مناظرات

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

المناظرة السابعة والستون

مناظرة الشيخ الانطاكي مع أحد مشايخ الازهر

في يوم السابع من شهر ذي القعدة الحرام عام ١٣٧١ ه‍ قبيل الظهر أخبرني أحد وجهاء حلب وهو الاستاذ شعبان أبو رسول بإن أحد مشايخ الازهر (١) ، وهو علامة كبير ، ومؤلف شهير يقصد زيارتكم فمتى يأتكم؟

فقلت : يا أهلا وسهلا ، فليشرف في هذا اليوم فجائني بعد العصر ، وبعد أن أخذ بنا المجلس ، ورحبت به.

سألني قائلا : إنني قصدتك للاستفسار عن السبب الذي دعاكم على الاخذ بالمذهب الشيعي وتككم المذهب السني الشافعي؟

فأجبته بكل لطف : الدواعي كثيرة جدا ، منها : رأيت اختلاف المذاهب الاربعة فيما بينهم ، ومنها ، ومنها ، وقد أخذت أعدد له الاسباب

__________________

(١) الازهر : مسجد في القاهرة ، بناء ٩٧٢ ـ جوهر الصقلى بأمر الخليفة الفاطمي المعز لدين الله ، سمي بالازهر ، إشارة الى «الزهراء»، وهو لقب فاطمة ـ عليها السلام ـ يقصد اهل التقي لاسيما طلاب العلم من كل صوب ، يسمون «المجاورين»لسكناهم بجواره ، أما الاستاذة «المدرسون»فيسمون انفسهم «خدمة العلم»وغايتهم نقل ما ورثوه من السلف في أمانة وإخلاص وبرامج العلوم في الازهر تتناول النحو واللغة والبيان والمنطق والادب والعلوم الدينية من علم التوحيد والفقه والحديث والتصوف وغير ذلك ، أصبح ـ ١٩٣٦ ـ جامعة تضم كليات الشريعة واصول الدين واللغة العربية اضيفت إليها عدة كليات بعد ـ ١٩٦١ ـ المنجد ـ قسم الاعلام ـ ص ٣٨ ـ ٣٩.

٥٢١

التي دعتني إلى الاخذ بالمذهب الشيعي.

ثم قلت : وأهمها أمر الخلافة العظمى التي هي السبب الاعظم في وقوع الخلاف بين المسلمين إذ لا يعقل أن الرسول الاعظم ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يدع أمته بلا وصي عليهم يقوم بأمر الشريعة التي جاء بها عن الله كسائر الانبياء ، إذ ما من نبي إلا وله وصي أو أوصياء معصومون يقومون بشريفعته وقد ثبت عندي أن الحق مع الشيعة إذ معتقدهم أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قد أوصى لعلي ـ عليه السلام ـ قبل وفاته بل من بدء الدعوة وبعد أولاده الائمة الاحد عشر ، وأنهم يأخذون أحكام دينهم عنهم ، وهم أئمة معصومون في معتقدهم بأدلة خاصة بهم.

لهذا وأمثاله أخذت بهذا المذهب الشريف ، ثم أنا لم نعثر على دليل يوجب علينا الأخذ بأحد المذاهب الأربعة بل ولا مرجح أيضا غير أننا عثرنا على أدلة كثيرة توجب الأخذ بمذهب أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وتقود المسلم إلى سواء السبيل.

ثم عرضت له كثيرا من الأدلة القطعية الصريحة بوجوب الأخذ بمذهب أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وكله سمع يصغي إلي ، إلى أن قلت : يا فضيلة الشيخ أنت من العلماء الأفاضل فهل وجدت في كتاب الله وسنة الرسول دليلا ترشدك إلى الاخذ بأحد المذاهب الأربعة ، فأجابني : كلا.

ثم قلت له : ألا تعرف أن المذاهب الأربعة كل واحد منهم يخالف الاخر في كثير من المسائل ولم يقيموا دليلا قويا وبرهانا جليا واضحا على أنه الحق دون غيره وإنما يذكر الملتزم بأحد المذاهب أدلة لاقوام لها إذ ليس لها معضد من كتاب أو سنة فهى : (كشجرة خبيثة اجتثت من فوق

٥٢٢

الارض مالها من قرار) (١).

مثلا لو سألت الحنفي : لم اخترت مذهب الحنفية دون غيره ، ولم اخترت أبا حنيفة إماما لنفسك بعد ألف عام من موته ، ولم تختر المالكي أو الشافعي ، أو أحمد بن حنبل مع بعض مزاياهم التي يذكرونها فلم يجبك بجواب تطمئن إليه النفس.

والسر في ذلك أن كل واحد منهم لم يكن نبي أو وصي نبي وما كان يوحى إليهم ، ولم يكونوا ملهمين بل أنهم كسائر من ينتسب إلى العلم وأمثالهم كثير وكثير من العلماء.

