تعليقة على معالم الاصول - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٤٤٣

[ و ] الممتنعة ، فإنّ إرادة الامور الخارجيّة فيها غير متصوّرة ، ولذا قيل : إنّ القول بكون الألفاظ بأسرها موضوعة للحقائق الخارجيّة ـ على ما صرّح به بعض النحويّين ـ ممّا لا خفاء في بطلانه.

وثالثة : بأنّ هذا إنّما يقضي ببطلان القول بوضعها للصور الذهنيّة ، ولا يتعيّن به الوضع للامور الخارجيّة ، لاحتمال الواسطة مع عدم منافاتها الدليل.

يندفع في وجهه الأوّل : بأنّ القطع الضروري حاصل بعدم تعويل المستعملين والمخاطبين في إفادة المعاني واستفادتها في الموارد المذكورة ونظائرها على القرائن الموجودة مع الألفاظ ، بل كلّ أحد يجد من نفسه أنّه في الإفادة والاستفادة إنّما يعوّل على حاقّ اللفظ.

وفي وجهه الثاني : بأنّ الامور الخارجيّة الّتي إرادتها غير متصوّرة في المعدومات ، إن اريد بها ما دخل فيه الوجود الخارجي فعدم تصوّر إرادتها مسلّم ، غير أنّ النزاع على ما عرفت مرارا لا يرجع إلى أخذ الوجود بأحد قسميه في وضع الألفاظ ، وإن اريد بها ما خرج عن الذهن ـ أعني المعاني الواقعيّة ـ فعدم تصوّر إرادتها محلّ منع ، كما يفصح عنه قولك : « العنقاء معدوم » و « شريك الباري ممتنع » ضرورة أنّ الحكم بالمعدوميّة والامتناع لا يلحق الصورة الذهنيّة وإنّما يلحق الأمر الخارجي ، وهو ما فرضه العقل عنقاء وشريك الباري في الواقع.

وفي وجهه الثالث : بأن الواسطة المتخيّلة ـ على ما قرّرناه ـ ليست إلاّ الامور الخارجيّة ، على معنى الخارجة عن الذهن المعبّر عنها بالمعاني الواقعيّة ، ومبنى الاعتراض على توهّم أوضحنا فساده مرارا ، وهو رجوع النزاع إلى أخذ الوجود في الوضع.

حجّة القول بوضعها للصور الذهنيّة وجوه :

أوّلها : دوران الألفاظ الموضوعة مع الصور الذهنيّة وجودا وعدما ، فإنّ من ظنّ الشبح حجرا سمّاه به ، وإذا تغيّر ذلك بظنّه إنسانا مثلا تغيّرت معه التسمية فسمّاه باسم الإنسان ، فلو كانت بإزاء الامور الخارجيّة لما تغيّرت التسمية بتغيّر الشبح لاستحالة تغيّر الأمر الخارجي.

٤٠١

وفيه : أنّه على خلاف مطلوب المستدلّ أدلّ ، بل لا يدلّ إلاّ على خلاف مطلوبه كما يظهر بالتأمّل في تقريره ، فإنّ الّذي سمّاه الظانّ تارة باسم الحجر واخرى باسم الإنسان هو الشبح لا الصورة الذهنيّة ، لأنّه الّذي ظنّه حجرا تارة واخرى إنسانا وهو أمر خارجي ، فهو المسمّى لا غير.

غاية الأمر كون الاختلاف في التسمية ناشئا عن اختلاف الصورة الذهنيّة ، وهو لا يقضي بكون المسمّى هو الصورة كما لا يستلزم تغيّر ما في الخارج المحكوم عليه بالامتناع ، لأنّ الممتنع تغيّر ما في الخارج في الواقع ، وأمّا تغيّره في اعتقاد المعتقد فلا استحالة فيه ، إذ الاعتقاد بشيء لا يستلزم كون المعتقد هو ذلك الشيء في الواقع ، غاية ما يلزم كون أحد الاعتقادين خطأ ، ولذا ترى أنّ المعتقد بعد تغيّر اعتقاده الأوّل يخطّأ نفسه في اعتقاده الأوّل ، وبذلك يظهر الجواب عن الدليل المذكور لو قرّر بأنّه : لو لا الألفاظ بإزاء المعاني الذهنيّة لما تغيّرت التسمية ، والتالي باطل لضرورة تغيّرها في مثال الشبح ، وبيان الشرطيّة : أنّها لو لا بإزاء المعاني الذهنيّة لكانت بإزاء الامور الخارجيّة ، واللازم باطل ، لأنّ ما في الخارج لا يتغيّر ولا يتبدّل ، وقد أثبتنا تغيّر التسمية ، ولا يكون إلاّ لأجل تغيّر الصورة الذهنيّة.

وقد يقرّر الجواب بطريق القلب ، بأنّه لو لا الألفاظ بإزاء الامور الخارجيّة لما تغيّرت التسمية بتغيّر الشبح الخارجي في الاعتقاد ، والتالي باطل لدوران اللفظين في التسمية مع الشبح الخارجي ، وبيان الشرطيّة : أنّه لو كانت الألفاظ بإزاء المعاني الذهنيّة لكان مسمّى اللفظين في المثال المذكور هو الصورة ، وقد ظهر بطلانه.

وثانيها : أنّ الألفاظ لو كانت موضوعة للامور الخارجيّة لزم امتناع الكذب في الأخبار ، إذ المفروض أنّ كلاّ من زيد وقائم في قولنا : « زيد قائم » موضوع لما هو موجود في الخارج من مدلوليهما والمجموع المركّب للنسبة الخارجيّة ، فيدلّ المجموع على قيام زيد الموجود في الخارج ، لاستحالة تخلّف المدلول عن الدالّ ، وهذا خلاف ما اتّفقوا عليه من انقسام الكلام إلى الخبر والإنشاء ، وأنّ الفرق بينهما كون الأوّل محتملا للصدق والكذب معا دون الثاني.

٤٠٢

وفيه : منع الملازمة بعد مراجعة ما قرّرناه في معنى الامور الخارجيّة ، فإنّ الواضع عند وضع الخبر باعتبار الهيئة النوعيّة قد لاحظ النسبة الخارجيّة ـ بمعنى الخارجة عن الذهن لا محالة ـ فأخذها في وضع الخبر ، فإن أخذها لا بشرط المطابقة للواقع كان الخبر محتملا للصدق والكذب على حدّ سواء ، وإن أخذها بشرط المطابقة كان مدلول الخبر بحسب الظهور هو الصدق ، لكنّه لا ينفي احتمال الكذب لأنّ الظهور المستند إلى وضع اللفظ باعتبار أصالة الحقيقة لا ينافي احتمال خلافه.

