مناظرات

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

١

٢

٣
٤

٥
٦

(١)

لقد أتحفنا الأديب اللامع والشاعر المبدع الأخ الأستاذ فرات الأسدي بهذه القصيدة ومؤرخا لصدور كتابنا فشكرا له على ما جادت به قريحته.

بسم الله الرحمن الرحيم

الأخ العزيز الحسن ـ رعاه الله ـ.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أقدم لكم مع الاعتذار ، الأبيات التي كنت وعدتكم بها لكتابكم الكريم ، وقد تطرقت فيها إلى القطيف وبعض مناطقها ثم إلى كتابكم فأرجو القبول.

أخوكم : فرات الأسدي

لأفق به ناعسات الضفاف

يهدهدها البحر .. حسرى غوافي

يمد إلى حسنها كفه

فتشهق بالوجد سمر المرافي

ويهتز نخل الهوى والشراع

ما مل من لجة في الطواف

ـ كأن لم أطرز على مثله

دموعي ذاهلة في المنافي

ولم أتذكر بهن الفرات

مناديل دامعة الارتجاف

ترد إلى فرحتي لونها ..

وتحملني عبر ذكرى زفاف

زفاف الدم المر في كربلاء

وزغردة الجرح رهن انتزاف

ونخل الجنوب بأعذاقه

تدلى الردى ، رائع الاصطفاف! ـ

... وتصدح أغنية حلوة

يرقرقها لهب في الشغاف

فتصبو القلوب إلى جمرها

وتهوي عليها سكارى سلاف

ويندى على كأسها دمها

وما دمها غير خمر القطاف

به روحها ثمر والدنان

مفاتنها .. نهبا لارتشافي!

* * *

لأفق به ناعسات الضفاف

كتبت ، وحبر الوريد القوافي

إلى اليوم في جانحيه النبوغ

ترف قوادمه والخوافي

٧

ويصطاف بالشمس نوتيها

وباللؤلؤ الرطب أي اصطياف

تحضنه للوصي الولاء

وللناكثين القلا والتجافي

وما راعه أن هوج الرياح

ستأتي له بالسنين العجاف

وأن اللظى شجر علقم

ستورقه عاقرات الفيافي

بل انثال للنبع يروي الظماء

وينهل سلساله وهو صافي

* * *

وحيث رعى وده ماجد

بآبائه ، طاهر في النطاف

على العلم معتكف لا يحول

فبورك منه طويل اعتكاف

وبورك في يده مزبر

أبان من الحق أجلى صحاف

وسطر في حيدر مصحفا

سيطرب سمع الموالي المصافي

ويقرع سمع الخصوم اللدود

بصوت جرئ جهير الهتاف

يناظر بالحجج الدامغات

ويروي عن القوم كل اعتراف

بأن الأمامة نص جلي

وحق علي بها غير خافي

وأبناءه الطاهرين الهداة

ليس بتفضيلهم من خلاف

إليهم يشير الدليل الصريح

وعنهم بكل (صحيح) يوافي

فيارب بارك بهم علقتي

وأحسن لهم أوبتي وانصرافي

وأما تاريخ طبع الكتاب فهو :

أيها الكاتب الذي

هو للمرتضى ولي

لك فيما جمعته

خير نص به جلي

ناظر الخصم واثقا

بكتاب ومقول

وإذا ما ظفرت في

الرأي منه بمقتل

قل له الحق تاريخه : ـ

سل بخ بخ يا علي

١٤١٥ ه‍ـ

فرات الأسدي

٦/ جمادى الثانية / ١٤١٥

٨

(٢)

ولقد أتحفنا كذلك الأديب خادم أهل البيت الخطيب الشيخ محمد باقر الأيرواني النجفي دام عزه بهذه القصيدة ومؤرخا لصدور الكتاب فشكراً له على ما تفضل به.