ثم أنهم لم يكونوا من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأكثرهم أو كلهم لم يدركوا النبي ولا أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فاتخاذ مذهب واحد منهم وجعله مذهبا لنفسه ، والالتزام به وبآرائه التي يمكن فيه الخطأ والسهو .... وكل واحد منهم ذوي آراء متشتتة يخالف بعضها بعضا لا يقره العقل ولا البرهان ولا تصدقه الفطرة السليمة ولا الكتاب ولا السنة ولا حجة لأحد على الله في يوم الحساب ، بل لله الحجة البالغة عليها حتى أنه لو سأل الله من التزم بأحد المذاهب الأربعة في يوم القيامة بأي دليل أخذت بمذهبك هذا لم يكن له جواب سوى قوله : (إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) (٢).

أو يقول : (إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) (٣) ، فبالله عليك يا فضيلة الشيخ هل يكون لملتزمي أحد المذاهب الأربعة يوم

__________________

(١) سورة ابراهيم : الاية ٢٦.

(٢) سورة الزخرف : الاية ٢٣.

(٣) سورة الأحزاب : الاية ٦٧.

٥٢٣

القيامة أمام الله الواحد القهار جوابا.

فأطرق رأسه مليا ثم رفع رأسه وقال : لا.

فقلت : هل يكون أحد معذورا بذاك الجواب؟

أجابني : كلا.

ثم قلت : وأما نحن المتمسكين بولاء العترة الطاهرة آل بيت الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ العاملين بالفقه الجعفري فنقول في يوم الحساب عند وقوفنا أمام الله العزيز الجبار : ربنا إنك أمرتنا بذلك لأنك قلت في كتابك : (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (١).

وقال نبيك محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ باتفاق المسلمين (أني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) (٢). وقال ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : (مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق) (٣).

ولا ريب لأحد أن الأمام الصادق جعفر بن محمد ـ عليهما السلام ـ من العترة الطاهرة وعلمه علم أبيه وعلم أبيه علم جده رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وعلم رسول الله من علم الله (٤) ، هذا مضافا إلى أن الأمام

__________________

(١) سورة الحشر : الاية ٧.

(٢) تقدمت تخريجاته.

(٣) تقدمت تخريجاته.

(٤) وفي ذلك قال الشاعر :

إذا شئت أن تبغي لنفسك مذهبا

ينجيك يوم الحشر من لهب النار

فدع عنك قول الشافعي ومالك

وأحمد والمروي عن كعب أحبار

٥٢٤

الصادق قد اتفق جميع المسلمين على صدقه ووثاقته ، وهناك طائفة كبيرة من المسلمين من يقول بعصمته وإمامته وأنه الوصي السادس لرسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وإنه حجة الله على البرية ، وان الأمام الصادق ـ عليه السلام ـ كان يروي عن آبائه الطيبين الطاهرين ولا يفتي برأيه ولا يقول بما يستحسنه فحديثه حديث أبيه وجده ، إذ أنهم منابع العلم والحكمة ، ومعادن الوحي والتنزيل.

فمذهب الأمام الصادق ـ عليه السلام ـ هو مذهب أبيه وجده المأخوذ عن الوحي لا يحيد عنه قيد شعرة ، لا بالاجتهاد كغيره ممن اجتهد فالاخذ بمذهب جعفر بن محمد ـ عليهما السلام ـ ومذهب أجداده آخذ بالصواب ومتمسك بالكتاب والسنة.

وبعد أن أوردت عليه ما سمعت من الأدلة أكبرني وفخم مقامي وشكرني فأجبته : أن الشيعة لا يطعنون على الصحابة جميعا ، بل إن الشيعة يعطون لكل منهم حقهم لأن فيهم العدل وغير العدل ، وفيهم العالم والجاهل ، وفيهم الأخيار والأشرار ، وهكذا ألا ترى ما أحدثوه يوم السقيفة تركوا نبيهم مسجى على فراشه وأخذوا يتراكضون على الخلافة كل يراها لنفسه كأنها سلعة ينالها من سبق إليها مع ما رأوا بأعينهم ، وسمعوا بآذانهم من النصوص الثابتة الصارخة عن الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من يوم الذي أعلن الدعوة إلى اليوم الذي احتضر فيه.

مع أن القيام بتجهيز الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أهم من أمر الخلافة على فرض أن النبي لم يوص فكان الواجب عليهم أن يقوموا بشأن الرسول وبعد الفراغ يعزون آله وأنفسهم ، لو كانوا ذوي إنصاف فأين

__________________

ووال أناسا قولهم وحديثهم

روى جدنا عن جبرئيل عن الباري

٥٢٥

العدالة والوجدان ، وأين مكارم الأخلاق ، وأين الصدق والمحبة؟!

