تعليقة على معالم الاصول - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٤٤٣

فنقول : قضيّة ما أشرنا إليه سابقا (١) من كون الأحكام عبارة عن الامور الفعليّة ، انطباق الحدّ على الجهة الثانية إذ لا فعليّة إلاّ مع التعلّق فهو المأخوذ في مسمّى المحدود ، وكذلك بناء على أخذ « الأحكام » بمصطلح الاصولي ، كما عليه مبنى كلام الأشاعرة أيضا بقرينة التعلّق المأخوذ في مفهومه بهذا المعنى ، فما عليه الأشاعرة من جعل الكتاب دليلا على الكلام النفسي المنطبق على الاولى من الجهتين أجنبيّ عن هذا الحدّ والمحدود ، إلاّ إذا انفردوا في الاصطلاح فلا مشاحّة ، أو التزموا الدليليّة من الجهة الثانية ، بدعوى : أنّ المعنى القائم بالنفس له جهتان : جهة قيامه الّذي محلّه من هذه الجهة نفس المتكلّم ، وجهة تعلّقه الّذي محلّه من هذه الجهة فعل المكلّف ، و « الفقه » عبارة عندنا عن العلم بالمعاني القائمة بنفس الشارع من حيث تعلّقها بالمكلّفين ، لا من حيث قيامها بنفس الشارع فقط ، فلا محذور.

ومنها : أنّه لو كان الحكم عبارة عن الكلام النفسي ، المفسّر بالمعنى القائم بالنفس ، الّذي ليس في الإنشائيّات إلاّ الطلب المشار إليه في حدّ « الحكم » بلفظ « الاقتضاء » لزم أحد الأمرين ، من تعدّد القدماء أو السفه ، واللازم بكلا قسميه باطل ، وأيضا لزم بالقياس إلى الصبيّ والمجنون والنائم إمّا تكليف ما لا يطاق ، أو تغيّر القديم ، وهذان اللازمان أيضا باطلان.

أمّا الملازمة الاولى ؛ فلقولهم بقدم الكلام النفسي ، فإذا كان الطلب قديما وهو يقتضي مطلوبا منه ، فإن فرض تحقّق المطلوب منه معه في جميع انات وجوده يلزم المحذور الأوّل ، وإن فرض انفكاكه عنه يلزم المحذور الثاني ، لأنّ التكليف بلا مكلّف سفه ، وقد يقرّر من غير جهة السفهيّة وهو أنّ الطلب أمر نسبي لا يتعقّل ولا يتحقّق إلاّ بتعقّل وتحقّق منتسبيه الطالب والمطلوب منه ، فإن فرض معه المطلوب منه موجودا مطلقا لزم تعدّد القدماء ، وإلاّ لزم تحقّق الأمر النسبي بدون أحد المنتسبين وهو محال.

__________________

(١) تقدّم في التعليقة الرقم ٤ ، الصفحة ٤٣.

٨١

وأمّا الملازمة الثانية ؛ فلأنّ الطلب القديم إمّا أن يكون متوجّها إلى الطوائف المذكورة في أحوالهم الثلاث فيلزم تكليف ما لا يطاق ، لعدم اقتدارهم في هذه الأحوال على الامتثال ، أو لا فيلزم تغيّر القديم وهو محال ، لأنّه من لوازم الحادث ، وأيضا فإنّ الجواب المذكور يبتني على ثبوت الكلام النفسي وكون كلامه تعالى نفسيّا لا لفظيّا وهو باطل.

أمّا أوّلا : فلقوله تعالى : ( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً )(١) حكاية عن تكلّمه تعالى لموسى عليه‌السلام في الشجرة ، فلو كان كلامه تعالى بالمعنى القائم بنفسه لم يكن لتخصيص إسناده إلى نفسه بموسى عليه‌السلام وجه ، لتحقّق الكلام بهذا المعنى منه تعالى بالقياس إلى سائر الأنبياء بوحي أو إلهام أو نحوه ، فلا بدّ وأن يكون وجه تخصيصه به لكون كلامه لفظيّا ، وهو منه إنّما تحقّق مع موسى عليه‌السلام خاصّة ، لأنّ الواقع في الخارج معه إنّما هو الكلام بواسطة الأصوات والحروف.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لو كان كلامه تعالى نفسيّا لزم ألايكون امرا ولا ناهيا وهو باطل ، لقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ )(٢) وبيان الملازمة : أنّ كلاّ من الأمر والنهي طلب بالقول استعلاء ، فالقول اللفظي مأخوذ في مفهوميهما ، والمفروض أنّ كلامه ليس بلفظي فلا يصدر منه أمر ولا نهي.

وأمّا ثالثا : فلأنّ الكلام اللفظي على تفسيركم هو المؤلّف من الحروف والأصوات ، والنفسي مدلوله لكن لا من حيث حصوله في ذهن السامع بل من حيث قيامه بنفس المتكلّم ، وهو عندكم قديم مغائر للعلم والإرادة والكراهة.

وهذا ممّا لا يتعقّل ، لأنّ الكلام إذا كان خبرا لا بدّ فيه من امور ثلاث ، العبارة الصادرة ، وثبوت النسبة أو انتفائها في الواقع ، والإذعان بثبوت النسبة أو انتفائها في الواقع ، والأوّلان ليسا بكلام نفسي بالاتّفاق ، والأخير ليس إلاّ علما ، فلم يبق

__________________

(١) النساء : ١٦٢.

(٢) النحل : ٩٠.

٨٢

ما يكون مصداقا للكلام النفسي ، وإذا كان إنشاء فلا بدّ فيه من لفظ صادر ومن إرادة مضمونة في الأمر وكراهته في النهي ، والكلام النفسي ليس بشيء منهما.

أمّا الأوّل : فلكونه لفظيّا ، وأمّا الثاني : فلمغائرته له على فرضكم ، فأيّ شيء يصلح مصداقا؟

وأنت بعد التأمّل تعرف أنّ هذه الوجوه لا وقع لشيء منها ، فإنّ للأشاعرة أن يدفعوا الأوّل منها باختيار الثاني من شقّي الترديد ، من فرض عدم تحقّق المطلوب منه في جميع أزمنة تحقّق الطلب.

والقول بلزوم السفه حينئذ ، يردّه : أنّ السفه عبارة عمّا لا يقارنه قصد الغاية وترتّبها ، سواء قارنه العلم بعدم ترتّبها أو الغافلة عن ترتّبها رأسا ، فإنّه هو الّذي يوجب تقبيح العقل وذمّ العقلاء ، ولا يجدي في صحّته ترتّب الغاية في الخارج من باب الاتّفاق ، وأمّا ما قارنه قصد الغاية على وجه يكون معلّلا بها فيخرج به عن عنوان السفهيّة ويعدّ من أفعال العقلاء ، سواء ترتّب عليه الغاية المقصودة بحسب الخارج أولم يترتّب.