غاية الأمر كونه مجازا ، فالخبر أيضا محتمل لهما لكن على التفاوت في الظهور وعدمه ، وإليه يرجع كلام من ادّعى كون مدلول الخبر هو الصدق ، وأنّ الكذب احتمال عقلي.

واجيب أيضا : بأنّه لو كان الكلام موضوعا للنسبة الذهنيّة لكان دالاّ عليها في الذهن ، فيكون قولنا : « زيد قائم » بمنزلة زيد قائم في اعتقادي ، فيلزم كون العبرة في صدق الكلام وكذبه بمطابقته الاعتقاد وإن خالف الخارج ، ولا مطابقته له وإن طابق الخارج كما عليه النظّام ، وهو خلاف التحقيق المقرّر في محلّه ، من كون العبرة فيهما بمطابقة الواقع وعدمها ، كما عليه الجمهور.

وفيه نظر : لأنّ ارتسام صورة النسبة في الذهن لا يلازم الاعتقاد بها.

وثالثها : إنّا نعلم بالضرورة بوضع جملة من الألفاظ للمعدومات الممكنة والممتنعة ، ومع هذا فكيف يدّعي أنّ الألفاظ بأسرها موضوعة للموجودات الخارجيّة.

وفيه أوّلا : أنّه لو تمّ لقضى بنفي إطلاق الوضع للامور الخارجيّة ، ولا يلزم منه إطلاق ثبوت الوضع للمعاني الذهنيّة ، والتفصيل ممكن ، بأن يكون الموجودات للامور الخارجيّة ، والمعدومات للمعاني الذهنيّة.

وثانيا : بأنّه غفلة عمّا قرّرناه مرارا بتوهّم أنّ الامور الخارجيّة يراد بها ما يدخل فيه الوجود ، وأمّا الامور الخارجيّة بمعنى ما خرج عن الذهن فيندرج فيها

٤٠٣

المعدومات أيضا ، لأنّها أيضا إذا اخذت خارجة عن الذهن تصلح لأن توضع لها الألفاظ ويتعلّق بها الأحكام ، كما يفصح عنه قولنا : « العنقاء معدوم » و « شريك الباري ممتنع » لوضوح أنّ العدم والامتناع يلحقان الأمر الخارج عن الذهن ، وكما يجوز لحوق نحو هذه الأحكام به ، فكذلك يجوز لحوق الوضع به.

وبالتأمّل في جميع ما قرّرناه يتبيّن بطلان أدلّة سائر التفاصيل المحدثة في المسألة ، كما تبيّن بما قرّرناه سابقا في تحرير المسألة ، وتوضيح موضوعها وبيان معنى العنوان فيها ، فساد هذه التفاصيل في حدّ أنفسها ، من حيث عدم تحمّل عنوان المسألة بالمعنى المتقدّم شيئا من التفاصيل ، وعدم تفاوت الحال في دوران وضع الألفاظ الموضوعة بين كونها وضعا بإزاء حقائق المعاني وأعيانها الخارجة عن الأذهان ، بين المعاني جزئيّة أو كلّية ، موجودة أو معدومة ، ممكنة أو ممتنعة.

وكيف كان ، فاستدلّ لأوّل التفاصيل على الوضع للخارجيّة فيما له مصداق خارجي بالاستعمالات العرفيّة المتقدّم أمثلتها ، وللذهنيّة فيما لا مصداق له ، بعدم إمكان الوضع له إلاّ بهذا الاعتبار ، حيث لا وجود له في الخارج ، حتّى يقال : بأنّ الوضع فيه أيضا للامور الخارجيّة ، وفيه ما يظهر بالتأمّل فيما تقدّم.

ولثانيها على الوضع للماهيّة في اللامور الكلّية بالظهور المقرّر : بأنّ الظاهر أنّها موضوعة للماهيّة من حيث هي مع قطع النظر عن الوجودين ، والظاهر أنّ المراد به التبادر ، وإلاّ فلا يخلو عن مصادرة.

وعلى الوضع للخارجيّة في الجزئيّات بعدم إمكان الوضع للماهيّة فيها ، إذ الأشخاص ليس لها ماهيّة سوى الماهيّة الكلّية ، بل الظاهر أنّ التشخّص ليس في هويّته أمر سوى الماهيّة ، لا العوارض الخارجيّة ولا أمر نسبته إلى الماهيّة النوعيّة كنسبة الفصل إلى الجنس ، بل الماهيّة الكلّية إذا وجدت صارت متشخّصة بدون ضمّ شيء إليها ، فالألفاظ الّتي تدلّ على الأشخاص ليست موضوعة لتلك الماهيّة ، بل لها من حيث التشخّص بالوجود ، وهو معنى الوضع للامور الخارجيّة.

ولثالثها على الوضع للماهيّة ما مرّ من دعوى الظهور ، وعلى الوضع للخارجيّة

٤٠٤

في الجزئيّات الخارجيّة والذهنيّة في الجزئيّات الذهنيّة بنحو ما مرّ ، من أنّ الأشخاص لا ماهيّة لها سوى الماهيّة الكلّية ، فإنّها إذا وجدت صارت متشخّصة بدون ضمّ شيء إليها ، فإن وجدت في الخارج كانت شخصا ، وإن وجدت في الذهن كانت شخصا اخر ، والألفاظ الدالّة عليها ليست موضوعة بإزاء تلك الماهيّة ، بل لها من حيث التشخّص ، وهو غير خال عن أحد الأمرين ، فيكون الموضوع له هو الشخص الخارجي أو الذهني على الاعتبارين ، وفي الكلّ ما لا يخفى.

ثمّ إنّا لم نعثر للمسألة على ثمرة تقصد من تدوينها ، لكن غير واحد من متأخّري المتأخّرين ذكروا في ثمرتها وجهين :

أحدهما : كون الأمر الظاهري العقلي مقتضيا للإجزاء وعدمه ، فلو أمره بإكرام زيد فاعتقد عمرا أنّه زيد فأكرمه ، فعلى القول بالامور الذهنيّة يكون ممتثلا ، لأنّه أتى بالمأمور به على وجهه ، بخلافه على القول الاخر.

وثانيهما : التصويب في الموضوعات على القول بالذهنيّة ، إذ الموضوع له حينئذ هو المعنى الموجود في الذهن ، فكلّ من حصل في ذهنه معنى للفظ ـ كالقبلة بالنسبة إلى الجهات الأربع ـ فهو مصيب في ترتيب الأحكام عليه ، وإن خالف ما حصل في ذهن كلّ لما حصل في ذهن الاخر ، للزوم هذا القول تعدّد الموضوع له واختلافه بحسب تعدّد الأذهان في الاعتقادات واختلافها ، والتخطئة على غيره إذ الموضوع له حينئذ أمر واحد من أصابه فهو مصيب ، ومن أصاب غيره فهو مخطئ.