ومما يزيد في النفوس حزازة تهجمهم على بيت بضعته فاطمة الزهراء ـ عليها السلام ـ نحوا من خمسين رجلا ، وجمعهم الحطب ليحرقوا الدار على من فيها حتى قال قائل لعمر : إن فيها الحسن والحسين وفاطمة ، قال : وإن. ذكر هذا الحادث كثير من مؤرخي السنة (١) فضلا عن إجماع الشيعة.

وقد علم البر والفاجر وجميع من كتب في التأريخ أن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال : (فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ومن أغضبها فقد أغضبني ومن أغضبني فقد أغضب الله ومن أغضب الله أكبه الله على منخريه في النار (٢).

ووقائع الصحابة الدالة على عدم القول بعدالة الجميع كثيرة ، راجع البخاري ومسلم في ما جاء عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في حديث الحوض تعلم صحة ما ذهب إليه الشيعة ومن نحا نحوهم من

__________________

(١) راجع : الأمامة والسياسة لابن قتيبة ج ١ ص ١٢ ، تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٠٢ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٢ ص ٥٦ وج ٦ ص ٤٨ ، الملل والنحل للشهرستاني ج ١ ص ٥٧ ، تاريخ أبي الفداء ج ١ ص ١٥٦ ، تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٠٥ ، أعلام النساء لكحالة ج ٣ ص ٢٠٥ ، الأموال لأبي عبيد ص ١٣١ ، تاريخ ابن شحنة بهامش الكامل ج ٧ ص ١٦٤ ، مروج الذهب ج ١ ص ٤٠٤ ، بحار الأنوار ج ٢٨ ص ٣٢٨ وص ٢٣٩ ، الغدير للأميني ج ٧ ص ٧٧ ، عبد الله بن سبأ ج ١ ص ١٠٨.

وقد نظم هذا المعنى شاعر النيل حافظ ابراهيم بقوله :

وقولة لعلي قالها عمر

أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرقت دارك لاأبقي عليك بها

إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها!!

ما كان غير أبي حفص بقائلها

أمام فارس عدنان وحاميها!!

انظر : ديوان حافظ إبراهيم ج ١ ص ٨٢ ، تحت عنوان : (عمر وعلي).

(٢) تقدمت تخريجاته.

٥٢٦

السنة ، فأي ذنب لهم إذا قالوا بعدم عدالة كثير منهم؟ وهم الذين دلوا على أنفسهم ، وحرب الجمل وصفين أكبر دليل على إثبات مدعاهم ، والقرآن الكريم كشف عن سوء أحوال كثير منهم وكفانا سورة براءة دليلا ، ونحن ما أتينا شيئا إذا؟

ألا ترى إلى ما أحدثه الطاغية معاوية ، وعمرو بن العاص ، ومروان وزياد ، وابن زياد ، ومغيرة بن شعبة ، وعمر بن سعد ، الذي أبوه من العشرة المبشرة في الجنة على ما زعموا ، وطلحة ، والزبير ، اللذان بايعا عليا ونقضا البيعة وحاربا إمامهما مع عائشة في البصرة ، وأحدثوا فيها من الجرائم التي لا يأتي بها ذو مروءة.

فليت شعري هل كان وجود النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بينهم موجبا لنفاق كثير منهم ، ثم بعد لحوقه بالرفيق الأعلى بأبي وأمي صار كلهم عدولا.

ونحن لم نسمع قط بأن نبيا من الأنبياء أتى قومه وصاروا كلهم عدولا ، بل الأمر في ذلك بالعكس ، والكتاب والسنة بينتنا على ذلك ، فماذا أنت قائل أيها الأخ المحترم؟

فأجابني : حقا لقد أتيت بما فيه المقنع فجزاك الله عني خيرا.

ثم قلت : جاء في كتاب الجوهرة في العقائد للشيخ إبراهيم اللوقاني المالكي :

فتابع الصالح ممن سلفا

وجانب البدعة ممن خلفا

قال : نعم هكذا موجود.

قلت : أرشدني من هم السلف الذين يجب علينا اتباعهم؟ ومن الخلف الذين يجب علينا مخالفتهم؟

قال : السلف هم صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ.

٥٢٧

قلت : إن الصحابة عارض بعضهم بعضا ، وجرى ما جرى بينهم مما لا يخفى على مثلكم.

فتوقف برهة ثم قال : هم أصحاب القرون الثلاثة.

قلت له : إذا أنت في جوابك هذا قضيت على المذاهب الأربعة لأنهم خارجون عن القرون الثلاثة.

فتوقف أيضا ، ثم قال : ماذا أنت تريد بهذا السؤال؟

قلت : الأمر ظاهر وهو يجب علينا أن نتبع الذين نص عليهم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ بأن يكونوا قدوة للأمة.

