تعليقة على معالم الاصول - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٤٤٣

وثانيهما : ما لم يتعدّد فيه الوضع ، فسمّاه بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، ولعلّه أراد به التفرّد في الطريقة والاصطلاح ، وإلاّ فلو أراد به إصلاح كلام القوم وتقسيمهم فهو لا يتحمّله جدّا.

ومنهم من احتمل اندراجها في المشترك ، بدعوى : أنّه وإن تضمّن تعدّد الأوضاع لكنّه أعمّ من التعدّد الحقيقي كما في المشترك المعهود ، والمتعدّد الانحلالي كما في هذه الألفاظ ، فإنّ وضعها وإن كان عامّا لكنّه لتعلّقه بالمتعدّد ينحلّ إلى أوضاع متعدّدة على حسب تعدّد الخصوصيّات ، ويشكل ذلك بعدم مساعدة كلامهم عليه أيضا. نعم لو ثبت في كلامهم إطلاق المشترك على هذه الألفاظ كان لذلك وجه ، غير أنّ هذا الإطلاق غير معهود منهم.

ولا يخفى أنّ هذه الوجوه في دفع الإشكال كأصل الإشكال مبنيّة على الغافلة عن حقيقة مرادهم في المقام ، وعدم العثور على جهة تقسيمهم ، فإنّ الألفاظ المذكورة مع دخولها في المقسم داخلة في النوع الأوّل من أنواعه على كلا المذهبين ، ولا قصور في التقسيم أصلا ورأسا ، ولذا ترى أنّ العلاّمة في النهاية قسّم المعنى في هذا النوع إلى ما يكون المعنى فيه جزئيّا فمثّل له بالعلم والمضمر والمبهم وغير ذلك ، وما يكون كلّيا.

ويقرب من ذلك ما صنع في التهذيب وقرّره العميدي في شرحه ، وإن اقتصر فيه على ذكر العلم والمضمر ، فالألفاظ المذكورة على مقتضى كلامهم مندرجة في هذا النوع كالعلم ، وإن حصل الفرق بينه وبينها في أنّه قابل لأن يتحقّق فيه الحيثيّات المأخوذة في سائر الأنواع وأقسام النوع الرابع ، من المشترك والمنقول والمرتجل والحقيقة والمجاز ، فيندرج في كلّ منها إذا اخذت فيه غير الحيثيّة المأخوذة في النوع الأوّل بخلافها ، فإنّها لا يوجد فيها إلاّ الحيثيّة المأخوذة في هذا النوع ، وليست قابلة لأن يطرأها حيثيّات أقسام النوع الرابع ، ضرورة أنّ الجزئيّات الواقعة موضوعا لها أو مستعملا فيها وإن كانت امورا متكثّرة في حدّ ذواتها غير أنّه لا عبرة بهذا التكثّر ، بل هو بمقتضى طريقتهم في حكم الاتّحاد ، إذ قد عرفت أنّ هذا التقسيم إنّما هو باعتبار نسبة الألفاظ إلى المعاني.

٢٨١

فالمقسم في الحقيقة هو النسبة الحاصلة فيما بين اللفظ والمعنى ، واتّحاد اللفظ أو المعنى ، أو كليهما أو تعدّدهما وجوه وحيثيّات لها ، واختلاف الأنواع إنّما يحصل باختلاف الوجوه والحيثيّات ، فالعبرة في الاتّحاد والتكثّر ـ عند التحقيق ـ باتّحاد النسبة وتكثّرها ، وظاهر أنّ حصولها فيما بين الألفاظ والمعاني ليس لذواتها ، لعدم كون دلالات الألفاظ للمناسبات الذاتيّة بل إنّما هو باعتبار منشأ لغوي راجع إلى الواضع ، وليس إلاّ الوضع وهو إمّا شخصي أو نوعي في الحقائق أو نوعي في المجازات ، وهو فيما بين اللفظ والمعنى إمّا متكثّر بتكثّر اللفظ أو المعنى أو هما معا أو متّحد وإن كان في أحدهما أو كليهما نحو تكثّر.

ولا ريب أنّ تكثّر المنشأ واتّحاده بأحد الوجوه يوجب تكثّر النسبة الحاصلة بين اللفظ والمعنى واتّحادها ، وهما يوجبان وصف اللفظ أو المعنى أو هما معا بالتكثّر والاتّحاد بهذا الاعتبار من غير نظر إلى ما فيهما لذاتهما من التكثّر ، فالعبرة في تكثّر اللفظ والمعنى واتّحادهما بتكثّر النسبة واتّحادها الناشئين عن تكثّر المنشأ واتّحاده.

وبالجملة : فكما أنّ النسبة يتبع الوضع في ذاتها فكذلك يتبعه في وصفي التكثّر والاتّحاد ، وقضيّة ذلك كون العبرة في اتّحاد اللفظ والمعنى بما يلحقهما بهذا الاعتبار ، وإن كانا متكثّرين لا بهذا الاعتبار.

وإن شئت قلت : إنّ اتّحاد اللفظ والمعنى على قسمين حقيقي وحكمي ، والمراد بالثاني ما لحقهما باعتبار اتّحاد النسبة المتولّد عن اتّحاد المنشأ ، وهو الوضع بأحد الوجوه الثلاث ، وهذا هو الوجه في عدم أخذهم الألفاظ المبحوث عنها في أقسام متكثّر المعنى ، ولازمه اندراجها في متّحد المعنى ، كما أدرجها فيه العلاّمة على ما عرفت.

وممّا يفصح عن ذلك أيضا عدم التفاتهم في أقسام متكثّر المعنى إلى اللفظ المتّحد إذا تكثّر معانيه المجازيّة ، وأخذ من حيث إضافته إليها من دون انضمام معناه الحقيقي إليها.

٢٨٢

ولا ريب أنّه بهذا الاعتبار من أقسام متكثّر المعنى ، بحكم التصوير العقلي فهو عقلا خامس أقسامه ولكنّهم لم يعتبروه من أقسامه ، فإمّا أن يقال : بأنّهم لم يتفطّنوا بوجود هذا القسم باعتبار الإضافة المذكورة ، أو يقال : إنّ نظرهم إلى ما لحقه مع تكثّره الذاتي ، تكثّر باعتبار تكثّر النسبة المتولّد عن تكثّر الوضع المتعلّق باللفظ ، وما لم يلحقه التكثّر بهذا الاعتبار فهو جار مجرى المتّحد عندهم وإن تكثّر ذاتا ، والأوّل باطل جدّا ، فتعيّن الثاني.

