مناظرات

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

يسمع كلامهم ، وأرخى بينه وبين المتكلّمين ستراً ، فاجتمع المتكلّمون وغص المجلس بأهله ينتظرون هشام بن الحكم ، فدخل عليهم هشام وعليه قميص إلى الركبة وسراويل إلى نصف الساق ، فسلم على الجميع ولم يخص جعفرا بشئ.

فقال له رجل من القوم : لم فضلت عليا على أبي بكر ، والله يقول : (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) (١).

فقال هشام : فأخبرني عن حزنه في ذلك الوقت أكان لله رضا أم غير رضا؟ فسكت!

فقال هشام : إن زعمت أنه كان لله رضا فلم نهاه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فقال : (لا تحزن)؟ أنهاه عن طاعة الله ورضاه؟ وإن زعمت أنه كان لله غير رضا فلم تفتخر بشئ كان لله غير رضا؟ وقد علمت ما قال الله تبارك وتعالى حين قال : (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) (٢).

ولكنّكم قلتم وقلنا وقالت العامة : الجنة اشتاقت إلى أربعة نفر : إلى علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ، والمقداد بن الأسود ، وعمار بن ياسر ، وأبي ذر الغفاري (٣). فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة ، وتخلف عنها صاحبكم ، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.

وقلتم وقلنا وقالت العامة : إن الذبين عن الاسلام أربعة نفر : علي بن

__________________

(١) سورة التوبة : الاية ٤٠.

(٢) سورة الفتح : الاية ٢٦.

(٣) راجع : حلية الاولياء ج ١ ص ١٤٢ ، المعجم الكبير للطبراني ج ٦ ص ٢٦٣ ـ ٢٦ ٤ ، ح ٦٠٤٥ ، المستدرك للحاكم ج ٣ ص ١٣٧ ، مجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٠٧ وص ٣٣٠ ، الخصال للشيخ الصدوق ج ١ ص ٣٠٣ ح ٨٠ ، بحار الانوار ج ٢٢ ص ٣٢٤ ح ٢٢ ، ذكر أخبار اصفهان ج ٢ ص ٣٢٨.

١٤١

أبي طالب ـ عليه السلام ـ ، والزبير بن العوام ، وأبو دجانة الأنصاري ، وسلمان الفارسي ، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة وتخلف عنها صاحبكم ، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.

وقلتم وقلنا وقالت العامة : إن القراء أربعة نفر : علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة ، وتخلف عنها صاحبكم ، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.

وقلتم وقلنا وقالت العامة : إن المطهرين من السماء أربعة نفر : علي ابن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم السلام ـ ، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة وتخلف عنها صاحبكم ، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.

وقلتم وقلنا وقالت العامة : إن الأبرار أربعة : علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم السلام ـ ، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة وتخلف عنها صاحبكم ، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة. وقلتم وقلنا وقالت العامة : إن الشهداء أربعة نفر : علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ وجعفر وحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، فأرى صاحبنا قد دخل مع هؤلاء في هذه الفضيلة ، وتخلف عنها صاحبكم ، ففضلنا صاحبنا على صاحبكم بهذه الفضيلة.

قال : فحرك هارون الستر وأمر جعفر الناس بالخروج ، فخرجوا مرعوبين ، وخرج هارون إلى المجلس.

فقال : من هذا فوالله لقد هممت بقتله وإحراقه بالنار (١).

__________________

(١) الاختصاص للشيخ المفيد ص ٩٦ ، بحار الانوار ج ١٠ ص ٢٩٧.

١٤٢

المناظرة الثالثة والعشرون

مناظرة هشام بن الحكم مع يحيى بن خالد البرمكي (١)

سأل يحيى بن خالد البرمكي بحضرة الرشيد هشام بن الحكم فقال له : أخبرني يا هشام عن الحق هل يكون في جهتين مختلفتين؟

قال هشام : لا.

قال يحيى : فأخبرني عن نفسين اختصما في حكم الدين ، وتنازعا واختلفا ، هل يخلو من أن يكونا محقين أو مبطلين أو يكون أحدهما مبطلا والاخر محقا؟؟

قال هشام : لا يخلوان من ذلك ، وليس يجوز أن يكونا محقين على ما قدمت من الجواب.

قال يحيى : فخبرني عن علي والعباس لما اختصما إلى أبي بكر في الميراث ، أيهما كان المحق من المبطل؟ إذا كنت لا تقول إنهما كانا محقين ولا مبطلين.

