مناظرات

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

جل وعلا فاطمة بعلي في الملأ الأعلى (١) ، وقاتل ـ عليه السلام ـ مع عمرو ابن عبدود (٢) ، وفتح خيبر (٣) ، ولا أشرك بالله تعالى طرفة عين بخلاف

__________________

لي : اجلس فجلست إلى جنب الكعبة فصعد النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ على منكبي ، فقال لي : انهض ، فنهضت فلما رأى ضعفي تحته ، فقال لي اجلس. فجلست فقال : يا علي اصعد منكبي ، فصعدت على منكبيه ثم نهض بي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فقال لي : اذهب إلى صنمهم الأكبر صنم قريش ، وكان من نحاس موتدا بأوتاد من حديد إلى الأرض ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : عالجه والنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول : ايه ايه (جاء الحق وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا) الأسراء ١٧ ، ولم أزل أعالجه حتى استمكنت منه ، فقال لي : اقذفه ، فقذفت به وتكسر ونزلت من فوق الكعبة فانطلقت أنا والنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وخشينا أن يرانا أحد من قريش أو غيرهم. فقال علي : فما صعدته حتى الساعة.

وممن روى هذا الحديث الزمخشري في الكشاف في تفسير قوله تعالى : (وقل جاء الحق وزهق الباطل).

وقد قال الشافعي في هذه الفضيلة الشريفة :

قيل لي : قل في علي مدحا

ذكره يخمد نارا موصدة

قلت : لا أقدم في مدح امرء

ضل ذو اللب إلى أن عبده

والنبي المصطفى قال لنا

ليلة المعراج لما صعده

وضع الله بظهري يده

فأحس القلب مما برده

وعلي واضع أقدامه

في محل وضع الله يده

(١) راجع : كفاية الطالب للكنجي الشافعي ص ٢٩٩ ، فرائد السمطين ج ١ ص ٨٨ ح ٦٧ و ص ٩٠ ، العذير للأميني ج ٢ ص ٣١٥.

(٢) فقد روى المؤرخون في غزوة الخندق أنه :

خرج عمرو بن ود يوم الخندق فنادى من يبارز فقام علي ـ عليه السلام ـ فقال : أنا له يا نبي الله ، فقال له : اجلس إنه عمرو ، ونادى عمرو ألا رجل ، وهو يؤنبهم ويقول : أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها أفلا تبرزون إلي رجالا ، فقام علي ، فقال : يارسول الله أنا له ، فقال : إنه عمرو وقال : وإن كان عمرو فأذن له رسول الله فمشى إليه حتى أتاه وهو يقول :

لا تعجلن فقد أتاك مجيب

صوتك غير عاجز

ذو نية وبصيرة

والصدق منجي كل فائز

إني لأرجو أن أقيم عليك

نائحة الجنائز

٣٤١

__________________

من ضربة نجلاء يبقى

ذكرها عند الهزائز

فقال له عمرو : ومن أنت؟ فقال : أنا علي ، قال : ابن عبد مناف ، قال : أنا علي ن أبي طالب ، فقال : غيرك يابن أخي من أعمامك فإني أكره أن أهريق دمك ، فقال له علي ـ عليه السلام ـ : لكني والله ما أكره أن أهريق دمك ، فغضب ونزل فسل سيفه كأنه شعلة نار ، ثم أقبل نحو علي ـ عليه السلام ـ مغضبا واستقبله علي ـ عليه السلام ـ بدرقته فضربه عمرو في الدرقة فقدها وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه وضربه علي على حبل العاتق فسقط وقده نصفين وثار الغبار العجاج وسمع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ التكبير فعرف أن عليا ـ عليه السلام ـ قد قتله ثم أقبل علي ـ عليه السلام ـ نحو رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ووجهه يتهلل نورا.

راجع : المناقب للخوارزمي ص ١٦٩ ح ٢٠٢ ، المستدرك على الصحيحين ج ٣ ص ٣٢ ، ترجمة أمير المؤمنين من تاريخ ابن عساكر ج ١ ص ١٦٩ ـ ١٧٤ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١٩ ص ٦٢ ـ ٦٤ ، السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٢٤١.

(٣) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٥٤ ـ ٦٥٥ ، تاريخ الطبري ج ٣ ص ١٢ ـ ١٤ ، مسند أحمد ابن حنبل ج ٦ ص ٨ ، سيرة ابن هشام ج ٣ ص ٣٤٩ ـ ٣٥٠ ، مناقب الخورزمي ص ١٧٢ ح ٢٠٧. وجاء في فرائد السمطين ج ١ ص ٢٥٣ ح ١٩٦ عن سهل بن سعد قال : إن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال يوم خيبر : لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، قال : فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها ، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كلهم يرجون أن يعطاها!! فقال : أين علي بن أبي طالب؟ قالوا : يارسول الله هو يشتكي عينيه. قال : فأرسلوا إليه. فأتي به فبصق في عينه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية ... الخ.

