المراد يوم السقيفة أو يوم الشورى؟

فقال : يوم السقيفة.

فقلت : إن نفسي لا تسامحني أن أنسب إلى الصحابة عصيان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ودفع النص.

فقال : وأنا فلا تسامحني أيضا نفسي أن أنسب الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلى إهمال أمر الأمامة ، وأن يترك الناس فوضى سدى مهملين ، وقد كان لا يغيب عن المدينة إلا ويؤمر عليها أميرا وهو حي ليس بالبعيدعنها ، فكيف لا يؤمر وهو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث!

ثم قال : ليس يشك أحد من الناس أن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كان عاقلا كامل العقل ، أما المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم ، وأما اليهود والنصارى والفلاسفة فيزعمون أنه حكيم تام الحكمة (٢) ، سديد الرأي ، أقام ملة ، وشرع شريعة ، فاستجد ملكا عظيما بعقله وتدبيره ، وهذا

__________________

(١) نهج البلاغة للأمام علي ـ عليه السلام ـ من كلام له برقم : ١٦١ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٩ ص ٢٤١.

(٢) تنصيب الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لأمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ في نظر الأمامية وحي من الله تعالى ، فإن الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كما قال تعالى عنه : (وما ينطق عن الهوى ، إن هو الا وحي يوحى) سورة النجم : الاية ٣ و ٤ ، وأما هذا الجواب الذي ذكره العلوي فهو جواب لمن لا يعتقد بعصمته ، أو لا يعتقد بنبوته كاليهود والنصارى الذين يرونه حكيما من الحكماء ، أو ملكا من الملوك ، فالمناظر هنا يريد أن يثبت في استدلاله أنه حتى لو لم يكن نبيا بل كان ملكا أو حكيما فإنه لا بد أن ينصب علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ للأمور المذكورة وغيرها ، فإذا تم هذا فمن باب أولى بالنسبة لمن يعتقد بنبوته وعصمته أن يعتقد بوجوب النص على أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ.

٣١١

الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب وغرائزهم وطلبهم بالثارات والذحول ولو بعد الأزمان المتطاولة ، ويقتل الرجل من القبيلة رجلا من بيت آخر ، فلا يزال أهل ذلك المقتول وأقاربه يتطلبون القاتل ليقتلوه ، حتى يدركوا ثأرهم منه ، فإن لم يظفروا به قتلوا بعض أقاربه وأهله ، فإن لم يظفروا بأحدهم قتلوا واحدا أو جماعة من تلك القبيلة به وإن لم يكونوا رهطه الأدنين ، والأسلام لم يحل طبائعهم ، ولا غير هذه السجية المركوزة في أخلاقهم ، والغرائز بحالها ، فكيف يتوهم لبيب أن هذا العاقل الكامل وتر العرب ، وعلى الخصوص قريشا ، وساعده على سفك الدماء وإزهاق الأنفس وتقلد الضغائن ابن عمه الأدنى وصهره ، وهو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس ، ويتركه بعده وعنده ابنته ، وله منها ابنان يجريان عنده مجرى ابنين من ظهره حنوا عليهما ، ومحبة لهما ، ويعدل عنه في الأمر بعده ، ولا ينص عليه ولا يستخلفه ، فيحقن دمه ودم بنيه وأهله باستخلافه! ألا يعلم هذا العاقل الكامل ، أنه إذا تركه وترك بنيه وأهله سوقة ورعية ، فقد عرض دماءهم للأراقة بعده ، بل يكون هو ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ هو الذي قتله ، وأشاط (١) بدمائهم ، لأنهم لا يعتصمون بعده بأمر يحميهم ، وإنما يكونون مضغة للاكل ، وفريسة للمفترس ، يتخطفهم الناس ، وتبلغ فيهم الأغراض!

فأمّا إذا جعل السلطان فيهم ، والأمر إليهم ، فإنّه يكون قد عصمهم وحقن دماءهم بالرّياسة التي يصولون بها ، ويرتدع الناس عنهم لأجلها ومثل هذا معلوم بالتجربة ، ألا ترى أن ملك بغداد أو غيرها من البلاد لو قتل الناس ووترهم ، وأبقي في نفوسهم الأحقاد العظيمة عليه ، ثم أهمل

__________________

(١) أشاط بدمائهم : أهدرها أو عمل على هلاكها.