نعم يفرق في ذلك بين العالم بالعواقب وغيره ، فإنّ المعتبر في صحّة قصد الغاية من الثاني قيام احتمال ترتّبها راجحا أو مرجوحا ، بالغا مع الرجحان حدّ الجزم وعدمه ، كما عليه مدار امور العقلاء في معائشهم ومكاسبهم وأسفارهم ومكاتباتهم ، بل لو تأمّلت في مجارى أفعالهم لوجدت أكثرها مبتنية على مجرّد الاحتمال المرجوح ، بخلاف الأوّل لكون المعتبر في صحّة القصد والفعل منه علمه بترتّبها ، فإذا علم صحّ منه الأمران ولا يشترط فيه مقارنة الترتّب لصدور الفعل ، بل يكفي فيه الترتّب خارجا ، ولو بتراخي أزمنة متطاولة ، وإلاّ لانتقض بإيجاد العالم وخلقة بني ادم المعلّل بحصول المعرفة والطاعة ، لعدم ترتّبهما عليه إلاّ بعد فاصلة زمان كثير يستكمل فيه شرائط التكليف من العلم والقدرة والعقل والبلوغ ، وعلى هذا فلم لا يجوز أن يكون الباري تعالى تحقّق منه الطلب النفساني لغاية الامتثال حال عدم وجود المطلوب منه ، لعلمه القديم بأنّه سيوجد ويستكمل الشرائط فيمتثل؟

٨٣

وتوهّم استلزامه التكليف بلا مكلّف فاسد ، نشأ عن الخلط بين التكليف ومادّته ، فإنّ الطلب النفساني بمجرّد انعقاده في النفس لا ينعقد تكليفا ما لم يستكمل شرائط التكليف الّتي منها : وجود المطلوب منه ، ومنها : علمه بانعقاد ما في النفس الّذي هو مادّة التكليف ، ضرورة : أنّه إذا انعقد في النفس يبقى تعلّقه بالمطلوب منه مراعى على علمه بالانعقاد ، المتوقّف على وجوده ، وبعد علمه بالانعقاد أيضا لا ينعقد تكليفا إلاّ بعد استكماله سائر الشروط ، وهي القدرة على الفعل والعقل والبلوغ وإن لم يتوقّف عليها أصل ماهيّة الطلب المتوقّفة على تحقّق جهتي القيام والتعلّق.

ومن هنا صار التحقيق عندنا حصول الفرق بين الشرائط الأربع المقرّرة للتكليف ، بكون العلم من شروط تعلّقه الخارجي بالمطلوب منه والثلاث الأخير من شروط صحّته ، فما لم يتحقّق هذه الامور كلاّ أم بعضا لم ينعقد ما في النفس تكليفا ، ولذا أمكن الجمع بين مقالة الأشاعرة بقدم الكلام النفسي وكون التكليف حادثا ، لجواز كون القائم بالنفس قديما مع كون التكليف حادثا بحدوث جهة التعلّق ، ولا ينافيه تسميته طلبا ، وهو لا يتحقّق إلاّ بتحقّق طرفيه اللذين أحدهما التعلّق ، إمّا لبنائهم على أنّه الطلب حقيقة بدعوى : أنّه يكفي في انعقاده طلبا مع قيامه بالنفس إضافته في الذهن بحسب لحاظ الطالب إلى المطلوب منه ، ولا يعتبر فيه التعلّق الخارجي به ، ووجوده مع علمه بالمعنى القائم بالنفس شرط لتعلّقه الخارجي لا لصحّة إضافته إليه في الذهن ، كما يشعر به قولهم بقدمه ، أو إنّه العمدة ممّا ينعقد به الطلب كما يساعد عليه النظر ، وإطلاق التكليف الواقعي عليه في بعض الأحيان إنّما هو لأوله إليه ، وإلاّ فهو حكم واقعي ولا ملازمة بينه وبين التكليف.

ومعيار الحكم الواقعي أنّه مدلول الصيغة ومفادها باعتبار الوضع ـ ولو ثانويّا ـ حسبما لاحظه الواضع أو يلاحظه المستعمل ، فإنّ الملحوظ في كلّ منهما إنّما هو المعنى القائم في النفس المعرّى عن جهة التعلّق من غير دخولها في الوضع

٨٤

ولا المستعمل فيه وإلاّ لزم الدور ، بملاحظة ما ذكرنا من توقّف تلك الجهة على علم المخاطب بقيام المعنى بنفس المتكلّم ، ضرورة أنّ التعلّق إذا كان متوقّفا على العلم وهو موقوف على دلالة اللفظ الّتي تستدعي تقدّم مدلوله عليها بالذات وفرض مدلوله الطلب المتعلّق ، المتوقّف تعلّقه على العلم المذكور ، لزم توقّف العلم على نفسه.

وإن شئت قلت : لزم كون العلم موجودا حال كونه معدوما ، فإنّ كونه حاصلا بدلالة اللفظ يقتضي كونه مسبوقا بالدلالة معدوما قبل وجود الدالّ ، ومقتضى كون التعلّق المتوقّف عليه جزء لمدلول اللفظ كونه سابقا على الدلالة لسبق المدلول عليها ، فلزم كونه سابقا عليها حال كونه مسبوقا بها ، وهذا معنى كونه موجودا حال كونه معدوما ، فلا بدّ وأن يفرض مدلول اللفظ الملحوظ حين الوضع أو الاستعمال شيئا معرّى عمّا يتوقّف على العلم المذكور ، وليس إلاّ المعنى القائم بالنفس الّذي متى تعلّق بالمطلوب منه صار طلبا ، سواء حصل التعلّق بعد الخطاب بلا تراخي أو بتراخي زمان ، فمدلول قوله : « أنت وزيد تفعلان كذا » ينعقد طلبا بالنسبة إلى المخاطب بمجرّد صدور اللفظ ، وبالنسبة إلى زيد الغائب حيث بلغه الخطاب ، والفارق بينهما حصول العلم للمخاطب بالمعنى القائم بالنفس في زمان الخطاب ، ولزيد في الزمان المتأخّر ، مع أنّ العلم بتعلّق ما في النفس ـ الّذي هو لازم لنفس التعلّق ـ ما يحصل في المرتبة الثالثة من المراتب الثلاث المتقدّم اعتبارها للكلام النفسي ، فلا يعقل كون المستلزم له مدلولا للّفظ باعتبار الوضع ، لأنّه كما عرفت مدلوله في المرتبة الاولى الّتي لا يفيد اللفظ فيها إلاّ حضور مدلوله اللغوي أو العرفي أو الشرعي في الذهن حضورا تصوّريّا ، أو في المرتبة الثانية الّتي لا يفيد اللفظ مع انضمام المقدّمات المشار إليها إلاّ التصديق بكون الحاضر في الذهن مرادا منه.