__________________

(١) يحيى بن خالد بن برمك : ولد سنة ١٢٠ ، وكان عمره حين تأسيس الدولة العباسية ١٣ سنة ، ولاه المنصور ولاية اذربيجان سنة ١٥٨ ، وقد اختاره المهدي العباسي وزيرا وكاتبا ومربيا لابنه هارون الرشيد ، فكان الرشيد يناديه بالابوة ، ولما ولي الهادي (أخو هارون الرشيد) الخلافة اراد ان يحد من سلطانه حتى حبسه ونوى قتله فمات قبل ان يقتله ، وولاه هارون الرشيد الوزارة فأصبح وزيره وصاحب سره واعطاه خاتمه ، له من الاولاد أربعة وهم : الفضل ، وجعفر ، ومحمد ، وموسى ، حبسه هارون الرشيد في نكبتهم المعروفة ، وذلك بعد ان قتل ابنه جعفرا ، وصادر املاكهم واموالهم كلها وتوفي سنة ١٩٠ ه‍.

تجد ترجمته في : تاريخ الطبري ج ٨ ص ٢٨٧ ، تاريخ الامم والملوك محمد الخضري بك ص ١١٩ ، المنجد قسم الاعلام (آل برمك) ص ١٢٠.

١٤٣

قال هشام : قال فنظرت فإذا أنني قلت : بأن عليا ـ عليه السلام ـ كان مبطلا كفرت وخرجت عن مذهبي ، وإن قلت : أن العباس كان مبطلا ضرب الرشيد عنقي ، ووردت علي مسألة لم أكن سئلت عنها قبل ذلك ، ولا أعددت لها جوابا ، فذكرت قول أبي عبد الله الصادق ـ عليه السلام ـ وهو يقول لي : (يا هشام لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك) (١). فعلمت أني لا أخذل ، وعن لي الجواب.

فقلت له : لم يكن من أحدهما خطأ ، وكانا جميعا محقين ، ولهذا نظير قد نطق به القرآن في قصة داود ـ عليه السلام ـ ، حيث يقول الله جل اسمه : (وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب) الى قوله : (خصمان بغى بعضنا على بعض) (٢). فأي الملكين كان مخطأ وأيهما كان مصيبا؟ أم تقول إنهما كانا مخطئين ، فجوابك في ذلك جوابي بعينه.

قال يحيى : لست أقول : إن الملكين أخطأ ، بل أقول : إنهما أصابا وذلك أنهما لم يختصما في الحقيقة ، ولا اختلفا في الحكم ، وإنما أظهرا ذلك ، لينبها داود ـ عليه السلام ـ على الخطيئة ويعرفاه الحكم ويوقفاه عليه.

قال هشام : كذلك علي والعباس لم يختلفا في الحكم ولا اختصما في الحقيقة ، وإنما أظهرا الاختلاف والخصومة لينبها أبا بكر على غلطه ويوقفاه على خطيئته ، ويدلاه على ظلمه لهما في الميراث ، ولم يكونا في ريب من أمرهما ، وإنما ذلك منهما على ما كان من الملكين.

فلم يحر يحيى جوابا ، واستحسن ذلك الرشيد (٣).

__________________

(١) راجع : تنقيح المقال للمامقاني ج ٣ ص ٢٩٤.

(٢) سورة ص الاية ٢١ و ٢٢.

(٣) الفصول المختارة ج ١ ص ٢٦ ، عيون الاخبار لابن قتيبة ج ٢ ص ١٦٦ ، العقد الفريد ج ٢

١٤٤

مناظرة الرابعة والعشرون

مناظرة هشام بن الحكم مع بيان وضرار في مجلس يحيى بن خالد

كان ليحيى بن خالد مجلس في داره يحضره المتكلمون من كل فرقة وملة ، يوم الأحد ، فيتناظرون في أديانهم ، ويحتج بعضهم على بعض.

فبلغ ذلك الرشيد ، فقال ليحيى بن خالد : يا عباسي ما هذا المجلس الذي بلغني في منزلك يحضره المتكلمون؟

فقال : يا أمير المؤمنين ما شئ مما رفعني به أمير المؤمنين وبلغ من الكرامة والرفعة أحسن موقعا عندي من هذا المجلس ، فإنه يحضره كل قوم مع اختلاف مذاهبهم ، فيحتج بعضهم على بعض ، ويعرف المحق منهم ، ويتبين لنا فساد كل مذهب من مذاهبهم.