٣١٢

أمر ولده وذريته من بعده ، وفسح للناس أن يقيموا ملكا من عرضهم ، وواحدا منهم ، وجعل بنيه سوقة كبعض العامة ، لكان بنوه بعده قليلا بقاؤهم ، سريعا هلاكهم ، ولوثب عليهم الناس ذوو الأحقاد والترات من كل جهة ، يقتلونهم ويشردونهم كل مشرد ، ولو أنه عين ولدا من أولاده للملك ، وقام خواصه وخدمه وخوله بأمره بعده ، لحقنت دماء أهل بيته ، ولم تطل يد أحد من الناس إليهم لناموس الملك ، وأبهة السلطنة ، وقوة الرئاسة ، وحرمة الأمارة!

أفترى ذهب عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ هذا المعنى ، أم أحب أن يستأصل أهله وذريته من بعده! وأين موضع الشفقة على فاطمة العزيزة عنده ، الحبيبة إلى قلبه!

أتقول : إنه أحب أن يجعلها كواحدة من فقراء المدينة ، تتكفف الناس ، وأن يجعل عليا ، المكرم المعظم عنده ، الذي كانت حاله معه معلومة ، كأبى هريرة الدوسي ، وأنس ابن مالك الأنصاري ، يحكم الأمراء في دمه وعرضه ونفسه وولده ، فلا يستطيع الامتناع ، وعلى رأسه مائة ألف سيف مسلول ، تتلظى أكباد أصحابها عليه ، ويودون أن يشربوا دمه بأفواههم ، ويأكلوا لحمه بأسنانهم ، قد قتل أبناءهم وإخوانهم وآباءهم وأعمامهم ، والعهد لم يطل ، والقروح لم تتقرف (١) ، والجروح لم تندمل (٢)!

__________________

(١) تقرف الجرح : طلعت فوقه قشرة ، أي شارف البرء.

(٢) وهذا ما حصل بالفعل فإنه بعدما غصبوهم الخلافة بعد وفاة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أغاروا على ذريته وعترته وأول مالحق الأذى بفاطمة الزهراء ـ عليها السلام ـ بضعته وروحه التي بين جنبيه حتى كسروا ضلعها واسقطوا جنينها بين الحائط والباب وغصبوها نحلتها ، حتى فارقت الدنيا وملوء قلبها الحزن والأسى ، ودفنت ليلا لئلا يشهد جنازتها من

٣١٣

فقلت له : لقد أحسنت فيما قلت ، إلا أن لفظه ـ عليه السلام ـ يدل على أنه لم يكن نص عليه ، ألا تراه يقول : (ونحن الأعلون نسبا ، والأشدون بالرسول نوطا) ، فجعل الاحتجاج بالنسب وشدة القرب ، فلو

__________________

ظلمها وآذاها ، وأعفي قبرها ، واغاروا كذلك على امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وقا دوه للبيعة وفي عنقه الحبل ، وقد قال وهو يشير الى قبر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ : (يابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) انظر شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١١ ص ١١١.

واصبح جليس داره خمس وعشرين سنة صابرا محتسبا يرى تراثه نهبا حتى قاسى الدواهي العظام والمحن الجسام ومن ذلك حرب الجمل وصفين والنهروان ، كل ذلك حسدا وبغضا وكراهية له ، وما فعله بصناديدهم يوم بدر وحنين ، كما صرح بذلك اعداؤه ومبغضوه ، الى ان مضى قتيلا على يد بن ملجم المرادي ، ومن بعده ابنه الحسن ـ عليه السلام ـ غدروا به حتى جرعوه السموم ، ومنعوا دفنه عند جده المصطفى ـ صلى الله عليه وآله ـ ثم جرت أعظم الدواهي والمصائب على ذريته فقتلوا سبطه الحسين واهل بيته ـ عليهم السلام ـ وسبوا نسائه واولاده من بلد الى بلد.

فراحت ذريته تقاسي ألوان العذاب والتشريد والقتل من بني أمية وبني العباس وغيرهم.

