مناظرات

الشيخ عبد الله الحسن

مناظرات

المؤلف:

الشيخ عبد الله الحسن


المحقق: الشيخ عبد الله الحسن
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٤
الجزء ٣ الجزء ٤

قال : يا أبا الهذيل ، هاهنا وقعت.

أما قولك : إن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قال : (قدموا خيركم وولوا أفضلكم) ، فإني أوجدك أن أبا بكر صعد المنبر وقال : (وليتكم ولست بخيركم وعلي فيكم) (١) فإن كانوا كذبوا عليه فقد خالفوا أمر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ، وإن كان هو الكاذب على نفسه فمنبر رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لا يصعده الكاذبون.

وأما قولك : أن الناس تراضوا به ، فإن أكثر الأنصار قالوا منا أمير ومنكم أمير ، وأما المهاجرون فإن الزبير بن العوام قال : لا أبايع إلا عليا ، فأمر به فكسر سيفه ، وجاء أبو سفيان بن حرب وقال : يا أبا الحسن ، لو شئت لأملأنها خيلا ورجالا (٢) يعني (المدينة) ، وخرج سلمان فقال بالفارسي : (كرديد ونكرديد ، وندانيد كه چه كرديد) (٣) ، والمقداد وأبو ذر ، فهؤلاء المهاجرون والأنصار.

أخبرني يا أبا الهذيل عن قيام أبي بكر على المنبر وقوله :

إن لي شيطانا يعتريني (٤) ، فإذا رأيتموني مغضبا فاحذروني ، لا أقع في أشعاركم وأبشاركم ، فهو يخبركم على المنبر أني مجنون ، فو كيف يحل

__________________

راجع في ذلك : العقد الفريد ج ٥ ص ١٣ ، شرح النهج لابن أبي الحديد ج ١ ص ١٣١ ، مروج الذهب للمسعودي ج ٢ ص ١ ـ ٣ ، أسد الغابة لابن الاثير ج ٣ ص ٢٢٢ ، تاريخ الطبري ج ٣ ، ص ٢٠٨ ، السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٥٦ ، تاريخ اليعقوبي ج ٢ ، ص ١٢٣.

(١) الامامة والسياسة لابن قتيبة ص ٢٢ ، العقد الفريد ج ٥ ص ١٣.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج ١ ص ٢٢٢.

(٣) يعني فعلتم وما فعلتم ولا تعلمون ما الذي فعلتم.

(٤) كنز العمال ج ٥ ص ٥٨٩ ح ١٤٠٥٠ ، مجمع الزوائد ج ٥ ص ١٨٣ ، الطبري في تاريخه ج ٣ ص ٢٤٤ ، ابن كثير في البداية والنهاية ج ٦ ص ٣٠٣ ، ابن ابي الحديد في شرح النهج ج ٦ ص ٢٠ ، السيوطي في تاريخ الخلفاء ص ٧١ ، ابن قتيبة في الامامة والسياسة ص ٢٢.

١٨١

لكم أن تولوا مجنونا؟!

وأخبرني يا أبا الهذيل ، عن قيام عمر وقوله : وددت أني شعرة في صدر أبي بكر ، ثم قام بعدها بجمعة فقال : (إن بيعة أبي بكر كانت فلتة (١) وقى الله شرها ، فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه) (٢) فبينما هو يود أن يكون شعرة في صدره ، وبينما هو يأمر بقتل من بايع مثله.

فأخبرني يا أبا الهذيل عن الذي زعم أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لم يستخلف (٣) ، وأن أبا بكر استخلف عمر ، وأن عمر لم يستخلف ، فأرى

__________________

(١) جاء في المنجد ص ٥٩٢ : الفلتة جمع فلتات : الأمر يقع من غير إحكام ، يقال : خرج الرجل فلتة ، أي بغتة ، وحدث الأمر فلتة أي فجأة من غير تدبر. وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج ج ٢ ص ٣٧ : وذكر صاحب الصحاح أن الفلتة : الأمر الذي يعمل فجأة من غير تردد ولا تدبر. وهكذا كانت بيعة أبي بكر ، لأن الأمر فيها لم يكن شورى بين المسلمين ، وإنما وقعت بغتة لم تمحص فيها الاراء ، ولم يتناظر فيها الرجال ، وكانت كالشئ المستلب المنتهب ، وكان عمر يخاف أن يموت (أبو بكر) عن غير وصية ، أو يقتل قتلا فيبايع أحد من المسلمين بغتة كبيعة بأبي بكر ، فخطب بما خطب له ، وقال معتذرا : ألا إنه ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق كأبي بكر وفي هذا المعنى يقول محمد بن هانئ المغربي ـ كما في شرح النهج أيضا ج ٢ ص ٣٧ :

ولكن أمرا كان أبرم بينهم

وإن قال قوم فلتة غير مبرم

وقال آخر :

زعموها فلتة فاجئة

لا ورب البيت والركن المشيد

إنما كانت أمورا نسجت

بينهم أسبابها نسج البرود

(٢) شرح نهج البلاغة لابن الحديد ج ٢ ص ٢٣ ، النهاية لابن الأثير ج ٣ ص ٤٦٦ ، تاريخ الطبري ج ٣ ص ٢٠٥ ، الصواعق المحرقة ص ٣٦ ، أنساب الاشراف للبلاذري ج ٥ ص ١٥ ، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٦٨ ، نهج الحق ص ٢٦٤.