وممّا يفصح عنه أيضا ظهور كون مثل « قائم » و « ناصر » و « ضارب » من باب المتّحد هيئة والمتكثّر مادّة عندهم ، ومثل « ضرب » مصدرا و « ضارب » و « مضروب » بعكسه مع أنّ الهيئة في الأوّل والمادّة في الثاني عند التحقيق متكثّرتان بحسب الشخص ، فلا وجه لعدّ هذا النحو من التكثّر من باب الاتّحاد إلاّ اتّحاد النسبة الحاصل من اتّحاد الوضع النوعي المتعلّق بنوع الهيئة أو نوع المادّة كما لا يخفى.

والحاصل : أنّه بعد ما اتّضح كون المقسم في هذا التقسيم هو النسبة الحاصلة بين اللفظ والمعنى باعتبار الوضع ، ولو كان هو الوضع النوعي المجازي ، يتّضح أنّ العبرة في الاتّحاد والتكثّر بما حصل فيها باعتبار اتّحاد الوضع وتكثّره ، واللفظ والمعنى أيضا يتّصفان بهما بهذا الاعتبار فالنسبة حيثما تكثّرت باعتبار تكثّر الوضع يلزمه التكثّر في اللفظ أو المعنى أو هما معا لذاتهما ، بخلاف ما لو اتّحدت باعتبار اتّحاد الوضع ، فإنّها حينئذ لا يلزمها اتّحاد اللفظ أو المعنى ذاتا ، بل هما على تقدير تكثّرهما الذاتي يجريان مجرى المتّحد.

وهذا هو سرّ ما عرفته عن النهاية والمنية من كون هذا التقسيم باعتبار نسبة الألفاظ إلى معانيها.

فبذلك يندفع ما عساه يورد على التقسيم ، من عدم شمولاه لجملة كثيرة من الألفاظ ، وهي ما تكثّر كلّ من اللفظ والمعنى مع اتّحاد الوضع في الجميع « كضارب » و « قاتل » و « ناصر » ونحوها ، من أسماء الفاعلين وغيرها من أنواع

٢٨٣

المشتقّات فإنّها ليست من متّحد اللفظ والمعنى لما في كلّ منهما من التعدّد ، ولا من المتبائنة لظهور كلامهم في اعتبار تعدّد الوضع فيها وهو فيما ذكر واحد ، وعدم كونها من المترادفة وأقسام متكثّر المعنى واضح.

وجه الاندفاع ما بيّنّاه وحاصله : إنّها إن اخذت باعتبار موادّها فمن المتبائنة ، وإن اخذت باعتبار هياتها فمن المتّحدة كما هو مقتضى ما ذكرناه من الضابط ، نظرا إلى أنّ لها باعتباري المادّة والهيئة وضعين ، وفي مثل « ضرب » و « ضارب » و « مضروب » ينعكس الأمر كما أشرنا إليه.

وبالجملة : فما عرفت من ضابط الاتّحاد والتكثّر يحسم جميع موادّ الإشكال ويسلم تقسيم القوم عن القصور والاختلال ، هذا واغتنم فإنّه من مواهب الملك المتعال.

٢٨٤

ـ تعليقة ـ

الحقيقة فعلية من الحقّ ، بمعنى الثابت المقابل للباطل بمعنى المعدوم ، والفعيل هنا إمّا بمعنى الفاعل « كعليم » و « رحيم » أو بمعنى المفعول « كقتيل » و « جريح » فإطلاقه على اللفظ المخصوص على الأوّل لكونه ثابتا في محلّه وهو معناه الموضوع له ، وعلى الثاني لكونه مثبتا في المحلّ و « تاؤها » ناقلة للدلالة على انتقالها عن الوصفيّة إلى الاسميّة.

والمجاز مصدر ميمي أو اسم مكان من الجواز بمعنى العبور ، وهو انتقال الشيء عن مكان إلى اخر ، فاطلق على اللفظ المخصوص لانتقاله عن مكانه الأصلي وهو معناه الموضوع له إلى غيره ، والحقيقة على معناه الاصطلاحي في أصحّ التعاريف وأسلمها : « هو اللفظ المستعمل فيما وضع له من حيث هو كذلك ».

واللفظ من التعريف بمنزلة جنسه ، يشمل المفرد والمركّب على القول بثبوت الوضع فيه ، وإيثاره على الكلمة ـ كما في كلام أهل البيان ـ لأجل ذلك ، جمعا بين الحقيقة في المفردات والحقيقة في المركّبات بتعريف واحد ، فإنّه أوفق بمباحث الفنّ حيث لا يقصد فيها إلاّ استعلام حال خطاب الشرع ، كما أنّ التفريق بينهما بتعريفين ـ كما صنعه أهل البيان ـ أنسب بمباحثهم كما هو واضح.

وإيثاره على الاستعمال على خلاف ما في كلام بعضهم من تعريفه : باستعمال اللفظ ... الخ ، تنبيه على أنّ الحقيقة عنوان يلحق اللفظ دون الاستعمال الّذي هو من

٢٨٥

لوازمها ، كما هو المتبادر في إطلاقات أهل الفنّ ، ولأنّه لا يصحّ حملها على الاستعمال ولا وصفه بها إلاّ بتوسّط « ياء » النسبة ، ومثله ينهض دليلا على المغايرة ، وأيضا فإنّها كالمجاز أحد أقسام التقسيم السابق الّذي مقسمه اللفظ لا غير ، وتعدّد الاصطلاح غير ثابت فلا وجه لتعريفهما بالاستعمال إلاّ على إرادة التوسّع أو التعريف باللازم.

وعلى ما قرّرناه فالاستعمال فصل يحترز به عمّا وضع لمعنى ولم يتّفق استعماله فيه ، فإنّه لا يعدّ عندهم حقيقة ولا مجازا ، كما أنّ الوضع من فصوله يحترز به عن المجازات والأغلاط ، والحيثيّة فصل أخير له يحترز به عن المنقول إذا استعمله الناقل في معناه المنقول منه لمناسبته له ، أو استعمله أهل اللغة أو العرف العامّ في معناه المنقول إليه كذلك ، كالصلاة بالقياس إلى الدعاء على الأوّل ، والأركان المخصوصة على الثاني ، فإنّه من المجاز على التقديرين ولا يخرج عن تعريف الحقيقة إلاّ بقيد الحيثيّة ، وكما يخرج به ذلك فكذلك يخرج به المشترك إذا استعمل في أحد معنييه لمناسبة الاخر ، فإنّه جائز ومجاز في الفرض ولا يخرج إلاّ بهذا القيد.

وفي كلام كثير منهم مكان الحيثيّة التقييد « باصطلاح به التخاطب » ظرفا للوضع احترازا عن المنقول حسبما ذكرناه ، وهذا وإن كان ينهض بإخراجه لكنّه يقصر عن إخراج المشترك على الفرض المذكور كما لا يخفى. ومنهم من جمع بين القيدين دفعا للنقضين.