في كتاب المناظرات نظرنا

نظرة الشوق بدءه وختامه

فوجدناه جامعا للمغازي

من بحوث دقيقة باستدامه

وعن السنة المصادر تبدو

واضحات صريحة بصرامه

ذاك أن النبي لم يوص إلا

لعلي والله أعلى مقامه

وإذا الخصم قد تجاوز ظلما

فلقد باء وزره وأثامه

إنما الأمر والخلافة خصت

لقرين الزهراء رمز الكرامة

هل سواه قد كان آمن قبلا

أسبق الناس معلنا إسلامه

هل أتى (هل أتى) لشخص سواه

ومن الرب قد حباه وسامه

حبه واجب وفرض أكيد

وهو للمؤمنين أجلى علامه

حربه حرب أحمد ويقينا

سلمه سلمه ليوم القيامة

قل لمن أنكر الحقيقة زورا

وإلى الحق قد ألد خصامه

لا تكن حاقدا على الحق واتبع

منهج الحق كي تنال السلامه

إن تجاهلت فالحساب عسير

لك ويل الوبال ثم الملامة

هذه كتبكم تصرح جهرا

فلراوي الحديث فافهم كلامه

لا تكن كالذي عنادا وبغضا

ضد آل الرسول سل حسامه

ودعاه نكران فضل علي

دون جدوى فجد يرمي سهامه

ألزم النفس بالخلاف جحودا

ليس للجاحدين إلا الندامة

فاقبل النصح من وفي نصوح

إنما النصح من وفاء الشهامه

كن مع المرتضى بقلب سليم

وعن الفكر فاطرح أوهامه

فاز بالنصر من يعي ويراعي

سر إرشاد نفسه اللوامه

دربنا المستقيم للحق يهدي

وعلى الحق والهدى الاستقامة

من كتاب المناظرات تزود

تجد الرشد إن أردت اغتنامه

هو نعم الكتاب أقسمت حقا

وبه الكاتب استثار اهتمامه

فاز في النشأتين وعيا وسعيا

وبحبل الولاء نال اعتصامه

وسيحظى بالخير والنصر دوما

كلما للوصي أبدى التزامه

ولمن رام خير دنيا وأخرى

فبنهج الهدى ينال مرامه

ويقينا أرخت : يبقى بطيب

لعلي إثبات حق الأمامة

١٤١٥ هـ

محمد باقر الايرواني النجفي

٩

تقديم :

بقلم العلامة المحقق آية الله الشيخ محمد رضا الجعفري (حفظه الله تعالى)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيد خلقه وخاتم أنبيائه محمد وآله الطيبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

١ ـ طلب إلي أن أقدم لكتاب (مناظرات في الأمامة) في ظروف لم تكن تحملني على هذا النوع من العمل الفكري إن لم تكن تعوقني ، والله سبحانه هو المرجو في السراء والضراء وبه المعاذ والملاذ في الشدة والرخاء ، قلت هذا كي يغفر لي القارئ الكريم إن لم يجد في تقديمي هذا كل ما كان يأمل أن يقرأ حول الكتاب وموضوعه.

ولا يعنيني هنا أن أتكلم عن مدلول (المناظرة) لغويا بعد أن اصطلح عليها على أن تؤدي معنى الجدل الكلامي المباشر ، القائم على المواجهة واستماع كل من المتجادلين كلام الاخر والرد عليه في محضر المواجهة ، فتكون قسما من أقسام (الرد) و (النقض).

٢ ـ وإذا كان أول خلاف وقع بين الأمة الخلاف في الأمامة والأمام ، وإذا كان الجدل والنقاش وعرض وجهات النظر ، والرد على الرأي المخالف من طريق الكلام والمواجهة أسبق وقوعا من الرد كتابة وتأليفا ـ وهذا واضح ـ فبهذا تكون (المناظرة) والجدل عن طريق الحوار قد سبقت سائر أنواع الجدل والنقاش الفكري سبقا زمنيا ، فلابد لنا من القول بأن المناظرة حول الأمامة قد سبقت كل مناظرة كلامية تدور حول الصراع الفكري الذي حدث بين المسلمين في شتى نقاط الخلاف العقائدي والمذهبي بينهم.