وبملاحظة ما ذكر أمكن الجواب عن التقرير الثاني من الاعتراض الأوّل : فإنّ الطلب وإن كان أمرا نسبيّا ، غير أنّه يكفي في تحقّقه إضافته إلى المطلوب منه

٨٥

حسبما احتملنا في مقالتهم أوّلا ، أو أنّ نسبيّته إنّما هي من جهة تضمّنه لطرفي القيام الّذي محلّه الطالب ، والتعلّق الّذي محلّه المطلوب منه ، والمعتبر في تحقّقه وإن كان تحقّق هذين الطرفين في الخارج ، غير أنّه لا يعتبر مقارنة تحقّقهما بحسب الزمان ، بل يجوز تراخي زمان تحقّق المطلوب منه عن زمان تحقّق الطالب متلبّسا بجهة القيام ، بأن ينقدح في نفسه الأمر النفساني ، المعلّق انعقاده طلبا حقيقيّا على لحوق التعلّق بوجود المطلوب منه وعلمه بقيام الأمر النفساني بالنفس ، وتسميته طلبا إنّما هو باعتبار أوله (١) إلى الطلب ، ولا ضير أن يكون مرادهم بالكلام النفسي المعبّر عنه بالطلب هذا المعنى الّذي لا سبيل إلى التشكيك في ثبوته ، فيمكنهم بذلك حينئذ اختيار ثاني شقّي الترديد من دون لزوم محذور ، لأنّه إنّما يلزم لو قالوا بتحقّق الطلب التامّ المتضمّن لجهتي القيام والتعلّق بدون وجود المطلوب منه معه في جميع انات وجوده أو في بعضها ، وهذا ليس بلازم من مذهبهم لما عرفت من إمكان كون المراد من الطلب هنا المعنى القائم بالنفس لا بشرط شيء من التعلّق وعدمه.

وأمّا الجواب عن ثاني الاعتراضات : فيمكن بأنّ التوجّه المسؤول عنه بالقياس إلى الطوائف الثلاث في الأحوال الثلاث إن اريد به التوجّه الواقعي على حدّ ما هو ثابت في الأحكام الواقعيّة بالقياس إلى متعلّقاتها ، على معنى كون المعنى القائم معدّا لأن يتعلّق بهم عند زوال عذرهم ، فيختار الشقّ الأوّل وهو الحكم بالتوجّه ، والقول بكونه تكليفا بما لا يطاق ، يدفعه : منع كون ذلك من مقام التكليف ، فإنّ المفروض لم ينعقد تكليفا بعد ، وإن اريد به التوجّه التكليفي الّذي هو عبارة عن مقام تعلّق الأمر النفساني بهم فعلا فيختار الشقّ الثاني.

وتوهّم : كونه تغيّرا في القديم.

يدفعه : أنّ التغيّر من جهة الوجود تارة والعدم اخرى إنّما يحصل في التكليف ،

__________________

(١) ال الشيء ( يؤل ) أولا ومالا : رجع ( المصباح المنير : ٢٩ ).

٨٦

وهو على ما أشرنا إليه حادث لحدوث شروطه ، فإنّ التكليف الّذي هو عبارة عمّا يجب امتثاله ويعاقب على مخالفته ، عنوان يطرأ الطلب بسبب تعلّقه بالمطلوب منه وحيث إنّ التعلّق حادث لحدوث شروطه ، فهو يقضي بحدوث عنوان التكليف الّذي لم يكن قبله حاصلا ، ولا يلزم من حدوثه كون مادّة التكليف وهو المعنى القائم بالنفس أيضا حادثا.

وأمّا الجواب عن ثالث الاعتراضات : فيمكن أيضا بمنع صلاحيّة ما ذكر من الوجوه الثلاث لإبطال الكلام النفسي.

أمّا الأوّل منها : فلأنّه لا دلالة في قوله [ تعالى ] : ( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً )(١) على نفي تكليمه تعالى لسائر الأنبياء حتّى يخصّ ذلك بالكلام اللفظي ، إذ ليس في الاية أداة حصر ولا ما ثبت له مفهوم من المفاهيم المعتبرة ، ومجرّد التعلّق بالمفعول به ليس من أسباب الحصر ، كما في « ضربت زيدا » إلاّ من باب مفهوم اللقب وهو غير حجّة ، فلا مانع من كون المراد بالتكليم المحكيّ الواقع فيما بينه تعالى وبين موسى توجيه المعنى القائم بالنفس إليه ، وإن كان ذلك حاصلا بالقياس إلى سائر الأنبياء أيضا ، ولا ينافيه وجود الأصوات والحروف في الشجرة إذا كان إيجادها منه تعالى من باب ضرب العلامة على توجيه الكلام النفسي إليه.

وأمّا الثاني منها : فلمنع الملازمة أوّلا ، فإنّ أخذ اللفظ في مفهومي الأمر والنهي أمر خلافيّ عند الاصوليّين ، ولهم فيه ـ على ما سيأتي في مبحث الأمر ـ مذاهب متشتّتة تعرفها مفصّلة.

ومن المذاهب ـ وهو الحقّ ـ عدم اعتبار لفظ فيهما بوجه من الوجوه ، ومن الجائز كون مبنى الكلام النفسي على هذا المذهب ، ويؤيّده : أنّ الحاجبي الّذي هو من أهل هذا القول عرّف الأمر : باقتضاء فعل غير كفّ على جهة الاستعلاء (٢).

__________________

(١) النساء : ١٦٢.

(٢) مختصر ابن الحاجب : مخطوط ـ الورقة ٤٠ ـ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب ، ١٨٨.

٨٧

وصرّح بعض شرّاح كلامه بكون أخذ مفهوم الأمر مجرّدا عن اللفظ متفرّعا على ثبوت الكلام النفسي ، فلا ينافي القول به كونه تعالى امرا وناهيا حسبما ورد في الكتاب العزيز.

ومنع بطلان اللازم ثانيا ، فإنّ الأمر والنهي الواردين في الكتاب محمولان على ما تجرّد عن اللفظ. غاية الأمر بناء على كونه مأخوذا في مفهوميهما عرفا ولغة لزوم التجوّز في الاستعمال ولا حجر منه بعد مساعدة القرينة عليه ، ولعلّ دليلهم القائم على الكلام النفسي لو تمّ صالح لأن يكون قرينة عليه فلا محذور.

وأمّا الثالث : فلمنع انحصار ما يعتبر في الخبر في الامور الثلاث المذكورة ، وما يعتبر في الإنشاء في الأمرين المذكورين.