وجاء في ص ٢٦١ ح ٢٠١ عن أبي رافع مولى النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ برايته ، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من يهود فطرح ترسه من يده ، فتناول علي باب الحصن فتترس عن نفسه ، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه ، ثم ألقاه من يده فلقد رأيتني في نفر معي سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه. وجاء في ح ٢٠٢ عن جابر بن عبد الله قال : جعل علي باب خيبر يومئذ ـ حتى صعد المسلمون عليه ففتحوها ـ فجرب بعده فلم يحمله إلا أربعون رجلا :

وقال في هذه الحادثة الشريفة الشيخ كاظم الأزري ـ عليه الرحمة ـ :

٣٤٢

الثلاثة ، وشبه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عليا بالأنبياء الأربعة ، حيث قال : (من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في فهمه وإلى موسى في بطشه وإلى عيسى في زهده فلينظر إلى علي بن أبي طالب) (١) ، ومع وجود هذه الفضائل والكمالات الظاهرة الباهرة ومع قرابته ـ عليه السلام ـ للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ ، ورد الشمس له (٢) ، كيف يعقل ويجوز

__________________

وله يوم خيبر فتكات

كبرت منظرا على من رآها

يوم قال النبي : إني لأعطي

رايتي ليثها وحامي حماها

فاستطالت أعناق كل فريق

ليروا أي ماجد يعطاها

فدعا أين وارث العلم والحلم

مجير الأيام من بأساها

أين ذو النجدة الذي لودعته

في الثريا مروعة لباها

فأتاه الوصي أرمد عين

فسقاه من ريقه فشفاها

ومضى يطلب الصفوف فولت

عنه علما بأنه أمضاها

وبرى (مرحبا) بكف اقتدار

أقوياء الأقدار من ضعفاها

ودحا بابها بقوة بأس

لو حمتها الأفلاك منه دحاها

انظر : تخميس الأزرية ص ١٣٨.

(١) راجع : البداية والنهاية ج ٧ ص ٣٥٦ ، كفاية الطالب ص ١٢١ ـ ١٢٢ ، كنز العمال ص ٢٢٦ ، فرائد السمطين ج ١ ص ١٧٠ ح ١٣١ ، الغدير للأميني ج ٣ ص ٣٥٣ ، بتفاوت.

(٢) راجع : مشكل الاثار للطحاوي ج ٢ ص ٨ ، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي ص ٤٩ ، البداية والنهاية ج ٦ ص ٢٨٢ ، مناقب ابن المغازلي ص ٩٦ ح ١٤٠ ، كفاية الطالب ص ٣٨١ ، فرائد السمطين ج ١ ص ١٨٣ ح ١٤٦.

وممن ذكر حديث رد الشمس لأمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ القندوزي في ينابيع المودة في ب ٤٦ في رد الشمس بعد غروبها قال في ص ١٣٧ : أخرج ابن المغازلي والحمويني وموفق بن أحمد الخوارزمي وهم جميعا بالأسناد عن أسماء بنت عميس قالت : أوحى الله إلى نبيه فتغشاه الوحي فستره علي ـ عليه السلام ـ بثوبه حتى غابت الشمس فلما سرى عنه قال : يا علي صليت العصر قال : لا يارسول الله شغلت عتها بك ، فقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : اللهم اردد الشمس إلى علي ، قالت أسماء : فرجعت حتى بلغت حجرتي.

وقال في ص ١٣٨ : وفي كتاب الأرشاد أن أم سلمة وأسماء بنت عميس وجابر بن عبد الله

٣٤٣

تفضيل أبي بكر على علي ـ عليه السلام ـ.

ولما سمع رفيع الدين هذه المقالة من أبي القاسم من تفضيله عليا ـ عليه السلام ـ على أبي بكر ، انهدم بناء خصوصيته لأبي القاسم ، وبعد اللتيا والتي قال رفيع الدين لأبي القاسم : كل رجل يجئ إلى المسجد فأي شئ يحكم من مذهبي أو مذهبك نطيع ، ولما كان عقيدة أهل همذان على أبي القاسم ظاهرا كان خائفا من هذا الشرط الذي وقع بينه وبين رفيع الدين ، لكن لكثرة المجادلة والمباحثة قبل أبو القاسم الشرط المذكور ورضي به كرها.

وبعد قرار الشرط المذكور بلا فصل جاء إلى المسجد فتى ظهر من بشرته آثار الجلالة والنجابة ومن أحواله لاح المجئ من السفر ودخل في المسجد وطاف ، ولما جاء بعد الطواف عندهما قام رفيع الدين على كمال الاضطراب والسرعة ، وبعد السلام للفتى المذكور سأله وعرض الأمر المقرر بينه وبين أبي القاسم وبالغ مبالغة كثيرة في إظهار عقيدة الفتى وأكد بالقسم وأقسمه بأن يظهر عقيدته على ما هو الواقع ، والفتى المذكور بلا توقف أنشأ هذين البيتين :

__________________

وأبا سعيد الخدري وغيرهم من جماعة من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ قالوا : إن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كان في منزل ، فلما تغشاه الوحي توسد فخذ علي فلم يرفع رأسه حتى غابت الشمس ، وصلى علي ـ عليه السلام ـ صلاة العصر بالأيماء فلما أفاق ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال : اللهم اردد الشمس لعلي ـ عليه السلام ـ فردت عليه الشمس حتى صارت في السماء وقت العصر فصلى علي ـ عليه السلام ـ العصر ثم غربت. فانشأ حسان بن ثابت :

يا قوم من مثل علي وقد

ردت عليه الشمس من غائب

أخو رسول الله وصهره

والأخ لا يعدل بالصاحب

وللحديث مصادر أخرى كثيرة.

٣٤٤

متى أقل مولاي أفضل منهما

أكن للذي فضلته متنقصا

ألم ترأن السيف يزري بحده

مقالك هذا السيف أحدى من العصا

ولما فرغ الفتى من إنشاء هذين البيتين كان أبو القاسم مع رفيع الدين قد تحيرا من فصاحته وبلاغته ، ولما أرادا تفتيش حال الفتى غاب عن نظرهما ولم يظهر أثره ، ورفيع الدين لما شاهد هذا الأمر الغريب العجيب ترك مذهبه ... واعتقد المذهب الحق الاثنى عشري.