لكنّ الأولى بعد ما عرفت من كفاية الحيثيّة في دفعهما معا هو الاكتفاء بها ، حذرا عن التطويل المرغوب عنه في التعاريف ، إلاّ أن يقال : بأنّ الغرض من هذا القيد هو الاحتراز عن المنقول الواقع في لسان الناقلين على المنقول منه لوضعه الثابت له عند المصطلحين به ، لا لمناسبته ، أو في لسانهم على المنقول إليه لما له من الوضع عند الناقلين لا لأجل المناسبة ، فإنّه لا يعدّ حقيقة في هذا اللسان وإن كان حقيقة في لسان اخر وليس ببعيد ، فحينئذ لا بدّ من اعتبار القيدين.

٢٨٦

وبمقايسة ما ذكر يعلم تعريف المجاز أيضا ، فإنّه : « اللفظ المستعمل في خلاف ما وضع له لعلاقة » وفائدة اللفظ والاستعمال قد علمت ممّا مرّ ، وقيد « الخلاف » احتراز عن الحقيقة ، كما إنّ قيد « العلاقة » احتراز عن الغلط ، وكما يحترز بها عن ذلك فكذلك يحترز بها عن المنقول إذا استعمله الناقل في وضعه الأوّل ، أو استعمله أهل اللغة أو العرف في وضعه الثاني ، فإنّه على الاعتبارين استعمال في خلاف ما وضع له في الجملة وليس بمجاز لعدم كون الاستعمال لعلاقة ، وهذا وإن كان يخرج بالحيثيّة أيضا لو اعتبرناها لكنّ الغلط لا يخرج إلاّ بالعلاقة ، والجمع بينهما تطويل فالمتعيّن الاكتفاء بالعلاقة.

ثمّ يرد على التعريفين إشكالات :

أحدها : أنّ الوضع على ما صرّحوا به شخصي ونوعي ، والثاني كما صرّحوا به ثابت في المجازات كما أنّه ثابت في الحقائق أيضا ، فالوضع المأخوذ في التعريفين إن اريد به خصوص الشخصي انتقض عكس الحقيقة وطرد المجاز بالحقائق الموضوعة بالنوع كالمشتقّات اسميّة وفعليّة ، والمركّبات على القول بوضع النوع فيها ، وإن اريد به النوعي بالخصوص انتقض العكس والطرد في كلّ منهما ، أمّا عكس الأوّل وطرد الثاني فبالحقائق الموضوعة بالشخص كأسماء الأجناس وأعلامها والمبهمات والأعلام الشخصيّة والحروف ، أمّا طرد الأوّل وعكس الثاني فبالمجازات كلاّ لثبوت الوضع فيها نوعا ، وإن اريد به ما يعمّ القسمين انتقض طرد الأوّل وعكس الثاني بالمجازات جميعها ، بل لا يبقى لتعريف المجاز مصداق ، إذ لا مجاز يكون مستعملا في خلاف ما وضع له بالمعنى الأعمّ على فرض ثبوت الوضع فيها نوعا.

ويدفعه : اختيار الشقّ الأخير وعدم منافاته لوضع النوع بالمعنى الثابت في المجازات ، فإنّ الوضع في التعريفين محمول على معناه الحقيقي وإطلاقه على ما ثبت في المجازات مجازي لا يصرف إليه إطلاق التعريف.

وتوضيحه : أنّ الوضع قد يطلق على ما تعلّق بمادّة مخصوصة في ضمن هيئة

٢٨٧

مخصوصة ، على معنى كون الخصوصيّة ملحوظة ومعتبرة في كلّ من المادة والهيئة ، كأسماء الأجناس وأعلامها وغيرها ممّا ذكر سابقا ، وهذا ما يوصف عندهم « بالشخصي » لكون المتعلّق من حيث المادّة والهيئة شخصا.

وقد يطلق على ما تعلّق بهيئة مخصوصة معرّاة عن مادّة مخصوصة ، على معنى كون الخصوصيّة ملحوظة ومعتبرة في جانب الهيئة وملغاة في جانب المادّة ، كما في المشتقّات من نحو « فاعل » و « مفعول » و « فعيل » و « فعل » و « إفعل » باعتبار أنّها هيئات مخصوصة.

وقد يطلق على ما تعلّق بمادّة مخصوصة معرّاة عن الهيئة المخصوصة ، على معنى اعتبار الخصوصيّة في جانب المادّة وإلغائها في جانب الهيئة ، كما في مبادئ المشتقّات على ما نراه من كون الموضوع فيها للحدث المخصوص ، هو الحروف المخصوصة المرتّبة من حيث التقديم والتأخير المعرّاة عن الهيئة المخصوصة ، الحاصلة باعتبار انضمام الحركات والسكنات إليها ، فإنّ حروف « ض ر ب » بهذا الترتيب في مشتقّات « الضرب » لا بشرط كونها في ضمن خصوص هيئة « فاعل » أو « مفعول » أو « فعل » أو « إفعل » موضوعة للحدث المخصوص ، المعبّر عنه بإمساس جسم لجسم حيوان على وجه يستتبع التألّم ، وهذان يقيّدان عندهم « بالنوعي » لكون المتعلّق باعتبار إلغاء الخصوصيّة في أحد الجانبين نوعا شاملا لجميع خصوصيّاته. وقد يقال عليهما الشخصي أيضا ، لمراعاة الخصوصيّة المعتبرة في الجانب الاخر ، فإنّها من هذه الجهة شخص وإن كانت باعتبار تقوّمها بالجهة المطلقة تصير نوعا ، فيختلف الحال بالاعتبار.

وقد يطلق على ما تعلّق بما لم يلاحظ معه هيئة ولا مادّة مخصوصة كما في المجازات ، فإنّ الثابت فيها ليس إلاّ ترخيص الواضع باستعمال كلّ لفظ موضوع فيما يناسب معناه الموضوع له ، ويقال عليه « الوضع النوعي » توسّعا ، أمّا كونه « وضعا » فلأنّ الواضع بترخيصه كأنّه عيّن كلّ لفظ بإزاء معناه المجازي ، وأمّا كونه « نوعيّا » فلتعلّقه بما لم يؤخذ معه خصوصيّة أصلا فيكون من قبيل النوع العالي ،

٢٨٨

ووجه كون الإطلاق توسّعا فلأنّ الوضع عندهم تعيين وتخصيص ، وهذا يقتضي اعتبار الخصوصيّة بإحدى الجهات المتقدّمة ، فإنّ التعيين يقتضي محلاّ معيّنا ، والمحلّ لا يتعيّن إلاّ بالخصوصيّة ، ومع عدم اعتبار الخصوصيّة لا تعيّن للمحلّ ، فلا يتحقّق بالقياس إليه تعيين ، فالمفروض شبه تعيين لا أنّه تعيين على الحقيقة ، فيكون الإطلاق بالنسبة إليه مجازيّا ، والمأخوذ في التعريفين هو الوضع بالمعنى الحقيقي الشامل لجميع الأقسام الثلاث الاول ، والوضع بهذا المعنى ثابت في الحقائق ومنتف في المجازات ، وانتفاؤه لا ينافي ثبوت الوضع فيها بمعناه المجازي فلا إشكال إذن في التعريفين.