فكل ما جرى على أهل البيت ـ عليهم السلام ـ هو بسبب غصبهم الخلافة وتنحيتهم عنها ، ولو كانت الخلافة في يد أهلها لما جرى عليهم ما جرى ولم يجري على الأمة ما جرى من الفرقة والاختلاف والنزاع والفتن وليس هذا فحسب بل كل ما ابتليت به الأمة من محن وفقر وبلاء وذل وغير ذلك هو بسبب تركهم من اختاره الله ونصبه خليفة لرسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال تعالى : (وان لو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم ماء غدقا) الجن : الاية ١٦ ، وقال تعالى : (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) الاعراف : الاية ٩٦ ، ولهذا المعنى يشير سلمان الفارسي في قوله : ولكن أبيتم فوليتموها ـ أي الخلافة ـ غيره فابشروا بالبلايا واقنطوا من الرخاء (الاحتجاج ج ١ ص ١١١) واشار الى هذا المعنى ايضا أبو ذر في قوله : أما لو قدمتم من قدم الله وأخرتم من أخر الله ، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم ، ولما عال ولي الله ولا طاش سهم من فرائض الله ، ولا اختلف اثنان في حكم الله إلا وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسنة نبيه ، فأما إذا فعلتم ما فعلتم فذوقوا وبال أمركم (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون). راجع : تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٧١ عند ذكر ما نقم على أبي ذر.

٣١٤

كان عليه نص ، لقال عوض ذلك : (وأنا المنصوص علي ، المخطوب باسمي).

فقال ـ رحمه الله ـ : إنما أتاه من حيث يعلم ، لا من حيث يجهل ، ألا ترى أنه سأله ، فقال : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام ، وأنتم أحق به؟ فهو إنما سأل عن دفعهم عنه ، وهم أحق به من جهة اللحمة والعترة ، ولم يكن الأسدي يتصور النص ولا يعتقده ، ولا يخطر بباله ، لأنه لو كان هذا في نفسه ، لقال له : لم دفعك الناس عن هذا المقام ، وقد نص عليك رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ؟ ولم يقل له هذا ، وإنما قال كلاما عاما لبني هاشم كافة : كيف دفعكم قومكم عن هذا وأنتم أحق به! أي باعتبار الهاشمية والقربى.

فأجابه بجواب أعاد قبله المعنى الذي تعلق به الأسدي بعينه ، تمهيدا للجواب ، فقال : إنما فعلوا ذلك مع أنا أقرب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ من غيرنا لأنهم استأثروا علينا ، ولو قال له : أنا المنصوص علي ، والمخطوب باسمي في حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لما كان قد أجابه ، لأنه ما سأله هل أنت منصوص عليك أم لا؟ ولا : هل نص رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بالخلافة على أحد أم لا؟ وإنما قال : لم دفعكم قومكم عن الأمر وأنتم أقرب إلى ينبوعه ومعدنه منهم؟ فأجابه جوابا ينطبق على السؤال ويلائمه أيضا ، فلو أخذ يصرح له بالنص ، ويعرفه تفاصيل باطن الأمر لنفر عنه ، واتهمه ولم يقبل قوله ، ولم ينجذب إلى تصديقه ، فكان أولى الأمور في حكم السياسة وتدبير الناس ، أن يجيب بما لا نفرة منه ، ولا مطعن عليه فيه (١).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٩ ص ٢٤٨ ـ ٢٥١ ، بحار الأنوار ج ٣٨ ص ١٦٣ ، سفينة البحار ج ٢ ص ٣٠٨ ـ ٣٠٩.

٣١٥

المناظرة الخامسة والخمسون

مناظرة ابن طاووس (١) مع رجل حنبلي

قال ابن طاووس في وصاياه لولده : حضرني يا ولدي محمد حفظك الله جل جلاله لصلاح آبائك وأطال في بقائك نقيبا ، وأتى رجلا حنبليا ، وقال : هذا صديقنا ويحب أن يكون على مذهبنا فحدثه.

فقلت له : ما تقول إذا حضرت القيامة ، وقال لك محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : لأي حال تركت كافة علماء الأسلام ، واخترت أحمد ابن حنبل أماما من دونهم ، هل معك آية من كتاب بذلك أو خبر عني

__________________

(١) هو : رضي الدين أبو القاسم (وابو الحسن) علي بن السيد سعد الدين بن موسى بن جعفر بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي عبد الله محمد الطاووس بن إسحاق بن الحسن بن محمد بن سليمان بن داود بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب ـ عليهما السلام ـ ولد في سنة ٥٨٩ ه‍ بالحلة ونشأ بها وترعرع ، ثم هاجر إلى بغداد وأقام بها نحوا من خمس عشرة سنة وأسكنه المستنصر العباسي دارا في الجانب الشرقي من بغداد ، ثم رجع إلى الحلة ، ثم انتقل إلى النجف ثم كربلاء ثم عاد إلى بغداد.