وفيه ما لا يخفى من الضعف.

فأوّل ما يرد عليه : عدم اندراجه في ضابط ثمرات المسائل ، إذ لم يظهر أنّهم قصدوا بتدوين هذه المسألة إلى ترتّب نحو مسالّتي الإجزاء والتصويب ، إن لم نقل بظهور خلافه إلاّ أن يقصد من الثمرة مطلق الفائدة وإن لم تكن مقصودة.

وثاني ما يرد عليه : أنّ الإجزاء في الأمر العقلي والتصويب في الموضوعات

٤٠٥

على القول بهما ، يتفرّعان على اعتقاد المكلّف ، فلا ينطبق شيء منهما على القول بالوضع للصور الذهنيّة ، لعدم ابتنائه على أخذ الاعتقاد في الوضع ، بل مبناه ـ على ما ظهر بما لا مزيد عليه ـ على جعل مسمّيات الألفاظ صور الأشياء المنطبعة في الأذهان ، من حيث إنّها صورها لا من حيث إنّها يعتقدها المعتقد ، أو يدركها المدرك ، بل لا من حيث ارتساماتها فضلا عن الاعتقاد.

وثالث ما يرد عليه : أنّ تفرّع الإجزاء في نحو المثال والتصويب في الموضوعات على الاعتقاد لو صحّ وسلّم أوفق بالقول بالامور الخارجيّة ، لأنّ الاعتقاد في مثال « إكرام زيد » إنّما يتعلّق بعمرو على أنّه زيد خارجي ، لا على أنّه صورة زيد المنطبعة في الذهن ، كما أنّه في نحو مثال « القبلة » يتعلّق بكل جهة على أنّها قبلة خارجيّة ، لا على أنّها صورتها المرتسمة في الذهن.

ورابع ما يرد عليه : أنّ القائل بالصور الذهنيّة يوافق القائل بالامور الخارجيّة في منع الإجزاء والتصويب في نحو موردي المسألتين ، لأنّهما يتوافقان في الإذعان بتعلّق نحو هذه الأحكام بالامور الخارجيّة ، غير أنّ القائل بالامور الخارجيّة يزعمه باعتبار الوضع ، والقائل بالصور الذهنيّة يزعمه باعتبار القرينة ، فإنّه يجعل نحو الإكرام والاستقبال في الصلاة من باب قرينة المجاز ، كما تقدّم منه نظير ذلك في ردّ احتجاج القائل بالامور الخارجيّة بنحو دخلت الدار ، وأكلت الخبز وشربت الماء إلى اخر الأمثلة.

وخامس ما يرد عليه ، منع استلزام القول بالصور الذهنيّة للإجزاء في الأمر الظاهري العقلي ، والتصويب في الموضوعات ، لأنّ الظاهر أنّه يشترط في الصور الذهنيّة المأخوذة في وضع الألفاظ مطابقتها للامور الخارجيّة وانطباقها عليها ، فالاتي بإكرام عمرو باعتقاد أنّه زيد غير ات بالمأمور به على وجهه على هذا القول أيضا ، كما أنّه لا يستلزم تعدّد الموضوع له بتعدّد الصور ، واختلافه باختلاف الأذهان.

٤٠٦

ـ تعليقة ـ

الحقّ وفاقا للمحقّقين عدم دخول العلم في مداليل الألفاظ بحسب الوضع شطرا ولا شرطا ، على معنى عدم كونها موضوعة للمعلومات بوصف كونها معلومات ، خلافا لمن توهّم دخوله فيها باعتبار الوضع ، على معنى وضع الألفاظ للامور المعلومة على وجه يكون العلم جزا للموضوع له ، وربّما عزى إلى كثير ممّن لا تحقيق له ، حتّى قالوا : إنّ معنى « لا تتوضّأ بالماء النجس » و « لا تأكل الميتة » و « لا تشرب الخمر » و « لا تعمل بخبر الفاسق » النهي عمّا علم ثبوت الوصف له ، فأمّا ما جهل ثبوته له فهو خارج عن مدلول اللفظ.

وقضيّة هذا القول ـ مع الالتزام بخروج غير المعلوم عن المدلول ـ تحقّق الواسطة بين الطاهر والنجس ، وبين العادل والفاسق ونظائر ذلك ، فإنّ ما لم يعلم طهارته ونجاسته ، ومن لم يعلم عدالته وفسقه ، إذا خرج عن مدلولي اللفظين فهو غير المدلولين فيكون واسطة ، وقد يتأمّل في الفرق بين هذه المسألة والبحث المتقدّم ، باعتبار أنّ العلم أيضا أمر ذهني ، فلا بدّ وأن يكون اعتباره في الموضوع له ثابتا عند أصحاب القول بالوضع للامور الذهنيّة ، وعكسه ثابتا عند أهل القول بالوضع للامور الخارجيّة.

وقد يوجّه الفرق بين المسالّتي ن ، بأنّ مرجع القول بالوضع للامور الذهنيّة إلى وجوب العمل بالمعتقد ، وكونه موجبا للامتثال في مقام التكليف مع قطع النظر عن

٤٠٧

عدم وجوب الفحص عند انتفاء العلم ، ومرجع القول بالوضع للامور المعلومة إلى عدم وجوب الفحص عند انتفاء العلم مع قطع النظر عن وجوب العمل بالمعلوم وكونه موجبا للامتثال ، وكذا القول بعدم اعتبار العلم في المدلول فإنّ مرجعه إلى وجوب الفحص عند الجهل مع قطع النظر عن وجوب العمل بالمعلوم وكونه موجبا للامتثال. وفيه ما لا يخفى.

أمّا أوّلا : فلأنّ قضيّة ما ذكر كون مبنى القول بالامور الذهنيّة على أخذ الاعتقاد في مسمّيات الألفاظ ، وقد عرفت منعه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكر في الفرق بين المسالّتي ن إبداء لتغاير الثمرتين ، ومقتضاه كون الثمرتين من متفرّعات دخول الاعتقاد في مسمّيات الألفاظ وخروجه عنها ، ولا خفاء انّ تعدّد الثمرة لا يوجب تعدّد المسألة ، فإنّ الثمرات المترتّبة على الشيء من قبيل اللوازم ، وظاهر أنّ تعدّد لوازم الشيء لا يوجب تعدّد الملزوم ، فالواجب حينئذ أخذ عنوان المسألة باعتبار دخول العلم في المدلول وخروجه عنه ، فيقال في التفريع : إنّ دخوله فيه يلزمه ، أوّلا : كون العمل بالمعتقد بوصف كونه معتقدا موجبا للامتثال.

