تعليقة على معالم الاصول - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٤٤٣

من مقولة الجواهر والحدث (١) والأعيان ومشخّصاته من مقولة الأعراض ، ولازمه أن يحصل التشخّص في الشيء بانضمام ماهيّة إلى ماهيّة اخرى مغايرة لها ، كما في « زيد » المتشخّص بسواده وطول قامته ، فإنّه فرد من ماهيّة الإنسان كما أنّ سواده وطول قامته فردان من ماهيّتي السواد والطول.

فحينئذ إمّا أن يقال : بأنّ الموجود في الخارج هو التشخّص دون الطرفين ، أو الطرفان دونه ، أو هو مع أحدهما ، أو هو مع كليهما ، لا سبيل إلى الأوّل لاستحالة تخلّف المنتسبين عن الأمر النسبي كاستحالة تخلّف العلّة عن المعلول ، ولا إلى الثاني لاستحالة تخلّف الأمر النسبي عن منتسبيه كاستحالة تخلّف المعلول عن علّته ، فإنّه لازم قهري من تحقّق الطرفين فيستحيل انفكاكه عنهما ، مع أنّه لو صحّ وأمكن لكفى في ثبوت المطلوب ، ولا إلى الثالث لامتناع الترجيح من غير مرجّح مع استحالة تخلّف أحد طرفي النسبة كاستحالة تخلّف الطرفين معا ، مع أنّه لو صحّ وأمكن لكفى في الجملة ، فتعيّن الرابع وهو المطلوب ، فالفرد حينئذ هو الطبيعة المتشخّصة ، على وجه يرجع حاصله إلى شيء مركّب من الطبيعة والتشخّص على نحو دخل نفس التشخّص وخرج ما يوجبه.

لا يقال : قضيّة صحّة الفرض لزوم الدور ، لافتقار كلّ من الطبيعتين في التشخّص الملازم للوجود الخارجي إلى الاخرى ، لأنّ ذلك دور معي لا استحالة فيه ، لكون الطبيعتين في انضمام كلّ إلى الاخرى معلولتين لعلّة خارجة عنهما مشتركة بينهما ، فيكونان من قبيل المتلازمين في الوجود الخارجي ، اللذين لا توقّف بينهما ذاتا ، ولكلّ منهما وجود مغاير لوجود الاخرى ، فهما موجودين بوجودين متمايزين.

فإن قلت : كيف يصحّ ذلك ، مع ما قيل : من أنّه لا يحصل من انضمام كلّي إلى كلّي اخر إلاّ كلّي ثالث.

__________________

(١) كذا في الأصل.

٢٦١

قلت : هذا القول ليس على إطلاقه ، وإنّما يسلّم ذلك في مثل الحدود والتعريفات ، فإنّ أجزاء كلّ تعريف من أجناسه وفصوله وما بمنزلتهما مفاهيم كلّية ، لا يحصل من انضمام بعض إلى اخر إلاّ كلّي اخر وهو المعرّف.

ولا يذهب عليك ، أنّ البيان المذكور في تقرير البرهان لا يجري بعينه فيما لو كانت الطبيعة من مقولة الأفعال والأحداث ، فإنّ محصّل ما قرّرناه كون كلّ ممّا له التشخّص وما به التشخّص كلّيا ، ومشخّص الحدث أمر راجع إلى فاعله ومفعوله ومحلّ وقوعه زمانا ومكانا ـ بناء على التحقيق من كون الزمان والمكان أيضا من مشخّصات الماهيّة ـ وأيّا ما كان فهو أمر متعيّن في حدّ ذاته ، سابق تعيّنه على حدوث ذلك الحدث من دون أن يكون هو أيضا كلّيا مفتقرا في تعيّنه وتشخّصه إلى حدوث الحدث ، فكلّ من ذلك حينئذ مشخّص الشيء وليس متشخّصا به.