أمّا سند الأوّل : فلأنّه يعتبر في الخبر مع الامور المذكورة رابع ، وهو النسبة الذهنيّة ، المفسّرة بالنسبة القائمة بالذهن ، المصرّح في كلامهم بمغايرتها للنسبة الواقعيّة ، تعليلا بأنّ حصولها في الذهن يحتاج إلى تعقّل طرفيها الموضوع والمحمول ولا شيء من الواقعيّة بتلك المثابة ، ولذا اعترض عليهم : بأنّ النسبة بهذا المعنى قائمة بطرفيها لا أنّها قائمة بالذهن فلا وجه لجعلها قائمة به ، فأجابوا عنه : بأنّها وإن كانت قائمة بطرفيها ، غير أنّهما قائمان بالذهن لحصولهما فيه ، فقيامها بالذهن باعتبار قيام طرفيها به.

غاية الأمر ، أن يلزم بإسناد القيام إليها ضرب من التجوّز ، ولا ضير فيه بعد وضوح المراد.

وكما أنّهم صرّحوا بمغائرتها للنسبة الواقعيّة ، كذلك صرّحوا بمغائرتها للعلم ، المراد به الإذعان للنسبة والاعتقاد بها ، تعليلا بأنّ المخبر كثيرا مّا يخبر بما لا يعلم به بل بما يعلم خلافه ، وهذا اية مغايرتها العلم ، نظير ما قيل في المنطق في دفع كلام من لم يفرّق في التصديق بين النسبة الحكميّة والحكم ، من الاعتراض عليه بوجود صورة الشكّ الّتي لا حكم فيها مع وجود النسبة الحكميّة ، فقضيّة هذه التصريحات المعلّلة بما سمعت مغايرة النسبة الذهنيّة للعلم مغائرة المعروض

٨٨

للعارض ، كما بين النسبة الحكميّة والحكم عند أهل المنطق ، ومع ذلك كيف ينكر عليهم وجود شيء في الخبر يكون مصداقا للكلام النفسي ، المغاير للعلم المفسّر بالنسبة الذهنيّة؟

وأمّا سند الثاني : فلأنّ مبنى كلامهم على جعل الكلام النفسي في الإنشاء عبارة عن الطلب ، وهو عندهم أمر يغاير الإرادة والكراهة ، وعلّلوه بأنّ الامر كثيرا مّا يأمر ويطلب فعلا وهو غير مريد له بل كاره له ، كما في أمر السيّد عبده استعلاما لحاله في مقام الإطاعة ، أو إعلاما لمقام إطاعته للغير ، أو إظهارا لعصيانه له حتّى يعتذر في معاقبته ونحو ذلك ، فتخلّف الإرادة عن الطلب اية مغايرتها له ، خلافا للمعتزلة القائلة بعدم المغايرة بينهما ذاتا بل كونهما متّحدين ، على معنى أنّ المنقدح في نفس الامر ليس إلاّ صفة واحدة يعبّر عنها تارة بالإرادة واخرى بالطلب.

والّذي يساعد عليه النظر ـ على ما سيأتي تفصيله في بحث الامر ، وفاقا لبعض الأفاضل (١) ـ حقّيّة ما صار إليه الأشاعرة ، لكن لا لما ذكروه من التعليل المتقدّم فإنّه عليل جدّا ، لوضوح أنّه إن أرادوا بالطلب الموجود في الموارد المذكورة ما يكون صوريّا فالإرادة بهذا المعنى أيضا موجودة معه ، وإن أرادوا بالإرادة المنتفية معه ما يكون واقعيّا فالطلب بهذا المعنى أيضا منتف.

وبالجملة : ما يوجد في الأوامر الابتلائيّة طلب صوري لا حقيقي ، وهو يستلزم الإرادة الصوريّة ، بل لما سنحقّقه في محلّه مفصّلا ، وملخّصه : حصول الفرق بين الأمرين بعد الفرق بينهما بحسب المفهوم في الأحكام واللوازم ، وهو من وجوه شتّى :

منها : كون الإرادة كالكراهة من الصفات القهريّة التابع حصولها لحصول منشائها ، وهو رجحان أحد طرفي الفعل والترك على الاخر ، وكون الطلب مبنيّا على الاختيار على وجه كان للمريد إيجاده والإمساك عنه.

__________________

(١) هداية المسترشدين : ١٣٦ ( الطبعة الحجرية ) حيث قال في بحث الأمر : فظهر بما قرّرناه قوّة القول بمغايرة الطلب للإرادة بالمعنى المذكور ...

٨٩

ومنها : كون الأوّل أمرا نسبيّا بين شيئين المريد والمراد ، وكون الثاني أمرا نسبيّا بين أشياء ثلاث ، الطالب والمطلوب والمطلوب منه.

ومنها : كون الثاني ممّا يستدعي في انعقاده استعمال علاج ، يتحقّق معه فعل خارجي من خطاب أو إشارة أو كتابة أو نحوها ، بخلاف الأوّل.

وبالجملة : بعد ما بنى على التحقيق من وجود معنى نفساني اخر مغائر للإرادة والكراهة ، فلا وجه لإنكار وجود ما يقع مصداقا للكلام النفسي.

فالأولى في دفع مقالتهم في إثباته أن ينظر في تشخيص ما هو محلّ الخلاف بينهم وبين المعتزلة ، وبيان ما يقع موردا للنفي والإثبات الجاريين على لسان الفريقين ، والّذي يتراءى في بادئ الأمر لا يخلو عن احتمالات :

أحدها : كون النزاع إثباتا ونفيا راجعا إلى وجود ما يكون من المعاني النفسيّة مغائرا للعلم والإرادة والكراهة ، فالأشاعرة يثبتونه والمعتزلة ينكرونه.

وثانيها : كونه راجعا إلى أمر لفظي ، وهو تسمية المعنى النفسي المغاير للعلم والإرادة والكراهة على تقدير ثبوته باتّفاق الفريقين بالكلام عرفا ، وصدقه عليه صدقا حقيقيّا كصدقه على المؤلّف من الأصوات والحروف وعدمه ، فالأشاعرة يثبتونه والمعتزلة ينكرونه.

وثالثها : كونه راجعا إلى وجود هذا المعنى المسمّى بالكلام بالقياس إلى الباري تعالى خاصّة وعدمه ، وهذا يتصوّر على وجهين :

الأوّل : دعوى أنّ الكلام بهذا المعنى لا يوجد إلاّ في حقّه تعالى من باب قصر الصفة على الموصوف ، فالمعتزلة ينكرونه إمّا لدعواهم وجوده في حقّ غيره تعالى أيضا ، أو لدعواهم عدم وجوده في حقّه تعالى أيضا.