وثانيا : عدم وجوب الفحص عند انتفاء العلم ، وخروجه عنه يلزمه وجوب الفحص وعدم الامتثال ، وبالجملة تعدّد الثمرة لا يقتضي تعدّد المسألة.

فالوجه في الفرق ـ ما نبّهنا عليه سابقا ـ من عدم كون مبنى القول بالامور الذهنيّة على أخذ الاعتقاد في الوضع ، بل على جعل مسمّيات الألفاظ صور الأشياء المرتسمة في الأذهان من حيث إنّها صورها ، لا من حيث إنّه ارتساماتها فضلا عن الاعتقادات المتعلّقة بها ، فالخلاف في مسألة دخول العلم في المدلول متفرّع في الحقيقة على القول بالامور الخارجيّة ، لأنّ العلم والاعتقاد إنّما يتعلّق بها باعتبار انّها امور خارجيّة لا باعتبار أنّها صور ذهنيّة ، فيرجع البحث إلى أنّ الامور الخارجيّة هل اخذت في وضع الألفاظ من حيث إنّها امور واقعيّة ، أو من حيث إنّها امور معلومة؟

٤٠٨

نعم هاهنا إشكال اخر يصعب دفعه ، ولم نقف على من تفطّن به وتفصّى عنه ، وهو أنّ قضيّة إطلاقهم بل صريح الأمثلة المتقدّمة عدم الفرق في الألفاظ بين الجوامد والمشتقّات ، كما أنّ ظاهر مطاوي كلماتهم عنوانا ودليلا وثمرة ، كون العلم المتنازع في دخوله في مداليل الألفاظ هو العلم التصديقي ، المعبّر عنه بالاعتقاد لا العلم التصوّري ولا مطلق الإدراك ، فيشكل تصوير دخوله في مداليل الألفاظ بأسرها حتّى الجوامد ، كالخمر والميتة والكلب والخنزير ونحو ذلك ، فإنّ العلم بالمعنى المذكور من عوارض النسبة اللازمة لتحقّق طرفيها المنسوب والمنسوب إليه ، فلا يمكن أخذه في مداليل الجوامد ، لعدم تركّب فيها بحيث يتضمّن نسبة يتعلّق بها العلم والإذعان.

نعم ربّما أمكن تصويره في مداليل المشتقّات باعتبار اشتمالها على نسبة ملحوظة بين الذات والمبدأ ، فيصحّ في مثل « فاسق » أن يقال : إنّه موضوع لذات علم بثبوت الفسق لها ، وأمّا نحو الميتة والخمر وغيرهما فلم يشتمل مدلول شيء منها على نسبته ، لكونه أمرا بسيطا لم يتركّب من شيئين ذات ووصف يتحقّق بينهما هذه النسبة ، فلا يجري فيها نحو البيان المتقدّم.

وبالجملة دخول العلم التصديقي في مدلول اللفظ باعتبار الوضع ، إنّما يصحّ فرضه في كلّ لفظ انحلّ مدلوله بحسب الوضع إلى قضيّة حمليّة ، مشتملة على ذات ووصف ونسبة بينهما ، وهذا في الجوامد غير معقول.

وتوهّم انحلال مداليلها أيضا إلى نحو هذه القضيّة ، فإنّ « الرجل » و « الأسد » و « زيد » و « عمرو » مثلا ينحلّ مداليلها إلى ذات ثبت لها الرجوليّة ، وذات ثبت لها الأسديّة ، وذات ثبت لها الزيديّة ، وذات ثبت له العمريّة.

يدفعه : أنّه إنّما يصحّ لو كان كلّ من الذات والوصف المذكورين مأخوذا مع الموضوع له باعتبار الوضع ، وهذا في الوصف غير صحيح ، لأنّ الرجوليّة وصف منتزع ينتزعه العقل عن الذات وهو الأمر الواقعي ، باعتبار أنّه يقع عليه اسم الرجل ، فيكون مع عدم كونه وصفا حقيقيّا ثابتا في الذات في نفسه متأخّرا عن الوضع ، ودخوله مع الذات في الوضع يقتضي تقدّمه على الوضع وهو محال ،

٤٠٩

لأنّ ما شأنه أن يتأخّر عن الوضع يستحيل أن يتقدّم عليه ، وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه.

وتوهّم أنّ الاستعمال في كلّ من الحقيقة والمجاز ـ كما حقّقه بعض الأعلام ـ يتولّد منه الحمل الذاتي فيدخل العلم في معاني الجوامد بهذا الاعتبار.

يدفعه : أيضا مع أنّ هذا الحمل من عوارض الاستعمال لا من لوازم الوضع ، أنّه لا يجدي في صحّة دخول العلم في مدلول اللفظ إلاّ إذا دخل فيه النسبة وكلّ من طرفيها الموضوع والمحمول ليس كذلك ، لخروج الموضوع وهو المعنى المتصوّر قبل الاستعمال والنسبة عن مدلوله ، الّذي هو المعنى المستعمل فيه المجعول محمولا في القضيّة ، كما يظهر بالتأمّل.

نعم لو اخذ العلم المبحوث عنه العلم التصوّري صحّ فرض دخوله في الوضع في الجوامد أيضا ، على معنى كونها موضوعة لمعانيها من حيث كونها معلومة بالعلم التصوّري ، لأنّ التصوّر لا يعتبر فيه أن يكون متعلّقه النسبة كما هو واضح ، فلا بدّ في تحرير موضوع المسألة بعد ملاحظة الإشكال المذكور من التزام أحد الامور الثلاث : إمّا حمل « العلم » المتنازع في دخوله في مداليل الألفاظ على العلم التصوّري ، أو تخصيص المسألة بالمشتقّات وما ضاهاها في اشتمال مداليلها على نسبة خبريّة أو تقييديّة ، كالمركّبات التامّة والمركّبات الناقصة الموضوعة للنسب التقييديّة ، أو التفصيل بين الجوامد بحمل « العلم » بالقياس إليها على العلم التصوّري والمشتقّات وما شابهها بحمل « العلم » بالإضافة إليها على العلم التصديقي ، وكلامهم بالنسبة إلى هذا المقام غير محرّر ، كما أنّه غير محرّر بالنسبة إلى أنّ « العلم » المبحوث عنه هل هو علم المتكلّم أو علم المخاطب أو علمهما معا ، وإن كان بياناتهم في الأمثلة المتقدّمة وما ذكروه من الثمرتين ـ حسبما تعرفهما ـ يقتضي كون الاعتبار بعلم المخاطب ، وكيف كان فالمعتمد ما نبّهنا عليه من عدم دخول العلم في مداليل الألفاظ بحسب الوضع ، سواء اريد به العلم التصديقي أو التصوّري أو ما يعمّهما ، وسواء اريد به علم المتكلّم أو المخاطب أو ما يعمّهما.