ولكن لا يقدح ذلك فيما أقمناه من البرهان على وجود الكلّي الطبيعي.

غاية الأمر تطرّق تغيّر مّا إلى صورة التقرير ، بل هو بعينه يجري بالنسبة إلى أحد طرفي النسبة ، ويزيد عليه في إبطال بعض الصور هنا لزوم خلاف الفرض.

هذا مضافا إلى أنّ الفرد الموجود في الخارج إذا قطع فيه النظر عن مميّزاته والإضافات القائمة به والخصوصيّات المكتنفة به المميّزة له ، فإمّا أن يبقى فيه شيء اخر أو لا.

وعلى الأوّل : فإمّا أن يكون الباقي هو الطبيعة الكلّية الملحوظة عند العقل لا بشرط شيء من الإضافات أو أمر اخر غيرها ، والأوّل (١) باطل وإلاّ لزم وجود العرض لا في الموضوع وقيامه بنفسه في أفراد كثير من الماهيّات ، وكذا الأخير وإلاّ لزم مبائنة الأفراد للطبائع في كلّ ممّا به اشتراكها وما به امتيازها ، ويلزم منه عدم صحّة الحمل بينهما ، فتعيّن الثاني وهو المطلوب.

مع أنّا نقطع بضرورة من الوجدان بأنّ الحسّ حيثما توجّه إلى فرد موجود

__________________

(١) والمراد به هو صورة عدم بقاء شيء في الفرد بعد قطع النظر عن مميّزاته والإضافات القائمة به والخصوصيّات المكتنفة به المميّزة له. كما لا يخفى.

٢٦٢

في الخارج ، فالعقل ينظر في طلب ما يميّزه عن سائر الأفراد لا محالة ، وحينئذ فإمّا أن يكون ذلك النظر بعد إدراك شيء منه بالحسّ أو قبله ، والثاني باطل وإلاّ لزم طلب المميّز بدون العلم بالقدر الجامع وأنّه محال ، لما قرّر في محلّه من أنّ السؤال عمّا يميّز الشيء عن مشاركاته فرع على العلم به إجمالا ، وإلى ذلك ينظر ما قيل أيضا عن أنّ ما لا جنس له لا فصل له.

وعلى الأوّل ، فإمّا أن يكون المعلوم بالحسّ هو الخصوصيّة أو غيرها لا سبيل إلى الأوّل ، وإلاّ لزم طلب الحاصل لأنّ العلم بالخصوصيّة لا ينفكّ عن العلم بالمميّز فتعيّن الثاني وهو المطلوب ، إذ لا واسطة بين الخصوصيّة والطبيعة الكلّية لتكون هي المعلومة بالحسّ.

لا يقال : لم لا يجوز أن يكون ما فرضته معلوما في ابتداء النظر هو الأمر المنتزع الّذي يقول به منكروا وجود الكلّي الطبيعي ، لأنّ ذلك ممّا يبطله دليل الخلف ، فإنّ المفروض أوّلا كون المعلوم في ابتداء النظر معلوما بالحسّ ، وليس شيء من المنتزع ممّا يعلم بالحسّ ، بل هو أمر ذهني يعلمه العقل ولا وجود له في الخارج ليندرج في عداد المحسوسات.

وأمّا القول بعدم الوجود فليس له إلاّ وجوه واهية :

منها : ما أشار إليه الحاجبي عند الاحتجاج على كون متعلّق الأوامر هو الأفراد قائلا : بأنّ الماهيّة يستحيل وجودها في الأعيان ، لما يلزم من تعدّدها فيكون كلّيا جزئيّا وهو محال.

ومحصّله : على ما قرّره شارح كلامه في بيان المختصر : أنّ الماهيّة من حيث هي لزمها التعدّد أي يلزمها الاشتراك بين كثيرين فيكون كلّيا ، والموجود في الخارج يلزمه التشخّص فيكون جزئيّا ، فلو كانت الماهيّة موجودة في الخارج يلزم أن يكون كلّيا جزئيّا معا ، وهو محال.