وإن كانت المناظرة حول الأمامة والخلافة في أشكالها الأول قد تأطرت بإطار (الاحتجاج) من المعارضين على الفائزين في الصراع السياسي حول قيادة الأمة ، وقد أعطي لها هذا العنوان : (الاحتجاج) إلا أنه لا يخرجها عن شمول عنوان (المناظرة) لها ، فإن الاحتجاج في نفسه هو نوع من أنواع المناظرة ، ويعتمد على إدلاء الحجج واعتماد الأدلة والاعتبارات المناسبة لتصحيح المعارضة وعدم الخضوع لموقف الفئة الحاكمة أو التي تحاول أن تكسب الحكم ، ولا تسلب من الخصم إمكانية الدفاع عن نفسه وعن وجهات نظره ونقض حجج من يحتج عليه.

بل وإن الغلبة في الحجة والفوز في الخصومة الكلامية إن كانتا في جانب المعارضين ، فإن ذلك يدل دلالة أقوى وآكد على أن الحق معهم ، إذ أن خصومهم الذين يعتزون عليهم بما كسبوه من القدرة السياسية والعسكرية لا يأنفون أن يدلوا بحججهم ونقض حجج معارضيهم ، فإن سكتوا هنا أمام معارضيهم ، فستكون له دلالة أقوى من سكوت أحد المتناظرين.

١٠

ومن الواضح الذي لا يخفى على أحد ، لا هو ولا الأسباب والعوامل الموجبة له ، أن المناظرات حول الأمامة تشكل القسم الأكبر والأوسع من المناظرات الكلامية لعلماء الأمامية ومتكلميهم أعلى الله درجتهم ورضي عنهم وأرضاهم.

٣ ـ وهذا الكتاب أول محاولة مستوعبة تجمع كل صورة من صور المناظرة حول الأمامة ، أمكن للمؤلف ـ حفظه الله ـ أن يصل إليها ، وشيخنا الطبرسي رحمه الله وإن كان قد سبقه إليه في كتابه الشهير (الاحتجاج) لكنه لم يخص موضوع كتابه بالأمامة وحدها ، وقد انتهى به إلى عصره وهو القرن السادس ، وقد نظم المؤلف مادة الكتاب حسب التسلسل الزمني ، وهذه حسنة أخرى.

والمناظرة حيث أنها تقوم على الحوار المباشر بين المتناظرين وجها لوجه ، فلا يكون أحدهما هو المدلي بحجته والداخل إلى مجلس القضاء وحده كي يقال : من كان في مثل حاله سيكون هو الفائز بحجته والمنتصر على خصمه الغائب عنه ، وهذه بعض السمات الخاصة للمناظرات والتي تمتاز بها عن بقية أنواع النقاش والرد.

هناك شكل آخر من أشكال المناظرة اصطلح عليه بعنوان (الرد) و (النقض) ويقوم على الاستعانة بالكتابة وتأليف الرسائل والكتب ، وإن كان هذا العنوان لا يختص به من حيث المدلول اللغوي ، وقد أكثر منه عماؤنا الأبرار أيضا وحسبك أن ترجع إلى الذريعة ج ١٠ ص ١٧٤ ـ ٢٧ ، ٣٥٤ ـ ٧٥١ فيما جاء بعنوان (الرد) وج ٢٤ ص ٢٨٣ ـ ٢٩٢ ، ٤٥٩ ـ ٥٦ فيما جاء بعنوان : (النقض) عدا ماكان له اسم خاص ، فلم يذكر إلا حب وقوع اسمه في موقعه الخاص من سلسلة الحروف العربية.

وذا أضفنا إلى هذين القسمين قسما ثالثا لم يظهر إلا في العصور احديثة وهو المقالات التي لا تنشر إلا في الصحف والمجلات والدوريات ، ويشكل كمية ضخمة لا يستهان بها حجما وعطاء ، وأرجو أن يقيض الله سبحانه من يتولى جمعها أو فهرستها ، لأدركنا مدى غزارة هذا التراث الثر المعطاء الذي لا يسعنا أن نفرط به.

وقد أحسن المؤلف صنعا حينما نظم هذه المناظرات حسب التسلسل الزمني لوقوعها ، وبهذا مكن الدارسين من متابعة دراستها للكشف عن نقاط القوة والضعف فيها وفي خلفياتها من حيث قدرة المتناظرين وضعفهما ، وازدهار الثقافة الدينية والتمكن العلمي وضمورهما ، حسب مختلف العصور ، والله سبحانه أسأل أن يجعل عمله هذا خالصا لوجهه الكريم وأن يوفقه إلى أن تكون أعماله الاتية ـ سواء التي ترجع إلى كتابه هذا أو إلى غيره ـ أوسع وأكمل ، إنه نعم المولى ونعم النصير.