الثاني : دعوى أنّه لا يوجد في حقّه تعالى إلاّ الكلام النفسي من باب قصر الموصوف على الصفة ، فكونه متكلّما معناه قيام المعنى بنفسه تعالى لا قيام الأصوات والحروف به ، فالمعتزلة ينكرونه بدعوى : عدم انحصار كلامه تعالى في ذلك ، أو دعوى : أنّه لا يوجد منه تعالى إلاّ الكلام اللفظي ، أو أنّ كونه متكلّما معناه

٩٠

أنّه يوجد الأصوات والحروف ولو في الأجسام الخارجيّة من شجرة أو حصاة أو نحوهما ، ولكنّ المستفاد من تتبّع كلماتهم المنقولة مع ملاحظة ما سبق ذكره أنّ للأشاعرة على سبيل التحقيق دعاوي ثلاث :

الاولى : وجود ما يغائر العلم والإرادة والكراهة من الصفات النفسانيّة.

الثانية : كون الكلام حقيقة فيما يعمّ المؤلّف من الأصوات والحروف ، والمعنى القائم بالنفس المغاير للثلاث المذكورة على طريقة الاشتراك لفظا أو معنى.

الثالثة : كونه تعالى متكلّما إنّما هو بواسطة المعنى القائم بالنفس دون المؤلّف من الأصوات والحروف.

ومنشأ كلّ هذه الاختلافات الحاصلة بين الفريقين ـ حسبما يقتضيه التتبّع ـ ما وقع بينهما في مباحث المشتقّ من الخلاف في اشتراط قيام المبدأ بمن يصدق عليه المشتقّ في صدقه عليه وعدمه ، فالأشاعرة صاروا إلى الاشتراط فلا يصدق عندهم المشتقّ على غير من قام به المبدأ ، وخالفهم المعتزلة فصاروا إلى عدم الاشتراط ، محتجّين بصدق المتكلّم والضارب على الذات مع قيام مبدأ الأوّل وهو الصوت بالهواء وقيام مبدأ الثاني بالمضروب ، وأيضا بصدق المتكلّم والخالق عليه تعالى مع قيام الأصوات والحروف بالأجسام الخارجيّة وقيام الخلقة بالمخلوق ، فتفصّى عنه الأشاعرة بالنسبة إلى المتكلّم ، بمنع كون مبدئه هو الأصوات والحروف ، بل المبدأ فيه هو الأمر النفساني وهو قائم بذات المتكلّم ، ولا يلزم الترادف بين المتكلّم والعالم لمكان المغايرة بين العلم وهذا المعنى ، وقضيّة ذلك كون الكلام الّذي اشتقّ منه المتكلّم حقيقة في هذا المعنى القائم بالنفس كما لا يخفى ، فيلزم منه كون كلامه تعالى نفسيّا ، بل لازمه كون كلام كلّ متكلّم نفسيّا ، بل ربّما يستفاد من ذلك كون الكلام عندهم حقيقة خاصّة في المعنى القائم بالنفس.

وكيف كان ، فإن كان نزاعهم مع المعتزلة في الدعوى الاولى فالحقّ معهم ، لما

٩١

أشرنا إليه سابقا (١) من وجود النسبة الذهنيّة في الخبر والطلب في الإنشاء ، ومغائرتهما للعلم والإرادة والكراهة كما يقضي به الوجدان السليم.

ومن أنكره فقد كابر وجدانه ، وإن كان نزاعهم في الدعوى الثانية فالحقّ مع المعتزلة إن اريد بحقيقيّة الكلام في الأعمّ كونه كذلك عرفا ولغة ، فإنّه غلط صرف ضرورة أنّه ليس في عرف ولا لغة ما يشهد بذلك ، بل الأمارات من التبادر وعدمه وصحّة السلب وعدمها وتنصيص أهل اللغة بل اتّفاق أهل العربيّة كافّة قائمة بخلافه ، بل إطلاقه على المعنى القائم بالنفس المدلول عليه باللفظ غير معهود في العرف واللغة.

وأمّا ما يتوهّم من إطلاقه عليه في كلام الشاعر :

إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

ففيه : منع صلوح ذلك للتعويل عليه ، حيث لم يثبت كون قائله ممّن يوثق بهم ويستشهد بكلامهم ، بل التأمّل في مساق هذا الشعر يعطي كون قائله من الأشاعرة فيفسد الاستشهاد به رأسا ، ولو سلّم فيتوجّه المنع إلى كونه على وجه الحقيقة ، لجواز قصد التجوّز بعلاقة المدلوليّة.

وربّما استدلّوا أيضا بما في قول القائل : « إنّ في نفسي كلاما » بتقريب : أنّه أطلق على ما في النفس الّذي ليس إلاّ المدلول القائم بالذهن ، وهو أضعف من الأوّل لوضوح ورود إطلاقه هاهنا في المؤلّف من الصوت والحرف باعتبار وجوده الذهني فإنّ كلّ كلام لفظي وجوده الخارجي مسبوق بوجوده الذهني ، ضرورة أنّ اللافظ كما يتصوّر قبل التلفّظ معاني الألفاظ الصادرة منه ، كذلك يتصوّر نفس تلك الألفاظ ، فقوله : « في نفسي كلام » إنّما يراد به الألفاظ الحاضرة في ذهنه لا غير.

هذا مع أنّه لا داعي إلى ارتكاب هذا التكلّف إلاّ التفصّي عن إشكال المعتزلة

__________________

(١) تقدّم في نفس التعليقة ، الصفحة ٧٤.

٩٢

المتقدّم عنهم في بحث المشتقّ بالقياس إلى الأمثلة المذكورة ، الّتي منها المتكلّم ولا ريب أنّ طريقه لا ينحصر في هذا التكلّف ، لوضوح دفع احتجاجهم بمنع كون مبادئ تلك المشتقّات قائمة بغير الذوات الّتي هي صادقة عليها ، بل هي قائمة بنفس تلك الذوات ، بملاحظة أنّ القيام قد يكون صدوريّا وقد يكون حلوليّا وقد يكون تعلّقيّا.

والمعتبر في صدق المشتقّ هو القسم الأوّل الّذي هو حاصل بالقياس إلى الذوات ، ضرورة أنّ محلّ صدور الأصوات والحروف ذات المتكلّم ، والّذي يحصل في الهواء هو القيام الحلولي ، ومحلّ صدور حدث الضرب والخلق هو ذات الضارب والخالق ، والّذي يحصل في المضروب والمخلوق قيام تعلّقي.

فلو قيل : إنّ ذلك لا يجري في المتكلّم بالقياس إلى البارئ تعالى ، إمّا لأنّ صدور الصوت لا بدّ فيه من جارحة وهو مقطع الفم ولا جارحة له ، أو لأنّ الصوت من جملة الحوادث الّتي ليس البارئ تعالى محلاّ لها.

لقلنا : بمنع كون المبدأ في المتكلّم كالخالق من الحالات بل هو من الملكات ، فيراد بالمتكلّم من يقدر على إيجاد الصوت ، كما أنّ المراد من الخالق من يقدر على الخلق.