ودفعه الشارح : بأن لا نسلّم أنّ الماهيّة من حيث هي هي يلزمها التعدّد ، وذلك لأنّه لو استلزم الماهيّة من حيث هي هي التعدّد امتنع عروض التشخّص لها وليس كذلك ، بل الماهيّة من حيث هي هي لا يقتضي التعدّد ولا الواحدة. انتهى.

٢٦٣

والتحقيق في الجواب : منع الملازمة ، فإنّ الماهيّة الموجودة إن اخذت باعتبار الخارج فلا يتّصف بالكلّية ولا الجزئيّة ، كما هو قضيّة كونهما من المعقولات الثانية ، وإن اخذت باعتبار الذهن فدائما يتّصف إمّا بالجزئيّة أو الكلّية ، ولا يتّصف بهما معا أبدا ، وذلك لأنّ العقل إمّا أن يلاحظ الماهيّة مقيّدة بمميّز الفرد الخارجي فلا تتّصف عنده إلاّ بالجزئيّة ، أو يلاحظها مطلقة ولا بشرط شيء من مميّزات الأفراد الخارجيّة فلا تتّصف عنده إلاّ بالكلّية ، كما هو شأن كلّ كلّي ملحوظ لا بشرط.

ومنها : أنّ الطبيعة الكلّية لو وجدت في الأعيان ، لكان الموجود في الأعيان إمّا مجرّد الطبيعة أو هي مع أمر اخر ، لا سبيل إلى الأوّل وإلاّ لزم وجود الأمر الواحد الشخصي في أمكنة مختلفة ، واتّصافه بصفات متضادّة وأنّه محال ، ولا إلى الثاني ، وإلاّ فلا يخلو الأمر من أن يكون الطبيعة مع ذلك الأمر موجودين بوجود واحد أو موجودين بوجودين ، والثاني باطل وإلاّ لزم ألايمكن حمل الطبيعة الكلّية على المجموع وهذا خلف وكذلك الأوّل إذ لو فرض قيام ذلك الوجود بكلّ واحد منهما على الاستقلال لزم قيام الشيء الواحد بمحلّين مختلفين وأنّه محال ، ولو فرض قيامه بالمجموع من حيث هو لم يكن كلّ منهما موجودا بل الموجود هو المجموع.

والجواب : بأنّ الأمر الاخر ـ الّذي فرض كون الطبيعة على تقدير وجودها معه في السؤال ـ إن اريد به مميّزات الأفراد ومشخّصات الأعيان الموجودة نختار الشقّ الأوّل ، ونقول : إنّ الموجود في الأعيان بالوجود المتنازع فيه هو مجرّد الطبيعة ، على وجه لا ينافي مقارنة التشخّص لها على نحو مقارنة الوجود لها.

ودعوى : استلزامه محذور وجود الأمر الواحد الشخصي في أمكنة مختلفة واتّصافه بصفات متضادّة ، يدفعها : منع الملازمة في تقدير ومنع بطلان اللازم في اخر ، إذ لو اخذت الطبيعة الموجودة بوصف الواحدة فلا توجد إلاّ في مكان واحد ، كما لا تتّصف إلاّ بصفة واحدة.

٢٦٤

ولو اخذت بوصف الكثرة أو لا بوصف الواحدة ولا الكثرة ، فالواجب وجودها في أمكنة مختلفة واتّصافها بصفات متضادّة كما هو لازم الكثرة الخارجيّة ، إذ الوصفان يلحقان حينئذ احاد الكثرة على وجه التوزيع ، ولو لاه إستحال تحقّق الكثرة في الخارج هذا واضح على الأوّل ، وكذا على الثاني فإنّ الموجود على هذا التقدير في الأعيان هو الماهيّة الملحوظة بلا شرط ، لا الماهيّة بشرط الوجود حتّى يكون أمرا واحدا شخصيّا.