محمد رضا الجعفري

٣ / ١١ / ١٤١٤ ه‍

١١

تفضل علينا المحقق الكبير آية اللّه الشيخ محمد الغروي دامت تأييداته بهذه الكلمة القيمة بمناسبة صدور كتابنا هذا ، فجزاه اللّه خير الجزاء وشكر اللّه سعيه الدؤوب لإحياءه مآثر أهل البيت عليهم السّلام الخالدة :

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ، والصلاة والسّلام على محمد رسول اللّه وآله آل اللّه. واللعن الدائم على أعدائهم أعداء اللّه إلى يوم لقاء اللّه.

أمامك عزيزي القارىء الكريم كتاب كريم لو وزن بأوزان ثقيلة لرجح عليها ، ألا وهو : (مناظرات في الإمامة) محاورات فكريّة حرّة في حديث الإمامة من صدر الإسلام إلى يومنا هذا.

بهذا الاسم المبارك أسماه مؤلّفه ومحقّقه أحد حسنات العصر الشيخ عبد اللّه الحسن ، وإذ أبارك له هذه الحسنة الجارية أشعر أنّها نور في الدرب لمن حضر ، وللأجيال القادمة عبر العصور.

قد يقال : ليس من الجميل المناظرة في الإمامة بعد أن أصبحت في ذمّة التأريخ ، ومسألة تاريخية بحتة ، فترى مؤلّف كتاب (فجر الإسلام) في مقدمة (تاريخ القرآن) لأبي عبد اللّه الزنجاني يناقش ، ويرشد إلى حلّ له ، أو لغيره ممّن تسمعه.

يقول في المقدمة مقرّضا ، مناقشا : (... ويعجب المؤرخ أن يرى النزاع يبلغ هذا المبلغ بين فئتين يجمعهما الإعتقاد بأن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمدا رسول اللّه ، وأن المؤمنين إخوة ، ولئن ساغ في العقل أن يقتتلوا أيّام كان هناك نزاع ، فعلى الخلافة من هو أحق [بها] منها ومن يتولاّها ، فليس يسوغ بحال من الأحوال أن يقتتلوا على خلاف أصبح في ذمة التأريخ ، لا يستطيع القتال والنزاع أن يعيده إلى الوجود ، بل أن أصبحت الخلافة نفسها مسألة تاريخية بحتة ، وليس للمسلمين خليفة فعليّ يضم كلمتهم ويجمع شتاتهم ، وأصبح الخلاف خلافا في التاريخ وخلافا في الإجتهاد ، ولو لا ألاعيب السياسة واستغفال الماكرين لعقول العامة ، واحتفاظ أرباب الشهوات والمطامع تجاههم وسلطانهم لا نمحى الخلاف بين الشيعي والسنّي ، ولأصبحوا بنعمة اللّه إخوانا ولتعاونوا على جلب المصالح ودرء المفاسد لجميعهم ، ولنظر بعضهم إلى بعض كما ينظر حنفي إلى مالكي ومالكي إلى شافعي.

وأظنّ أنّ الوقت قد حان لأن يفكّر عقلاء الطائفتين في سبيل الوئام ويعملوا على إحياء عوامل الألفة ، وإماتة الخصام ، ويتركوا للعلماء البحث حرّا في التأريخ ،

١٢

ويتلقوا النتائج بصدر رحب كما يتلقّون النتائج في أي بحث علميّ وتاريخيّ ، وتبعة هذا الخلاف تقع على رؤساء الطائفتين ، ففي يدهم تقليله كما في يدهم إشعاله وإنماؤه) المصدر ص ٩ ـ ١٠.