(٣) لا يمكن القول بأن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ترك أمته سدى ولم يعين لهم خليفة وهذا خلاف فعله وفعل الحكماء أيضا فإنه حينما ترك المدينة في غزوة تبوك لم يتركها بلا خليفة! بل خلف من يلي أمرهم مقامه وهو علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ، وإذا كان كذلك فكيف يتركهم بلا خليفة بعد موته وهو يعلم أن أمته سوف تلاقي ويلات من النزاع والاختلاف والفتن

١٨٢

أمركم بينكم متناقضا.

وأخبرني يا أبا الهذيل عن عمر حين صير هاشورى بين ستة ، وزعم أنهم من أهل الجنة فقال : (إن خالف اثنان لأربعة فاقتلوا الاثنين ، وإن خالف ثلاثة لثلاثة ، فاقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن عوف) (١).

فهذه ديانة أن يأمر بقتل أهل الجنه (٢)؟!!!

__________________

وهو القائل : (ستفترق أمتي بعدي على ثلاث وسبعين فرقة فرقة ناجية والباقي في النار) ، ناهيك عن النصوص الكثيرة المستفيضة في كتب المذاهب الأسلامية الدالة على تعيينه للخليفة والوصي من بعده وهو علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ، وكما تشير إلى ذلك أيضا الأدلة العقلية ، فالذي يزعم أنه ـ صلى الله عليه وآله ـ ترك أمته سدى بلا خليفة ما هو إلا مكابر معاند وما أحسن قول الأزري ـ عليه الرحمة ـ في هذا المعنى حيث يقول :

أنبي بلا وصي تعالى

الله عما يقوله سفهاها

زعموا أن هذه الأرض مرعى

ترك الناس فيه ترك سداها

كيف تخلو من حجة وإلى من

ترجع الناس في اختلاف نهاها

وأرى السوء للمقادير ينمى

فإذا لافساد إلا قضاها

قد علمتم أن النبي حكيم

لم يدع من أموره أولاها

أم جهلتم طرق الصواب من

الدين ففاتت أمثالكم مثلاها

هل ترى الأوصياء يا سعد إلا

أقرب العالمين من أنبياها

أو ترى الأنبياء قدتخذوا

المشرك دهرا بالله من أوصياها

أم نبي الهدى رأى الرسل ضلت

قبله فاقتفي خلاف اقتفاها

(١) عهد الخليفة عمر بالشورى على هذه الكيفية ثابت بالتواتر في مصادر العامة ، فراجع على سبيل المثال :

الكامل لابن الأثير (في حوادث سنة ٢٣) ج ٣ ص ٦٦ ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد (في شرح الخطبة الشقشقية) ج ١ ص ١٨٥ ـ ١٩٤ ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٢٨ ، وقريب منه في الطبقات لابن سعد ج ٣ ص ٣٣٨.

(٢) اضف الى ذلك شهادة عمر ، بأن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مات راضيا عنهم ، وهو قوله :

١٨٣

وأخبرني يا أبا الهذيل ، عن عمر لما طعين ، دخل عليه عبد الله بن عباس ، قال : فرأيته جزعا.

فقلت : يا أمير ، ما هذا الجزع؟

قال : يا بن عباس ، ما جزعي لأجلي ولكن جزعي لهذا الأمر من يليه بعدي.

قال : قلت : ولها طلحة بن عبيد الله.

قال : رجل له حدة ، كان النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يعرفه فلا أولي أمر المسلمين حديدا.

قال : قلت : ولها زبير بن العوام.

قال : رجل بخيل ، رأيته يماكس امرأته في كبة من غزل ، فلا أولي أمور المسلمين بخيلا.

قال : قلت : ولها سعد بن أبي وقاص. قال : رجل صاحب فرس وقوس ، وليس من أحلاس الخلافة.

قال : قلت : ولها عبد الرحمن بن عوف.

قال : رجل ليس يحسن ان يكفي عياله.

قال : قلت : ولها عبد الله بن عمر.

فاستوى جالسا ، ثم قال : يا بن عباس! ما الله أردت بهذا أولي رجلا لم يحسن أن يطلق امرأته؟!

__________________

ان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ مات وهو راض عن هذه الستة من قريش : علي ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وعبد الرحمن بن عوف؟!!

راجع : شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج ١ ص ١٨٥ (في قصة الشورى) ، تاريخ الطبري ج ٤ ص ٢٢٧ ، الكامل في التاريخ ج ٣ ص ٦٥.

١٨٤

قال ، قلت : ولّها عثمان بن عفان.

قال : والله لئن وليته ليحملن بني أبي معيط على رقاب المسلمين (١) ، ويوشك أن يقتلوه (٢). قالها ثلاثا.

قال : ثم سكت لما أعرف من مغائرته لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب ـ عليه السلام ـ.

فقال : يا بن عباس اذكر صاحبك.

قال : قلت : فولها عليا.