قال له الرشيد : فأنا أحب أن أحضر هذا المجلس ، وأسمع كلامهم من غير أن يعلموا بحضوري ، فيحتشمون ولا يظهرون مذاهبهم.

قال : ذلك إلى أمير المؤمنين متى شاء.

قال : فضع يدك على رأسي ولا تعلمهم بحضوري ، ففعل ، وبلغ الخبر المعتزلة فتشاوروا فيما بينهم ، وعزموا أن لا يكلموا هشاما إلا في الأمامة لعلمهم بمذهب الرشيد وإنكاره على من قال بالأمامة.

قال : فحضروا وحضر هشام ، وحضر عبد الله بن يزيد الأباضي

__________________

ص ٢٥١ ، بحار الانوار ج ١٠ ص ٢٩٣ ، ضحى الاسلام ج ٣ ص ٢٦٨ ـ ٢٦٩ بتفاوت.

١٤٥

ـ وكان من أصدق الناس لهشام بن الحكم ، وكان يشاركه في التجارة ـ فلما دخل هشام سلم على عبد الله بن يزيد من بينهم.

فقال يحيى بن خالد لعبدالله بن يزيد : يا عبد الله كلم هشاما فيما اختلفتم فيه من الأمامة.

فقال هشام : أيها الوزير ليس لهم علينا جواب ولا مسألة ، هؤلاء قوم كانوا مجتمعين معنا على إمامة رجل ثم فارقونا بلا علم ولا معرفة ، فلاحين كانوا معنا عرفوا الحق ، ولا حين فارقونا علموا على ما فارقونا؟ فليس لهم علينا مسألة ولا جواب.

فقال بيان وكان من الحرورية : أنا أسألك يا هشام ، أخبرني عن أصحاب علي يوم حكموا الحكمين أكانوا مؤمنين أم كافرين؟

قال هشام : كانوا ثلاثة أصناف ، صنف مؤمنون ، وصنف مشركون ، وصنف ضلال.

فأما المؤمنون : فمن قال مثل قولي ، الذين قالوا : إن عليا إمام من عند الله ومعاوية لا يصلح لها ، فآمنوا بما قال الله عزوجل في علي وأقروا به.

وأما المشركون : فقوم قالوا : علي إمام ، ومعاوية يصلح لها ، فأشركوا إذ أدخلوا معاوية مع علي.

وأما الضلال : فقوم خرجوا على الحمية والعصبية للقبائل والعشائر ، لم يعرفوا شيئا من هذا ، وهم جهال.

قال : وأصحاب معاوية ما كانوا؟

قال : كانوا ثلاثة أصناف : صنف كافرون ، وصنف مشركون ، وصنف ضلال.

فأما الكافرون : فالذين قالوا : إن معاوية إمام ، وعلي لا يصلح لها ،

١٤٦

فكفروا من جهتين أن جحدوا إماما من الله ، ونصبوا إماما ليس من الله.

وأما المشركون فقوم قالوا : معاوية إمام ، وعلي يصلح لها ، فأشركوإ معاوية مع علي ـ عليه السلام ـ.

وأما الضلال فعلى سبيل أولئك خرجوا للحمية والعصبية للقبائل والعشائر. فانقطع بيان عند ذلك.

فقال ضرار : فأنا أسألك يا هشام في هذا؟

فقال هشام : أخطأت.

قال : ولم؟

قال : لأنكم مجتمعون على دفع إمامة صاحبي ، وقد سألني هذا عن مسألة وليس لكم أن تثنوا بالمسألة علي حتى أسألك يا ضرار عن مذهب في هذا الباب.

قال ضرار : فسل.

قال : أتقول إن الله عدل لا يجور؟

قال : نعم ، هو عدل لا يجور ، تبارك وتعالى.

قال : فلو كلف الله المقعد المشي إلى المساجد ، والجهاد في سبيل الله ، وكلف الأعمى قراءة المصاحف والكتب ، أتراه كان عادلا أم جائرا؟

قال ضرار : ما كان الله ليفعل ذلك.

قال هشام : قد علمنا أن الله لا يفعل ذلك ، ولكن على سبيل الجدل والخصومة ، أن لو فعل ذلك أليس كان في فعله جائرا؟ وكلفه تكليفا لا يكون له السبيل إلى إقامته وأدائه.

قال : لو فعل ذلك لكان جائرا.