قال : ومن هم؟

قلت : علي بن أبي طالب وبنيه الحسن والحسين وأبناء الحسين التسعة ـ عليهم السلام ـ آخرهم المهدي ـ عجل الله فرجه الشريف ـ.

قال : والخلفاء الثلاثة؟

قلت : الخلاف واقع فيهم فالأمة لم تجتمع عليهم وحدث منهم أعمال توجه عليهم النقد.

قال عجبا : وهذا من رأي الشيعة؟

قلت : وإن يكن ، هل وقع في الصحابة ما ذكرت لكم أم لا.

قال : بلى.

قلت : إذا يجب علينا أن نأخذ بمن اتفقت عليهم الأمة وندع المختلف فيهم ، فالشيعة وهم طائفة كبيرة من الأسلام يكثر عددهم عن مائة مليون وهم منتشرون في الدنيا كما تقدم وفيهم العلماء الأعاظم والفقهاء الأكابر والمحدثين الأفاضل .... فلم يعترفوا بخلافة الثلاثة.

ولكن أهل السنة والجماعة اعترفوا بخلافة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ، فخلافة أمير المؤمنين مجمع عليه عند المسلمين عامة وخلافة

٥٢٨

الثلاثة ليس بمجمع عليه.

والخلافة بعد أمير المؤمنين علي إلى ولده الحسن ثم إلى الحسين ثم إلى ولده الأئمة التسعة خاتمهم قائمهم ـ عجل الله تعالى فرجه الشريف ـ والنصوص في ذلك من كتبكم بكثرة وجاءت الروايات من طرقكم بفضل أهل البيت وتقدمهم على غيرهم وأهمها العصمة.

قال : نحن لا نقول بالعصمة.

قلت : أعلم ذلك ، ولكن الدليل قائم عند الشيعة على ما قلت وسأقدم لك كتابا يقنعك ويرضيك.

قال : إذا ثبت لدي عصمتهم انحل الأشكال بيني وبينك ، فقدمت له الكتاب ، وهو كتاب (الألفين) لأحد أعاظم مجتهدي الشيعة الأمام الأعظم (العلامة الحلي ره) (١) ، فأخذ الكتاب يتصفحه في مجلسه فأكبره وأعجبه هذا السفر العظيم.

ثم قال لي : هل تعلم أن فضيلتك أدخلت علي الريب في المذاهب الأربعة وملت إلى مذهب أهل البيت ـ عليهم السلام ـ لكن أريد منك تزويدي ببعض كتب الشيعة.

فقدمت جملة منها له ، ومنها كتب الأمام شرف الدين ودلائل الصدق ، والغدير وأمثالها وأرشدته إلى سائر كتب الشيعة.

ثم ودعني وقام شاكرا حامدا قاصدا إلى محله وهو متزلزل العقيدة وذهب ، ثم بعد أيام أتتني رسالة شكر منه من الأزهر الشريف وأخبرني فيها بأنه قد اعتنق بمذهب أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وصار شيعيا ، ووعدني أن يكتب رسالة في أحقية مذهب الشيعة (٢).

__________________

(١) وهو : الحسن بن يوسف المطهر الحلي ، المتوفي سنة ٦٣٧ ه‍ وقد تقدمت ترجمته.

(٢) لماذا اخترت مذهب الشيعة للأنطاكي ص ٣٣٢.

٥٢٩

المناظرة الثامنة والستون

مناظرة الشيخ مغنية (١) مع الشيخ عبد العزيز بن صالح

يقول الشيخ محمد جواد مغنية رحمه الله تعالى :

ذهبت الى المحكمة الشرعية بالمدينة المنورة ، وفيها جميع قضاتها وهم خمسة ، وعليهم رئيس ، كما هي الحال بمكة المكرمة ، دخلت غرفة

__________________

(١) هو : العلامة الجليل والمفكر الأسلامي الكبير الشيخ محمد جواد بن الشيخ محمود مغنية ، من أبرز علماء لبنان ، ولد سنة ١٣٢٢ ه‍ في قرية طير دبا من جبل عامل ، درس على شيوخ قريته ثم سافر إلى النجف الأشرف ، وأنهى هناك دراسته ، ومن أبرز أساتذته ، السيد حسين الحمامي (قدس سره) ، والسيد الخوئي (قدس سره) ثم عاد إلى جبل عامل وسكن قرية طير حرفا ، ثم عين قاضيا شرعيا في بيروت ثم مستشارا للمحكمة الشرعية العليا فرئيسا لها بالوكالة ، إلى أن أحيل للتقاعد.