أقول : الظاهر أن ذلك الفتى هو القائم ـ عليه السلام ـ ، وأما البيتان فهما المادة للأبيات التي قد أوردها في مثل هذا المقام الشيخ إبراهيم القطيفي (١) ـ المعاصر للشيخ علي

__________________

(١) هو : الفاضل الشهير والعالم النحرير الشيخ إبراهيم ابن الشيخ سليمان البحراني أصلا ، القطيفي نشأة ، الحلي ملجأ ، الغروي مدفنا.

وعرف ايضا بالفاضل القطيفي ، قال : عنه المجلسي في بحاره : كان في غاية الفضل ، وقال عنه الشيخ عباس القمي في فوائده : شيخ أجل أكمل فاضل صالح عالم رباني معاصر محقق ، ثاني صاحب تصنيفات فائقة وإجازات نافعة ومقامات عالية ، وقال عنه العلامة الميرزا محمد باقر في روضات الجنات : كان عالما فاضلا ورعا صالحا من كبار المجتهدين وأعلام الففهاء والمحدثين.

هجر وطنه القطيف وسكن النجف الأشرف سنة ٩١٣ ه‍ وهناك قرأ على معظم مشايخ الأجازة العلوم المعهودة في الرتبة العالية ، منهم الشيخ علي الجزائري ، والشيخ محمد بن زاهد النجفي ، والشيخ إبراهيم الوراق ، وتتلمذ عليه العديد من الفطاحل وأصحاب النظر ، منهم : السيد شريف الدين المرعشي التستري ، والسيد نعمة الله الحلي ، والسيد معز الدين الأصفهاني. وله عدة تصنيفات منها : رسالة السراج الوهاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج ، ورسالة في حرمة صلاة الجمعة في زمن الغيبة ، والرسالة الحائرية ، والرسالة الصومية ، ورسالة في أحكام الشكوك ، وكتاب الفرقة الناجية ، وحاشية على الشرائع ، والرسالة الرضاعية ، وكتاب الأربعين ، وله مع الشيخ علي الكركي محاورات ومناقشات في قبول هدية السلطان توفي حدود سنة ٩٥٠ ه‍. انظر : ترجمته في روضات الجنات ج ١ ص ٢٥ ، لؤلؤة البحرين ص ١٥٩ وفي مقدمة كتاب السراج الوهاج للمترجم له.

٣٤٥

الكركي (١) ـ في أوائل إجازته (٢) للسيد شريف بن السيد جمال الدين نور الله ابن شمس الدين محمد شاه الحسيني التستري ، إذ الظاهر أنه قد أخذها من ذينك البيتين في كلامه ـ عليه السلام ـ في تلك المحاكمة ، فتأمل والذي أورده في تلك الأجازة هكذا :

يقولون لي فضل عليا عليهم

فلست أقول التبر أعلى من الحصا

إذا أنا فضلت الأمام عليهم

أكن بالذي فضلته متنقصا

ألم ترأن السيف يزرى بحده

مقالة هذا السيف أمضى من العصا (٣)

__________________

(١) هو : الفقيه قدوة المحققين الشيخ الجليل نور الدين أبو الحسن علي بن الحسين بن عبد العالي العاملي الكركي واشتهر بالمحقق الثاني ، ولد ـ رحمه الله ـ في كرك سنة ٨٦٨ ه‍ ودرس فيها حيث كانت كرك آنذاك معقلا للشيعة يتواج د فيها الكثير من العماة وطلاب العلوم الدينية ، وقال عنه المحقق البحراني في لؤلؤة البحرين : وكان مجتهدا صرفا اصوليا بحتا.

وكان من علماء دولة شاه طهماسب الصفوي ، جعل أمور المملكة بيده وكتب رقما إلى جميع الممالك بأمتثال ما يأمر به وكان الشيخ يكتب الى جميع البلدان كتبا بدستور العمل في الخراج وما يبغي تدبيره في أمور ارعية حتى أنه غير القبلة في كثير بلاد العجم ، باعتبار مخالفتها لما يعلم من كتب الهيئة.

ومن اساتذته وشيخوه : العيناثي وزين الدين الجزائري وشمسة دين العاملي ، وغيرهم ، وتتلمذ على يديه عدد من الأعلام والمجتهدين ، وله عدة تصانيف منها : دراية الحديث ، الرسالة الخواجية ، إثبات الرجعة ، جامع المقاصد في شرح القواعد ، رسالة في الرضاع ، رسالة قاطعة اللجاج في تحقيق حل الخراج ، وتوفي في سنة ٩٤٠ ه‍.

انظر ترجمته في : روضات الجنات ج ٤ ص ٣٦٠ ، وفي مقدمة كتاب رسائل المحقق الكركي وغيرها.

(٢) انظر : بحار الأنوار ج ١٠٥ ص ١١٦ ط بيروت وج ١٠٨ ص ١١٦ ـ ١١٧ ط طهران.

(٣) رياض العلماء للأصفهاني ج ٥ ص ٥٠٤.

٣٤٦

المناظرة الستون

مناظرة ابن أبي جمهور الأحسائي (١) مع الهروي في خراسان

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله حق حمده ، والصلوة على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.

وبعد فقد سألتني أطال الله بقاءك عما كان بيني وبين الهروي في بلاد خراسان من المجادلات في المذهب ، وما ألزمته من الحجة.

__________________

(١) هو : العالم الجليل والحكيم المتكلم المحقق الشيخ محمد بن الشيخ زين الدين أبي الحسن علي بن حسام الدين إبراهيم بن حسن بن ابراهيم بن أبي جمهور الهجري الأحسائي.