ولا ريب أنّه بهذا المعنى صادق عليه تعالى على وجه الحقيقة ، ولو سلّم أنّه من قبيل الحالات لتوجّه المنع إلى كون إطلاقه عليه تعالى ناظرا إلى معناه اللغوي الحقيقي ، لجواز ابتنائه على ضرب من التجوّز ، فيراد به الّذي يوجد الكلام ولو في الأجسام الخارجيّة ، على قياس ما هو الحال في إطلاق « الرحمن » و « الرحيم » وغيره من كثير الصفات الجارية عليه ، وكون الإطلاق عليه على وجه الحقيقة ـ على فرض تسليمه ـ لا ينافي ابتناءه على المجاز باعتبار اللغة ، لجواز طروّ النقل عرفا بالقياس إلى المتشرّعة أو الفرقة الكلاميّة ، فلا يلزم بمجرّد ذلك كون الكلام في العرف واللغة حقيقة في غير المؤلّف من الأصوات.

نعم لو اريد بالحقيقة ما يكون كذلك في مصطلحهم فلا مشاحّة ، وليس للمعتزلة حينئذ أن ينازعوهم في أمر راجع إلى اصطلاحهم.

٩٣

وإن كان نزاعهم في الدعوى الثالثة ، فإن كان مقصودهم من الالتزام بها التفصّي عن شبهة المعتزلة والمحافظة على قاعدة الاشتقاق ، المقتضية لقيام المبدأ بذات من صدق عليه المشتقّ ، أو الفرار عن محذور إثبات الجارحة للبارئ تعالى ، أو كونه محلاّ للحوادث.

ففيه : عدم الحاجة إليه بعد ملاحظة ما ذكرناه من قيام مدفع لا يستدعي شيئا ممّا ذكر ، وإن كان مقصودهم به دعوى امتناع صدور الكلام اللفظي منه ولو بواسطة الإيجاد في الأجسام الخارجيّة ، أو وجوب كونه متكلّما بواسطة المعنى القائم بالنفس ، فهي دعوى لا شاهد عليها من عقل ولا نقل ، إذ لا نجد في حكم العقل ولا خطاب الشرع ما يقضي بشيء من الامتناع والوجوب ، هذا مضافا إلى أنّ الطلب الّذي يعتبرونه أحد قسمي الكلام النفسي ويحكمون عليه بالقدم يستحيل كونه قديما ، لابتنائه على الاختيار.

ومن البيّن أنّ المسبوق بالاختيار حادث ، ولكونه باعتبار أنّه أمر نسبي بين امور ثلاث منها المطلوب منه ، مركّبا من جهتي الصدور والتعلّق ، الّذي هو حادث بحدوث متعلّقه وشروطه فيكون الطلب حادثا ، ولا يجدي قدمه باعتبار جهة صدوره ـ بعد تسليمه ـ لأنّ المركّب من القديم والحادث ليس بقديم ، وإلاّ فأصل جهة الصدور أيضا حادث كما عرفت ، فلا يجديهم دعوى : أنّ الطلب عندنا اصطلاح في جهة الصدور فقط وهو ليس بحادث ، ولأنّه عند انعقاده الخارجي يقتضي علاجيّا (١) على معنى استلزامه له لا محالة فيكون ملزوما للحادث ، ومن المستحيل كون القديم ملزوما للحادث وإلاّ لم يكن قديما.

ثمّ إن تأمّلت في تضاعيف كلماتنا المتعلّقة بمقالة الأشاعرة في الكلام النفسي إصطلاحا وإفسادا تعرف أنّ ما في كلام بعضهم من بناء دفع ما ذكروه في التفصّي عن شبهة اتّحاد الدليل والمدلول على بطلان الكلام النفسي ليس بسديد.

__________________

(١) كذا في الأصل : وفي التحرير الأوّل من التعليقة هكذا : « يقتضي استعمال علاج يتحقّق معه فعل خارجي من خطاب أو إشارة أو كتابة أو نحوها ... ».

٩٤

ومن الأعلام (١) من تعرّض لدفع الشبهة ، بجعل الأحكام عبارة عن الخطابات المعلومة بديهة بالإجمال ، والأدلّة عبارة عن الخطابات المفصّلة ، فإنّا نعلم بديهة أنّ لأكل الميتة وأكل الربا وغيرهما حكما من الأحكام ، ولكن لا نعرفه بالتفصيل إلاّ من قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ )(٢) و ( حَرَّمَ الرِّبا )(٣) وغير ذلك.

وفهم جماعة من متأخّرينا عنه أنّ مقصوده ابداء الفرق بين المدلول ودليله بالإجمال والتفصيل ، فالدليل هو الخطابات المفصّلة والمدلول هو الخطابات المجملة ، فكونهما خطابين لا يستلزم اتّحادهما ، لكفاية ما بينهما من الإجمال والتفصيل في التغائر.

فأوردوا عليه : بأنّ ذلك لا يلائم قيد « الأدلّة التفصيليّة » إذ مقتضى رجوعه إلى العلم كونه حاصلا من الأدلّة التفصيليّة.

ولا ريب أنّ العلم المأخوذ في الخطابات المعلومة بالإجمال حاصل من الأدلّة الإجماليّة كالبداهة ونحوها ، لا من الأدلّة التفصيليّة ، والحاصل منها علم تفصيلي لا إجمالي.

وأضاف إليه بعض الأفاضل (٤) : إنّ العلم بالخطابات على سبيل الإجمال ليس من الفقه في شيء ، يعني أنّ المأخوذ في مسمّى « الفقه » هو العلم بالخطابات على سبيل التفصيل لا الإجمال ، فلا ينطبق الحدّ على المحدود.

وأنت خبير بما في هذين الإيرادين ، من ابتنائهما على الاشتباه وعدم التعمّق في فهم مقصود العبارة المذكورة ، كيف وهما لا يتوجّهان إليه إلاّ إذا فرض حمله « العلم » المأخوذ في جنس الحدّ ـ بعد جعله « الأحكام » عبارة عن المعلومات بالإجمال ـ على العلم الإجمالي ، حتّى يكون « الفقه » عبارة عن العلم على سبيل الإجمال بالمعلومات إجمالا الحاصل من الأدلّة التفصيليّة ، فحينئذ يقال : عليه إنّ هذا العلم غير حاصل من الأدلّة التفصيليّة ، وإنّ « الفقه » هو العلم بالخطابات على

__________________

(١) قوانين الاصول : ٥.

(٢) المائدة : ٦.

(٣) البقرة : ٢٧٧.