وثانيها : أنّ اللفظ المأخوذ فيهما إن أراد به التامّ ، وهو المجموع المركّب من المادّة والهيئة اللتين هما جزان منه ، انتقض العكس بخروج الموضوعات النوعيّة مادّة وهيئة كما في المشتقّات ، لأنّ الوضع فيها وكذلك الاستعمال متعلّق بالجزئين والجزء ليس بلفظ بهذا المعنى ، وإن اريد به ما يعمّ المجموع وكلّ جزء يلزم أخذ المجاز في التعريف بلا قرينة موضحة ، لأنّ اللفظ مجاز في المعنى العامّ لكونه حقيقة في المجموع خاصّة.

ويمكن دفعه أوّلا : باختيار الشقّ الثاني ومنع الملازمة ، لمنع اختصاص اللفظ في عرفهم بالمجموع المركّب ، بل هو على ما يساعد عليه التتبّع في تضاعيف عباراتهم اصطلاح عندهم في الأعمّ ، فكلّ من الهيئة والمادّة أيضا لفظ حقيقة.

وثانيا : باختيار الشقّ الثاني ومنع الملازمة أيضا ، فإنّها إنّما تسلّم إذا فرض متعلّق الوضع في الهيئات الهيئة المعرّاة عن المادّة رأسا مقيّدة ومطلقة ، على معنى عدم اعتبار المادّة معها مطلقا ، وفي الموادّ المادّة المعرّاة عن الهيئة رأسا مقيّدة ومطلقة ، على معنى عدم اعتبار الهيئة معها مطلقا ، والالتزام بذلك ليس بلازم ، لأنّ القدر المسلّم في وضع الهئية عدم اعتبار مادّة مخصوصة معها ، وفي وضع المادّة عدم اعتبار هيئة مخصوصة معها ، ومرجعه إلى إلغاء الخصوصيّتين في كلّ من الوضعين ، وهو لا يلازم إلغاء المادّة في الأوّل والهيئة في الثاني رأسا ، فلم لا يجوز

٢٨٩

تعلّق الوضع في الأوّل بالهيئة الخاصّة مقيّدة بالمادّة المطلقة ، وفي الثاني بالمادّة الخاصّة مقيّدة بالهيئة المطلقة.

وإن شئت فقل : إنّ متعلّق الوضعين المجموع المركّب من الهيئة الخاصّة والمادّة المطلقة ، والمجموع المركّب من المادّة الخاصّة والهيئة المطلقة ، والمفروض أنّ اللفظ هو المجموع المركّب وهو حاصل في الموضوعات النوعيّة.

فإن قلت : هذا على فرض تسليمه باعتبار الوضع يتخلّف عنه الاستعمال ، لأنّه لا يقع في موارده إلاّ على المجموع من الخصوصيّتين « كضارب » ونحوه فإنّه المستعمل ، وهذا على الفرض المذكور ليس بمورد شيء من وضعي الهيئة والمادّة.

قلت : اعتبار الخصوصيّة في كلّ من الجانبين لإفادة ما يخصّها من المعنيين ، ولا مدخليّة لخصوصيّة المادّة في إفادة الهيئة معناها المختصّ بها ، كما لا مدخليّة لخصوصيّة الهيئة في إفادة ما يختصّ بها من المعنى ، فقيد كلّ من حيث إنّه قيد لها يعتبر في لحاظ استعمالها مطلقا ، وإن كان يعتبر لا بهذه الحيثيّة في لحاظ استعماله لإفادة معنى نفسه بقيد الخصوصيّة ، فإنّ كلّ خاصّ يتضمّن الخاصّ وكلّ مقيّد يتضمّن المقيّد ، والاستعمال استفعال من العمل ، ومعناه أن يطلب المتكلّم من اللفظ إفادة معناه المختصّ به ، فلم لا يجوز أن يطلب عند إطلاق « ضارب » إفادة ما يخصّ الهيئة منها مقيّدة بالمادّة المطلقة المتحقّقة في ضمن هذه المادّة المخصوصة ، وإفادة ما يخصّ المادّة منها مقيّدة بالهيئة المطلقة المتحقّقة في ضمن هذه الهيئة المخصوصة ، فالاستعمال واقع في الحقيقة على ما وقع عليه الوضع ، وإن كان المحسوس عند السمع ما اشتمل على الخصوصيّتين. فتأمّل جيّدا.

وثالثها : أنّ قيد « الوضع » في التعريفين ممّا يخلّ بعكسهما بالنسبة إلى الحقائق التعيّنيّة والمشتركات اللفظيّة والمبهمات والحروف والأفعال ، بناء على أنّه عبارة عن تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه ، فبقيد « التعيين » يخرج ما لا تعيين فيه كالاولى ، وبقيد « الدلالة على المعنى بنفسه » البواقي ، لكون الدلالة في الكلّ بمعونة الخارج من قيود لفظيّة أو معنويّة ، وهذا الإشكال إنّما يرد هنا لوروده على تعريف

٢٩٠

الوضع ، ويندفع هنا باندفاعه عنه وللتعرّض له محلّ اخر يأتي ، وتعرف أنّه غير وارد. ثمّ إنّ في المقام فوائد تتعلّق بالحقيقة والمجاز.

الاولى : أنّ الحقيقة والمجاز قد يلحقان اللفظ الموضوع بواسطة التصرّف في نفسه ويسمّى المجاز حينئذ « أصليّا » ويجري ذلك في أسماء الأجناس ، كما في الأسد للرجل ، وفي الأسماء المشتقّة كما في اسم الفاعل المراد منه معنى المفعول ، واسم المفعول المراد منه معنى الفاعل « كدافق » و « مستور » وفي الأفعال أيضا إذا اريد منها خلاف ما وضع له صيغها كفعلي الماضي والمضارع إذا اريد من الأوّل نسبة الحدث إلى فاعل مّا مجرّدة عن الزمان أو مقترنة بزمان غير ماض ، ومن الثاني نسبة مجرّدة أو مقترنة بغير زمان الحال على ما هو أصحّ الأقوال فيه ، وفي الحروف أيضا كلفظة « في » بمعنى السببيّة و « مع » ولفظة « إلى » بمعنى « مع » وهكذا.