ومن خواصّ الماهيّة اللابشرط وجودها في أمكنة مختلفة ، وكما أنّها بالقياس إلى الوجود والعدم ملحوظة لا بشرط شيء فكذلك بالقياس إلى الصفات الطارئة لها والأحوال اللاحقة بها ، بل بالقياس إلى الواحدة والكثرة وغيرهما من الصفات الاعتباريّة ، فمن لوازمها حينئذ جواز اتّصافها بصفات متضادّة على حسب وجوداتها وتحصّلاتها ، واتّصافها في الوجود الخارجي بالواحدة والكثرة ، ولا ينافيه كونه واحدا بالنوع لأنّ الواحد النوعي له من المبدأ الفيّاض نحو جعل يكون مع الواحد واحدا ، ومع الكثير كثيرا ، ومع الموجود موجودا ، ومع المعدوم معدوما ، فواحدته النوعيّة لا تنافي الواحدة والكثرة الشخصيّتين. وقضيّة ذلك تكثّر وجوداتها مع الكثرة على حسب تكثّر أشخاصها ، ولأجل ما ذكرناه من اعتبار الطبيعة بلا شرط صحّ حملها على الفرد كائنا ما كان.

وإن اريد به التشخّص الملازم للوجود نختار الشقّ الثاني مع عدم الالتزام بشيء ممّا ذكر في الترديد الثاني ، فإنّ هنا شقّا اخر غير ما ذكر في الترديد ، فلا يلزم على تقدير كون الموجود في الأعيان ـ إن اريد بها الأفراد الخارجيّة ـ هو الطبيعة مع أمر اخر اعتبار وجودين لهما ولا اعتبار وجود واحد قائم بكلّ منهما على الاستقلال أو المجموع من حيث هو ، خصوصا إذا أردنا من الأمر الاخر نفس الوجود القائم بالطبيعة الّذي هو بالقياس إليها بمنزلة الظرف من مظروفه واللباس من لابسه ، فكما أنّ كون شيء ظرفا أو لباسا لاخر لا يقتضي كونه مظروفا ولا لابسا لنفسه بل ولا يعقل ، ولا كونه مظروفا لظرف اخر ولا لابسا للباس اخر ، فكذلك بالوجود فإنّ الفرد هو الطبيعة والوجود معا.

٢٦٥

ولا ريب أنّ الوجود أمر لا يعقل فيه وجود اخر وإلاّ لزم التسلسل ، واقتضائه كونه مظروفا لنفسه أولى بعدم المعقوليّة ، فهو ليس قائما إلاّ بالطبيعة على الاستقلال وعلى قياسه التشخّص لو كان هو المراد بالأمر الاخر.

فحاصل الجواب على هذا التقدير : أنّا نقول إنّ الموجود في الأعيان هو الطبيعة مع أمر اخر وهو التشخّص ، على وجه يكون الوجود قائما بنفس الطبيعة على الاستقلال مع مقارنة التشخّص للوجود القائم بها ، بناء على أن يراد بالمعيّة المستفادة من كلمة « مع » هنا ما يرجع إلى مشاركة التشخّص للوجود في عدم اقتضائه لوجود اخر ولا تشخّص اخر لئلاّ يلزم التسلسل ، لا ما يرجع إلى مشاركته للموجود وهو الطبيعة في وصف كونها مظروفة للوجود ولابسة له ، وإلاّ لزم الدور أو التسلسل كما هو واضح ، ومعه فلا وجه لما ذكر في السؤال من أنّ الطبيعة مع ذلك الأمر هل هما موجودان بوجودين فيلزم ألايمكن حملها على المجموع ، أو موجودان بوجود واحد قائم بهما معا على الاستقلال فيلزم قيام أمر واحد بمحلّين مختلفين ، أو قيامه بالمجموع من حيث هو ، فيلزم ألايكون كلّ واحد موجودا.