والشيخ ـ رحمه الله تعالى ـ من الذين أبدعوا في شتى الميادين الأسلامية والاجتماعية والوطنية ، توجه بإنتاجه وأفكاره بصورة خاصة إلى جيل الشباب في المدارس والجامعات والحياة العامة ، فكان يعالج في كتبه المشاكل والمسائل التي تؤرقهم وتثير قلقهم كمسائل العلم والأيمان ، ومسائل الحضارة والدين ، ومشاكل الحياة المادية والعصرية ، وكان يقضي في مكتبته بين ١٤ إلى ١٨ ساعة من اليوم والليلة ، وأما مؤلفاته فإنها تربو على اثنين وستين كتابا ، أشهرها ، الشيعة في الميزان ، الفقه على المذاهب الخمسة ، عقليات إسلامية ، فقه الأمام الصادق ـ عليه السلام ـ ، تفسير الكاشف ، في ظلال نهج البلاغة ، وله الكثير من المقالات والنشرات ، وكان كثير الذب عن التشيع بلسانه وقلمه ضد التجني والافتراءات ، توفي ليلة السبت في التاسع عشر من محرم الحرام سنة ١٤٠٠ ه‍ ، ونقل جثمانه إلى النجف الأشرف وشيع تشييعا باهرا حيث صلى عليه السيد الخوئي (قدس سره) ، ودفن في إحدى غرف مقام الأمام علي ـ عليه السلام ـ.

اقتطفنا هذه الترجمة من كتاب تجارب محمد جواد مغنية بقلمه ، وأعيان الشيعة : ج ٩ ص ٢٠٥.

٥٣٠

أحدهم ، وجلست على بعض مقاعدها ، فنظر إلى القاضي ، وقال : هل من حاجة؟

قلت له : هل أنت قاض؟

قال : نعم ، ونائب الرئيس.

سألته عن اسمه؟

قال : عبد المجيد بن حسن.

قلت : هل تسمح بالاطلاع على سجل الأحكام ، فإني أحب أن أقارن بينها وبين الأحكام في لبنان؟

قال : هل أنت قاض؟

قلت : أجل.

قال : في المحاكم الحنفية ، أو الجعفرية؟

قلت : أنا جعفري ، وشرعت بالحديث عن الأسلام والمسلمين ، وبأي شئ يؤكدون أنفسهم ، ويطورون قواهم اجتماعيا وسياسيا ، وكان يردد قول طيب طيب ، ولا يزيد ، وحين هممت بوداعه قال : إلى أين؟.

قلت : إلى الرئيس الشيخ عبد العزيز بن صالح ، فأرسل معي شرطيا أرشدني إلى غرفته ، فتحت الباب ، ودخلت ، فأهل ورحب.

وابتدأت الحديث بهذا السؤال : كيف تفسرون قول الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : اختلاف أمتي رحمة (١)؟

قال : اختلافهم في الفروع ، لا في الأصول.

قلت : إذن جميع الطوائف الأسلامية من أمة محمد ، لأن الأصول هي

__________________

(١) كنز العمال ج ١ ص ١٣٦ ح ٢٨٦٨٦ ، تذكرة الموضوعات ص ٩٠ ، إتحاف السادة المتقين ج ١ ص ٢٤٠.

٥٣١

الأيمان بالله ، والرسول ، واليوم الاخر ، والكل يؤمنون بذلك دون استثناء.

قال : وهناك أصل آخر.

قلت : ما هو؟

قال : خلافة أبي بكر ، وأنها حق له بعد الرسول بلا فاصل.

قلت : الخلافة من الأصول؟!

قال : نعم.

قلت : لقد نفى السنة عنهم هذا القول ، ونسبوه إلى الشيعة الأمامية ، وأنكروه عليهم.

قال : أجمع أهل السنة على أن خلافة أبي بكر من الأصول ، وأصر!!

قلت : لا يثبت أصل من أصول الدين إلا ببديهة العقل ، أو بنص الكتاب نصا صريحا ، أو بسنة تكون بقوة القرآن ثبوتا ، وبدلالة لا اله الا الله وضوحا ، أما أخبار الاحاد فليست بشئ في باب الأصول ، وإن كانت حجة في الفروع.

قال : هذا صحيح ، وقد تواتر عن الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إنه قال : يأبى الله ورسوله إلا أبا بكر (١).

قلت : كيف يكون هذا متواترا ، ولم يروه البخاري ، ولا احتج به أبو بكر ، ولا عمر ، ولا أحد يوم السقيفة حين رأى الأنصار أنهم أولى من أبي بكر بالخلافة؟

__________________

(١) كنز العمال ج ١١ ص ٥٥٠ ح ٣٢٥٨٣ ، بتفاوت.

وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ج ١١ ص ٤٩ ، عن هذا الحديث : إنهم وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه في مرضه : (أئتوني بدواة وبياض أكتب لكم مالا تضلون بعده أبدا) ، فاختلفوا عنده ، وقال قوم منهم : لقد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب الله!!

٥٣٢

فشرع يتكلم عن الحديث وأقسامه ، ثم أكد مصرا على تواتره ، وأنه لم يخالف في ذلك إلا الشيعة.