وفي كتاب السيد مرتضى العسكري المسمّى (أحاديث أمّ المؤمنين عائشة) ص ٥ ـ ٦ ، ما يلي بهذا الشأن :

(... ثانيا : يعترض الباحث فيما إذا وفّق إلى ترويض نفسه ، وتذليل العقبة الآنفة الذكر عقبة أخرى بعدها ، وهي الخوف من تأثير نشر هذه الدراسات على وحدة كلمة المسلمين ...

وهل يجوز لمن يغار على مصالح المسلمين أن يبحث اليوم في الماضي السحيق ، وينشر منه ما يوجب النقد والرد ، ويثير الحفيظة وينتج النفرة؟! وإذا كان ذلك مما لا يستسيغه أحد فليمتنع الجميع عن البحث والتحقيق كي لا يسبّب ذلك عقم جهود المصلحين ، ويؤدي بالمسلمين إلى ما لا يحمد عقباه؟!

أمّا نحن فلا نرى هذا ، فإنّنا حين ندعوا اللّه مخلصين أن يوفّق المسلمين لتلبية نداء المصلحين بنبذ الحزازات وتوحيد الكلمة ، لا نريد ذلك على حساب العلم والمعرفة ، ونعتقد أنّ المصلحين أنفسهم أيضا لا يريدونها كذلك ؛ فإنّ المصلحين الغيارى يدعون الى الاجتماع حول صعيد الإسلام ، والإسلام ليس برأي سياسي دولي ، وإنّما هو إيمان وعقيدة ، وهما لا يتأتّيان من كتم الحقيقة ، بل إنّهما ينتجان من بحث وتحقيق ونقد علميّ خالص ، على أن لا ينبعث ذلك من هوى النفس بدافع الحب والبغض ، وإنّ هذا لهو ما يدعو إليه المصلحون ، ونسأل اللّه تعالى أن يوفّقنا إلى الإلتزام بهذا الطريق السّوي ، وهو الموفق إلى الصواب ...

والحق الصحيح أنّ السعي لتقريب المسلمين بعضهم من بعض ، والجهاد في سبيل إعادة حياة إسلاميّة ، والقيام بالبحث والتحقيق في تاريخ الإسلام ، وحديث نبيّه صلّى اللّه عليه وآله لا ينافي بعضهم الآخر ، وإنّما يتمّم بعضهم بعضا ؛ فإنّه لا يتمكن من إقامة مجتمع اسلامي دون جمع الكلمة ، وبلا فهم لقرآنه وحديث نبيّه وتأريخه ، كما لا يتأتى التآخي الصحيح دون الإيمان بوجوب إعادة حياة إسلامية ، وإلاّ فعلى م يجتمع المسلمون؟ وما الذي يوحّد كلمتهم؟ ولا يتأتّى التآخي أيضا دون ترويض المسلمين أنفسهم على سماع آرآء بعضهم ومناقشاتها مناقشة من يطلب الحق ليتبعه ، ليصدق عليهم قول اللّه سبحانه : (فَبَشِّرْ عِبٰادِ * اَلَّذِينَ

١٣

يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (١) وهذا ما ندعوا إليه ، ونسأل اللّه أن يوفّقنا وجميع إخواننا المسلمين إلى الإهتداء بهذا القول الكريم).

ولو لا الحسن والقبح العقليّان ، وأنّهما أصلان ثابتان في العقول ، لما كان لمدح اللّه وتبشيره العباد المستمعين القول المتّبعين أحسنه موضع ، وليس استماع القول واتباع أحسنه ، ومنه الإمامة مسألة تاريخية ، أو هي في ذمّة التأريخ على حدّ تعبير أحمد أمين ، وهو بين أمرين :

إمّا أن يردّ رغبة القرآن حسن الاستماع واتباع الأحسن إطلاقا ، ومنه المناظرة حول الإمامة ولا سبيل إليه ، وإمّا القبول ، فهلم واستمع قول أوّل واضع للغة العربية والعروض الخليل بن أحمد في عليّ عليه السّلام : (استغناؤه عن الكل واحتياج الكل إليه دليل أنه إمام الكل ـ كتاب التأسيس ص ١٥٠) (جاء العيان فألوى بالأسانيد ـ مجمع الأمثال ١ / ١٩ ، حرف الجيم) وكفى بالقرآن والعيان سندا وبيانا ، وقول ابن أبي الحديد المعتزلي في فضائله ، قال :