قال : فأخبرني عن الله عزوجل كلف العباد دينا واحدا لا اختلاف فيه

١٤٧

لا يقبل منهم إلا أن يأتوا به كما كلفهم؟

قال : بلى.

قال : فجعل لهم دليلا على وجود ذلك الدين؟ وكلفهم ما لا دليل على وجوده؟ فيكون بمنزلة من كلف الأعمى قراءة الكتب ، والمقعد المشي إلى المساجد والجهاد؟

قال : فسكت ضرار ساعة ثم قال : لا بد من دليل ، وليس بصاحبك.

قال : فضحك هشام وقال : تشيع شطرك وصرت إلى الحق ضرورة ، ولا خلاف بيني وبينك إلا في التسمية.

قال ضرار : فإني أرجع إليك في هذا القول.

قال : هات.

قال ضرار : كيف تعقد الامامة؟

قال هشام : كما عقد الله النبوة.

قال : فإذا هو نبي؟

قال هشام : لا لأن النبوة يعقدها أهل السماء ، والأمامة يعقدها أهل الأرض ، فعقد النبوة بالملائكة ، وعقد الأمامة بالنبي ، والعقدان جميعا بإذن الله عزوجل.

قال : فما الدليل على ذلك؟

قال هشام : الاضطرار في هذا.

قال ضرار : وكيف ذلك؟

قال هشام : لا يخلو الكلام في هذا من أحد ثلاثة وجوه :

إما أن يكون الله عزوجل رفع التكليف عن الخلق بعد الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فلم يكلفهم ولم يأمرهم ، ولم ينههم ، وصاروا

١٤٨

بمنزلة السباع والبهائم التي لا تكليف عليها ، أفتقول هذا يا ضرار أن التكليف عن الناس مرفوع بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ؟

قال : لا أقول هذا.

قال هشام : فالوجه الثاني ينبغي أن يكون الناس المكلفون قد استحالوا بعد الرسول علماء ، في مثل حد الرسول في العلم ، حتى لا يحتاج أحد إلى أحد فيكونوا كلهم قد استغنوا بأنفسهم ، وأصابوا الحق الذي لا اختلاف فيه أفتقول هذا ، أن الناس قد استحالوا علماء ، حتى صاروا في مثل حد الرسول في العلم حتى لا يحتاج أحد إلى أحد ، مستغنين بأنفسهم عن غيرهم في إصابة الحق؟

قال : لا أقول هذا ، ولكنهم يحتاجون إلى غيرهم.

قال : فبقي الوجه الثالث لأنه لا بد لهم من علم يقيمه الرسول لهم لا يسهو ولا يغلط ، ولا يحيف (١) ، معصوم من الذنوب ، مبرأ من الخطايا ، يحتاج إليه ولا يحتاج إلى أحد.

قال : فما الدليل عليه؟

قال هشام : ثمان دلالات أربع في نعت نسبه ، وأربع في نعت نفسه.

فأما الأربع التي في نعت نسبه : بأن يكون معروف الجنس ، معروف القبيلة ، معروف البيت ، وأن يكون من صاحب الملة والدعوة إليه إشارة ، فلم يرجنس من هذا الخلق أشهر من جنس العرب ، الذين منهم صاحب الملة والدعوة ، الذي ينادى باسمه في كل يوم خمس مرات على الصوامع ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فتصل دعوته إلى كل بر

__________________

(١) الحائف : الظالم ، الجائر.

١٤٩

فتصل دعوته إلى بر وفاجر ، وعالم وجاهل ، ومقر ومنكر ، في شرق الأرض وغربها ، ولو جاز أن يكون الحجة من الله على هذا الخلق في غير هذا الجنس لأتى علي الطالب المرتاد دهر من عصره لا يجده ، ولو جاز أن يطلبه في أجناس هذا الخلق من العجم وغيرهم لكان من حيث أراد الله أن يكون صلاحا يكون فسادا ، ولا يجوز هذا في حكم الله تبارك وتعالى وعدله ، أن يفرض على الناس فريضة لا توجد.

فلما لم يجز ذلك لم يجز إلا أن يكون إلا في هذا الجنس لاتصاله بصاحب الملة والدعوة ، ولم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لقرب نسبها من صاحب الملة وهي قريش ، ولما لم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لم يجز أن يكون من هذه القبيلة إلا في هذا البيت لقرب نسبه من صاحب الملة والدعوة ، ولما كثر أهل هذا البيت ، وتشاجروا في الامامة لعلوها وشرفها ادعاها كل واحد منهم ، فلم يجز إلا أن يكون من صاحب الملة والدعوة إليه إشارة بعينه واسمه ونسبه لئلا يطمع فيها غيره.