لنا : على ذلك ـ بعد الأصل النافي لتعرّض الواضع لأخذ العلم في وضع

٤١٠

الألفاظ ـ التبادر ، فإنّ المتبادر من الألفاظ بأسرها عند إطلاقاتها معانيها من حيث إنّها امور واقعيّة من دون أن يتبادر معها وصف المعلوميّة بجميع وجوهه ومحتملاته ، لا تفصيلا ولا إجمالا ، لا تبادرا أوّليّا ولا ثانويّا ، وهذا اية عدم دخوله في الوضع أصلا ، هذا مضافا إلى أنّه المركوز في أذهان أهل العرف ، فإنّه لم يعهد أحد في معنى شيء من الألفاظ إلاّ نفس المعنى من حيث إنّه أمر واقعي لا بوصف أنّه معلوم ، بل لم يدخل في ذهن أحد دخول وصف المعلوميّة مع المعنى في وضع اللفظ الدالّ عليه ، كما يكشف عن ذلك ذمّهم تارك المأمور به لجهله مع تمكّنه عن الاستعلام بالفحص اعتذارا بعدم علمه به ، وعدم إذعان أحد منهم ثبوت الواسطة بين المؤمن والكافر ، والعادل والفاسق ، والحلال والحرام ، والطاهر والنجس.

ويدلّ عليه أيضا كلام أئمّة اللغة في ترجمة الألفاظ وضبط معانيها ، لعدم تعرّض أحد منهم لذكر وصف المعلوميّة مع المعاني ، وإنّما اقتصروا في كافّة الألفاظ على أصل المعاني من دون إيماء ولا إشعار بدخول العلم معها في الوضع ، فكان ذلك منهم اتّفاقا على عدم الاعتبار.

واستدلّ أيضا بأنّ مقتضى قواعد الصرف والاشتقاق أنّ المشتقّ هو الذات المتّصف بالمبدأ ، فإذا كان العلم خارجا عن مدلول المبادئ كان خارجا عن المشتقّات أيضا ، هذا مضافا إلى أنّه ليس للقول بالوضع للامور المعلومة مدرك يعتمد عليه ، ولا مستند يلتفت إليه.

نعم ربّما احتمل كون مستنده في الأخبار أنّ المخبر لمّا لم يصحّ له الإخبار إلاّ مع العلم بالموضوع والمحمول ، كان قول القائل : « هذا الماء طاهر » في قوّة « هذا الّذي علم أنّه ماء هو معلوم الطهارة » وفي الإنشاء أنّ الطالب لمّا لم يصحّ له طلب غير المقدور ، والعلم من شرائط القدرة كان قوله : « لا تستعمل النجس » بمنزلة أن يقول : « لا تستعمل ما علمت نجاسته ».

وفيه : مع اختلاف مؤدّاه بالنسبة إلى الخبر والإنشاء ، من حيث إنّ مؤدّاه بالنسبة إلى الخبر اعتبار علم المتكلّم ، وبالنسبة إلى الإنشاء اعتبار علم المخاطب ، ما لا يخفى من الضعف.

٤١١

أمّا بالنسبة إلى الخبر : فلأنّ العلم بالموضوع والمحمول الّذي يتوقّف عليه صحّة الأخبار ، إمّا أن يراد به العلم التصوّري بملاحظة ما تقرّر في محلّه من أنّ تصوّر المحكوم عليه وتصوّر المحكوم به كتصوّر النسبة الحكميّة من شرائط الحكم في القضيّة فهو صحيح ، إلاّ أنّه شرط عقلي للحكم ، ومقتضى كونه شرطا عقليّا اعتبار حصوله في الخارج مقدّما على الحكم ، لا دخوله في مدلول اللفظ الدالّ على موضوع القضيّة ومحمولها.

وبعبارة اخرى : لا ملازمة بين كون تصوّر الموضوع والمحمول شرطا للحكم في القضيّة بحسب نظر العقل وبين دخوله في مدلول اللفظ الدالّ عليهما بحسب الوضع ، وليس على الواضع أن يأخذ العلم التصوّري في وضع الألفاظ ، بمراعاة أنّه يتوقّف عليه الحكم في القضايا ، الّتي تؤخذ هذه الألفاظ في موضوعاتها ومحمولاتها.

أو يراد به العلم التصديقي ، بتقريب : أنّ القضيّة في قولنا : « هذا الماء طاهر » شخصيّة لكون موضوعها الشخص ، ومحمول هذه القضيّة من لوازم الماهيّة الكلّية المائيّة ، والحكم بثبوت ما هو من لوازم الكلّي للمصداق الخارجي يتوقّف على العلم باندراج ذلك المصداق تحت الكلّي ، على معنى العلم بكون هذا الشخص ماء ، فهو مع عدم اطّراده في جميع القضايا وعدم جريانه بالنسبة إلى محمول القضيّة صحيح في نحو هذه القضيّة ، غير أنّ العلم المذكور شرط عقلي لحكم القضيّة ، ومقتضى كونه شرطا عقليّا اعتبار حصوله في الخارج ، لا دخوله في وضع اللفظ الدالّ على موضوع القضيّة ، على معنى عدم الملازمة بين كونه شرطا عقليّا للحكم في القضيّة ، وبين دخوله في مدلول اللفظ المأخوذ في موضوعها بحسب الوضع ، كما عرفت.

هذا مضافا إلى عدم إمكان دخول هذا العلم في وضع اللفظ الدالّ على الموضوع ، سواء فرضت الموضوع هو المشار إليه ، أو مدخول اسم الإشارة ، نظرا إلى أنّ التركيب بين اسم الإشارة ومدخولها الّذي هو نعت أو عطف بيان له ، يتضمّن نسبة تقييديّة تنحلّ إلى النسبة التامّة الخبريّة ، فإنّ قولنا : « هذا الماء » في

٤١٢

قوّة قولنا : « الّذي هو ماء » والعلم المفروض من عوارض هذه النسبة الخارجة عن مدلول كلّ من اسم الإشارة ومدخوله.

وقد يجاب أيضا : بأنّ اعتبار العلم في الخبر لكونه من لوازم صدق الخبر عند المخبر ، لا لدخوله في مدلول اللفظ كما هو المطلوب.