ولما لم أجد وسيلة لأقناعه ، قلت له : هل من شرط صحة الحديث أن يثبت عند الجميع ، أو عند من يعمل به فقط؟

قال : بل عند من يعمل به.

قلت : هذا الحديث لم يثبت عند الشيعة لا بطريق التواتر ، ولا بطريق الاحاد ، ولذا لم تكن خلافة أبي بكر عندهم من الأصول ، ولا من الفروع (١).

__________________

(١) تجارب الشيخ محمد جواد مغنية بقلمه ص ٣٧٤.

٥٣٣

المناظرة التاسعة والستون

مناظرة الشيخ القبيسي (٢) مع الدكتور الشيخ محمد الزعبي

__________________

(١) هو : العلامة الحجة المرحوم الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي كان فاضلا ، جليلا ، صالحا ، تقيا ، ورعا ، زاهدا ، ولد في جبل عامل سنة ١٣٣٣ ه‍ ـ ١٩١٢ م ، ونشأ في أسرة علمية عريقة في تاريخها العلمي ، درس مقدمات العلوم في جبل عامل ، ثم رحل إلى مركز العلم والعلماء النجف الأشرف على ساكنها آلاف التحية والسلام ، مارس نشاطه العلمي في الدرس والتدريس إلى أن بلغ المراتب العالية ، وحضر الدروس العالية (البحث الخارج) على يد فطاحل الحوزة في النجف الأشرف منهم آية الله العظمى السيد الحكيم وآية الله العظمى السيد الخوئي ، تغمدهما الله برحمته ، وشغل منصب المرشد الديني في العراق في مدينة الكفل وأنشأ فيها حسينية وبعض المشاريع الخيرية ، ومن ثم شغل منصب المرشد الديني أيضا في مدينة الفجر من لواء الناصرية.

وبعد مدة شاءت الظروف والأقدار أن يقفل راجعا إلى بلاده ، فسكن جبل عامل (أنصار) وشغل فيها منصب المرشد الديني ، وأنشأ فيها مسجدا وجمعية خيرية لحل المشاكل الاجتماعية وإحياء المراسم الدينية ، كما أن له خد مات أخرى في المناطق المجاورة. وبعد مدة انتقل إلى العاصمة بيروت ، فاستقر في منطقة الشياح ، وهي من أهم المناطق الشيعية في بيروت ، فمارس فيها نشاطه التبليغي مدة غير قصيرة ، ومن ثم اعتزل الناس أكثر من خمسة عشر عاما ، واستمر على هذه الحال إلى وفاته منكبا على التأليف ، حتى صدرت له عشرات الكتب وقد طبعت كلها في حياته أكثر من مرة وكان لها رواج رائع في لبنان وخارجها.

وهي : ماذا في التاريخ ٧٥ جزء ، الحلقات الذهبية ٥٠ جزء ، أشعه الأشراق ٣ أجزاء ، نظرة في شرح نهج البلاغة ٣ أجزاء ، الأحاديث الصافية جزئين ، أين كمال المرأه ، لماذا اختار هؤلاء العظماء مذهب أهل البيت ـ عليهم السلام ـ ، وغيرها من المؤلفات ، ارتحل عن هذه الدنيا عن عمر يناهز ٨١ عاما أو أكثر على أثر وعكة صحية استمرت أكثر من خمسة أشهر في ٥ / ج ٢ / ١٤١٤ ه‍ ، وشيع في العاصمة بيروت ثم نقل إلى مثواه الأخير في النجف الأشرف ، فشيع فيها ودفن قرب أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ ، فأسكنه الله فسيح جناته وحشره مع أئمته ـ عليهم السلام ـ استفدنا هذه الترجمة من حفيده الأخ العزيز الشيخ هادي الشيخ حسن القبيسي حفظه الله.

٥٣٤

لقاء سعيد بدون ميعاد.

في يوم من أيام الجمعة المباركة سنة ١٩٦٧ م بعد فراغنا من صلاة الظهر وقبل مغادرتنا لمكان الصلاة في مسجد الشياح ، بيروت لبنان ، وإذا بدخول شيخ من مشايخ أهل السنة ، من خريجي الأزهر وحملة شهادة الدكتوراه ، وهو من المعاصرين فعلا في بيروت ويصحب الشيخ المذكور بعض الرفقاء من الشباب ، منهم من عرفناه ومنهم من لم تسبق لنا معرفة به ، وبالخصوص فضيلة الشيخ الذي لم يسبق لنا به رؤية قبل لقائنا هذا.