فأمّا فضائله عليه السّلام ؛ فإنّها قد بلغت من العظم والجلالة والانتشار والاشتهار مبلغا يسمج معه التعرض لذكرها ، والتصدي لتفصيلها ، فصارت كما قال أبو العيناء لعبيد اللّه بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل والمعتمد : رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك كالمخبر عن ضوء النهار الباهر ، والقمر الزاهر الذي لا يخفى على الناظر ، فأيقنت أنّي حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز ، مقصّر عن الغاية ، فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك ، ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك... شرح النهج ١ / ١٦ ـ ٣٠.

الحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا اللّه.

٢ جمادى الأولى ١٤١٦ ه‍

محمد الغروي

ـــــــــــــــــــ

(١) سورة الزمر : الآية ١٧ ـ ١٨.

١٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم الى يوم الدين.

وبعد :

فإن مسألة الخلافة بعد الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ هي أهم المسائل التي دارت عليها رحى الخلاف بين المسلمين قديما «وحديثا» ، واحتدم فيها الصراع الفكري بينهم وكانت النتيجة الطبيعية لذلك الصراع انقسام الأمة الأسلامية إلى فرق متعددة (١) إلا أن أبرز هذه الفرق فرقتان :

السنة الأشاعرة والشيعة الأمامية وإن كانت هناك فرق أخرى برزت في فترات من التاريخ كالمعتزلة وغيرها ولسنا في مقام التصدي لاستعراض أدلة كل فريق وتقييمها فإن مجاله علم الكلام وإنما نشير إجمالا إلى رأي ذينك الفريقين :

فذهبت العامة إلى أن الخلافة لا نص عليها بل هي موكولة إلى الأمة ، فهي التي تختار الخليفة بعد الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، واختلفوا في كيفية انعقادها بين قائل بالبيعة ، وقائل بالشورى ، وآخر بالأجماع حتى صرح بعضهم بانعقادها بشخصين (٢)

__________________

(١) ولعل الحديث الوارد عن النبي (ص) : ستفترق امتي بعد على ثلاثة وسبعين فرقة ... الخ اشارة الى ذلك. انظر : احقاق الحق ج ٧ ص ١٨٥ ، نفحات اللاهوت ص ١١٤ ـ ١١٥.

(١) راجع الاحكام السلطانية للمارودي ج ٢ ص ٧ ، الطرائف على شرح المواقف : ص ٣٥٣.

١٥

وبعضهم صرّح أنها تنعقد أيضاً بالقهر والغلبة (١).

وأما الأمامية فذهبت إلى أن الخلافة لا تكون إلا بالنص انطلاقا من نظرتها الخاصة في مسألة الخلافة باعتبارها منصبا إلهيا وأمره ليس بيد البشر ، وترى لزوم توفر مواصفات معينة في خليفة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من قبيل نزاهة الباطن ، التي لا يطلع عليها إلا علام الغيوب.

فتؤكد من هذا المنطلق أنه يجب (٢) على الله تعالى أن يختار للأمة خليفة للنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لتناط به مسؤولية الأمة بعده مباشرة ، ويعينه من خلال نص النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ عليه بكل صراحة ووضوح.

ومن هذا المنطلق تحركت الشيعة الأمامية لأثبات نظريتها في الأمامة ووضعت النقاط على الحروف وساقت الكثير من الأدلة والبراهين العقلية والنقلية من خلال الايات القرآنية والأحاديث النبوية المتفق عليها عند جمهور المسلمين لأثبات الأمرين معا :

الأمر الاول : أن الخلافة والأمامة منصب إلهي وعهد رباني لا يناله إلا ذو حظ عظيم يمتاز عن سائر أفراد الأمة بعلمه الجم وفضائله الفائقة وعصمته ونزاهة باطنه. الأمر الثاني : أنه بالفعل تم التعيين بأمر من الله تعالى ، وبنص صريح وواضح جلي في مواقف عديدة ومناسبات كثيرة من النبي ـ صلى الله عليه

__________________

(١) قال الماوردي في الاحكام السلطانية : ج ١ ص ٢٣ : وروي عنه ـ أي أحمد ـ ما دلّ على أنّها تثبت بالقهر والغلبة ، ولا تفتقر إلى العهد ، فقال في رواية عبدوس بن مالك العطار : ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمّي أميرالمؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً ، برّاً كان أو فاجراً.