وأمّا بالنسبة إلى الإنشاء : فلأنّ مقدّمة : « إنّ الطالب لا يصحّ له طلب غير المقدور » وإن كانت مسلّمة ، لكون القدرة من شرائط التكليف فلا يتعلّق الطلب إلاّ بالمقدور ، لكن المقدّمة الثانية وهي كون العلم من شرائط القدرة على إطلاقها ليست مسلّمة ، وإنّما يسلّم ذلك في العلم بأصل التكليف ، فإنّ القدرة على امتثال التكليف يتوقّف على العلم به تفصيلا أو إجمالا ، وأمّا العلم بمتعلّق التكليف المعبّر عنه بالمكلّف به فليس ممّا يتوقّف عليه القدرة على الامتثال ، بل إنّما يتوقّف عليه العلم بالامتثال على معنى أنّه أحد شرطي العلم بالامتثال ، فإنّ المكلّف إذا علم بتكليفه بشيء واشتبه هذا الشيء لجهله به بين امور ، فلا بدّ في علمه بامتثال هذا التكليف إمّا من الإتيان بجميع هذه الامور الّتي اشتبه فيها المكلّف به فعلا أو تركا ـ كما هو الحال في الشبهة المحصورة ـ أو من تحصيل العلم بالمكلّف به الواقعي بالفحص على وجه يزول معه الاشتباه ، وكونه شرطا للعلم بالامتثال إنّما يثبت بحكم العقل ، ومقتضاه اعتبار حصوله في الخارج لا دخوله مع المكلّف به في مدلول اللفظ باعتبار الوضع لعدم الملازمة ، وليس على الواضع أيضا أن يراعي العلم في وضع الألفاظ لمجرّد أنّها تؤخذ في القضايا التكليفيّة ، وبمثل هذا يجاب أيضا لو سلّم إطلاق القول بكون العلم من شرائط القدرة ، وهذا معنى ما قيل في الجواب من أنّ اعتبار العلم لامتناع طلب ما لا يطاق لا يوجب دخوله في المدلول كما هو المطلوب ، إذا امتناع التكليف بغير المقدور لا يقتضي اعتبار العلم في الوضع.

وقد يقال : إنّ الألفاظ وإن كانت بحسب الوضع بازاء الامور الواقعيّة من غير مدخليّة للعلم فيها شطرا ولا شرطا ، إلاّ أنّها في خطابات الشارع تنصرف إلى المعلومات.

وبعبارة اخرى : أنّ العلم وإن لم يدخل في مداليل الألفاظ باعتبار لحاظ

٤١٣

الوضع ، إلاّ أنّه يدخل فيها في لحاظ الخطاب ، وهذا أيضا ضعيف ، لأنّ وضع الألفاظ بازاء الامور الواقعيّة يقتضي ظهورها فيها مطلقا حتّى في حيّز الخطابات الشرعيّة ، وانصرافها فيها إلى المعلومات لا بدّ له من موجب ، وهو إمّا العرف على معنى كون المنساق منها حينئذ هو الامور المعلومة لشاهد عرفي ، أو العقل بتوهّم كون الخطاب بغير المعلوم تكليفا بغير المقدور ، أو الشرع بزعم أنّ المستفاد من قوله عليه‌السلام : « الناس في سعة ما لم يعلموا » (١) أو « ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (٢) ونحو ذلك من عمومات البراءة ، كون التكاليف معلّقة على المعلومات ، ولا سبيل إلى شيء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلأنّ انسباق الامور المعلومة عرفا إمّا لطروّ الوضع الجديد العرفي بإزائها.

فيدفعه : بعد الأصل ، كون الوضع الجديد مقطوعا بعدمه ، بعين ما مرّ في نفي الوضع اللغوي.

أو لغلبة إطلاقها في خطابات العرف أو خطابات الشرع عليها.

فيدفعه : أنّ هذه الغلبة ممّا لا أثر له في شيء من الألفاظ بحسب العرف ولا بحسب الشرع ، أو لنهوض الخطاب المتضمّن للتكليف بنفسه قرينة على إرادتها ، فيدفعه : انّ الخطاب ومضمونه لا يعاند الامور الواقعيّة حتّى ينهض صارفا للألفاظ الدالّة عليها إلى المعلومات.

بل الظاهر المنساق منها في الخطابات العرفيّة ليس إلاّ الامور الواقعيّة ، كما يرشد إليه التزامهم عند الجهل بالفحص والسؤال أو الاحتياط بالجمع بين المحتملات ، حتّى إنّ المأمور الجاهل لو ترك الامتثال بترك الأمرين مع إمكانهما أو إمكان أحدهما كان مذموما ، ولم يكن عذره بجهله مقبولا ، وطريقة الشارع في خطاباته أيضا طريقة العرف.

وأمّا الثاني : فلأنّه إنّما يصحّ لو كان العلم من شرائط القدرة على الامتثال ،

__________________

(١) المحاسن : ٤٥٢.

(٢) التوحيد : ٤١٣.

٤١٤

وإنّما يسلّم ذلك في العلم بأصل التكليف ، وأمّا العلم بمتعلّقه فقد عرفت أنّه شرط للعلم بالامتثال ، كما أنّ الاحتياط بالجمع بين المحتملات شرط له أيضا ، فالخطاب بما لا يعلمه المكلّف من الموضوعات مع القدرة على الامتثال وإمكان العلم به ، بالفحص والسؤال أو الاحتياط بالجمع بين المحتملات ، لا تستتبع تكليف ما لا يطاق ولا محذورا اخر ، ليحكم العقل من جهته بدخول العلم في المراد.

وأمّا الثالث : فلأنّ المنساق من الأخبار المذكورة ونظائرها ، إنّما هو العلم بأصل التكليف الحاصل في مفروض المسألة تفصيلا أو إجمالا ، لا العلم بمتعلّقه كما هو واضح.

فالإنصاف ومجانبة الاعتساف ، أنّ العلم كما لا يدخل في مداليل الألفاظ في لحاظ الوضع ، فكذلك لا يدخل فيها في لحاظ الخطاب ، فالقولان بدخوله فيها على أحد الوجهين في الضعف سيّان ، فممّا بيّنّاه يظهر أنّه لا يجدي ما عن بعضهم في إصلاح القول بدخول العلم فيها من تنزيل الخلاف المشهور إلى ما تعلّق به الخطاب الشرعي من الموضوعات ، يزعم كون دخول العلم في مدلولات الألفاظ بحسب الوضع ـ حتّى يكون « الفاسق » اسما لمن علم فسقه و « المؤمن » لمن علم إيمانه وهكذا ـ ممّا لا يقبل النزاع ، ولا يصلح مطرحا للأنظار ، تعليلا : بأنّ عدم مدخليّة العلم في وضع الواضع ظاهر كالشمس ، وإنّما الخلاف فيما تعلّق به الحكم ولم يقدر المكلّف بعد الفحص والبحث على أن يعلمه ، واستظهر حينئذ عدم تعلّق الخطاب به لأصالة البراءة واشتراط التكليف بالعلم ، فإذا تفحّص ولم يعلم حاله يكون خارجا عن الخطاب ، ويتوقّف حكمه على خطاب اخر ، فمن شكّ في أنّه مستطيع إذا لم يقدر على تقويم ماله لعدم المقوّم ونحوه فلا تكليف له ، وكذا من لم يقدر على معرفة المسافة فلا يدخل تحت حكم القصر ، وفي اية النبأ يلحق المجهول حاله بالفاسق للعلّة المنصوصة الّتي هي خطاب اخر لاشتراكهما فيها ، وفي الحلال والحرام يلحق مجهول الحال بالمباح لقولهم عليهم‌السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه » (١) انتهى.