وقد يلحقانه بواسطة التصرّف فيما هو من متعلّقاته ويسمّى المجاز حينئذ « تبعيّا » ويوجد ذلك في المشتقّات اسميّة وفعليّة وفي الحروف أيضا ، أمّا في الاولى فبتطرّق الوصف إلى صيغتيهما باعتبار تطرّقه إلى ما اشتقّا منه « كقاتل » و « قتل » في الاستعارة للضرب الشديد مثلا ، وأمّا في الثانية فبأن يدخل الحرف بمعناه الموضوع له فيما ليس بمدخوله الواقعي لعلاقة بينه وبين المدخول الواقعي ، كما في [ قوله تعالى : ] ( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً )(١) فإنّ « اللام » للتعليل ، والعداوة والحزن ليسا بما هو علّة غائيّة في الواقع حسبما لاحظه ال فرعون ، بل العلّة الغائيّة في نظرهم هي المحبّة والتبنّي ، لكن شبّها بالعلّة الغائيّة لما فيهما من مشاركتهما لها في الترتّب الخارجي ، فأدخل عليهما ما هو من خواصّ المشبّه به.

ولا يخفى عليك أنّ هذا ليس مجازا بالمعنى المصطلح عليه لا في الحرف ولا في مدخوله. نعم هو مجاز بالمعنى اللغوي ، لأنّه جاوز محلّه الأصلي ، وهو ما كان ينبغي مدخولا له إلى غيره ، وهو الواقع مدخوله فعلا.

__________________

(١) القصص : ٨.

٢٩١

فبجميع ما ذكر يعلم أنّ ما في نهاية العلاّمة (١) من أنّ الحرف لا يدخل فيه المجاز بالذات ، لعدم استقلاله بالمفهوميّة وإنّما يفيد مع انضمامه إلى غيره ، فإن ضمّ إلى ما ينبغي ضمّه إليه فلا مجاز ، وإن ضمّ إلى ما لا ينبغي ضمّه إليه كان مجازا في التركيب لا في المفرد ، ليس بسديد ، إذ قد عرفت دخوله في المجاز لذاته أيضا ، بل هو الشائع من مجازاته.

وأضعف منه ما قيل بالقياس إلى الفعل من أنّه : « دالّ على ثبوت شيء لموضوع غير معيّن في زمان معيّن » فهو مركّب من المصدر والزمان والنسبة ، فما لم يدخل المجاز في المصدر استحال دخوله في الفعل الّذي لا يفيد إلاّ ثبوت ذلك المصدر لشيء مّا ، ولذا تنظّر فيه العلاّمة تعليلا بأنّ مجازيّة المركّب لا تنحصر في مفرد بعينه ، فجاز كون الفعل مجازا باعتبار صيغته بأن يدلّ وضعا على زمان ماض ، ويستعمل في المستقبل مجازا وليس في المشتقّ منه ... الخ (٢).

ومنه يظهر ضعف ما قيل أيضا في المشتقّ من أنّه ما لم يتطرّق المجاز إلى المشتقّ منه لم يتطرّق إلى المشتقّ الّذي لا معنى له إلاّ أنّه أمر مّا حصل له المشتقّ منه فإذن المجاز في الحقيقة إنّما هو في أسماء الأجناس ، ولذا اعترض عليه العلاّمة (٣) أيضا بمثل ما مرّ ، بقوله : إنّ المشتقّ مركّب من المشتقّ منه ومن صيغة خاصّة تدلّ على الفاعليّة والمفعوليّة ، فجاز أن يكون المجاز في الصيغة.

وأمّا ما في كلام بعض الأعلام (٤) من أنّ الأفعال والحروف فالحقيقة والمجاز فيهما إنّما هو بملاحظة متعلّقاتهما وبتبعيّتها كما في « نطقت الحال » و ( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا ) هذا بحسب الموادّ. وأمّا الهيئة فقد يتّصف الفعل بالحقيقة والمجاز والاشتراك والنقل ، كالماضي للإخبار والإنشاء ، والمضارع للحال والاستقبال ، والأمر للوجوب والندب.

ففيه : أيضا شيء من الضعف ، فإنّ قوله : « وأمّا الهيئة » وإن كان يصرفه العبارة

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ٢٥ ( مخطوط ).

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) قوانين الاصول : ١.

٢٩٢

المتقدّمة عليه عمّا هي ظاهرة فيه ويدفع عنها الحزازة بالنسبة إلى الفعل ، لكنّه لقصورها عن دفعها عنها بالقياس إلى الحرف موضع مناقشة ، بعد ملاحظة ما ذكرناه من عدم انحصار المجاز اللاحق للحرف في التبعي.

الثانية : قد علم ممّا سبق أنّ الحقيقة والمجاز يستلزمان الوضع ، فهما باعتبار انتسابهما إلى ما نسب إليه الواضع ينقسمان إلى أقسام ، فالحقيقة إلى اللغويّة والعرفيّة والشرعيّة ، كما أنّ المجاز إلى اللغوي والعرفي والشرعي ، فالحقيقة اللغويّة على ما في كلامهم ما كان واضعه من أهل اللغة ، وهل المعتبر فيها المعاني الأصليّة المهجورة « كالدابّة » المشتقّة من الدبيب لكلّ ما يدبّ على الأرض و « القارورة » لما يستقرّ فيه الشيء ، و « الغائط » للمكان المطمئنّ ، أو المعاني الأصليّة الثابتة كمعاني الأرض والسماء والماء ، أو المعاني الأصليّة مهجورة كانت أو ثابتة؟

والّذي يستفاد من تضاعيف كلماتهم تعيّن الأخير ، فيعتبر في الحقيقة اللغويّة كون وضعها أصليّا وإن لم يكن المعنى باقيا بالفعل ، وهل المعتبر في الوضع الأصلي عدم كونه مسبوقا بوضع اخر أصلا. كما استظهره السيّد في شرحه للوافية من كلام الاصوليّين وعلماء البيان ، أو المعتبر فيه ألايكون مسبوقا بجميع أوضاع اللفظ وإن تقدّم عليه بعضها ، كما استظهره فيه من بعضهم ثمّ استبعده بقوله : وهو بعيد جدّا وجهان أجودهما الثاني فالاستبعاد في محلّه ، ضرورة أنّ الوضع المتأخّر إن كان من أهل العرف فهو وضع جديد مقابل عندهم للوضع اللغوي على ما هو المصرّح به في كلامهم ، فكيف يكون اللفظ من جهته حقيقة لغويّة.