وأما الأربع التي في نعت نفسه : أن يكون أعلم الناس كلهم بفرائض الله وسننه ، وأحكامه ، حتى لا يخفى عليه منها دقيق ولا جليل ، وأن يكون معصوما من الذنوب كلها وأن يكون أشجع الناس ، وأن يكون أسخى الناس.

قال : من أين قلت : إنه أعلم الناس؟

قال : لأنه إن لم يكن عالما بجميع حدود الله وأحكامه وشرائعه وسننه ، لم يؤمن عليه أن يقلب الحدود ، فمن وجب عليه القطع حده ، ومن وجب عليه الحد قطعه ، فلا يقيم لله حدا على ما أمر به ، فيكون من حيث أراد الله صلاحا يقع فسادا.

١٥٠

قال : فمن أين قلت : إنه معصوم من الذنوب؟

قال : لأنه إن لم يكن معصوما من الذنوب ، دخل في الخطأ فلا يؤمن أن يكتم على نفسه ، ويكتم على حميمه وقريبه ، ولا يحتج الله عزوجل بمثل هذا على خلقه.

قال : فمن أين قلت : إنه أشجع الناس؟

قال : لأنه فئة للمسلمين الذين يرجعون إليه في الحروب ، وقال الله عزوجل : (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد بآء بغضب من الله) (١) فإن لم يكن شجاعا فر فيبوء بغضب من الله ، فلا يجوز أن يكون من يبوء بغضب من الله حجة لله على خلقه.

قال : فمن أين قلت : إنه أسخى الناس؟

قال : لأنه خازن المسلمين ، فإن لم يكن سخيا تاقت نفسه إلى أموالهم فأخذها ، فكان خائنا ، ولا يجوز أن يحتج الله على خلقه بخائن. فقال عند ذلك ضرار : فمن هذا بهذه الصفة في هذا الوقت؟

فقال : صاحب العصر أمير المؤمنين ـ وكان هارون الرشيد قد سمع الكلام كله ـ.

فقال عند ذلك : أعطانا والله من جراب النورة ، ويحك يا جعفر ـ وكان جعفر بن يحيى جالسا معه في الستر ـ من يعني بهذا؟

قال : يا أمير المؤمنين يعني موسى بن جعفر.

قال : ما عنى بها غير أهلها ، ثم عض على شفته ، وقال : مثل هذا حي ويبقى لي ملكي ساعة واحدة؟! فو الله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مائة ألف سيف (٢).

__________________

(١) سورة الانفال : الاية ١٦.

(٢) بحار الانوار ج ٤٨ ص ١٩٧ ح ٧ ، كمال الدين وتمام النعمة ج ٢ ص ٣٦٢ بتفاوت.

١٥١

المناظرة الخامسة والعشرون

مناظرة هشام بن الحكم مع عالم شامي بمحضر الصادق ـ عليه السلام ـ

عن يونس بن يعقوب قال : كنت عند أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ فورد عليه رجل من أهل الشام فقال : إني رجل صاحب كلام وفقه وفرائض ، وقد جئت لمناظرة أصحابك.

فقال له أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ : كلامك هذا من كلام رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أو من عندك؟

فقال : من كلام رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بعضه ، ومن عندي بعضه.

فقال أبو عبد الله : فأنت إذا شريك رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ؟

قال : لا.

قال : فسمعت الوحي من الله تعالى؟

قال : لا.

قال : فتجب طاعتك كما تجب طاعة رسول الله؟

قال : لا.

قال : فالتفت إلي أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ فقال : يا يونس هذا خصم نفسه قبل أن يتكلم.

(الى أن قال يونس) : وكنا في خيمة لأبي عبد الله ـ عليه السلام ـ في طرف جبل في طريق الحرم ، وذلك قبل الحج بأيام ، فأخرج أبو عبد الله

١٥٢

ـ عليه السلام ـ رأسه من الخيمة فإذا هو ببعير يخب ، قال : هشام ورب الكعبة.

قال : وكان شديد المحبة لأبي عبد الله ، فإذا هشام بن الحكم ، وهو أول ما اختطت لحيته ، وليس فينا إلا من هو أكبر منه سنا ، فوسع له أبو عبد الله وقال : ناصرنا بقلبه ولسانه ويده.