ومنها : أنّها لو وجدت في الخارج لكانت إمّا نفس الجزئيّات أو جزا منها أو خارجا عنها ، والأقسام بأسرها باطلة.

أمّا الأوّل : فلأنّها لو كانت عين الجزئيّات يلزم أن يكون كلّ واحد من الجزئيّات عين الاخر ، لوضوح أنّ كلّ جزئي فرض فهو عين الطبيعة الكلّية وهي عين الجزئي الاخر ، فيكون كلّ جزئي عين الجزئي الاخر ، بضابطة أنّ عين العين عين ، وهذا محال.

وأمّا الثاني : فلأنّها لو كانت جزء منها في الخارج لتقدّم عليها في الوجود ، ضرورة أنّ الجزء الخارجي ما لم يتحقّق أوّلا وبالذات لم يتحقّق الكلّ ، وحينئذ يكون مغايرة لها في الوجود فلا يصحّ حملها عليها.

وأمّا الثالث : فبطلانه واضح لا يفتقر إلى البيان.

٢٦٦

والجواب : أنّ الجزئيّات إن اريد بها ما لا يدخل في حقيقتها مشخّصاتها ولا تشخّصاتها نختار الشقّ الأوّل ، ونمنع لزوم كون الجزئيّات بعضها عين البعض الاخر ـ مع تسليم كون كلّ جزئي فرض في الخارج عين الطبيعة الكلّية الّتي هي عين الجزئي الاخر ـ بضابطة أنّ مقدّمتي قياس المساواة في إنتاجهما يتوقّفان على صدق المقدّمة الخارجيّة المنضمّة إليها ، نظرا إلى أنّ إنتاجهما ليس لذاتهما.

ولا ريب أنّ الكلّية في مقدّمة « كون عين العين عينا » ليست بصادقة ، لوضوح أنّ العينيّة بالمعنى المراد من العينيّة المتحقّقة فيما بين الطبيعة الكلّية وكلّ من جزئيّاتها منتفية عمّا بين الجزئيّات ، بعد ملاحظة أنّ المراد بالطبيعة الكلّية ـ المحكوم عليها بكونها عين كلّ جزئي لها في الخارج ـ هو ما في الذهن الملحوظ بلا شرط. حتّى الوجود والتشخّص الملازم له ، فإنّ معنى العينيّة حينئذ إمّا صدق الطبيعة الملحوظة لا بشرط على الجزئي الخارجي على وجه يقتضي صحّة حملها عليه ، أو انطباق الجزئي الخارجي عليها بعدم اشتماله على ما ينافيها ، والكلّ حاصل فيما بين الطبيعة وجزئيّاتها الخارجيّة ، وإن اشتملت على الوجود والتشخّص ، فإنّ اللابشرط من حكمه صدقه على بشرط شيء ، منطبق عليه وإن يجتمع مع ألف شرط ، بخلاف الجزئيّات بأنفسها فإنّ الصدق فيما بينها مستحيل ، لاشتمال كلّ على شرط مغاير لما اشتمل عليه الاخر من الوجود والتشخّص ، ولأجل هذا بعينه ليس شيء منها منطبقا على الاخر لتضمّن كلّ ما ينافي الاخر.

وإن اريد بها ما لا يدخل فيها المشخّصات فقط وإن دخل فيها الوجود والتشخّص نختار الشقّ الثاني ، ونمنع كلّية الدعوى في تقدّم الجزء على الكلّ ، إن اريد به التقدّم الزماني كما هو قضيّة الاستدلال ، لجواز المقارنة ، فإنّ الفرد إذا كان هو الماهيّة مع الوجود كان أحد جزئيه هو الوجود والجزء الاخر فيه بمثابة يتحقّق الكلّ بمجرّد وجوده من دون تقدّم ولا تأخّر.