قال العلامة القاضي الشوشتري : صيت فضائله ، معروف ومشهور بين الجمهور ، وهو في عداد المجتهدين الامامية ، وفنون كمالاته خارجة عن حد الأحصاء ، ولد في الأحساء ودرس فيها وتفوق على أقرانه ، ونال قصب السبق في دراسته ، ثم سافر إلى العراق وحضر عند د علمائها منهم الفاضل شرف الدين حسين بن عبد الكريم الفتال ، الشيخ علي بن هلال الجزائري ، الشيخ حرز الدين الأوبلي ، كما درس أيضا عند والده المرحوم الشيخ علي.

ومن مؤلفاته (ره) أسرار الحج ، الأقطاب الفقهية ، كشف الحال عن أحوال الاستدلال ، درر اللالئ العمادية في الأحاديث الفقهية ، غوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية ، وغيرها.

وقد أثيرت حول ابن أبي جمهور الأحسائي شبهات عديدة ، جمعها ورد عليها آية الله العظمى السيد المرعشي النجفي (ره) في رسالة سماها الردود والنقود على الكتاب ومؤلفه والأجوبة الشافية الكافية عنهما ، وطبعت هذه الرسالة في مقدمة كتاب الغوالي ، توفي في أوائل القرن العاشر ولعله في العقد الأول منه.

راجع ترجمته في كتاب الأقطاب الفقهية في ترجمة المصنف ، مجالس المؤمنين للشوشتري ج ١ ص ٥٨١ ، روضات الجنات للخوانساري ج ٧ ص ٢٦ ، لؤلؤة البحرين للشيخ يوسف البحراني ص ١٦٦ ، الأعلام للزركلي ج ٦ ص ٢٨٨ ، أعيان الشيعة ج ٩ ص ٤٣٤.

٣٤٧

فاعلم أني كنت في سنة ثمان وسبعين وثمانمائة مجاورا في مشهد الرضا ـ عليه السلام ـ ، وكان منزلي السيد الأجل ، والكهف الأظل وسيد محسن بن محمد الرضوي القمي ، وكان من أعيان أهل المشهد وساداتهم ، بارزا على أقرانه بالعلم والعمل ، وكان هو وكثير من أهل المشهد يشتغلون معي في علم الكلام والفقه ، فأقمنا على ذلك مدة ، فورد علينا من الهراة (١) خال السيد محسن ، وكان مهاجرا فيها لتحصيل العلم.

فقال : إن السبب في ورودي عليكم ما ظهر عندنا بالهراة من اسم هذا الشيخ العربي المجاور بالمشهد ، وظهور فضله بالعلم والأدب ، فقدمت لأستفيد من فوائده شيئا ، وخلفي رجل من أهل كيج ومكران (٢) ولكنه من قريب سنتين متوطن الهراة ، مصاحب لعلمائها يطلبون منه فنون العلم ، وقد صار الان مبرزا في كثير من الفنون ، مثل علم النحو ، والصرف ، والمنطق ، والكلام ، والمعاني ، والبيان ، والأصول ، والفقه ، وغير ذلك ، وهو عامي المذهب.

__________________

(١) هراة : مدينة عظيمة مشهورة من امهات مدن خراسان ، فيها بساتين كثيرة ومياه غزيرة إلا أن التتار خربوها وقال الشاعر فيها :

هراة أرض خصبها واسع

ونبتها اللقاح والنرجس

ما أحد منها إلى غيرها

يخرج إلا بعد ما يفلس

(مراصد الاطلاع : ج ٣ ـ ص ١٤٥٥) ، وهي اليوم من مدن أفغانستان المعروفة.

(٢) مكران : ولاية واسعة تشتمل على مدن وقرى ، غربيها كرمان ، وسجستان شماليها ، والبحر جنوبيها.

وإياها عنى عمر بن معد يكرب بقوله :

قوم هم ضربوا الجبابر إذ بغوا

بالمشرفية من بنى ساسان

حتى استبيح قرى السواد وفارس

والسهل والأجبال من مكران

انظر : مراصد الأطلاع ج ٣ ص ١٣٠١.

٣٤٨

وله مجادلات مع أهل المذاهب ، وقوة إلزام الخصوم في الجدل ، وقد سمع يذكر هذا الشيخ العربي فجاء لقصد زيارة الامام الرضا ـ عليه السلام ـ ، وقصد ملاقاة هذا الشيخ والجدل معه ، وها هو على الأثر يقدم غدا أو بعد غد فما أنتم قائلون؟

فأشار إلي السيد بما قال خاله مستطلعا لرأيي ، وقال : إذا قدم هذا الرجل فبالضرورة يكون ضيفا لنا لأنه قدم مع خالي وخالي ضيف لنا ، وما يحسن منا تضييف أحد المتصاحبين وترك الاخر ، فإن حصلت الضيافة التقى معك بالضرورة ، وتحصل المجادلة بينكما ، لأنه إنما أتى لهذا الغرض فما أنت قائل؟ أتحب أن تلاقيه وتجادله ، أو لا تحب ذلك فتحتال في رده عنا.

فقلت : إني أستعين بالله على جداله ، وأرجو أن يقهره الحق بفالجه ، ويغلبه بنوره ، وقال السيد : ذلك هو مراد الأصحاب ، فلما كان بعد يوم من مجئ خال السيد قدم الهروي إلى المدرسة ، وعلم السيد وخاله بوصوله فمضينا إليه وجاء به إلى المنزل وأضافوه وعملوا وليمة احضروا فيها جميع الطلبة وجماعة من الأشراف والسادة وحصل بيني وبينه الملاقاة في منزل السيد فجادلت معه في ثلاثة مجالس :

(المجلس) الأول : كان في منزل السيد يوم الضيافة بحضور الطلبة والأشراف فكان أول ما تكلم به معي قبل البحث أن قال : يا شيخ ، ما اسمك؟

فقلت : محمد.