وإن كان من أهل اللغة فهو أيضا وضع أصلي ، إذ الوضع الأصلي ما لم يكن طارئا من غير أهل اللغة ، ولا يعتبر فيه كونه واحدا فقد يتعدّد ويكون اللفظ معه مشتركا لغويّا ، سواء حصل الوضعان في زمان واحد من شخص واحد ، أو شخصين أو في زمانين من واحد أو اثنين ، فأوضاع اللفظ لو اريد بها ما كانت بأجمعها من هذا القبيل فتخصيص الأصلي منها بما لم يكن مسبوقا بالجميع غير

٢٩٣

سديد ، كما لا يخفى ، ولو اريد بها ما عدا ذلك بأن يفرض لفظ تطرق إليه وضع لغوي ، ثمّ وضع عرفي عامّ ، ثمّ عرفي خاصّ شرعي أو غير شرعي ، فالأصلي منها لا يكون إلاّ ما تقدّم على الجميع ، وإن كان في حدّ ذاته متعدّدا ، وأمّا العرفيّة فالمعتبر فيها أن تكون طارئة غير أصليّة ، باقية كانت أو مهجورة ، دون الباقية أصليّة كانت أو طارئة ، ودون الطارئة الباقية.

وبالجملة ، يعتبر في الحقيقة العرفيّة طريان الوضع لابقاء الموضوع له ، إذ قد عرفت أنّ الأصليّة داخلة في اللغويّة ولو مهجورة ، والعرفيّة مقابلة لها ولا يتأتّى المقابلة إلاّ بانتفاء التصادق عمّا بينهما ، فقرينة المقابلة تقضي باعتبار طريان الوضع في العرفيّة كما أنّ ظهور كلامهم في انتفاء الواسطة عمّا بينهما يقضي باندراج المهجورة من الأصليّة في اللغويّة والمهجورة من الطارئة في العرفيّة ومن هنا حصل التزام التعميم بالقياس إلى الباقية والمهجورة في كلّ من القسمين.

وبالجملة ، ظهور كلامهم في المقابلة الكلّية يستدعي أصالة الوضع في اللغويّة وطروّه في العرفيّة كما أنّ ظهور انتفاء الواسطة عمّا بين اللغويّة والعرفيّة يستدعي جعل كلّ من الأصليّة والطارئة أعمّ من المهجورة والباقية.

وأمّا ما في كلامهم ـ من أنّ الأصل ـ اتّحاد العرف واللغة ، كما هو المتّفق عليه بينهم في مباحث الألفاظ من المطالب الاصوليّة وغيرها من موضوعات الأحكام الغير الشرعيّة ، حيث إنّهم إذا عرفوا للّفظ الوارد في الكتاب والسنّة معنى باعتبار العرف من جهة الأمارات العرفيّة ، يحكمون باتّحاد اللغة بل الشرع معه ، استنادا إلى الأصل ، فغير مناف لما ذكرناه ، لأنّ المقصود بذلك إثبات كون اللفظ من الحقيقة اللغويّة الباقية بالأصل المعوّل عليه عندهم ، المعبّر عنه « بأصالة عدم النقل » وقد يضاف إليها « أصالة التشابه » المعمول بها عند بعضهم.

وهذا الأصل ممّا لا مجال للاسترابة فيه ، كما أنّ الحقيقة العرفيّة بالمعنى المقابل للّغويّة حيثما وجدت ممّا لا مجال للتأمّل في ابتنائه على مخالفة الأصل وهو النقل ، الّذي يأتي تارة بوضع التعيّن ، واخرى بوضع التعيين ، ولذا صرّح

٢٩٤

العلاّمة في النهاية (١) وغيره في غيرها بانحصار الحقيقة العرفيّة العامّة في أمرين :

أحدهما : اشتهار المجاز بحيث يصير حقيقة عرفيّة.

وثانيهما : تخصيص الاسم ببعض مسمّياته.

فما يستظهر من بعضهم من أنّ العرفيّة ما يستفاد منه المعنى في العرف مطلقا وإن كان المعنى أصليّا ، غفلة واضحة ، وكأنّ منشأها القصور عن فهم حقيقة مرادهم من الأصل المذكور المتّفق عليه عندهم.

وقد عرفت أنّه ليس لبيان الاتّحاد فيما بين الحقيقة اللغويّة والحقيقة العرفيّة المأخوذة في الطرف المقابل للّغويّة ، ومن المستحيل اتّحاد المتقابلين.

وأضعف منه ما عن بعض كلمات القوم من أنّ الحقيقة العرفيّة ما يستفاد منه المعنى بحسب العرف بالفعل ، لقضائه بخروج المهجورة عن العرفيّة وإن كانت طارئة.

ثمّ مقتضى ما عرفت من تصريح النهاية وغيرها ، أنّ المراد بالوضع الطارئ المأخوذ في العرفيّة ما يرادف النقل بقسميه ، فلا يتناول وضع الألفاظ المخترعة الّتي لم توضع في اللغة لمعنى ، خلافا لما صرّح به السيّد في شرح الوافية من أنّ الوضع الطارئ هو الوضع الجديد الّذي ليس بأصلي ، دون الطارئ على وضع سابق المختصّ بالنقل ، تعليلا بأنّ الألفاظ المخترعة المذكورة من أقسام الحقيقة العرفيّة ، وهو الأوفق بظاهر إطلاقاتهم ، مع ظهور كلماتهم في انتفاء الواسطة.

ثمّ العرفيّة منقسمة عندهم إلى العامّة والخاصّة ، وفرّق السيّد المتقدّم ذكره بينهما بأنّ العامّة ما لم يتعيّن واضعه « كالدابّة » فإنّها في اللغة لكلّ ما يدبّ على الأرض ، ثمّ غلب استعمالها في العرف العامّ في ذي الأربع حتّى تعيّنت لذلك ، وليست الغلبة فيها من فريق دون فريق ، أو طائفة دون اخرى بل من الجميع ، فلذا كانت عامّة.

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ٢٢ ( مخطوط ).

٢٩٥

والخاصّة ما تعيّن واضعه كما في اصطلاحات أرباب العلوم والصناعات ، فإنّها مختصّة بهم ، لحصول الغلبة والاشتهار في معانيها عندهم.

ثمّ فرّق بينهما من وجه اخر ، وهو عموم الاستعمال في الأوّل وخصوصه في الثاني ، فإنّ الخاصّة إنّما تكون حقيقة لو كان المستعمل لها من أهل الاصطلاح ، فإنّ « الفعل » مثلا إذا استعمله غير النحاة فيما يقابل الاسم والحرف كان مجازا ، لكونه مستعملا في غير ما وضع له في اصطلاح التخاطب.