ثم قال للشامي : كلم هذا الغلام! يعني : هشام بن الحكم.

فقال : نعم ، ثم قال الشامي لهشام : يا غلام سلني في إمامة هذا يعني : أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ؟

فغضب هشام حتى ارتعد ، ثم قال له : أخبرني يا هذا أربك أنظر لخلقه ، أم خلقه لأنفسهم؟

فقال الشامي : بل ربي أنظر لخلقه!

قال : ففعل بنظره لهم في دينهم ماذا؟

قال : كلفهم ، وأقام لهم حجة ودليلا على ما كلفهم به ، وأزاح في ذلك عللهم.

فقال له هشام : فما هذا الدليل الذي نصبه لهم؟

قال الشامي : هو رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ.

قال هشام : فبعد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ من؟

قال : الكتاب والسنة.

فقال هشام : فهل نفعنا اليوم الكتاب والسنة فيما اختلفنا فيه ، حتى رفع عنا الاختلاف ، ومكننا من الاتفاق؟

فقال الشامي : نعم.

قال هشام : فلم اختلفنا نحن وأنت ، جئتنا من الشام تخالفنا ، وتزعم

١٥٣

أن الرأي طريق الدين ، وأنت مقربان الرأي لا يجمع على القول الواحد المختلفين؟

فسكت الشامي كالمفكر.

فقال أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ : مالك لا تتكلم؟

قال : إن قلت : إنا ما اختلفنا كابرت.

وإن قلت : إن الكتاب والسنة يرفعان عنا الاختلاف ، أبطلت (١) ،

__________________

(١) ولذلك من الوظائف المعتبرة في الأمام بعد النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أن يبين للأمة ما أرسل به النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وما اختلفوا فيه ، لكي يرتفع عنهم الخلاف.

وهذان المعنيان قد نص عليهما النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في علي بن ابي طالب ـ عليه السلام ـ ومن تلك النصوص الصريحة التي لا تقبل الشك :

(أ) ما روي عن ابي ذر عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قال : (علي باب علمي ، ومبين من بعدي لأمتي ما أرسلت به ، حبه ايمان ، وبغضه نفاق ... الحديث).

راجع : كنز العمال ج ١١ ص ٦١٤ ح ٣٢٩٨١ ، فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي ص ١٨ ، ط الأزهر ، وص ٤٧ ط الحيدرية ، الغدير للأميني ج ٣ ص ٩٦.

(ب) ما روي عن أنس ، قال : قال ـ صلى الله عليه وآله ـ (يا أنس أول من يدخل عليك من هذا الباب أمير المؤمنين وسيد المسلمين وقائد الغر المحجلين ، وخاتم الوصيين).

قال أنس : قلت اللهم اجعله رجلا من الأنصار وكتمته.

إذ جاء علي فقال : (من هذا يا أنس؟) فقلت : علي ، فقام إليه مستبشرا فاعتنقه ، ثم جعل يمسح عرق وجهه بوجهه. قال علي : يا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لقد رأيتك صنعت شيئا ما صنعت بي من قبل؟ قال : (وما يمنعني وأنت تؤدي عني وتسمعهم صوتي وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي)؟

راجع : حلية الاولياء ج ١ ص ٦٣ ، المناقب للخوارزمي الحنفي ص ٨٥ ح ٧٥ ، ترجمة امير المؤمنين من تاريخ دمشق ج ٢ ص ٤٨٧ ح ١٠٠٥ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٩ ص ١٦٩ ، كفاية الطالب للكنجي الشافعي ص ٢١٢ ، ميزان الاعتدال للذهبي ج ١ ص ٦٤.

(ت) ما روي عن انس ايضا أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قال لعلي : (أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي).

١٥٤

لأنهما يحتملان الوجوه (١) ، ولكن لي عليه مثل ذلك.

فقال له أبو عبد الله : سله تجده مليا!

فقال الشامي لهشام : من أنظر للخلق ربهم أم أنفسهم؟

فقال : بل ربهم أنظر لهم.

فقال الشامي : فهل أقام لهم من يجمع كلمتهم ، ويرفع اختلافهم ، ويبين لهم حقهم من باطلهم؟

فقال هشام : نعم.