فقال : من أي بلاد العرب؟

٣٤٩

فقلت : من بلاد هجر الموسومة بالأحساء (١) أهل العلم والدين.

فقال : أي شئ مذهبك؟

فقلت : سألتني عن الأصول أو الفروع؟

فقال : عن كليهما.

فقلت : مذهبي في الأصول كل ما قام الدليل عليه ، وأما في الفروع فلي فقه منسوب إلى أهل البيت ـ عليهم السلام ـ.

فقال : أراك أمامي المذهب.

__________________

(١) الأحساء : هي علم على مواضع من بلاد العرب : أحساء بني سعد بحذاء هجر ، أول من عمرها وحصنها وجعلها قصبة هجر أبو طاهر القرمطي ، وهي مشهورة ، وأحساء بني وهب : على خمسة أميال من المرتمي ، بين القرعاء وواقصة على طريق الحاج ، فيه بركة وتسعة آبار ، كبار وصغار ، وهو أيضا : ماء لغني.

قال الحسين بن مطير :

أين جيراننا على الأحساء

أين جيراننا على الأطواء

وفي المنجد : الأحساء أو الحساء إقليم يشمل الساحل الشرقي في المملكة العربية السعودية عرف سابقا باسم (هجر) و (البحرين) يعرف اليوم بالمنطقة الشرقية الغنية زراعيا (تمور وفواكه) ، منطقة نفط هامة ، أشهر مدنه : الهفوف ، القطيف ، جبيل ، جزيرة جنة ، صفوي ، الدمام ، الخبر ، الظهران ، رأس تنورة. وجاء في أنوار البدرين : وهي (أي بلاد الأحساء) مدينة كبيرة عظيمة من أكبر مدن الأسلام القديمة وهي هجر (تغليبا) وينسب إليه رشيد الهجري الذي هو من خواص أصحاب أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ومن حملة أسراره ، وهذه المدينة تقارب جزيرة أوال أو تزيد ، ذات الأترج والنخيل والأرز والقطن ، وتمرها أجود تمر ، وفيها آثار قديمة وينقل مستفيضا أن في بعض قراها ـ ولعلها القارة ـ آثارا من زمن المسيح عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ ومن أقدم قراها جواثة وهي قاعدة بلاد الأحساء في الزمن القديم ، خربها الرمل وفي الحديث : أول جمعة أقيمت بعد المدينة في جواثة في بني عبد القيس ، وفيها الجبل المشهور المعروف بجبل القارة ، من عجائب الدنيا فيه مغارات كثيرة عظيمة ليس فيه شئ من هوام الأرض وحشراتها أصلا حتى النمل ، ومن خواصه البرودة العظيمة في الصيف.

راجع : مراصد الاطلاع ج ١ ص ٣٦ ـ ٣٧ ، المنجد (قسم الأعلام) ص ٢٤ ، أنوار البدرين في تراجم علماء القطيف والأحساء والبحرين ص ٣٨٢.

٣٥٠

فقلت : نعم ، أنا إمامي المذهب ، فما تقول؟

فقال : إن المامي يقول : إن علي بن ابي طالب ـ عليه السلام ـ إمام بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بلا فصل.

فقلت : نعم ، وأنا أقول ذلك.

فقال : أقم الدليل على دعواك.

فقلت : لا أحتاج الى إقامة دليل على ذلك.

فقال : ولم؟

فقلت : لأنك لا تنكر إمامة علي ـ عليه السلام ـ أصلا ، أنا وأنت متفقان على أنه إمام بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، ولكنك أنت تدعي الواسطة بينه وبين الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، وأنا أنفي الواسطة ، فأنا ناف وأنت مثبت ، فإقامة الدليل عليك اللهم إلا أن تنكر إمامة علي ـ عليه السلام ـ أصلا وتقول : إنه ليس إماما أصلا ورأسا ، فتخرق الأجماع وتلزمني إقامة الدليل حينئذ.

فقال : أعوذ بالله ما أنكر إمامة علي ـ عليه السلام ـ ، ولكني أقول : هو الرابع بعد الثلاثة قبله.

فقلت : إذن أنت المحتاج إلى إقامة الدليل على دعواك لأني لا أوافقك على إثبات هذه الوسائط ، فضحك الأشراف والحاضرون من الطلبة ، وقالوا : إن العربي لمصيب ، والحق أحق بالا تباع ، إنك أنت المدعي وهو المنكر ، والمدعي محتاج إلى إثبات دعواه إلى البينة فألزمته الحجة.

قال : الدليل على مدعاي كثير.

فقلت : أريد واحدا لا غير.

٣٥١

فقال : الإجماع من الأمة على إمامة أبي بكر بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بلا فصل وأنت لا تنكر حجة الاجماع.

فقلت : ما تريد بالأجماع ، الأجماع الحاصل من كثرة القائل بذلك في ذلك الوقت ، أو الأجماع الحاصل من أهل الحل والعقد من يوم موت النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ؟ إن أردت الأول فلا حجة فيه ، لأن المخالف موجود ولا حجة فيها بنص القرآن لأنه تعالى يقول : (وقليل من عبادي الشكور) (١) ، ولم تزل الكثرة مذمومة في جميع الأمور حتى في القتال ، قال تعالى : (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) (٢) وإن أردت الثاني فلي في إبطاله طريقان ، طريقة على مذهبي ولا تلزمك ، وهي أن الاجماع عندنا إنما يكون حجة مع دخول المعصوم فيه (٣) ، فكل إجماع خال منه لا حجة فيه عندنا لجواز الخطأ على كل واحد واحد فهكذا على الكل لتركبه من الاحاد ، وأنت لا تقول بدخول المعصوم ، فالاجماع الذي تدعيه لا يكون عندنا صحيحا فلا يكون حجة وطريقة على مذهبك ، وهو أن الإجماع هو : اتفاق أهل والعقد من أمة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ على أمر من الأمور.