(٤) هداية المسترشدين : ٢ ( الطبعة الحجرية )

٩٥

سبيل التفصيل ، ولا يخفى أنّه بريء عن إرادة هذا المعنى ، وعبارته تأبى عن إفادته ، كيف وهو يقول : ـ في ذيل العبارة ـ : « ولكن لا نعرفه بالتفصيل إلاّ من قوله تعالى : ( وحرّمت ... الخ ) فإنّه تصريح بأنّ الحاصل من الأدلّة التفصيليّة هو العلم على سبيل التفصيل ، فيكون هو المراد من جنس الحدّ ، ومعه كيف يورد عليه بنحو ما ذكر ، خصوصا بعد ملاحظة ما في العبارة أيضا من التصريح بأنّ العلم الإجمالي إنّما يحصل من الامور الإجماليّة كالبداهة ونحوها ، كما في قوله : « فإنّا نعلم بديهة أنّ لأكل الميتة وأكل الربا وغيرهما حكما من الأحكام ... الخ ».

فالتحقيق : في معنى العبارة أنّه يريد بها ما يندفع معه الإشكال المعروف ، مع ما أورده هو سابقا على طريقة الأشاعرة في جوابهم المتقدّم من استلزامه خروج الكتاب عن كونه دليلا في الاصطلاح.

ومحصّل مرامه : أنّه يعتبر في الأحكام قبل النظر في الأدلّة كونها معلومات بالإجمال ، ليكون النظر في الأدلّة الّتي منها الكتاب مسبوقا بالدعوى والعلم الإجمالي بالمدّعى ، فلا يخرج الكتاب عن كونه دليلا في الاصطلاح ، ولمّا كانت المعلومات بالإجمال الّتي يستفصل من الأدلّة من مقولة المعاني فلا يتّحد المدلول مع دليله الّذي هو الكتاب وإن عبّر عنه بالخطاب ، مع كون الكتاب أيضا خطابا لتغائر الخطابين ، بكون أحدهما من مقولة اللفظ والاخر من مقولة المعنى.

نعم يتوجّه إليه إنّ ما ذكره الأشاعرة أيضا على ما قرّرناه سابقا (١) يرجع إلى هذا المعنى ، فلا وجه للاعتراض عليهم بما مرّ من خروج الكتاب عن كونه دليلا في الاصطلاح ، وإن فسد ما صاروا إليه من اعتبار هذا المدلول كلاما نفسيّا.

وقد يجاب عن شبهة الاتّحاد : بأنّ المراد بخطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين مدلول الخطاب لا نفسه على طريقة الإضمار ، بدليل أخذ المتعلّق وصفا له ، مضافا إلى قيد حيثيّة « الاقتضاء والتخيير » فإنّ الّذي يتعلّق بفعل المكلّف مدلول الخطاب

__________________

(١) تقدّم في نفس التعليقة ، راجع الصفحة ٦٤ ـ ٦٧.

٩٦

لا نفسه ، كما أنّ الاقتضاء والتخيير المنحلّين إلى الأحكام الخمس مدلول الخطاب لا نفسه.

وفيه : أنّ الالتزام بالإضمار لأجل ما ذكر من القرينة ليس باولى من التزام حمل الخطاب بنفسه على إرادة المدلول حسبما صنعه الأشاعرة ، إن لم نقل بأنّه أولى ، لقوّة احتمال كون الخطاب عندهم مصطلحا في المدلول.

وكيف كان فحمل « الأحكام » على مصطلح الاصولي ـ بعد البناء على كون الخطاب المأخوذ فيه مرادا به ما هو من مقولة المعنى ، كما هو الظاهر ـ أقرب محامل هذا اللفظ ، لولا ما قدّمنا ذكره (١) من قضائه بخروج قيدي « الشرعيّة » و « الفرعيّة » مستدركين ، فهذا هو الداعي إلى العدول عن ذلك ، فلم يبق من معاني هذا اللفظ المتقدّم ذكرها إلاّ المسائل ومصطلح الفقهاء.

والحمل على الثاني وإن كان يترجّح بملاحظة القاعدة ، نظرا إلى أنّ الحدّ من الفقهاء ، فلا بدّ من حمل أجزائه على ما هو المصطلح عندهم إن ثبت لهم فيها اصطلاح خاصّ ، والمفروض أنّه قد ثبت لهم في خصوص « الأحكام » اصطلاح فمقتضى الأصل حملها على مصطلحهم.

لكن يضعّف ذلك : بعدم انطباقه على ما هو ميزان تصحيح الحدّ ، من حمل كلّ واحد من أجزائه على ما لا يوجب خروج هذا الجزء ولا خروج الجزء الاخر مستدركا ، ولا انتقاض الحدّ في عكسه أو طرده أو البينونة بينه وبين المحدود ، ولذا عدلنا عن المعاني الأربع المتقدّمة لكون بعضها موجبا لعدم انعكاس الحدّ كالإلزام ، والبعض الاخر للبينونة بينه وبين المحدود كالتصديق ، والثالث لخروج هذا القيد بنفسه مستدركا كالنسبة الخبريّة ، والرابع لخروج غيره مستدركا كمصطلح الاصولي.

فلو حمل الحكم حينئذ على مصطلح الفقهاء ، فإن كان ذلك هو معناه الأخصّ أعني الخمس التكليفيّة.

__________________

(١) تقدّم في نفس التعليقة الصفحة : ٦١.

٩٧

يرد عليه أوّلا خروج قيد « الشرعيّة » مستدركا ، إذ الخمس المذكورة ليست إلاّ امورا شرعيّة.

وثانيا : انتقاض العكس بخروج الوضعيّات رأسا. وإن كان ذلك هو الشامل للوضعيّات أيضا يرد عليه أوّل الأمرين وإن اندفع معه الأمر الثاني.

فلو قيل : لو اخترنا أوّل الاحتمالين وهو الحمل على المعنى الأخصّ يستقيم الحدّ ولا يلزم شيء من المحذورين.

أمّا عدم لزوم الأوّل : فلجواز كون المراد الخمس التكليفيّة لا بشرط كونها من الشارع أو من غيره كالموالي ونحوهم من الأعالي ، فإنّ الخمس التكليفيّة تتحقّق من الموالي بالقياس الى عبيدهم ، ومن الامراء بالقياس إلى الرعيّة ، كما تتحقّق من الشارع بالقياس إلى المكلّفين ، فلو اريد « بالأحكام » ما يعمّ القسمين كان قيد « الشرعيّة » مخصصّة لها بأحدهما وهو الخمس الصادرة من الشارع.

وأمّا عدم لزوم الثاني : فلأحد الوجهين ، من أنّ الوضعيّات لا ضير في خروجها ، بناء على أنّها ليست كالأحكام التكليفيّة من مجعولات الشارع بالأصالة ، وإنّما هي مفاهيم منتزعة ينتزعها العقل عن المجعولات فليست من جملة المحدود وليضرّ خروجها عن الحدّ ، أو أنّها ليست بخارجة لو حمل « الأحكام » على الخمس التكليفيّة ، بناء على أنّها ائلة إلى التكليفيّات ، فإنّ معنى سببيّة الدلوك للصلاة وجوب الصلاة عند الدلوك ، ومعنى شرطيّة الطهارة لها وجوبها متلبّسة بالطهارة ، ومعنى مانعيّة الحيض لها حرمتها حال الحيض وهكذا.