قال : فوالله ما جزعي إلا لما أخذنا الحق من أربابه ، والله لئن وليته

__________________

(١) قال ابن ابي الحديد المعتزلي في شرح النهج ج ١ ص ١٩٨ : وصحت فيه فراسة عمر ، إذ قد أوطأ بني أمية رقاب الناس ، وأولاهم الولايات ، واقطعهم القطائع ، وافتتحت أرمينيا في أيامه ، فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان فقال عبد الرحمن بن الحنبل الجمحي :

أحلف بالله رب الأنام

ما ترك الله شيئا سدى

ولكن خلقت لنا فتنة

لكي نبتلي بك أو تبتلى

فإن الأمينين قد بينا

منار الطريق عليه الهدى

فما أخذا درهما غيلة

ولا جعلا درهما في هوى

وأعطيت مروان خمس البلاد

فهيهات سعيك ممن سعى

وقد روى هذه الابيات ايضا ابن قتيبة في المعارف ص ٨٤ ، وأبو الفدا في تاريخه ج ١ ص ١٦٨ ، باضافة هذا البيت بعد البيت الرابع :

دعوت اللعين فأدنيته

خلافا لسنة من قد مضى

وذكرها ايضا ابن عبد ربه في العقد الفريد ج ٢ ص ٢٦١.

(٢) يذكر ذلك في باب فراسة عمر ، ومن الذين ذكروا ذلك ابن ابي الحديد في شرح النهج (في قصة الشورى) ج ١ ص ١٨٦ : أن عمر قال لعثمان (وهو ملقى على فراشه يجود بنفسه) : هيها إليك! كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك ، فحملت بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس ، وآثرتهم بالفئ ، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب ، فذبحوك على فراشك ذبحا ، والله لئن فعلوا لتفعلن ، ولئن فعلت ليفعلن ، ثم أخذ بناصيته ، فقال : فإذا كان ذلك فاذكر قولي ، فإنه كائن؟!

١٨٥

ليحملنهم على المحجة العظمى (١) ، وإن يطيعوه يدخلهم الجنة ، فهو يقول هذا ثم صيرها شورى بين ستة فويل له من ربه!!!

قال أبو الهذيل : فو الله بينما هو يكلمني إذ اختلط ، وذهب عقله.

فأخبرت المأمون بقصته ، وكان من قصته أن ذهب بماله وضياعه حيلة وغدرا ، فبعث إليه المأمون ، فجاء به وعالجه وكان قد ذهب عقله بما صنع به ، فرد عليه ماله وضياعه وصيره نديما ، فكان المأمون يتشيع لذلك ، والحمد لله على كل حال (١).

__________________

(١) روى ابن عبد البرفي الاستيعاب ان عمر قال في علي ـ عليه السلام ـ : إن ولوها الأجلح سلك بهم الطريق المستقيم ، فقال له ابن عمر : ما يمنعك أن تقدم عليا؟ قال : اكره أن أتحملها حيا وميتا (عن هامش الايضاح ص ١٢٨) ، وايضا نص على هذا المعنى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ كما اخرجه احمد في مسنده ج ١ ص ١٠٩ عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ في حديث : وان تؤمروا عليا ـ عليه السلام ـ ولا اراكم فاعلين ، تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الطريق المستقيم ، وفي الفرائد ج ١ ص ٢٦٦ ح ٢٠٧ ، في حديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم : وإن تستخلفوا عليا ـ ولا آراكم فاعلين ـ تجدوه هاديا مهديا يحملكم على المحجة البيضاء.

(٢) وقد نص على ذلك النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : ان استخلفوا عليا ـ عليه السلام ـ أدخلهم الجنة ، فقد روى الخطيب الخوارزمي في المناقب ص ٦٨ ، مسندا عن عبد الله عن مسعود قال : كنت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وقد أصحر فتنفس الصعداء ، فقلت : يا رسول الله مالك تتنفس؟ قال : يا بن مسعود نعيت الي نفسي ، فقلت : يا رسول الله استخلف ، قال : من؟ قلت : ابا بكر ، فسكت ، ثم تنفس ، فقلت : مالي اراك تتنفس؟ قال : نعيت الي نفسي. فقلت : استخلف يا رسول الله ، قال : من؟ قلت : عمر بن الخطاب ، فسكت ، ثم تنفس قال : فقلت : ما شأنك يا رسول الله؟ قال نعيت الي نفسي ، فقلت : استخلف قال : من؟ قلت : علي بن ابي طالب ، قال : اوه ولن تفعلوا إذا ابدا ، والله لئن فعلتموه ليدخلنكم الجنة ، ورواه ابن كثير في البداية والنهاية ج ٧ ص ٣٦٠ ، وكذلك فرائد السمطين ج ١ ص ٢٧٣ ـ ٢٧٤ ح ٢١٢ ، وفيه : أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلن الجنة أجمعين أكتعين.

(٣) الاحتجاج : ج ٢ ص ٣٨٢ ـ ٣٨٥.

١٨٦

المناظرة الخامسة والثلاثون

مناظرة الهيثم بن حبيب الصيرفي (١) مع ابي حنيفه

عن محمد بن نوفل قال : كنت عند الهيثم بن حبيب الصيرفي فدخل علينا أبو حنيفة النعمان بن ثابت ، فذكرنا أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ، ودار بيننا كلام فيه.

فقال أبو حنيفة : قد قلت لأصحابنا : لا تقروا لهم بحديث غدير خم (٢) فيخصموكم!!

فتغير وجه الهيثم بن حبيب الصيرفي وقال له : لم لا يقرون به أما هو عندك يا نعمان؟

قال : هو عندي وقد رويته.