وهذا المعنى لا يحصل لأبي بكر يوم السقيفة ، بل كان فضلاء العرب وعلماؤهم وزهادهم وذو والأقدار أولوا الأيدي والأبصار منهم وأهل الحل والعقد غيابا لم يحضروا معهم السقيفة بالاتفاق كعلي بن أبي طالب ،

__________________

(١) سورة سبأ : الاية ١٣.

(٢) سورة البقرة : الاية ٢٤٩.

(٣) فرائد الاصول : للشيخ مرتضى الانصاري ج ١ ص ٨٠ ، كفاية الاصول : للشيخ محمد كاظم الخراساني (الاخوند) ص ٣٣١.

٣٥٢

والعباس ، وابنه عبد الله بن العباس ، والزبير ، والمقداد ، وعمار ، وأبي ذر ، وسلمان الفارسي ، وجماعة من بني هاشم ، وغيرهم من الصحابة لأنهم كانوا مشتغلين بتجهيز النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فرأى الأنصار فرصة باشتغال بني هاشم ، فاجتمعوا إلى سقيفة بني ساعدة لأجالة الرأي ، وعلم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح وجماعة من الطلقاء باجتماع الأنصار في السقيفة واختلافهم في الأمامة ، فحضروا معهم ، وكانت بينهم مجادلات ومخاصمات في الخلافة حتى قال الأنصار : منا أمير ، ومنكم أمير ، فغلبهم أبو بكر بحديث رواه فقال : إن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قال : الأئمة من قريش (١) ، فخصم الأنصار بذلك.

فقام عمر وأبو عبيدة فسبقا الأنصار على البيعة ، وصفقا على يد أبي بكر وقالا : السلام عليك يا خليفة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فكانت البيعة الخاطئة لأبي بكر يومئذ في السقيفة (٢) بالخديعة والحيلة والعجلة والغلبة والقهر ، ولهذا قال عمر : كانت بيعتي لأبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه (٣) ، فأين الأجماع المدعى حصوله ، وقد عرفت أن فضلاء الأصحاب وزهادهم وذدوي الأقدار والمهاجرين والأنصار لم يحضروا معهم ، ولم يبايعوا ولم يستطلعوا رأيهم ، وهل يصح من هؤلاء الأدنون من الصحابة الذين كان أكثرهم طلقا ومنافقين ومؤلفه أن يعقدوا الخلافة التي هي قائمة مقام النبوة بغير حضور

__________________

(١) تقدمت تخريجاته.

(٢) وممن روى حديث السقيفة : ابن الاثير في الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ٣٢٥ ، الشهرستاني في الملل والنحل : ج ١ ص ٣٠ ، ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ج ٢ ص ٢١ ـ ٦٠ ، وج ٥ ص ٥ ـ ٥٢ ، أبو بكر الجوهري في كتاب السقيفة.

(٣) تقدمت تخريجاته.

٣٥٣

أولئك المشتهرين في الفضل والعلم والشرف والزهد مع أن الأجماع لا ينعقد عند الكل إلا باتفاق أهل الحل والعقد فدعوى الأجماع حينئذ على خلافته بعيدة.

فقال : ما ذكرته مسلم ، ولكن من ذكرت من الأصحاب وغيرهم بعد ذلك بايعوا ورضوا فحصل الأجماع من الكل بحيث لا يخالف في ذلك أحد وإن لم يكن إيقاعهم دفعة فإن ذلك غير شرط في الأجماع.

فقلت : إن اتفاقهم وحصول رضاهم بعد ذلك كما زعمت لا يقوم حجة لتطرق الاحتمال فيه بالأجبار والأكراه والتقية ، فإنهم لما رأوا هؤلاء العامة والرعاع الذين يميلون عند كل ناعق ولا يستضيئون بضوء العلم قد استمالهم الرجل وخدعهم وصاروا أتباعا له ، وقلدوه في أمورهم ، وقلدوا كبراءهم في اتباعه لم يمكن لهؤلاء الباقين المخالفة لهذه العوام وخافوا على أنفسهم من الخلاف عليهم والقتل فانقادوا كرها ، فلا يكون انقيادهم الحاصل بالأكراه مصححا للأجماع بل دل على عدم صحته.

فقال : ومن أين عرفت ذلك منهم حتى يكون ما ذكرت حقا؟

فقلت : قد تقرر في علم الميزان أن الاحتمال إذا قام على الدليل بطل ، واحتمال الأكراه قد قام في هذا الاجماع فيكون باطلا مع أنه قد ظهرت إمارات الأكراه في روايات كثيرة وأنا أورد لك بعضها ، منها :

الأول : ما ورد من ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (١) مع أنه عامي المذهب ، فقال : في باب فضائل عمر : إن عمر هو الذي وطأ الأمر لأبي بكر ، وقام فيه حتى أنه دفع في صدر المقداد ، وكسر سيف الزبير ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : لابن ابي الحديد ج ١ ص ١٧٤.

٣٥٤

وكان قد شهره عليهم وهذا غاية الأكراه.

الثاني : ما رواه أيضا (١) عن البراء بن عازب ، قال : لم أزل محبا لأهل البيت ، ولما مات النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أخذني ما يأخذ الواله من الحزن ، وخرجت لأنظر ما يكون من الناس فإذا أنا بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة سائرين ومعهم جماعة من الطلقاء وعمر شاهر سيفه ، وكلما مر رجل من المسلمين قال له : بايع أبا بكر كما بايعه الناس فيبايع له إن شاء ذلك أو لم يشأ فأنكر عقلي ذلك الأمر فحيث اشتد الأمر جئت حتى أتيت عليا ـ عليه السلام ـ فأخبرته بخبر القوم ، وكان يسوى قبر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بمسحاته فوضع المسحاة من يده ثم قرأ : (آلم ، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) (٢).