لقلنا : هذا فاسد جدّا ، أمّا الأوّل : فلأنّ حيثيّة العموم إن اريد اعتبارها في مصطلح الفقهاء على معنى قيام اصطلاحهم على المعنى العامّ فهو كذب ، حيث لم يعهد منهم اعتبار ذلك في شيء من موارد إطلاقات الألفاظ الواقعة على الخمس التكليفيّة ، ضرورة أنّهم لا يلاحظون عند إطلاق لفظ « الوجوب » أو « الحرمة » أو « الندب » أو « الكراهة » أو « الإباحة » إلاّ المفاهيم الخمس المعهودة من حيث إضافتها إلى الشارع.

٩٨

نعم ملاحظة المعنى الأعمّ ربّما توجد في كلام الاصوليّين في بعض المسائل الاصوليّة كما في بحثي صيغة الأمر والنهي ، حيث ينازعون بالقياس إلى الاولى في كونها للوجوب أو الندب أو الإباحة ، أو للأوّلين أو الثلاث على الاشتراك لفظا أو معنى ، وبالقياس إلى الثانية في كونها للتحريم أو الكراهة ، أو لهما على الاشتراك لفظا أو معنى ، إذ لا ريب أنّ نظرهم في هذين البحثين ليس إلاّ في إثبات مفهوم اللفظ لغة وعرفا ، ولا يكون ذلك إلاّ إذا اخذ المبحث على الوجه الأعمّ ، غير أنّه لا مدخل لذلك في طريقة الفقهاء ، ولا ينبغي تنزيل مصطلحهم على ذلك جزما ، وإن اريد اعتبارها في المراد من اللفظ هنا وإن خرجت عن المصطلح عليه فليس ذلك حملا على مصطلح الفقهاء ، والكلام على هذا الفرض لا غير.

وأمّا الثاني : فلأنّ مجرّد خروج الوضعيّات عن كونها من مجعولات الشارع لا يجدي في إصلاح الحدّ ، وحفظه عن انتقاض عكسه ما لم يثبت خروجها عن الأحكام الشرعيّة أيضا ، بل وعن المسائل الفقهيّة أيضا ، فإنّ التكليفيّات قد ثبت فيها عناوين ثلاث : كونها مجعولات الشارع أصالة ، وكونها أحكاما شرعيّة أصالة ، وكونها من المسائل الفقهيّة أصالة ، وما ذكر في دفع الإشكال إنّما يجدي بعد نفي هذه الجهات عن الوضعيّات بل نفي الجهة الثالثة خاصّة ، ولعلّ الخصم ينكر الجميع أو ينكر نفي الأخيرتين أو نفي الأخيرة خاصّة ، إذ لا منافاة بين كون شيء من توابع المجعول لا من المجعول وكونه من الأحكام الشرعيّة مستقلّة ، كما لا منافاة بين كون شيء من توابع الأحكام الشرعيّة لا نفسها وكونه من المسائل الفقهيّة ، لا من توابعها ، ولا سيّما الوضعيّات الّتي لا يبحث عنها إلاّ في فنّ الفقه وفي الكتب الفقهيّة ، ولا يبيّنها إلاّ الفقيه بل ليس بيانها إلاّ من شأن الفقيه ، وكونها من التوابع مع أنّها بتلك المثابة ، وأنّ المباحث اللاحقة والأبواب المدوّنة لها أكثر ممّا يرجع إلى التكليفيّات بمراتب شتّى ، لعلّه بعيد.

ثمّ دعوى : عدم خروجها على تقدير الحمل على التكليفيّات لأولها إليها غير واضحة المراد ، فإن اريد بأولها إليها أنّها وإن كانت امورا متأصّلة ثابتة في محالّها

٩٩

أصالة ، مغايرة للتكليفيّات الّتي هي أيضا لذواتها امور متأصّلة لكن يمكن إرجاعها إليها بضرب من التأويل القاضي باتّحادهما بالاعتبار كما هو ظاهر البيان المتقدّم ، فهو لا يجدي في دفع الإشكال ، ضرورة أنّ اللفظ في كلّ مقام ينصرف إلى ما بالذات ولا ينصرف إلى ما بالاعتبار ، فالتكليفيّة المرادة من « الأحكام » لا تنصرف إلاّ إلى ما يغائر الوضعيّات بالذات ، واعتبار الاتّحاد بينهما لا يقضي بتناول الأحكام للأعمّ ، فتبقى الوضعيّات حينئذ خارجة. وإن اريد بأولها إليها أنّها ليست كالتكليفيّات امورا متأصّلة ، بل هي في كلّ موضع يفرض ثبوتها فيه ليست إلاّ مفاهيم اعتباريّة ، وإلاّ فالثابت في المحلّ بعنوان الحقيقة شيء واحد وهو الحكم التكليفي.

ففيه : مع أنّ عبارة البيان المتقدّم لا تتحمّل هذا المعنى ، أنّ ذلك كلام مرجعه إلى ما ذكر أوّلا من أنّ الوضعيّات ليست امورا مجعولة ، بل هي مفاهيم منتزعة عن المجعول.

وقد تبيّن ما فيه من أنّ مجرّد ذلك لا يجدي في تصحيح الحدّ ، إلاّ بعد فرض كونها من توابع المسائل ، وإنّ البحث اللاحق لها بحث في الحقيقة عن التكليفيّات.

ومع الغضّ عن ذلك كلّه ، فالتزام هذه الامور ليس تصحيحا للحدّ في الحقيقة ، لأنّ المقصود من تصحيحه هنا حمله على ما يوافق جميع المذاهب ، بحيث يكون حدّ « الفقه » هو ما ذكر عند الكلّ ، وهذا غير حاصل على التقدير المذكور كما لا يخفى. بل الّذي يوافق معه الحدّ لجميع المذاهب هو حمل « الأحكام » على المسائل ، ضرورة أنّ إرادتها لا تنافي القول بكون الوضعيّات من المجعولات ولا القول بخلافه ، ولا القول بكونها من الأحكام الشرعيّة ، أو كونها من المسائل الفقهيّة ، ولا القول بخلافهما ، ولا يوجب ذلك محذورا اخر من استدراك أو انتقاض أو بينونة أو غير ذلك ، فيتعيّن الحمل عليها.

فإن قلت : أيّ فرق بين المسائل وبين النسب الخبريّة التي عدلت عن الحمل عليها على خلاف الجماعة؟

١٠٠