قال : فلم لا يقرون به ، وقد حدثنا به حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل (٣)

__________________

(١) وهو الهيثم بن حبيب الصيرفي الكوفي ، أخو عبد الخالق بن حبيب.

تجد ترجمته في : الجرح والتعديل ج ٩ ص ٨٠ رقم : ٣٢٧ ، ميزان الاعتدال ج ٤ ص ٣٢٠ رقم : ٩٢٩٥ ، تهذيب التهذيب ج ١١ ص ٩١ ، تهذيب الكمال ج ٣٠ ص ٣٦٩ رقم : ٦٦٤٢.

(٢) تقدمت تخريجاته.

(٣) وهو : أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي الصحابي ، وقد روى ايضا مناشدة امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في الرحبة ، بدون واسطة زيد بن ارقم ، فقد روى احمد في مسنده ج ٤ ص ٣٧٠ : عن أبي الطفيل قال : جمع علي ـ عليه السلام ـ عنه الناس في الرحبة ثم قال لهم : انشد الله كل امرء مسلم سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول يوم غدير خم ما سمع لما قام ، فقام ثلاثون من الناس ، وقال أبو نعيم : فقام ناس كثير ، فشهدوا حين أخذه بيده فقال للناس : أتعلمون أني

١٨٧

عن زيد بن أرقم (١) أن عليا ـ عليه السلام ـ نشد الله في الرحبة من سمعه؟

فقال أبو حنيفة : أفلا ترون أنه قد جرى في ذلك خوض حتى نشد علي الناس لذلك؟

فقال الهيثم : فنحن نكذب عليا أو نرد قوله؟

فقال أبو حنيفة : ما نكذب عليا ولا نرد قولا قاله ، ولكنك تعلم أن الناس قد غلا فيهم قوم.

فقال الهيثم : يقوله رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ويخطب به ونشفق نحن منه ونتقيه لغلو غال أو قول قائل؟! ثم جاء من قطع الكلام بمسألة سأل عنها ... الحديث (٢).

__________________

أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا : نعم يا رسول الله ، قال : من كنت مولاه فهذا مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، قال : فخرجت وكأن في نفسي شيئا ، فلقيت زيد بن أرقم فقلت له : إني سمعت عليا ـ رضي الله عنه تعالى ـ يقول : كذا وكذا قال : فما تنكر؟ قد سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول له ذلك.

وحكاه عن أحمد سندا ومتنا الحافظ الهيثمي في مجمعه ج ٩ ص ١٠٤ ، واخرجه النسائي في الخصائص ص ٨٤ ح ٧٦ ، والكنجي في كفايته ص ٥٠ ، وابن كثير في البداية ج ٥ ص ٢١١ ، والبد خشي في نزل الأبرار ص ٢٠ ، وابن الأثير في أسد الغابة ج ٥ ص ٢٧٦.

(١) وممن اخرجه عن زيد بن ارقم ، الهيثمي في مجمع الزاوئد ج ٩ ص ١٠٦ قال : نشد علي الناس فقال : أنشد الله رجلا سمع النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول : من كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه؟ فقام اثنا عشر رجلا بدريا فشهدوا بذلك وكنت فيمن كتم ، فذهب بصري.

وقريب منه في : ذخائر العقبى ص ٦٧ ، ابن كثير في البداية والنهاية ج ٧ ص ٣٤٦.

وجاء في شرح النهج لابن ابي الحديد ج ٤ ص ٧٤ ، وروى أبو إسرائيل عن الحكم عن أبي سليمان المؤذن ، أن عليا ـ عليه السلام ـ نشد الناس من سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، يقول : من كنت مولاه فعلي مولاه! فشهد له قوم وأمسك زيد بن أرقم ، فلم يشهد ـ وكان يعلمها ـ فدعا علي ـ عليه السلام ـ عليه بذهاب البصر فعمي ، فكان يحدث الناس بالحديث بعد ما كف بصره.

(٢) امالي المفيد ص ٢٦ ح ٩ ، بحار الانوار ج ٤٧ ص ٤٠١.

١٨٨

المناظرة السادسة والثلاثون

مناظرة أبي الحسن علي بن ميثم (١) مع ضرار

قال جاء ضرار إلى أبي الحسن علي ابن ميثم ـ رحمه الله ـ فقال له : يا أبا الحسن ، قد جئتك مناظرا.

فقال له أبو الحسن : وفيم تناظرني؟

فقال : في الإمامة.

فقال : ما جئتني والله مناظرا ولكنك جئت متحكما.

قال له ضرار : ومن أين لك ذلك؟

قال أبو الحسن : علي البيان عنه ، أنت تعلم أن المناظرة ربما انتهت إلى حد يغمض فيه الكلام فتتوجه الحجة على الخصم فيجهل ذلك أو يعاند ، وإن لم يشعر بذلك أكثر مستمعيه بل كلهم ، ولكني أدعوك إلى

__________________

(١) هو : أبو الحسن علي بن اسماعيل بن شعيب بن ميثم التمار ، مولى بني أسد كوفي سكن البصرة ، من كبار متكلمي علمائنا الامامية في عصر المأمون والمعتصم ، وله مناظرات مع الملاحدة ومع المخالفين ، وأول من تكلم على مذهب الأمامية وصنف كتابا في الامامة ، كلم أبا الهذيل والنظام ، له كتب منها كتاب الامامة ، كتاب الطلاق ، كتاب النكاح ، كتاب مجالس هشام ابن الحكم ، وعد من اصحاب الامام الرضا ـ عليه السلام ـ ، وروى الصدوق في عيون أخبار الرضا ـ عليه السلام ـ ج ١ ص ١٤ ح ٢ ، بإسناده عن البيهقي ، عن الصولي ، عن عون بن محمد الكندي انه لم ير أحدا قط أعرف بأمور الأئمة وأخبارهم ومناكحهم من أبي الحسن علي بن ميثم.