ولي نقابة الطالبيين وبقي فيها إلى أن توفي سنة ٦٦٤ ، نشأ وسط أسرة علمية عريقة ، وتتلمذ على أيدي علماء أعلام منهم : الشيخ ورام والشيخ نجيب الدين محمد بن نما وغيرهم الكثير ، وروى عنه الكثير منهم : الاربلي صاحب كشف الغمة ، وسديد الدين والد العلامة الحلي وغيرهم ، ترك ثروة ضخمة من التأليف القيمة منها : أسرار الصلاة ، الأقبال ، والتحصين ، كشف المحجة ، واليقين.

انظر ترجمته في : مقدمة اليقين وجمال الأسبوع ، أمل الامل ج ٢ ص ٢٠٥ ترجمة رقم : ٢٦٢ ، معجم رجال الحديث ج ١٢ ص ١٨٨ ، سفينة البحار ج ٢ ص ٩٦.

٣١٦

بذالك ، فإن كان المسلمون ما كانوا يعرفون الصحيح حتى جاء أحمد ابن حنبل وصار إماما فعمن روى أحمد بن حنبل عقيدته وعلمه وإن كانوا يعرفون الصحيح وهم أصل عقيدة أحمد بن حنبل فهلا كان السلف قبله أئمة لك وله.

فقال : هذا لا جواب لي عنه لمحمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ.

فقلت له : إذا كان لا بد لك من عالم من الأمة تقلده فالزم أهل بيت نبيك ـ عليهم السلام ـ فإن أهل كل أحد أعرف بعقيدته وأسراره من الأجانب فتاب ورجع.

وقلت لبعض الحنابلة : أيما أفضل آباؤك وسلفك الذين كانوا قبل أحمد بن حنبل إلى عهد النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، أو آباؤك وسلفك الذين كانوا بعد أحمد بن حنبل فإنه لا بد أن يقول إن سلفه المتقدمين على أحمد بن حنبل أفضل لأجل قربهم إلى الصدر الأول ومن عهد النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ.

فقلت : إذا كان سلفك الذين كانوا قبل أحمد بن حنبل أفضل فلأي حال عدلت عن عقائدهم وعوائدهم إلى سلفك المتأخرين عن أحمد بن حنبل وما كان الأوائل حنابلة لأن أحمد بن حنبل ما كان قد ولد ولا كان مذكورا عندهم فلزمته الحجة وانكشفت له المحجة والحمد لله رب العالمين (١).

__________________

(١) كشف المحجة لابن طاووس : ص ٨١.

٣١٧

المناظرة السادسة والخمسون

مناظرة ابن طاووس مع رجل من الزيدية وآخر من أهل العلم

قال ابن طاووس في وصاياه لولده :

وحضر عندي ـ يا ولدي محمد رعاك الله جل جلاله بعنايته الألهية ـ بعض الزيدية وقد قال : لي إن جماعة من الأمامية يريدون مني الرجوع عن مذهبي بغير حجة وأريد أن تكشف لي عن حقيقة الأمر بما يثبت في عقلي.

قلت له : أول ما أقول أنني علوي حسني وحالي معلوم ولو وجدت طريقا إلى ثبوت عقيدة الزيدية كان ذلك نفعا ورئاسة لي دينية ودنيوية ، وأنا أكشف لك بوجه لطيف عن ضعف مذهبك بعض التكشف.

هل يقبل عقل عاقل فاضل أن سلطان العالمين ينفذ رسولا أفضل من الأولين والاخرين إلى الخلائق في المشارق والمغارب ويصدقه بالمعجزات القاهرة والايات الباهرة ثم يعكس هذا الاهتمام الهائل والتدبير الكامل ويجعل عيار اعتماد الأسلام والمسلمين على ظن ضعيف يمكن ظهور فساده وبطلانه للعارفين.