وقد بيّنّا سابقا أنّ الوجود من الطبيعة الموجودة بمنزلة الظرف من مظروفه ،

٢٦٧

وكما أنّ كون شيء مظروفا لشيء لا يستدعي بطبعه سبق مظروفيّته لظرف اخر ، فكذلك الطبيعة فإنّ كونها موجودة بالوجود القائم بها لا يستدعي سبق موجوديّتها بوجود اخر مغاير له ، هذا مع أنّ الحمل إنّما يعتبر فيما بين الطبيعة الموجودة بأخذها موضوع القضيّة ، والملحوظة لا بشرط الوجود بأخذها محمول القضيّة ، ولا تنافي بين الكلّ والجزء إذا اخذ بهذا الاعتبار.

هذا كلّه في دفع مقالة منكري وجود الكلّي الطبيعي ، وأمّا مقالة من يدّعي وجوده على طريق العينيّة ، فإن أراد به أنّ الوجود الّذي يضاف إلى الكلّي فهو بعينه الوجود الّذي يضاف إلى الفرد ولا تغائر بينهما في ذلك فهو متين ، ولعلّ الخلاف يعود لفظيّا حينئذ ، وإن أراد به أنّ الفرد الموجود بعينه هو الكلّي الموجود ولا تغاير بينهما أصلا ولو بالاعتبار فهو فاسد ، لوضوح أنّ الماهيّة لا بشرط الوجود غير الماهيّة بشرط الوجود ، والكلّي هو الأوّل والفرد هو الثاني ، غير أنّ المغايرة بينهما اعتباريّة.

وبالجملة الكلّي الطبيعي عبارة عن الماهيّة لا بشرط الوجود ولا بشرط العدم ، وهي بهذا الاعتبار مأخوذة في وضع الألفاظ الكلّية على ما عليه المحقّقون ، من وضعها للمعاني الكلّية من دون مدخليّة للوجود فيها ذهنا وخارجا ، وهي بهذا الاعتبار أيضا مأخوذة في موضوعات الأحكام ، بناء على ما سنحقّقه من تعلّق الأحكام بالطبائع.

والفرد عبارة عن الماهيّة الموجودة بشرط الوصف. وبعبارة اخرى : الماهيّة بوصف الوجود على نحو يكون اعتبار الوجود في الفرد بعنوان الجزئيّة ، فالفرد هو المجموع من الماهيّة ووجودها ، فالفرق بينه وبين الطبيعة حينئذ أنّها هي الماهيّة لا بشرط الوجود والفرد هو الماهيّة بشرط الوجود ، ووجودها عبارة عن تحصّلها الخارجي وتحقّقها فيما يقابل وعاء الذهن.

ومن يدّعي وجود الكلّي الطبيعي على طريق الضمنيّة والجزئيّة ، إن أراد به هذا المعنى فمرحبا بالوفاق وإلاّ بأن يدّعي مدخليّة مشخّصات الفرد معه في

٢٦٨

الفرديّة أو التشخّص الحاصل منها بعنوان الجزئيّة ، بدعوى : أنّ الفرد عبارة عن المجموع من الماهيّة والتشخّصات اللاحقة بها والمشخّصات الموجبة لها ، أو عن مجموع الماهيّة وتشخّصها دون المشخّصات ، ولازمه على التقديرين دخول الوجود في حقيقة الفرد ، فغير مسموع ، لوضوح فساد الأوّل ، وكون الثاني خلاف ما يساعد عليه طريقة العرف والعقلاء ، كما يعلم ذلك من بنائهم في تعليقهم الأحكام على فرد مّا لابتناء ذلك على أخذ الماهيّة باعتبار الوجود مع تجريدها عن التشخّص ، لمكان عدم مدخليّته في الحكم أصلا ، أو عدم كونه مقصودا بالإفادة عند الخطاب.