__________________

(١) المحاسن : ٤٩٥.

٤١٥

ثمّ ظاهر هذه العبارة مع ما يرد على التنزيل المذكور من عدم مساعدة أطراف المسألة عليه ، ولا سيّما التعبير عن العنوان « بأنّ الألفاظ هل هي أسام للامور الواقعيّة أو المعلومة » ربّما يوهم كون معقد الخلاف ما بعد الفحص والعجز عن العلم وهو خلاف التحقيق ، فإنّ ثمرة الخلاف على ما ذكروه ـ سواء فرض وقوعه في دخول العلم في المداليل بحسب الوضع أو بحسب الخطاب ـ إنّما تظهر في وجوب الفحص وعدمه ، قال العلاّمة الطباطبائي بعد اختياره القول المشهور :

وممّا يتفرّع على ذلك ، وجوب الفحص والاجتهاد مع الجهل بالحال ، كما لو قال : « صلّ إلى جهة الكعبة » و « اعمل برواية العدل » فإنّه يجب الاجتهاد في تعيين سمت القبلة ، والتفتيش عن عدالة الراوي مع الجهالة ، لإطلاق التكليف وتحقّق القدرة على الامتثال ، ولو كان العلم بالوصف معتبرا في صدق اللفظ لم يجب الفحص والاجتهاد قطعا ، إذا التكليف حينئذ مشروط بتقدّم العلم ، ووجوب البحث معه تحصيل الحاصل (١) انتهى.

ويمكن توجيه العبارة بحمل ما ذكره من الفروع على كونه تفريعا على القول بالامور الواقعيّة ، وقوله : « وإنّما الخلاف فيما تعلّق به الحكم ولم يقدر المكلّف » الخ ، قصور في التأدية.

ومن فروع المسألة أيضا ـ على ما ذكره العلاّمة المذكور ـ اشتراط عدالة الراوي وعدم حجّية خبر مجهول الحال لما عرفت ، من أنّ العادل اسم لمن ثبت له وصف العدالة في نفس الأمر ، والفاسق لمن ثبت له الفسق كذلك ، والمجهول الحال في نفس الأمر إمّا عادل أو فاسق ، وليس واسطة بين العادل والفاسق الواقعيّين ، وإنّما هو واسطة بين معلوم العدالة ومعلوم الفسق ، والحكم بالتثبّت في اية النبأ عند خبر الفاسق يقتضي وجوب التوقّف عند إخبار من له تلك الصفة في الواقع ، فيتوقّف القبول على العلم بانتفائها ، ويجب التوقّف مع العلم بثبوتها أو بالجهل بالحال ، إلى اخر ما ذكره.

__________________

(١) شرح الوافية للسيّد بحر العلوم.

٤١٦

ـ تعليقة ـ

الوضع مسبوق بتصوّر ما وضع له ، أو بتصوّر ما يلزم من تصوّره تصوّر ما وضع له إجمالا ، ويقال له الة الملاحظة ، وقد يطلق الة الملاحظة على الأمر المتصوّر قبل الوضع من حيث إنّه يتصوّر قبله ، سواء كان نفس الموضوع له أو ما يلزم من تصوّره تصوّر الموضوع له إجمالا ، فالوضع باعتبار الة الملاحظة والموضوع له ينقسم عندهم إلى أقسام أربع :

الوضع العامّ والموضوع له العامّ : وهو أن يتصوّر الواضع أمرا عامّا ومفهوما كلّيا ثمّ يضع اللفظ لنفس هذا الأمر العامّ.

والوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ : وهو أن يتصوّر أمرا خاصّا ويضع اللفظ لنفس هذا الأمر الخاصّ.

والوضع العامّ والموضوع له الخاصّ : وهو أن يتصوّر أمرا عامّا ويضع اللفظ لجزئيّاته المندرجة تحته ، على وجه يقع كلّ جزئي في نفسه موضوعا له.

والوضع الخاصّ والموضوع له العامّ : وهو أن يتصوّر أمرا خاصّا وجزئيّا حقيقيّا ويضع اللفظ لأمر عامّ مشترك بينه وبين سائر الجزئيّات.

وربّما خفي الوجه في وصف الوضع في عنوان هذا التقسيم بالعموم والخصوص هل هو لنفسه أو لغيره؟ وهل الموصوف بأحد هذين الوصفين هو الوضع بمعناه المصطلح ـ وهو تعيين اللفظ ـ أو غيره؟ فقد يتوهّم أنّ الوضع هنا يطلق على الة الملاحظة.

٤١٧

بل صريح سيّد الأفاضل في شرحه للوافية كونه اصطلاحا لهم ، حيث قال : وأمّا باعتبار الموضوع له والوضع فينقسم الوضع إلى الوضع الخاصّ والعامّ ، إمّا مع عموم الموضع له أو خصوصه ، وذلك لأنّ المعنى المتصوّر حال الوضع ـ ويسمّى في الاصطلاح وضعا وعنوانا ـ إمّا أن يكون معنى خاصّا ، إلى اخر ما ذكره.

وحينئذ فالمتّصف بالعموم والخصوص هو الة الملاحظة ، فإنّها إمّا أن تكون أمرا عامّا أو خاصّا.

ويشكل ذلك : بأنّ ظاهرهم في عنوان هذا التقسيم إنّما هو تقسيم الوضع لا غير ، وهذا البيان يقتضي كون المقسم هو الة الملاحظة لا الوضع باعتباره والموضوع له.

ويظهر من بعض الأعلام (١) تبعا للمصنّف في مباحث التخصيص في بحث الاستثناء المتعقّب لعمومات متعدّدة ، أنّ الوضع يتّصف بهما تبعا للتصوّر المعتبر فيه من باب وصف الشيء بحال لازمه ، حيث علّل تسمية الوضع عامّا أو خاصّا ، بقوله : لعموم التصوّر المعتبر ولخصوص التصوّر المعتبر فيه.

وقد يحتمل في كلاميهما كون المراد « بالتصوّر » هو المعنى المتصوّر ، أعني الة الملاحظة الّتي هي أيضا كالتصوّر لازمة للوضع ، فوصفه بهما أيضا من باب وصف الشيء بوصف لازمه ، فإسناد أحد الوصفين إليه على أحد هذين الوجهين إسناد مجازي ، لأنّهما يسندان إلى التصوّر أو إلى الة الملاحظة أوّلا وبالذات وعلى وجه الحقيقة ، وإلى الوضع الملزوم لهما ثانيا وبالعرض وعلى وجه المجاز.