ثمّ قال : ومن هذا يعلم أنّ الفرق بين العرفيّة العامّة والخاصّة من وجهين ، تعيّن الواضع وعدمه ، وعموم الاستعمال على وجه الحقيقة وخصوصه.

ثمّ فرّع على هذين الفرقين خروج الأعلام الشخصيّة عن القسمين ، قائلا : بأنّها تفارق العامّة من الوجه الأوّل ، لاختصاص الموضوع فيها بواحد معيّن غالبا ، والخاصّة من الوجه الثاني ، فإنّها إذا استعملت في مسمّياتها كانت حقيقة من أيّ مستعمل كان كالعرفيّة العامّة.

وفيه نظر : فإنّ ما أفاده في وجه عدم تعيّن الواضع في العامّة يقضي بانحصار الوضع فيها في التعيّن الناشئ عن الاشتهار والغلبة.

وقد عرفت من تصريحاتهم ما يقضي بخلافه ، وعليه فقد يتعيّن الواضع في العامّة أيضا ، إذا وضعها واحد معيّن أو جماعة معيّنة تعيينا ، فأخذها منهما الباقون من باب التسليم والإمضاء ، بل صدور الوضع تعيينا فيها عن الجميع على وجه اجتمع الكلّ على إيجاده ممّا يستحيله العادة ، فهذا الوضع حيثما تحقّق لا يصدر إلاّ عن بعض معيّن ، وكون الاستعمال على وجه الحقيقة خاصّا في الخاصّة على إطلاقه غير سديد ، وإنّما يسلّم ذلك إذا لم يكن مستند الاستعمال في لحاظ المستعمل هو الوضع العرفي الخاصّ ، الثابت عند أهل الاصطلاح بذلك اللفظ والمعنى. ولا ريب أنّ الاستعمال حيثما وقع على هذا الوجه كان مجازا ، وإن كان المستعمل من أهل الاصطلاح.

فمناط الحقيقيّة إنّما هو استناد الاستعمال من أيّ مستعمل كان إلى الوضع

٢٩٦

أصليّا أو طارئا ، من العامّ أو الخاصّ ، وعليه فلا يفترق الحال في مجازيّة الاستعمال على الوجه الأوّل ، وحقيقيّة على الوجه الثاني بين أقسام الحقيقة من اللغويّة والعرفيّة العامّة والخاصّة ، سواء كان المستعمل في الجميع من أهل اللغة ، أو العرف العامّ أو الخاصّ ، وهذا المناط كما ترى من مقتضيات ما عرفته سابقا من الحيثيّة والعلاقة المأخوذتين في تعريفي الحقيقة والمجاز ، فما أفاده قدس سرّه من ضابط الفرق بين العرفيّتين ليس على ما ينبغي في شيء من وجهيه ، بل ضابط الفرق بينهما حسبما يساعد عليه النظر ـ بعد تفسير العرف العامّ بقاطبة أهل اللسان ، والعرف الخاصّ بطائفة منهم ـ هو أنّ الداعي إلى فتح باب الأوضاع الطارئة الجديدة بل الوضع مطلقا ولو أصليّا كون المعنى الموضوع له ممّا حصلت به البلوى واشتدّت الحاجة إلى التعبير عنه ، فإن كانت البلوى به والحاجة إلى التعبير عنه خاصّتين بطائفة دون اخرى ، قضى ذلك بحدوث الوضع تعيينا أم تعيّنا عند هذه الطائفة خاصّة ، وإن كانتا عامّتين لقاطبة أهل اللسان قضى بحدوثه على أحد الوجهين ، على وجه العموم من دون اختصاص له بطائفة دون اخرى.

وإلى هذا يشير ما في نهاية العلاّمة (١) وغيرها في وجه حدوث الحقيقة العرفيّة ، من أنّه قد تحصل معان فتفتقر إلى التعبير عنها ولم يوضع لها ألفاظ في اللغة ، فيضطرّ إلى اختراع ألفاظ لها ، لكن لمّا كرهوا الخروج عن قانون اللغة ، التجأوا إلى سلوك طريق يجمع بين حصول مطلوبهم والتزام قانون اللغة ، فعمدوا إلى كلّ لفظ موضوع لمعنى يناسب معناه المعنى الّذي طلبوا التعبير عنه فنقلوه إليه ، إذا كان ذلك جريا على قانون اللغة ، ولم يخترعوا لتلك المعاني ألفاظا من عندهم للعلّة المذكورة ، فإن غلب استعمالهم في المعنى الثاني صار حقيقة عرفيّة. إمّا بالعرف العامّ أو الخاصّ ، فإن أهمل الأوّل صار استعمال اللفظ فيه مجازا عرفيّا ، وإن كان حقيقة لغويّة.

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ٢٢ ( مخطوط ).

٢٩٧

وعليه فالأعلام الشخصيّة تندرج في ضابط العرفيّة الخاصّة ، إذ الابتلاء بالتعبير بها عن مسمّياتها يحصل لخصوصيّات الطوائف دون قاطبة أهل اللسان ، والوضع فيها أيضا يحصل غالبا من معين فيأخذه الباقون إمضاء وتسليما ، ويأتي على قسميه ، وإن كان الحاصل منهما بالغلبة والاشتهار نادرا بالقياس إلى غيره ، وعموم الاستعمال بعنوان الحقيقة فيها ليس إلاّ كعمومه في اصطلاحات العلوم والصناعات ، فلا وجه له إلاّ الإمضاء والتسليم أو الاتّباع.

غاية الأمر قيام الفرق بينها وبين سائر الاصطلاحات ، باعتبار أنّ المصطلحين يجمعهم جهة جامعة منتزعة عن عناوين العلوم أو الصناعات ، بخلاف المستعملين لها ، وهذا كما ترى لا يصلح فارقا بينهما ، بحيث أوجب اندراج إحداهما في الحقيقة العرفيّة وخروج الاخرى ، عنها فالإيراد على القوم بأنّ تقسيم الحقيقة إلى الأقسام الثلاثة غير حاصر لعدم تناوله الأعلام لعلّه في غير محلّه ، كما أنّ الالتزام بخروجها عن المقسم بالمرّة ـ أعني مطلق الحقيقة ـ ليس في محلّه ، كيف والحقيقة لم يؤخذ في حدّه إلاّ اللفظ والوضع والاستعمال والحيثيّة ، والكلّ موجود فيها مع وجود خواصّ الحقيقة ولوازمها ، ولو كان ذلك لخصوصيّة مأخوذة في ماهيّة الحقيقة وإن لم ينبّه عليها في حدّها ، فهو ممّا يخلّ بسلامة الحدّ ، ولم يتعرّض له أحد ولا يكون إلاّ لتبيّن عدم مدخليّة شيء اخر زائد [ ا ] على ما ذكر في الماهيّة.