فقال الشامي : من هو؟

قال هشام : أما في ابتداء الشريعة ، فرسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ

__________________

راجع : الحاكم في المستدرك ج ٣ ص ١٢٢ ، كنز العمال ج ١١ ص ٦١٥ ح ٣٢٩٨٣ ، المناقب للخوارزمي ص ٣٢٩ ح ٣٤٦ ، كنوز الحقائق للمناوي ص ٢٠٣ ، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص ١٨٢ ، ترجمة امير المؤمنين من تاريخ ابن عساكر ج ٢ ص ٤٨٨ ح ١٠١٧ و ١٠١٨.

يقول السيد شرف الدين في كتابه المراجعات ص ١٧٢ معلقا على هذا الحديث : ان من تدبر هذا الحديث وأمثاله علم أن عليا من رسول الله بمنزلة الرسول من الله تعالى ، فان الله سبحانه يقول لنبيه : (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) سورة النحل الاية ٦٤ ، ورسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول لعلي : (أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي).

(١) ومما لا يخفى أن القرآن الكريم فيه من المجمل والمفصل ، والمحكم والمتشابه ، والظاهر والمؤول ، والعام والخاص ، والناسخ والمنسوخ ، ما لا يمكن معرفته إلا بالرجوع إلى أولي الأمر ، قال الله تعالى : (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) سورة النساء : الاية ٨٣. وكذلك السنة أيضا بالأضافة إلى وجود الدس ـ كما صرحت بذلك الروايات ـ والكذب والافتراء على رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حتى أنه قام فيهم خطيبا ـ كما يروى ـ وقال : ألا كثرت علي الكذابة فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ، فلهذا كله وجب الرجوع إلى أولي الأمر وهم أهل البيت ـ عليهم أفضل الصلاة والسلام ـ لمعرفة الوجه الصحيح من غيره والحق من الباطل.

١٥٥

اما بعد النبي فعترته.

قال الشامي : من هو عترة النبي القائم مقامه قي حجته؟

قال هشام : في وقتنا هذا أم قبله؟

قال الشامي : بل في وقتنا هذا.

قال هشام : هذا الجالس يعني : أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ ، الذي تشد إليه الرحال ويخبرنا بأخبار السماء وراثة عن جده.

قال الشامي : وكيف لي بعلم ذلك؟

فقال هشام : سله عما بدا لك.

قال الشامي : قطعت عذري ، فعلي السؤال.

فقال أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ : أنا أكفيك المسألة يا شامي أخبرك عن مسيرك وسفرك ، خرجت يوم كذا ، وكان طريقك كذا ، ومررت على كذا ، ومر بك كذا ، فأقبل الشامي كلما وصف شيئا من أمره يقول : (صدقت والله).

فقال الشامي : أسلمت لله الساعة!

فقال له أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ : بل امنت بالله الساعة ، إن الأسلام قبل الأيمان وعليه يتوارثون ، ويتناكحون ، والأيمان عليه يثابون.

قال : صدقت ، فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأنك وصي الأنبياء (١)

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسي ج ٢ ص ٣٦٤ ، ابن شهر آشوب في المناقب ج ٤ ص ٢٤٣ ، ارشاد المفيد ص ٢٧٨ ، اصول الكافي ج ١ ص ١٧٢ ، بحار الانوار ج ٤٨ ص ٢٠٣ ح ٧.

١٥٦

المناظرة السادسة والعشرون

مناظرة (١) هشام مع عمرو بن عبيد (٢) في مسجد البصرة

عن يونس بن يعقوب قال : كان عند أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ جماعة من أصحابه فيهم حمران بن أعين ، ومؤمن الطاق ، وهشام بن سالم ، والطيار ، وجماعة من أصحابه ، فيهم هشام بن الحكم ، وهو شاب.

فقال أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ : يا هشام!

قال : لبيك يابن رسول الله!

قال : ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته؟

قال هشام : جعلت فداك يابن رسول الله ، اني أجلك وأستحييك ، ولا يعمل لساني بين يديك.

فقال إبو عبد الله ـ عليه السلام ـ : إذا أمرتكم بشئ فافعلوه!

__________________

(١) كل مناظرات هشام بن الحكم تدل على قوته الجدلية وحذقه بصناعة الكلام ، وحضور الجواب عنده بالبداهة مستخدما في كثير منها الأدلة الشرعية ، إلا أن هذه المناظرة تدل على قوة حجته على خلافة امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ بالادلة العقلية ، ولذا قيل انه أول من اخضع بحث الأمامة للمقاييس العقلية.