راجع ترجمته في : تنقيح المقال ج ٢ ص ٢٧٠ ، سفينة البحار للقمي ج ٢ ص ٥٢٥ ، ومعجم رجال الحديث للسيد الخوئي (قدس سره) : ج ١٢ ص ٢٠٥ رقم : ٨٥٤١.

١٨٩

مصنفة من القول ، وهو أن تختار أحد أمرين إما أن تقبل قولي في صاحبي وأقبل قولك في صاحبك فهذه واحدة.

قال ضرار : لا أفعل ذلك.

قال له أبو الحسن : ولم لا تفعله؟

قال : لأنني إذا قبلت قولك في صاحبك قلت لي : إنه كان وصي رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأفضل من خلفه وخليفته على قومه وسيد المرسلين فلا ينفعني بعد أن قبلت ذلك منك أن صاحبي كان صديقا واختاره المسلمون إماما ، لأن الذي قبلته منك يفسد هذا علي.

قال له أبو الحسن : فاقبل قولي في صاحبك وأقبل قولك في صاحبي.

قال ضرار : وهذا لا يمكن أيضا لأني إذا قبلت قولك في صاحبي قلت لي : كان ضالا مضلا ظالما لال محمد ـ عليهم السلام ـ قعد في غير مجلسه ودفع الأمام عن حقه وكان في عصر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ منافقا فلا ينفعني قبولك قولي فيه إنه كان خيرا صالحا ، وصاحبا أمينا لأنه قد انتقض بقبولي قولك فيه بعد ذلك إنه كان ضالا مضلا.

فقال له أبو الحسن ـ رحمه الله ـ : فإذا كنت لا تقبل قولك في صاحبك ولا قولي فيه ولاقولك في صاحبي ، فما جئتني إلا متحكما ولم تأتني مباحثا مناظرا (١).

__________________

(١) الفصول المختارة ج ١ ص ١٠ ـ ١١ ، بحار الانوار ج ١٠ ص ٣٧١ ح ٣.

١٩٠

المناظرة السابعة والثلاثون

مناظرة علي بن ميثم مع بعضهم

قيل لعلي بن ميثم : لم قعد علي ـ عليه السلام ـ عن قتالهم؟

قال : كما قعد هارون عن السامري وقد عبدوا العجل.

قيل : أفكان ضعيفا؟

قال : كان كهارون حيث يقول : (ابن أم إن القوم استضعفوني) (١) ، وكنوح إذ قال : (أني مغلوب فانتصر) (٢) ، وكلوط إذ قال : (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) (٣) ، وكموسى وهارون إذ قال موسى : (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي) (٤).

وهذا المعنى قد أخذه من قول أمير المؤمنين لما اتصل به الخبر أنه لم ينازع الأولين.

فقال ـ عليه السلام ـ : لي بستة من الأنبياء أسوة :

اولهم خليل الرحمن إذ قال : (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) (٥).

فإن قلتم : إنه اعتزلهم من غير مكروه فقد كفرتم ، وإن قلتم : إنه

__________________

(١) سورة الأعراف : الاية ١٥٠.

(٢) سورة القمر : الاية ١٠.

(٣) سورة هود : الاية ٨٠.

(٤) سورة المائدة : الاية ٢٥.

(٥) سورة مريم : الاية ٤٨.

١٩١

اعتزلهم لما رأى المكروه منهم ، فالوصي أعذر.

وبلوط إذ قال : (لو أن لي بكم قوة ، أو آوى إلى ركن شديد) (١).

فإن قلتم : إن لوطا كانت له بهم قوة ، فقد كفرتم ، وإن قلتم : لم يكن له بهم قوة ، فالوصي أعذر.

وبيوسف إذ قال : (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) (٢).

فإن قلتم : طالب بالسجن بغير مكروه يسخط الله فقد كفرتم ، وإن قلتم : إنه دعي إلى ما يسخط الله ، فالوصي أعذر.

وبموسى إذ قال : (فررت منكم لما خفتكم) (٣).

فإن قلتم : إنه فر من غير خوف فقد كفرتم ، وإن قلتم : فر منهم لسوء أرادوه به ، فالوصي أعذر.

وبهارون إذ قال لأخيه : (ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) (٤).

فإن قلتم : لم يستضعفوه ولم يشرفوا على قتله فقد كفرتم ، وإن قلتم : استضعفوه وأشرفوا على قتله فلذلك سكت عنهم ، فالوصي أعذر.

وبمحمد إذ هرب إلى الغار وخلفني على فراشه ووهبت مهجتي لله.

فان قلتم : إنه هرب من غير خوف أخافوه فقد كفرتم ، وإن قلتم : إنهم أخافوه فلم يسعه إلا الهرب إلى الغار ، فالوصي أعذر.

فقال الناس : صدقت يا أمير المؤمنين (٥).

__________________

(١) سورة هود : الاية ٨٠.