وأمّا ما في كلام بعضهم من التعبير عن القول بوجود الكلّي الطبيعي في الفرد على طريق الضمنيّة بوجوده فيه باعتبار الحصّة الموجودة منه فيه ، فإن اريد به تنزيله منزلة ذلك بدعوى : أنّ الماهيّة لمّا كانت بتمامها موجودة مع كلّ فرد وتعدّدت وجوداتها بتمامها على حسب تعدّد أفرادها ، وكان كلّ من ذلك منطبقا عليها فكأنّها شيء واحد خارجي تحصّص حصصا كثيرة على حسب كثرة وجوداتها ، ووجدت كلّ حصّة منها في ضمن كلّ من ذلك ، فلا ضير فيه وإلاّ فلا ريب أنّها ليست من الامور القابلة للتجزئة ليتفرّق أجزاؤها إلى أفرادها ليوجد مع كلّ فرد حصّة منها بهذا المعنى.

[٤١] قوله : ( وإن تكثّر فالألفاظ متبائنة ... الخ )

قد عرفت بما بيّنّاه سابقا أنّ التقابل بين أقسام هذا التقسيم ليس بخارجي ، ليتغاير كلّ قسم لاخر بحسب الخارج ، بل هو تغاير ذهني منوط بالاعتبار ، ولذا كانت الإضافة والنسبة ـ وهي نسبة اللفظ إلى المعنى ـ بالاتّحاد والتكثّر مأخوذة في متن التقسيم ، فالمقسم عند التحقيق هو النسبة المأخوذة ، وجهة الانقسام إنّما هي حيثيّات تلك النسبة واعتباراتها ، فالقسم الأوّل وهو المتّحد اللفظ والمعنى عبارة عن اللفظ الواحد من حيث إضافته ونسبته إلى معنى واحد ، سواء وضع له اللفظ أو لا وسواء كان قابلا للفظ اخر أو لا وسواء كان اللفظ قابلا لمعنى اخر أو لا.

٢٦٩

ولا ريب أنّ أمثلة هذا القسم بالحيثيّة المأخوذة فيه فوق حدّ الإحصاء ، بل مقتضى كلام العلاّمة في النهاية حيث قسّم هذا القسم باعتبار كون معناه جزئيّا أو كلّيا إلى العلم والمضمر والمبهم وإلى الكلّي بقسميه المتواطي والمشكّك كون جميع الأعلام الشخصيّة والمضمرات والمبهمات وأسماء الأجناس بل وأعلامها من هذا القسم لكن بالحيثيّة المأخوذة فيه ، فلا تنافي اندارجها تحت أقسام اخر ، فما سبق إلى بعض الأوهام من أنّ هذا القسم ممّا لا يوجد له مصداق ولا مثال فلعلّه مبتن على توهّم كون التقابل خارجيّا ، موجبا لتفسير هذا القسم بما لا يوجد للّفظ إلاّ معنى واحد ، ولا للمعنى إلاّ لفظ واحد ، وعلى أيّ تقدير فليس على ما ينبغي. فلا حاجة حينئذ إلى تكلّف التمثيل له بلفظ الجلالة ـ كما صنعه بعض من لا تحقيق له ـ ليتوجّه إليه ـ بناء على التوهّم ـ منع كلتا المقدّمتين فيه.

والقسم الثاني وهو متكثّر اللفظ والمعنى ، عبارة عن الألفاظ المتكثّرة من حيث إضافتها ونسبتها إلى معان متكثّرة. والقسم الثالث وهو متكثّر اللفظ ومتّحد المعنى ، عبارة عن الألفاظ المتكثّرة من حيث إضافتها ونسبتها إلى المعنى الواحد.

والقسم الرابع وهو متّحد اللفظ ومتكثّر المعنى ، عبارة عن اللفظ الواحد من حيث إضافته ونسبته إلى معان متكثّرة.