فقال العباس : تربت أيديكم بني هاشم إلى آخر الدهر ، وهذا دليل الأكراه بترجع علي والعباس له ، وما ظنك بامرء يدفع صدور المهاجرين ، ويكسر سيوفهم ويشهر فيه السيوف على رؤوس المسلمين كيف لا يكون إكراها لو لا عمى أفئدة! : (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) (٣).

ومنها : قول عمر لسعد بن عبادة الخزرجي سيد الأنصار وأميرهم لما امتنع من البيعة وهم في السقيفة لأنه كان حاضرا معهم ولم يبايع ، قال : أوطئوا سعدا واقتلوا سعدا ، قتل الله سعدا (٤) ، وهذا عين الأكراه.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ج ١ ص ٢١٩ ، وفي بحار الأنوار : ج ٢٨ ص ٢٨٤ ح ٤٦ نحوه.

(٢) سورة العنكبوت : الاية ١ و ٢.

(٣) سورة الحج : الاية ٤٦.

(٤) شرح نهج البلاغة : ج ١ ص ١٧٤ ، وفي تاريخ الطبري : ج ٣ ص ٢٢٢ و ٢٢٣ ، الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ٣٢٨ نحوه.

٣٥٥

ومنها : ما رواه أهل الحديث ، ورواه عدة من أصحابنا ممن يوثق بنقلهم ، وتعرف عدالتهم أن أبا بكر لما صعد المنبر أول يوم جمعة قام إليه اثنا عشر رجلا ، ستة من المهاجرين ، وستة من الأنصار ، فأنكروا عليه قيامه ذلك المقام حتى أفحموه على المنبر ولم يرد جوابا ، فقام عمر ، وقال : يا ... ، إن كنت لا تقوم بحجة فلم أقمت نفسك هذا المقام ، وأخذ بيده وأنزله عن المنبر (١).

ولما كان الأسبوع الثاني جاءوا في جمع وجاء خالد بن الوليد معهم في مائة رجل وجاء معاذ بن جبل في مائة رجل شاهرين سيوفهم حتى دخلوا المسجد وكان علي ـ عليه السلام ـ فيه وجماعة من أصحابه معه ومعهم سلمان.

فقال عمر : والله يا أصحاب علي ، لئن ذهب رجل منكم يتكلم بالذي تكلم بالأمس لاخذن الذي فيه عيناه ، فقام سلمان الفارسي ، فقال : صدق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ إنه قال : بينما أخي وابن عمي جالس في مسجدي إذ وثب عليه طائفة من كلاب أهل النار يريدون قتله ولا شك أنتم هم ، فأهوى إليه عمر بالسيف ليضربه ، فأخذ علي ـ عليه السلام ـ بمجامع ثوبه وجذبه إلى الأرض ، وقال : يابن صهاك الحبشية أبأسيافكم تهددونا ، وبأجمعكم تكاثرونا؟! والله لولا كتاب من الله سبق ، وعهد من رسول الله تقدم لأريتكم أينا أقل عددا وأضعف ناصرا ، ثم قال لأصحابه : تفرقوا (٢).

وإذا كانت الأحوال الجارية بينهم على مثل هذه الروايات دلت على

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسي : ج ١ ص ٧٥ ـ ٧٩.

(٢) الاحتجاج للطبرسي : ج ١ ص ٧٩ ـ ٨٠ بتفاوت.

٣٥٦

وقوع الكراهة وعدم تمكن هؤلاء المتخلفين عن السقيفة من ترك المبايعة ، فلا تكون بالموافقة الحاصلة منهم وإنما هي بالكراهة ، فلا تكون حجة بالأجماع.

فقال : هذه الروايات من طرقكم ، فلا تكون حجة علينا.

فقلت : سلمنا ، ولكن منها ما يكون من طرقكم كرواية ابن أبي الحديد مع أن احتمال الأكراه غير مندفع بحجة من عندكم ، والدليل قاطع فيبقى احتمال الكراهة بحاله فحينئذ لا يحصل الأجماع المدعى حصوله فلا تقوم لك الدلالة على الواسطة فأت بغيرها إن كان لك حجة قاطعة على مدعاك وإلا فاعترف ببطلانها.

فقال : هاهنا حجة.

فقلت : وما هي؟

فقال : أمر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بالصلاة خلف أبي بكر في مرض موته (١) وذلك دليل على تقديمه له على سائر أصحابه لأن المقدم في الصلاة يقدم في غيرها إذ لا قائل بالفرق.

فقلت : هذه حجة ضعيفة جدا.

أما أولا : فلأنه لو كان التقديم صحيحا كما زعمت وكان مع صحته دالا على إمامته لكان ذلك نصا من النبي صلى الله عليه وآله بالأمامة ، ومتى حصل النص لا يحتاج معه إلى غيره فكيف وأبو بكر وأصحاب السقيفة لم يجعلوا ذلك دليلا على إمامته ، وكيف أبو بكر وعمر لم يحتجوا به على الأنصار وكيف توقفت الخلافة على المبايعة التي حصل عليهم فيها

__________________

(١) انظر فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل : ج ١ ص ١٠٦ ح ٧٨.

٣٥٧

الاختلاف والاحتياج إلى إشهار السيوف مع أن هذه الواقعة كانت أثبت دليلا ، وأقوى حجة لأنها نص النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ، فكيف عدلوا إلى الأضعف الذي هو أحد الأمرين الأعسر ، والعاقل لا يختار الأصعب مع إنجاح الأسهل إلا لعجزه عنه.