وعليه فما حكى عن الرازي والامدي في المحصول (١) والإحكام (٢) من أنّ الحقيقة والمجاز يشتركان في امتناع اتّصاف أسماء الأعلام بهما « كزيد » و « عمرو » وهو المستفاد من نهاية العلاّمة (٣) حيث أدرجها في عنوان ما يتوسّط

__________________

(١) المحصول في علم الاصول ٣٤٣ : ١ حيث قال : المسألة الاولى : في أنّ دلالة اللفظ بالنسبة إلى المعنى قد تخلوّ عن كونها حقيقة ومجازا ، أمّا في الأعلام فظاهر ...

(٢) الإحكام في اصول الأحكام : ٣٢.

(٣) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ٢٦ ( مخطوط ) حيث قال : البحث الثاني في إمكان الخلوّ عنهما ـ إلى أن قال ـ : وأيضا الأعلام ليست حقيقة ولا مجازا.

٢٩٨

بين الحقيقة والمجاز وليس بأحدهما ، فلعلّه ليس بظاهره لجواز كون المقصود نفي كونهما من الحقيقة والمجاز اللغويّين لا مطلقهما.

وربّما يستفاد ذلك من صريح النهاية (١) أيضا ، حيث قال : وأيضا الأعلام ليست حقيقة ولا مجازا ، لكونها من الألقاب والحقيقة استعمال اللفظ فيما وضع له والمجاز في غير ما وضع له ، وهو يستدعي كونهما قد وضعا قبل الاستعمال لغة وأسماء الأعلام ليست كذلك ، فإنّ استعمالها ليس فيما وضعه أهل اللغة ولا في غيره.

وذكر في موضع اخر ، أنّ الأعلام ليست مجازات ، لأنّ شرط المجاز استناد الفعل إلى علاقة بين الأصل والفرع ، وهي منتفية في الأعلام (٢).

ولا ريب أنّ نفي الخاصّ لا يستلزم انتفاء العامّ. وبالجملة ، فمن أطلق نفي اتّصافها بالحقيقة والمجاز إن أراد به عدم كونهما في مسمّياتها من الحقائق والمجازات اللغويّين بل العرفيّين في الجملة فهو في محلّه ، ضرورة عدم استناد استعمالاتها في مسمّياتها الموضوع لها إلى شيء من الوضع اللغوي ولا العرفي العامّ ، ولا إلى العلاقة الملحوظة بينها وبين المعاني اللغويّة ، ولا العرفيّة العامّة.

وإن أراد به امتناع لحوق وصفي الحقيقة والمجاز لهما أصلا ورأسا فهو مقطوع بفساده لما بيّنّاه ، فهي إذا استند استعمالاتها إلى ما فيها من الوضع الثابت لمسمّياتها كانت من الحقائق ، وإذا استندت إلى المناسبة المعتبرة لمسمّياتها الموضوع لها كانت من المجازات.

ثمّ على تقدير عدم اندراجها في العرفيّة بقسيمها لا يتوجّه نقض إلى تقسيمهم من حيث عدم أخذهم لها رابع الأقسام أو خامسها ، لجواز ابتنائه على قلّة ما يترتّب عليها من الثمرات والفوائد الفقهيّة وغيرها ، بل لعدم فائدة تتعلّق بها مطلقا ، حتّى بالنسبة إلى سائر الفنون المدوّنة ، بخلاف سائر الأقسام المأخوذة في

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ٢٦ ( مخطوط ).

(٢) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ٢٥ ( مخطوط ).

٢٩٩

التقسيم ، فإنّ الفوائد المترتّبة عليها واضحة حتّى بالقياس إلى العرفيّة الخاصّة الّتي من فوائدها المترتّبة على معرفة مصاديقها المتفرّقة في الفنون المعهودة والعلوم المتداولة تيسّر حصول إفادة المطالب العلميّة واستفادتها بواسطة الألفاظ المصطلحة فيها.

وأمّا الحقيقة الشرعيّة فهي على الضابط المتقدّم ذكره ، وإن كانت من العرفيّة الخاصّة ، غير أنّ إفرادها عنها بجعلها قسما برأسه لما فيها من الفضل والشرف بالقياس إلى غيرها ، أو لانفرادها بوقوع النزاع في ثبوتها وعدمه بخلاف غيرها من أقسام العرفيّة الخاصّة ، فإنّه لا خلاف على ما في كلام غير واحد في ثبوتها كما هو واضح ، وإنكاره مكابرة لا يلتفت إليها ، وسنورد بعض ما يتعلّق بالحقيقة الشرعيّة ممّا يناسب المقام عند التعرّض للبحث في إثباتها فعليك بالانتظار.

الثالثة : المجاز ممكن عقلا وواقع لغة وشائع خارجا ، حتّى أنّه في شيوع الوقوع بلغ إلى ما ادّعي كون أغلب اللغة مجازات ، وإنكار أبي إسحاق ومتابعيه دفع للبديهة ، وأدلّتهم المنقولة ـ مثل أنّه مخلّ بالفهم ، وأنّه إن أفاد المعنى المجازي مع القرينة لم يكن مجازا من حيث عدم احتمال غيره حينئذ ، أو لا معها فيكون حقيقة فيه ، أو لا تفيد شيئا مع عدمها فلا تكون حقيقة ولا مجازا ، وأنّ كلّ معنى مجازي فله لفظ موضوع بإزائه فلا يقع من الحكيم التجاوز من لفظه إلى استعارة غيره لما فيه من التطويل إن ذكر القرينة ، وعدم إفادة المقصود إن أخلّ بها ـ بأسرها مدخولة.

وكما أنّه واقع في اللغة وارد في الكتاب العزيز بلا شبهة ، وإنكار وقوعه فيه ـ كما عن الظاهريّة ـ لا يلتفت إليه ، كما لا يلتفت إلى حججهم المنقولة في ذلك ، مثل أنّ المجاز كذب ولهذا يمكن نفيه ، وأنّ المجاز ركيك والله تعالى منزّه عنه ، وأنّه إنّما يصار إليه عند العجز عن الحقيقة ، وأنّه إنّما يفيد مع القرينة. وربّما خفيت فيقع المكلّف في الجهل وذلك قبيح من الحكيم ، وأنّه يستلزم كونه متجوّزا ، وأنّ كلامه تعالى حقّ وكلّ حقّ فله حقيقة مقابلة المجاز.

٣٠٠