(٢) وجوب نصب الامام على الله تعالى هو بمقتضى قاعدة اللي ف بالعباد إذ لا يمكن ان يوجب العبد شيئاً على مولاه ، وهناك من المذاهب من يرى وجوبها شرعاً ، راجع شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج ٢ ص ٣٠٨ ، ومن أراد التوسع في هذا الموضوع فليراجع : كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد للعلامة الحلي : ص ٣٢٤ و ٣٦٢ ، حق اليقين في معرفة أصول الدين للسيد عبدالله شبّر : ج ١ ص ١٣٦ ـ ١٤٠ ، كتاب الامامة في أهم الكتب الكلامية للعلامة السيد علي الميلاني : ص ٤٥.

١٦

وآله وسلم ـ على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ابتداء بالأنذار يوم الدار وانتهاء بالساعات الأخيرة من حياة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فكان لا يدع فرصة يمكنه الأشارة فيها أو التصريح بإمامة علي ـ عليه السلام ـ من بعده إلا وبين فيها أمر الأمامة والأمام من بعده ، ولعل أبرز تلك المناسبات قضية الغدير وهي أشهر من أن تذكر ، ولا يختلف في تواترها أحد من المسلمين وإن اختلفوا في دلالة الولاية المنصوص عليها في هذا الحديث المتواتر ، وقد أثبت علماؤنا دلالتها على الأولى بالتصرف.

وانطلاقا من هذا الامر أخذت الشيعة الأمامية تحتج لأحقية أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وأبنائه الأحد عشر ـ عليهم السلام ـ في الخلافة ، ـ مستخدمين في ذلك البراهين النقلية والعقلية ـ وأثبتوا ذلك في مؤلفاتهم الكثيرة (١) في هذا الشأن قديما وحديثا ، وفي خطبهم وشعرهم وأدبهم فإن أدب الغدير ، وأدب الأمامة والخلافة يحتل جانبا كبيرا من الأدب الاسلامي خصوصا في القرون الأولى.

ومن أقدم تلك الاحتجاجات التي بدأت منذ الساعات الأولى من ارتحال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلى الرفيق الأعلى ، المحاورات والمناظرات حول هذه المسألة التي كانت تدور بين الحين والاخر واستمرت مع التأريخ وتطورت فيها أساليب النقاش ووسائل الأثبات مع اختلاف المناسبات.

ومما لا يخفى أن أسلوب المناظرة من أحسن الأساليب إقناعا ، ومن أسهلها استيعابا ، وأوقعها في النفس ، حيث يتفاعل معها الأدراك من خلال

__________________

(١) راجع : الشافي في الامامة للسيد المرتضى ، الالفين للعلامة الحلي ، تلخيص الشافي للشيخ الطوسي ، دلائل الصدق للمظفر ، المراجعات لشرف الدين ، الغدير للاميني ، وغيرها.

١٧

الأخذ والرد ، ويستفيد منها عامة الناس مع اختلاف مستوياتهم الفكرية.

ومن ناحية أخرى ان طرح موضوع الخلافة كمسألة علمية في اطار المناظرات والتي احتوت على كثير من الحقائق التاريخية والعلمية مما يؤدي الى عمق اكثر في التعرف على نظريات وادلة كل من المذاهب الاسلامية في شؤون الخلافة الاسلامية وخصوصا الشيعة الأمامية والوقوف على نظرياتها في هذه المسألة.

ومن هنا رأيت ان أجمع بعض تلك المحاورات والمناظرات التي جرت في مسألة الخلافة بالذات ، والتي أثبتوا فيها بالأدلة دلالة النصوص المتظافرة على خلافة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ، مع احتوائها لكثير من الاستدلالات المختلفة المتنوعة ، كما أضفت إليها بعض المناظرات المخطوطة في هذا الباب وقد اعتمدت في إخراجها على المصادر الموثوقة والمعتمدة مع تخريج مصادرها من كتب الجمهور.