فقال : كيف هذا؟

فقلت : لأنكم إذا بنيتم أمر الامامة أنتم ومن وافقكم أو وافقتموه على الاختيار من الأمة للأمام على ظاهر عدالته وشجاعته وأمانته وسيرته وليس معكم في الاختيار له إلا غلبة الظن الذي يمكن أن يظهر خلافه لكل

٣١٨

من عمل عليه كما جرى للملائكة وهم أفضل اختيارا من بني آدم لما عارضوا الله جل جلاله في أنه جعل آدم خليفة وقالوا : (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) (١) ، فلما كشف لهم حال آدم ـ عليه السلام ـ رجعوا عن اختيارهم لعزل آدم ، وقالوا : (سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا) (٢) ، وكما جرى لادم الأكل من الشجرة ، وكما جرى لموسى في اختياره سبعين رجلا من خيار قومه للميقات ، ثم قال عنهم بعد ذلك : (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) (٣) ، حيث قالوا : (أرنا الله جهرةً) (٤).

وكما جرى ليعقوب ـ عليه السلام ـ في اختياره أولاده لحفظ ولده يوسف ، وغيره من اختيار الأنبياء والأوصياء والأولياء وظهر لهم بعد ذلك الاختيار ضعف تلك الاراء ، فإذا كان هؤلاء المعصومون قد دخل عليهم في اختيارهم ما قد شهد به القرآن والأجماع من المسلمين فكيف يكون اختيار غيرهم ممن يعرف من نفسه أنه ما مارس أبدا خلافة ولا أمارة ولا رياسة حتى يعرف شروطها وتفصيل مباشرتها فيستصلح لها من يقوم لها وما معه إلا ظن ضعيف بصلاح ظاهر من يختاره.

وهل يقبل عقل عاقل وفضل فاضل أن قوما ما يعرفون مباشرة ولا مكاشفة تفصيل ما يحتاج إليه من يختارونه فيكون اختيارهم لأمر لا يعرفونه حجة على من حضر وعلى من لم يحضر ، أما هذا من الغلط

__________________

(١) سورة البقرة : الاية ٣٠.

(٢) سورة البقرة : الاية ٣٢.

(٣) سورة الأعراف : الاية ١٥٠.

(٤) سورة النساء : الاية ١٥٣.

٣١٩

المستنكر؟

ومن أين للذين يختارون إمامهم معرفة بتدبير الجيوش والعساكر وتدبير البلاد وعمارة الأرضين والأصلاح لاختلاف إرادات العالمين حتى يختاروا واحدا يقوم بما يجهلونه ، إنا لله وإنا إليه راجعون ممن قلدهم في ذلك أو يقلدونه.

ومما يقال لهم : إن هؤلاء الذين يختارون الأمام للمسلمين من الذي يختارهم لهم لتعيين الأمام ومن أي المذاهب يكونون فإن مذاهب الذين يذهبون إلى اختيار الأمام مختلفة ، وكم يكون مقدار ما بلغوا إليه من العلوم حتى يختاروا عندها الأمام وكم يكون عددهم وهل يكونون من بلد واحد أو من بلاد متفرقة ، وهل يحتاجون قبل اختيارهم للأمام أن يسافروا إلى البلاد يستعلمون من فيها ممن يصلح للأمامة أو لا يصلح أو هل يحتاجون أن يراسلوا من بعد عنهم من البلاد ويعرفونهم أنهم يريدون اختيار الأمام للمسلمين فإن كان في بلد غير بلدهم من يصلح أو يرجح ممن هو في بلادهم يعرفونهم أم يختارون من غير كشف لما في البلاد ومن غير مراسلة لعلماء بلاد الأسلام فإن كان سؤال من هذه السؤالات يتعذر قيام الحجة على صحته وعلى لزومه لله جل جلاله ولزومه لرسوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ولزومه لمن لا يكون مختارا لمن يختارونه من علماء الأسلام أفلا ترى تعذر ما ادعوه من اختيار الامام؟!

ولقد سمع مني بعض هذا الكلام شخص من أهل العلم من علم الكلام.

فقال : إن الناس ما زالوا يعملون في مصالحهم على الظنون.

فقلت له : هب أنهم يعملون في مصالحهم في نفوسهم بظنونهم

٣٢٠