(٢) سورة يوسف : الاية ٣٣.

(٣) سورة الشعراء : الاية ٢١.

(٤) سورة الاعراف : الاية ١٥٠.

(٥) المناقب لابن شهر اشوب ج ١ ص ٢٧٠.

١٩٢

المناظرة الثامنة والثلاثون

مناظرة أبي الحسن علي بن ميثم مع بعضهم

سئل أبو الحسن علي بن إسماعيل بن ميثم ـ رحمه الله ـ فقيل له : لم صلى أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ خلف القوم؟

قال : جعلهم بمنزلة السواري (بمثل سواري المسجد).

قال السائل : فلم ضرب الوليد بن عقبة الحد بين يدي عثمان؟

قال لأن الحد له وإليه فإذا أمكنه إقامته أقامه بكل حيلة.

قال : فلم أشار على أبى بكر وعمر؟

قال : طلبا منه أن يحيى أحكام الله عز وجل ويكون دينه القيم كما أشار يوسف ـ عليه السلام ـ على ملك مصر نطرا منه للخلق ، ولأن الفرض والحكم فيها إليه فإذا أمكنه أن يظهر مصالح الخلق فعل ، وأذا لم يمكنه ذلك بنفسه توصل إليه على يدي من يمكنه طلبا منه لإحياء أمر الله تعالى.

قال : فلم قعد عن قتالهم؟

قال : كما قعد هارون بن عمران عن السامري وأصحابه ، وقد عبدوا العجل.

قال : أفكان ضعيفا؟

قال : كان كهارون ـ عليه السلام ـ حيث يقول : (ابن أم إن القوم

١٩٣

استضعفوني وكادوا يقتلونني) (١) وكان كنوح ـ عليه السلام ـ ، إذ قال : (أني مغلوب فانتصر) (٢) ، وكان كلوط ـ عليه السلام ـ إذ قال (لو أن لي بكم قوة أو اوي إلى ركن شديد) (٣) وكان كموسى وهارون ـ عليهما السلام ـ إذ قال موسى : (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي) (٤).

قال : فلم قعد في الشورى (٥)؟

__________________

(١) سورة الاعراف : الاية ١٥٠.

(٢) سورة القمر : الاية ١٠.

(٣) سورة هود : الاية ٨٠.

(٤) سورة المائدة : الاية ٢٥.

(٥) والجدير بالذكر هنا هو ما ذكره الشريف المرتضي في الامامة ج ٢ ص ١٥٤ ـ ١٥٥ قال :

فأما دخول أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ في الشورى فقد ذكر أصحابنا رحمهم الله فيه وجوها :

أحدها : أنه ـ عليه السلام ـ في الشورى فقد ذكر أصحابنا رحمهم الله فيه وجوها : وسوابقه وما يدل على أنه أحق بالأمر وأولى ، وقد علمنا أنه لو لم يدخلها لم يجز منه أن يبتدئ بالاحتجاج ، وليس هناك مقام احتجاج وبحث فجع ـ عليه السالم ـ دخوله ذريعة الى التبيه على الحق ، بحسب الإمكان على ما وردت به الرواية فانها وردت بأنه ـ عليه السلام ـ عدد في ذلك اليوم جميع فضائله ومناقبه أو ذكر بها.

ومنها : انه ـ عليه السلام ـ جوز أن يسلم القوم الأمر له ، ويذعنوا لما يورده من الحجج عليهم بحقه فجعل الدخول في الشورى توصلا الى مستحق وسببا الى التمكين من الأمر والقيام فيه بحودد الله ، وللإنسان أن يتوصل إلى حقّه ويتسبب إليه بكلّ أمر لا يكون قبيحاً.

ومنها : ان السبب في دخوله ـ عليه السلام ـ كان التقية والاستصلاح لأنه ـ عليه السالم ـ لما دعي إلى الدخول في الشورى أشفق من أن يمتنع فيتسبب منه الامتناع الى المظاهرة والمكاشفة ، وألى أن تأخر من الدخول في الشورى انما كان لاعتقاده أنه صاحب الأمر دون من ضم إليه فحمله على الدخول ما حمله في الابتداء على اطهار الرضا والتسليم.

١٩٤

قال : اقتداراً منه على الحجة (١) ، وعلماً منه بأن القوم إن ناظروه

__________________

وقال ايضا أعلى الله مقامه في ج ٤ ص ٢١٤ : ولو لم يدخل فيها (اي في الشورى) الا ليحتج بما احتج به من مقاماته وفضائله ، وذرائعه ووسائله الى الأمامة ، وبااخبار الدالة عند تأملها على النص والاشارة بالإمامة إليه لكان غرضا صحيحا ، وداعيا قويا ، وكيف لا يدخل في الشورى وعندهم أن واضعها قد احسن النظر للمسلمين ، وفعل ما لم يسبق إليه من التحرز للدين!

فأول ما كان يقال له ـ لو امتنع منها ـ : انك مصرح بالطعن على واضعها ، وعلى جماعة المسلمين بالرضا بها ، وليس طعنك الا لانك ترى أن الأمر لك وانك احق به فيعود الأمر الى ما كان ـ عليه السالم ـ يخافه من تفرق الامة ، ووقوع الفتنة ، وتششتت الكلمة. انتهى كلامه عليه الرحمة.