ولا يبعد أن يقال : بالنظر إلى ظاهر بعض كلماتهم إنّ الوضع بمعناه المصطلح لنفسه يتّصف بهما ، فإسناد الوصف إليه حقيقي لا أنّه مجازي ، وذلك أنّ الوضع بمعنى تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه يتعلّق باللفظ بإزاء المعنى الموضوع له ، وتعيين اللفظ قد يكون خاصّا بأمر خاصّ لا يتعدّاه إلى غيره ، وقد يكون عامّا له ولغيره من مشاركاته ، فوضع « زيد » خاصّ بمسمّاه الشخصي ، ووضع « ذا » عامّ

__________________

(١) قوانين الاصول ٢٨٧ : ١ ( الطبعة الحجرية ).

٤١٨

له ولغيره من سائر جزئيّات المشار إليه الكلّي ، ولذا يقال : إنّ « ذا » وضع بوضع واحد عامّ لجزئيّات المشار إليه ، وكذلك وضع « الإنسان » بإزاء الحيوان الناطق ، فإنّه ليس خاصّا بزيد بل عامّ له ولسائر الجزئيّات المندرجة تحت ذلك الكلّي ، وإن تعلّق بالكلّي.

ويشكل ذلك أيضا بعدم اطّراده لأنّه لا يتمّ في القسم الرابع ، أعني الوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ، فالأولى جعل لحوقهما الوضع باعتبار عموم الة الملاحظة وخصوصها.

وقد وقع الخلاف في وقع القسم الثالث بعد اتّفاقهم على جوازه عقلا وعلى جواز القسم الأوّل عقلا ووقوعه لغة في أسماء الأجناس وأشباهها ، وعلى جواز القسم الثاني عقلا ووقوعه لغة أيضا في أعلام الأشخاص ، وعلى عدم ثبوت القسم الرابع ، وربّما نفي الإشكال والخلاف في عدم وجوده.

وربّما ادّعي امتناعه ، وعلّل : بأنّ الجزئي لا يقع عنوانا للكلّي والة لملاحظته ، وتوجيهه : أنّ الجزئي عبارة عن الماهيّة مع التشخّص ، والتشخّص إنّما يلحق الماهيّة بواسطة انضمام المشخّصات ، فالماهيّة ما به اشتراك الجزئي مع سائر الجزئيّات ، والمشخّصات ما به امتيازها عن سائر الجزئيّات ، والمحسوس المعائن منه عند الملاحظة إنّما هو المجموع ممّا به الاشتراك وما به الامتياز ، ووقوعه عنوانا للكلّي ـ وهو الماهيّة المشتركة ـ ليوضع لها لفظ فرع على التمييز بين ما به الاشتراك وما به الامتياز ، وهذا لا يتأتّى بمجرّد ملاحظة الجزئي ، فلا يحصل بملاحظته تصوّر الكلّي لا تفصيلا ولا إجمالا ، فيستحيل الوضع بإزائه.

وبعبارة اخرى : أنّ الماهيّة المتحقّقة في الجزئي عبارة عمّا يلتئم من الذاتيّات من الأجناس والفصول ، والمشخّصات المتحقّقة معها من باب العرضيّات ، والجزئي مشتمل عليهما ، ولا يقع عنوانا للكلّي والة لملاحظته إلاّ بعد التمييز بين ذاتيّاته وعرضيّاته ، وهو بمجرّد تصوّر الجزئي غير ممكن ، فلا يحصل تصوّر الكلّي وهو الماهيّة المشتركة من تصوّره ، فيستحيل الوضع له.

٤١٩

وبالجملة ، الكلّي إن أمكن ملاحظته في نفسه فلا حاجة فيه إلى توسيط الجزئي في الملاحظة ليقع عنوانا والة للملاحظة ، والعدول عن ملاحظته في نفسه إلى ملاحظته في ضمن ملاحظة الجزئي ربّما لا يلائم حكمة الواضع الحكيم ، ولا ينتقض ذلك بعكس هذه الصورة ، كما في القسم الثالث لأنّ بملاحظة الكلّي تحصل تصوّر الجزئيّات إجمالا وهو كاف في الوضع ، ويتعيّن الاكتفاء به عن تصوّرها تفصيلا لتعذّره أو تعسّره أو خروجا عن حزازة اللغويّة.

وإن لم يمكن ملاحظته في نفسه ، بأن ينحصر طريق ملاحظته في الجزئي ، كما هو المقصود من جعله عنوانا ، فلا يحصل ملاحظته بملاحظة الجزئي ، لعدم إمكان الفرق بين ذاتيّاته وعرضيّاته بمجرّد ملاحظته.

وبما قرّرناه يندفع ما عساه يقال : من أنّ ما ذكرته في وجه الاستحالة إنّما يتمّ على تقدير واضعيّة البشر ، وأمّا على تقدير واضعيّة الواجب تعالى فلا ، لأنّه لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، فلا استحالة في جعل الجزئي عنوانا للكلّي في حقّه تعالى ، بحيث يلزم من ملاحظته تعالى للجزئي تصوّره ، فإنّ الكلّي في نفسه أيضا ممّا لا يعزب عن علمه ، فإحاطة علمه تعالى به ممّا يغني عن جعل الجزئي الة لملاحظته ، فليتدبّر لئلاّ يختلط الأمر.

وكيف كان ، فهذا المقام ممّا لا جدوى في التعرّض لتحقيقه ، فالأولى صرف زمام الكلام إلى موضع الخلاف وهو القسم الثالث ، فالقدماء من أهل العربيّة والاصول أنكروا ثبوت ذلك أيضا ، خلافا لأكثر المتأخّرين فأثبتوه في الضمائر والموصولات وأسماء الإشارة والحروف بأسرها ، والأفعال الناقصة بل التامّة باعتبار النسبة الفاعليّة أو الطلبيّة ، والمشتقّات الاسميّة بأجمعها عند جماعة منهم.

وقد ذكر سيّد الأفاضل ضابطا كلّيا يندرج فيه جميع هذه المذكورات وغيرها ممّا لم يذكر إن كان ، وهو كلّ مستعمل في غير منحصر لأمر مشترك لم يستعمل فيه فقالوا : بأنّ الوضع فيها عامّ والموضوع له خاصّ ، على معنى أنّ الواضع لاحظ كلّي المفرد المذكّر الغائب المتقدّم ذكره ، وكلّي من يحكي عن نفسه ، وكلّي المفرد

٤٢٠