(٢) هو : عمرو بن عبيد بن باب ، ويقال : ابن كيسان التميمي ، أبو عثمان البصري ، مولى بني تميم ، من أبناء فارس ، شيخ القدرية والمعتزلة في عصره ، كان جده من سبي فارس وأبوه نساجا ثم شرطيا للحجاج في البصرة ، وفيه قال المنصور الدوانيقي : كلكم يطلب صيد غير عمرو بن عبيد ، ولد سنة ٨٠ ، وتوفي بمران بقرب مكة سنة ١٤٤ ، ورثاه المنصور ولم يسمع بخليفة رثى من دونه سواه.

راجع : تهذيب الكمال ج ٢٢ ص ١٢٣ ترجمة رقم : ٤٤٠٦ ، سير أعلام النبلاء ج ٦ ص ١٠٤ رقم : ٢٧ ، وفيات الأعيان.

١٥٧

قال هشام : بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد ، وجلوسه في مسجد البصرة ، وعظم ذلك علي ، فخرجت إليه ، ودخلت البصرة يوم الجمعة ، وأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة ، وإذا بعمرو بن عبيد عليه شملة سوداء مؤتز بها من صوف وشملة مرتد بها ، والناس يسألونه ، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي ، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي ، ثم قلت : أيها العالم أنا رجل غريب ، أتأذن لي فأسألك عن مسألة؟

قال : اسأل!

قلت له : ألك عين؟

قال يا بني أي شئ هذا من السؤال ، إذا كيف تسأل عنه؟

فقلت : هذه مسألتي.

فقال : يا بني! سل وإن كانت مسألتك حمقى.

قلت : أجبني فيها.

قال : فقال لي : سل!

فقلت : ألك عين؟

قال : نعم.

قلت : قال : فما تصنع بها؟

قال : أرى بها الألوان والأشخاص.

قال : قلت : ألك أنف؟

قال : نعم.

قال : قلت : فما تصنع به؟

قال : أشم به الرائحة.

قال : قلت : ألك لسان؟

قال : نعم.

١٥٨

قال : قلت : فما تصنع به؟

قال : أتكلم به.

قال : قلت : ألك أذن؟

قال : نعم.

قلت : فما تصنع بها؟

قال : أسمع بها الأصوات.

قال : قلت : ألك يدان؟

قال : نعم. قلت : فما تصنع بهما؟

قال : أبطش بهما ، وأعرف بهما اللين من الخشن.

قال : قلت : ألك رجلان؟

قال : نعم.

قال : قلت : فما تصنع بهما؟

قال : أنتقل بهما من مكان إلى مكان.

قال : قلت : ألك فم؟ قال : نعم.

قال : قلت : فما تصنع به؟

قال : أعرف به المطاعم والمشارب على اختلافها.

قال : قلت : ألك قلب؟

قال : نعم.

قال : قلت : فما تصنع به؟

قال : أميز به كلما ورد على هذه الجوارح.

قال : قلت : إفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟

١٥٩

قال : لا.

قال : قلت : أفليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟

قال : يا بني إن الجوارح إذا شكت في شئ شمته أو رأته أو ذاقته ، ردته إلى القلب ، فتيقن بها اليقين ، وأبطل الشك.

قال : فقلت : فإنما أقام الله عز وجل القلب لشك الجوارح؟

قال : نعم.

قلت : لابد من القلب وإلا لم يستيقن الجوارح.

قال : نعم.

قلت : يا أبا مروان ، إن الله تبارك وتعالى لم يترك جوارحكم حتى جعل لها إماما ، يصحح لها الصحيح ، وينفي ما شكت فيه ، ويترك هذا الخلق كله في حيرتهم ، وشكهم ، واختلافهم ، لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم وحيرتهم ، ويقيم لك إماما لجوارحك ، ترد إليه حيرتك وشكك؟!.

قال : فسكت ولم يقل لي شيئا.

قال : ثم التفت إلي فقال لي : أنت هشام؟

قال : قلت : لا.

فقال لي : أجالسته؟

فقلت : لا.

قال : فمن أين أنت؟ قلت : من أهل الكوفة.

قال : فأنت إذا هو. ثم ضمني إليه ، وأقعدني في مجلسه ، وما نطق حتى قمت ، فضحك أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ ، ثم قال : يا هشام ، من علمك هذا؟ قلت : يابن رسول الله جرى على لساني.

قال : يا هشام هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى (١).

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسي ج ٢ ص ٣٦٧ ، مروج الذهب ج ٤ ص ١٠٥ ، رجال الكشي ص ٢٧١

١٦٠