وبعد التحية والسلام والتعارف التام بفضيلة الشيخ مع رفقائه الكرام ، أظهروا الرغبة في الاجتماع معنا ، فرحبنا بهم وشكرناهم على اللقاء الميمون ، فدعوناهم إلى منزلنا الموجود فعلا في محلة الشياح ، وخرجنا من المسجد قاصدين المنزل المذكور وعندما استقر بنا المقام دار بيننا الكلام في جهات شتى ، وكان من جملة الجهات التي طرقها فضيلة الشيخ أن قال ـ ما يقرب لفظه من هذا مع الحفاظ على حقيقة المعنى ـ :.

نحن الان في عصر حرج وزمان فاسد ، فينبغي لنا أن نتآلف ونتكاتف لنكافح بعض ما يدهمنا من هذه المفاسد والمصاعب.

أجبته بكل سرور وترحاب قائلا له : هذا ما نحبه ونبتغيه ونتمنى حصوله ، ولو كلفنا ذلك إلى التضحية بكل غال ونفيس ، ولكن يا أخي التآلف والتكاتف يحتاج إلى منهاج ونظام ، وإلا غمرته الفوضى وعمه الفساد والضلال بقدر عدده وكثرة أفراده.

فهل يجوز للعقلاء أن يبذلوا جهدهم ويتعبوا أنفسهم في زيادة الفساد والإفساد بين أهلهم وإخوانهم ومن يعز عليهم؟!

٥٣٥

أجاب الشيخ : المنهاج والنظام موجودان وهما القرآن وسنة النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، وعليهما يكون السير وبهما الالتزام وعليهما المعول في حل جميع المشاكل التي تحدث أو تصير بين أفراد المجتمع ، وعليه فلا يبقى أدنى توقف في هذا المجال الذي ادعيتم عسره وصعوبته.

قلنا له : يا فضيلة الشيخ ، هل القرآن ينظم أمورنا ويحل مشاكلنا؟ فلو صح هذا لوجب أن لا يكون هناك أدنى خلاف أو نزاع بين أفراد المسلمين مع أنه توجد ثلاث وسبعون فرقة (١) ، كلهم يدعي الأسلام ويدعي التمسك بالقرآن والسير على وفق أوامره ونواهيه ، وأكثرهم يتبرأ بعضهم من بعض ويضلل بعضهم بعضا وينسب إلى نفسه الحق والصواب وينسب لغيره الخروج والانحراف.

وهذا أمر لا يمكن لكل مدرك رشيد جحوده أو إنكاره ، سواء كان مسلما أو غير مسلم ، لأن القرآن له وجوه متعددة وفيه الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمجمل والمبين ، ولذا ترى جميع الفئات يخاصمون به ويستدلون به على صحة عملهم وحسن عقائدهم ، حتى المفوضة (٢) ، والمجبرة (٣) ، والمجسمة (٤) ، والملحدة والزنادقة ولذا نطق بذلك القرآن المجيد نفسه

__________________

(١) اشارة الى حديث افتراق الامة ، وقد تقدمت تخريجاته.

(٢) المفوضة : فرقة زعمت أن الله خلق محمدا ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ثم فوض إليه خلق العالم وتدبيره ، الفرق بين الفرق ص ٢٣٨ ، معجم الفرق الاسلامية ص ٢٣٥.

(٣) المجبرة : هذه الفرقة تقول بإسناد فعل العبد إلى الله ، أي أن الانسان مجبور في أعماله لا اختيار له ، معجم الفرق الأسلامية ص ٨١.

(٤) المجسمة : فرقة تقول بأن الله جسم وله ست جهات وأن له يدين ورجلين ، معجم الفرق الأسلامية ص ٢١٣.

٥٣٦

فقال عزوجل : (هو الذي أنزل عليك الكتاب ، منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ، يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب) (١).

وقال تعالى : (وإذا ما انزلت سورة ، فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) (٢) وقال تعالى : (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) (٣).

إذن فالقرآن لا يمكن أن نتمسك به لحل مشاكلنا في كل شئ حتى يوجد من يعرف منه كل شئ ، لأنه هو يخبرنا أنه يوجد فيه كل شئ فاستمع إليه حيث يقول تعالى : (ما فرطنا في الكتاب من شيء) (٤) ، وقال تعالى : (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) (٥) ، وقال تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) (٦) ، وقال تعالى : (وكل شئ أحصيناه في إمام مبين) (٧) ، وقال تعالى : (ما ننسخ من آية

__________________

(١) سورة آل عمران : الاية ٧.

(٢) سورة التوبة : الاية ١٢٤ و ١٢٥.

(٣) سورة الأسراء : الاية ٨٢.

(٤) سورة الانعام : الاية ٣٨.

(٥) سورة النحل : الاية ٨٩.

(٦) سورة المائدة : الاية ٣.

(٧) سورة يس : الاية ١٢.

٥٣٧

أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) (١) ، وقال تعالى : (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (٢).