وربما هناك أسباب أخرى غير هذه منها ما ذكره الرواندي عن امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ، قال ابن أبي الحديد في شرح النهج ج ١ ص ١٨٩ : وروى القي ب الرواندي أن عمر لما قال : كونوا مع الثلاثة التي عبد الرحمن فيها ، قال ابن عباس لعلي ـ عليه السلام ـ : وأنا أعلم ذلك ولكني أدخل معهم في الشورى ، لأن عمر قد أهلني الآن للخلافة وكان قبل ذلك يقول : إن رسول الله ـ صلى الله عليه آله وسلم ـ قال أن النبوة والإمامة لا يجتمعان في بيت ، فأنا أدخل في ذلك لأظهر للناس مناقضة فعله لروايته. انتهى.

وليس فقط امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وابن عباس يعرفان نتيجة ـ الشورى ـ التي وضعها عمر على هذه الكيفية بل حتى عمر نفسه يعرف ما تؤول إليه هذه الكيفية التي وضعها ، والذي يؤكد ذلك ايضا قوله لعثمان ـ وهو على فراش مرضه : هيها إليك! كأني بك قد قلد تك قريش هذا الأمر لحبها إياك ، فهملت بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس ، وآثرتهم بالفئ ، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب ، فذبحوك على فراشك ذبحا " ، والله لئن فعلو التفعلن ، ولئن فعلت ليفعلن ، ثم آخذ بناصيته ، فقال : فإذا كان ذلك فاذكر قولي ، فإنه كائن.

انظر : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١ ص ١٨٦.

(١) ولذلك احتج ـ عليه السلام ـ عليهم ـ يوم الشورى ـ بفضائله ولم يدع منقبة من مناقبة الا وذكرها لهم اقامة للحجة عليهم.

راجع : فرائد السمطين ج ١ ص ٣٢٠ ـ ٣٢٢ ، ترجمة امير المؤمنين ـ عليه السلام ـ من تاريخ دمشق ج ٣ ص ٩١ ح ١١٣٢ ، المناقب للخوارزمي ص ٢٢٢ ـ ٢٢٥ ط نينوى طهران ،

١٩٥

وأنصفوه كان كان هو الغالب ، ولو لم يفعل وجبت الحجة عليه لأنه من كان له حق فدعي إلى أن يناظر فيه أجاب ، فإن ثبت له الحجة سلم الحق إليه وأعطيه فإن لم يفعل بطل حقه وأدخل بذلك الشبهة على الخلق ، وقد قال ـ عليه السلام ـ يومئذ : اليوم أدخلت في باب إنصفت فيه وصلت إلى حقي ، يعني أن أبا بكر استبد بها يوم السقيفة ولم يشاوره.

قال : فلم زوج عمر بن الخطاب ابنته؟

قال : لإظهار الشهادتين وإقراره بفضل رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأراد بذلك استصلاحه وكفه عنه ، وقد عرض لوط ـ عليه السلام ـ بناته على قومه وهم كفا ليردهم عن ضلالتهم ، فقال : (هولاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد) (١). (٢)

__________________

لسان الميزان ج ٢ ص ١٥٦ ـ ١٥٧ ط ١ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٦ ص ١٦٧ ـ ١٦٨ ، الاحتجاج للطبرسي ج ١ ص ١٣٤ ـ ١٤٥.

(١) سورة هود : الاية ٧٨.

(٢) الفصول المختارة ص ٤١ ، بحار الانوار ج ١٠ ص ٣٧٣ ح ٥.

١٩٦

المناظرة التاسعة والثلاثون

مناظرة المأمون (١) مع الفقهاء

عن حماد بن زيد قال : بعث إلي يحيى بن أكثم وإلى عدة من أصحابي ، وهو يومئد قاضى القضاة ، فقال : إن أمير المؤمنين أمرني أن أحضر معي غدا مع الفجر أربعين رجلا كلهم فقيه يفقه (٢) ما يقال له ويحسن الجواب ، فسموا من تظنونه يصلح لما يطلب أمير المؤمنين. فسمينا له عدة ، وذكر هو عدة ، حتي تم العدد الذي أراد ، وكتب تسمية القوم ، وأمر بالبكور (٣) في السحر ، وبعث إلى من لم يحضر ، فأمره بذلك فغدونا عليه قبل طلوع الفجر ، فوجدناه قد لبس ثيابه وهو جالس ينطرنا ، فركب وركبنا معه حتى صرا إلى الباب ، فأدخلنا ، فأمرنا باصلاة فأخذنا فيها ، فلم نستتم حتى خرج الرسول ، فقال : ادخلوا فدخلنا فإذا أمير

__________________

(١) المأمون : الخليفة ، أبو العباس ، عبد الله بن هارون الرشيد بنمحمد المهدي بن أبي جعفر المنصور العباسي ، ولد سنة سبعين ومائة ، بويع بالخلافة إول سنة ثمان وتسعين ومائة ، بايع بالعهد للإمام علي بن موسى الرضا ـ عليه السلام ـ ونبذ السواد ، وأبدله بالخضرة ، توفي سنة ثماني عشرة ومائتين وحمل الى طرطوس ودفن بها. تجد ترجمته في : سير أعلام النبلاء ج ١٠ ص ٢٧٢ رقم : ٧٢ ، تارخي بغداد ج ١٠ ص ١٨٣ ، الكامل في التاريخ ج ٦ ص ٢٦٦ ، سفينة البحار للقمي ج ١ ص ٤٤.