فعلم أن ذلك ليس فيه حجة أصلا ، فكيف ما لا يكون حجة عندهم ولا عند أحد من الصحابة تجعله أنت حجة ، ومن ذلك يعلم أن قصدك المغالطة.

وأما ثانيا : فلأن التقديم في الصلاة لا يدل على الأمامة العامة لأن الخاص لا يدل على العام خصوصا على مذهبكم من جواز إمامة الفاسق في الصلاة ، وعدم اشتراط العدالة في التقديم بها ، والأمامة العامة يشترط فيها العدالة بالأجماع وأن الأمام لو فسق عندكم وجب على الامة عزله ، فكيف تجعلون ما لا يحتاج إلى العدالة حجة فيما يحتاج إليها إن هذا الاحتجاج واهي الدليل غير مسموع ولا مقبول عند العقلاء ومن له أدنى روية.

وأما ثالثا : إن هذا التقديم غير صحيح عند الكل أما عندنا فلأن المنقول أن بلالا لما جاء يعلم بوقت الصلاة كان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ مغمورا بالمرض ، وكان علي ـ عليه السلام ـ مشتغلا بالرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ ، فقال بعضهم : علي يصلي بالناس فقالت عائشة (١) : مروا أبا بكر يصلي بالناس فظن بلال أن ذلك من أمر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فجاء وأعلم أبا بكر بذلك فتقدم ، فلما كبر أفاق النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبري : ج ٣ ص ١٩٧ ، فضائل الصحابة لأحمد ج ١ ص ١٠٩ ح ٨٠ وص ١١٨ ح ٨٨ الكامل في التاريخ ج ٢ ص ٣٢٢ ، طبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٧٨ ـ ١٨١.

٣٥٨

فسمع التكبير ، فقال : من يصلي بالناس؟

فقيل له : أبو بكر.

فقال : أخرجوني إلى المسجد ، فقد حدثت في الأسلام فتنة ليست بهينة ، فخرج ـ صلى الله عليه وآله ـ يتهادى بين علي والفضل بن العباس حتى وصل إلى المحراب ، ونحى أبا بكر ، وصلى بالناس ، وأما عندكم فتدعون أن ذلك كان بأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وهي دعوى باطلة من وجوه.

الأول : أن الاتفاق واقع على أن الأمر الذي خرج إلى بلال لم يكن مشافهة من النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فقيل له : يا بلال ، قل لأبي بكر يصلي بالناس ، أو قل للناس يصلون خلف أبي بكر ، بل كان بواسطة بينهما لأن بلالا لم يحصل له الأذن في تلك الحالة بالدخول على النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لاشتغال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بالمرض وإذا كان بواسطة احتمل كذب الواسطة لأنه غير معصوم ، وإذا احتمل كذبه لم يبق في هذا الوجه حجة لاحتمال أن يكون بغير أمر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ولا علمه ، ويدل على ذلك خروجه عليهم في الحال لما علم وعزل أبي بكر وتوليته الصلاة بنفسه.

الثاني : أنه لو كان ذلك بأمر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كما زعمتم لكان خروجه في الحال مع ضعفه بالمرض وتنحيته أبا بكر عن المحراب وتوليه الصلاة بنفسه مع صدور الأمر منه أولا مناقضة صريحة لا تليق بمن لا ينطق عن الهوى لأن الاتفاق واقع على أن أبا بكر لم يتم الصلاة بالناس بل خرج النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ونحى أبا بكر عنها وأتم الصلاة بالناس رواه أهل السنة في جملة مصنفاتهم.

٣٥٩

الثالث : لو سلمنا جميع ذلك لكان خروج النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وعزله له مبطلا لهذه الأمارة لأنه ـ عليه السلام ـ نسخها بعزله عنها فكيف يكون ما نسخه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بنفسه حجة على ثبوته إن هذا لعجب بل أقول : إن عزل النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ له بعد تقديمه كما زعمتم إنما كان لأظهار نقصه عند الأمة وعدم صلاحيته في التقدم في شئ فإن من لا يصلح أن يكون إماما في الصلاة مع أنها أقل المراتب عندكم لصحة تقديم الفاسق فيها كيف يصح أن يكون إماما عاما ، ورئيسا مطاعا لجميع الخلق ، وإنما كان قصده ـ صلى الله عليه وآله ـ إن كان هذا الأمر وقع منه ـ إظهار نقصه وعدم صلاحيته للتقديم على الناس ليكون حجة عليهم.

وما أشبه هذه القصة بقصة براءة (١) وعزله عنها ، وإنفاذه بالراية يوم خيبر (٢) فإن ذلك كله بيان لأظهار نقصه وعدم صلاحيته لشئ من الأمور البينة وإظهار ذلك للناس يعرف ذلك من له أدنى روية ، والعجب منكم كيف تستدلون بالأمر بالصلاة التي عزل عنها ولم يتمها بالأجماع على إمامته؟ وكيف لا تستدلون على إمامة علي ـ عليه السلام ـ باستخلافه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ على المدينة في غزوة تبوك المتفق على نقلها وحصوله منه ـ صلى الله عليه وآله ـ لعلي ـ عليه السلام ـ وعدم عزله عنها بالاتفاق؟! فإن الاستخلاف على المدينة التي هي دار الهجرة ، وعدم الوثوق عليها لأحد إلا علي ـ عليه السلام ـ دليل على أنه القائم بالأمر بعده في جميع غيباته ومهماته وإذا ثبت استخلافه على المدينة وعدم عزله

__________________

(١) تقدمت تخريجاته.

(٢) تقدمت تخريجاته.

٣٦٠