وسيلاحظ القارئ الكريم لهذه المناظرات أن وسائل الأثبات في بعضها مرتكزة على الايات الشريفة ، والنصوص المأثورة عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ المتفق عليها بين الفريقين ، وأخرى على الشواهد والوقائع التاريخية ، وتارة يستدل من خلال بعض الممارسات والمقارنة بينها وبين ممارسات النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في نظائر تلك الوقائع ، كما أن للأدلة العقلية دورا كبيرا في هذا المجال.

وسيلاحظ أيضا أن بعض الاستدلالات بالايات أو الأحاديث أو غيرهما قد تكررت في بعض المناظرات ، إلا أن المتأمل فيها يجد أن كل مناظر له أسلوبه الخاص المتميز في الاستدلال ، وربما تناول فيها جانبا أغفله الاخر ، وإن تكررت فيها نفس النصوص.

١٨

وقد آثرنا في فهرسة وترتيب المناظرات الاعتماد على التسلسل التاريخي لوقوعها ، ليتسنى للقارئ الكريم الاطلاع على سيرها في حقل الأمامة في أحقاب زمنية متوالية ، ابتداء من الصدر الأول وإلى وقتنا الحاضر.

وبالأمكان الوقوف ـ من خلال هذا التسلسل لهذه المناظرات ـ على وسائل الاستدلال لدى الطرفين عبر عصورها المختلفة ، ومدى تطورها.

وهذا الكتاب ليس هو الأول في هذا الباب بل هناك الكتب الكثيرة التي حوت مثل هذه المناظرات والمحاورات مثل : كتاب الفصول المختارة للشيخ المفيد ـ أعلى الله مقامه ـ وكتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي ـ أعلى الله مقامه ـ ، فقد جمع فيه مناظرات واحتجاجات النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ والزهراء والأئمة ـ عليهم السلام ـ مع اليهود والنصارى والزنادقة والملاحدة ومع مختلف المذاهب ، والبحار للشيخ المجلسي ـ أعلى الله مقامه ـ في بعض أجزائه ، والمراجعات للسيد شرف الدين ـ قدس الله سره ـ ، والغدير للأميني ـ طاب ثراه ـ في الجزء الأول ، وغيرها.

إلا أننا اقتصرنا في هذا الكتاب على المناظرات التي جرت بشأن الخلافة والأمامة فقط ، كما مرت الأشارة إليه آنفا.

هذا وباب المناظرات في الخلافة باب لا يسع استيفاؤه ولا يمكن استيعابه ، وعسى أن يكون فيما ذكرناه كفاية لمن طلب الحق في هذا المجال.

وقد رأيت من الضرورة بمكان أن أصدر الكتاب ـ بمناسبة موضوعه ـ ببيان لحكم المناظرة في الشريعة الأسلامية وآدابها وتاريخها

١٩

في الخلافة ومتى بدأت.

وأخيراً أرجو من القارئ الكريم أن تكون قراءته بدقة وتمعن بالغين ، وبكل موضوعية بعيداً عن التعصب ، ومما لا يخفى على كل باحث أن ترك التعصب وتحكيم العقل يؤدي إلى رؤية الحقيقة بأجلى مظاهرها وأصدق معانيها ، هذا والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها.

والله تعالى أسأل في هذه الظروف العصيبة أن يلم شمل المسلمين جميعا ويوحد كلمتهم على الحق ليكونوا يدا» واحدة على أعدائهم قال تعالى : (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (١) وقال تعالى : (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) (٢) ولا يفوتني أن أقدم جزيل الشكر والامتنان لكل من ساهم في مراجعة وإبراز هذا الكتاب راجياً لهم التوفيق ، وإياه تعالى أسأل أن ينفع بهذه المناظرات إخواني المؤمنين ويجعلها ذخرا " ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، والله من وراء القصد والهادي الى سواء السبيل ، وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين.

عبد الله الحسن

يوم الجمعة ٢٩ / ١١ / ١٤١٣ ه‍

__________________

(١) سورة الانبياء : الاية ٩٢.

(٢) سورة آل عمران : الاية ١٠٣.

٢٠