(٢) يفقه : يفهم.

(٣) البكور : الإسراع.

١٩٧

المؤمنين جالس على فراشه ، وعليه سواده وطيلسانه (١) والطويلة وعمامته ، فوقفنا وسلمنا ، فرد السلام وأمر لنا بالجلوس ، فلما استقربنا المجلس انحد عن فاشه ونزع عمامته وطيلسانه ووضع قلنسوته (٢) ثم أقبل علينا ، فقال : إنما فعلت ما رأيتم لتفعلوا مثل ذلك ، وأما الخف فمنع من خلعه علة ، من قد عرفها منكم فقد عرفها ، ومن لم يعرفها فسأعرفه بها ، ومد رجله ، وقال : انزعوا قلانسكم وخفافكم وطيالستكم.

قال : فأمسكنا فقال لنا يحيى : انتهوا إلي ما أمركم به أمير المؤمنين فتنحينا فنزعنا أخفافنا وطيالستنا وقلانستنا ورجعنا ، فلما استقر بنا المجلس قال : إنما بعثت إليكم معشر القوم في المناظرة ، فمن كان به شئ من الأخبثين (٣) لم ينفع بنفسه ولم يفقه ما يقول فمن أراد منكم الخلاء فهناك ، وأشار بيده ، فدعونا له ، ثم ألقى مسألة من الفقه.

فقال : يا محمد ، قل ، وليقل القوم من بعدك ، فأجابه يحيى ، ثم الذي يلي يحيى ، ثم الذي يليه ، حتي أجاب آخرنا ، في العلة وعلة وهو مطرق لا يتكلم ، حتى إذا انقطع الكلام التفت إلى يحيى.

فقال : يا أبا محمد ، أصبت الجواب وتركت الصواب في العلة. ثم لم يزل يرد على كل واحد منا مقالته ، ويخطئ بعضنا ويصوب بعضنا ، حتى إتى على آخرنا.

ثم قال : إني لم أبعث فيكم لهذا ، ولكنني أحببت إن أنبئكم أن أمير

__________________

(١) الطيلسان : ضرب من الأوشحة يلبس على الكتف ، أو يحيط بالبدن ، خال عن التفصيل والخياطة.

(٢) القلنسوة : لباس للراس مختلف الانواع والاشكال.

(٣) الاخبثين : البول والغائط.

١٩٨

المؤمنين أراد مناظرتكم في مذهبه الذي هو عليه والذي يدين الله به.

قلنا : فليعمل أمير المؤمنين وفقه الله.

فقال : إن أمير المؤمنين يدين الله على أن علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ خير خلق الله بعد رسوله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأولى الناس باخلافة (١) له.

قال إسحاق : فقلت : يا أمير المؤمنين فينا من لا يعرف ما ذكر أمير المؤمنين في علي ، وقد دعانا أمير المؤمنين للمناظرة.

فقال : يا إسحاق ، اختر ، إن شئت سألتك أسالك ، وإن شئت أن تسأل فقل.

قال : يا إسحاق : فاغتنمتها منه ، فقلت : بل أسألك يا أمير المؤمنين.

قال : سل.

قلت : من أين؟

قال أمير المؤمنين : إن علي بن أبي طالب أفضل الناس بعد رسول الله وأحقهم بالخلافة بعده؟

قال : يا أسحاق ، خبرني عن الناس بم يتفاضلون حتى يقال فلان أفضل من فلان؟

قلت : بالأعمال الصالحة.

قال : صدقت.

قال : فأخبرني عمن فضل صاحبه على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ثم إن المفضول عمل بعد وفاة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ

__________________

(١) ومن ذلك قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ في حق علي ـ عليه السلام ـ فهو اولى الناس بكم بعدي راجع : كنز العمال ج ١١ ص ٦٠٨ ح ٣٢٩٤١ ، مجمع الزوائد ج ٩ ص ١٠٩.

١٩٩

بأفضل من علم الفاضل على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، أيلحق به؟

قال : فأطرقت.

فقال لي : يا إسحاق ، لا تقل نعم ، فإنك إن قلت نعم أوجدتك في دهرنا هذا من هو أكثر منه جهادا وحجا وصياما وصلاة وصدقة.

فقلت : أجل يا إمير المؤمنين ، لا يلحق المفضول على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ الفاضل أبدا.

قال : يا إسحاق ، فانظر ما رواه لك أصحابك ومن أخذت عنهم دينك وجعلتهم قدوتك من فضائل علي بن أبي طالب ، فقس عليها ما أتوك به من فضائل أبي بكر ، فإن وجدت لهما من الضائل ما لعلي وحده ، فقل إنهما أفضل منه ولا والله ، ولكن قس إلى فضائله فضائل أبي بكر وعمر وعثمان ، فإن وجدتها مثل فضائل علي ، فقل إنهم أفضل منه ، لا والله ، ولكن قس بفضائل العشرة الذين شهد لهم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بالجنة ، فإن وجدتها تشاكل فضائله فقل إنهم أفضل منه.

قال : يا إسحاق ، أي الاعمال كانت أفضل ، يوم بعث الله رسوله؟

قلت : الإخلاص بالشهادة.

قال : أليس السبق إلى الإسلام؟

قلت : نعم.

قال : اقرأ ذلك في كتاب الله تعالى يقول : (والسابقون السابقون ،

٢٠٠