إذن فهنا آيات عديدة توجد في هذا القرآن المجيد ، بعضها تخبر أن في هذا القرآن آيات محكمات ، وهي التي يفهم معناها من ظاهرها كل عربي بدون أدنى توقف أو تردد ولا يختلف في فهمها اثنان من العرب ، وفيه آيات متشابهات يستحيل أن يفهم معناها والمراد منها إلا الله والراسخون في العلم ، وهم الأنبياء والأوصياء ومن أخذوا عنهم بحق ، وهناك جماعة إذا سمعوا بعض آيات القرآن زادتهم إيمانا وهم يستبشرون وهناك جماعة إذا سمعوا تلك الايات نفسها زادتهم رجسا إلى رجسهم ، وهناك جماعة تزيدهم آيات الله نورا وشفاء ، وهناك جماعة تكون عليهم عمى وخسرانا ، وهناك آيات تثبت لنا أن هذا القرآن جامع مانع لم ينقص منه شئ ولم يخل منه شئ مما يحتاجه العباد إلى يوم الميعاد ، وفيه تبيانا وبيانا لكل شئ.

وهناك آيات تخبرنا أن هذا القرآن قد أخبر الله به عن تمام النعمة وكمال الدين بكمال الشريعة بالضرورة ، والحق واضح لكل من طلبه وأراد الالتزام به والسير عليه ، والباطل فاضح لكل من اتبع هواه وأسخط سيده ومولاه.

فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قد انتقل إلى جوار ربه قبل أن يبلغ عشر معشار ما يحتاج إليه الخلق الموجود في عصره ، فضلا عن الأجيال المتتالية إلى منتهى الأبد ، والمفروض والمقرر بين كافة

__________________

(١) سورة البقرة : الاية ١٠٦.

(٢) سورة الحجر : الاية ٩.

٥٣٨

المسلمين أنه ليس بعد محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أنبياء ولا شرائع ، وحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

إذن فمتى يصح لأحد من المسلمين أن يقول بحق وعدل : أن شريعة الأسلام قد كملت قبل موت الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، إذا اقتصرنا على ما نفهم من هذا القرآن المجيد.

إذن فقد ظهر أيضا أن الأحكام التي ينسبها بعض فرق المسلمين إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لا تفي في حل مشاكل المجتمع وما يحتاج إليه ولذا بعض الفئات اضطرهم الأمر إلى الرجوع إلى القياس والاستحسان ، اللذين ما أنزل الله بهما من سلطان ، واللذان يمحقان الدين والشريعة إذا تمسك أهل التدين بهما.

وهنا يحدثنا التاريخ عما جرى لأبي حنيفة مع الأمام الصادق ـ عليه السلام ـ قال : دخل أبو حنيفة على الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين ـ عليهم السلام ـ ، فقال له : يا أبا حنيفة أنت مفتي أهل العراق؟ قال : نعم.

قال : بم تفتيهم؟ قال : بكتاب الله ، قال : أفأنت عالم بكتاب الله عزوجل ، ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه؟ قال : نعم.

قال : فأخبرني عن قوله تعالى : (وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين) (١) أي موضع هو؟

قال أبو حنيفة : هو بين مكة والمدينة ، فالتفت الصادق ـ عليه السلام ـ إلى جلسائه ، فقال : نشدتكم بالله هل تسيرون بين مكة والمدينة

__________________

(١) سورة سبأ : الاية ١٨.

٥٣٩

ولا تأمنون على دمائكم من القتل وعلى أموالكم من السرقة فقالوا : اللهم نعم.

قال : ويحك يا أبا حنيفة إن الله لا يقول إلا حقا ، ثم قال ـ عليه السلام ـ : أخبرني عن قوله تعالى : (ومن دخله كان آمنا) (١) ، أي موضع هو؟

قال أبو حنيفة : ذلك البيت الحرام ، فالتفت الصادق ـ عليه السلام ـ إلى جلسائه ، فقال لهم : نشدتكم بالله هل تعلمون أن عبد الله بن الزبير وسعيد بن جبير دخلاه فلم يأمنا القتل؟ قالوا : اللهم نعم ، فقال ـ عليه السلام ـ : ويحك يا أبا حنيفة إن الله لا يقول إلا حقا.

فقال أبو حنيفة : ليس لي علم بكتاب الله عزوجل ، أنا صاحب قياس قال الصادق ـ عليه السلام ـ : فانظر في قياسك إن كنت مقيسا ، أيها أعظم عند الله القتل أم الزنا؟

قال : بل القتل.

قال الصادق ـ عليه السلام ـ ، فكيف رضي الله في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنا إلا بأربعة؟

ثم قال ـ عليه السلام ـ : الصلاة أفضل أم الصيام.

قال : الصلاة أفضل.

قال ـ عليه السلام ـ : فيجب على قياسك على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام ، وقد أوجب الله عليها قضاء الصوم دون الصلاة.

__________________

(١) سورة آل عمران : الاية ٩٧.

٥٤٠