[٤٢] قوله : ( سواء كانت المعاني متّصلة كالذات والصفة ، أو منفصلة كالضدّين ... الخ )

وقد يعبّر عن التعميم بتوافق المعاني وتعاندها. وحاصل التعميم : أنّ المراد بتكثّر المعاني تغايرها ذهنا وخارجا ، أو ذهنا مع اتّحادها خارجا ، بكون البعض ذاتا والاخر وصفا لها كالسيف والصارم ، أو الجميع أوصافا لموصوف واحد كالضاحك والشاعر ، أو كون بعض صفة للصفة كالناطق والفصيح ، إلى غير ذلك من الألفاظ المتساوية ، فشملت العبارة جميع المعاني الّتي يتحقّق فيها النسب الأربع من العامّ والخاصّ المطلقين والعامّين من وجه والمتبائنين والمتساويين ، غير أنّ الثلاث الاولى تندرج في التغاير بحسب الذهن والخارج ، حيث إنّ المراد بتغاير

٢٧٠

الخارج عدم اجتماع المعنيين لافتراق بينهما من جانب واحد أو من جانبين ، جزئيّا أو كلّيا.

فظهر بذلك أنّ المعتبر في الألفاظ المتبائنة من جهة المعنى تغاير معانيها مفهوما ، تغايرت مصداقا أو اتّحدت ، فالمتساويان حينئذ من المتبائنة وإن توهّمها بعضهم من المترادفة ، ومن المتبائنة أيضا ما لو تكثّرت مادّة في هيئة واحدة ، كالناصر والقاتل والضارب ، أو هيئة في مادّة كالضارب والمضروب والضرب.

وفي كلام بعض الأفاضل (١) تعميم هذا القسم بالنسبة إلى الحقائق والمجازات والملفّق منهما ، وهو كذلك أخذا بظاهر كلماتهم.

[٤٣] قوله : ( وإن تكثّرت الألفاظ واتّحد المعنى فهي مترادفة ... الخ )

وهذا التكثّر أيضا أعمّ منه بحسب المادّة والهيئة معا ، كالإنسان والبشر ، أو المادّة فقط كالقاعد والجالس ، أو الهيئة وحدها كقتيل والمقتول ، ولا يفترق في ذلك بين ما لو كانت الألفاظ المتكثّرة المضافة إلى المعنى من لغة واحدة أو لغات متعدّدة مختلفة كما نصّ عليه غير واحد.

والمعتبر في واحدة المعنى اتّحاده ذهنا وخارجا ذاتا واعتبارا ، فليست من الألفاظ المترادفة الألفاظ المتساوية كما عرفت ، ولا مثل « أسد » و « اسامة » ممّا كان الاختلاف بين الألفاظ بحسب اسم الجنس وعلمه ، لمكان التغاير فيهما بحسب المعنى اعتبارا ، من حيث إنّ المعتبر في الأوّل هو الماهيّة لا بشرط الحضور في الذهن وعدمه ، وفي الثاني هو الماهيّة بشرط الحضور ، ولا مثل « هذا » و « زيد » و « هو » و « زيد » و « أنت » و « زيد » و « إنّك » و « زيد » و « هذا » و « أنت » و « هذا » و « أنا » وغير ذلك من الألفاظ الواقعة على مسمّى واحد شخصي المختلفة بحسب العنوان ، بكون البعض علما والاخر اسم إشارة أو مضمرا ونحوه ، لعدم اتّحاد المعنى فيها مفهوما وإن اتّحد مصداقا ، فإنّ المأخوذ في وضع ما عدا العلم

__________________

(١) هداية المسترشدين : ١٩ ( الطبعة الحجرية ).

٢٧١

هو الذات المتعيّنة مقيّدة بحالة الإشارة أو تقدّم الذكر أو الحضور أو الحكاية عن النفس وفي وضعه تلك الذات مطلقة ولا بقيد حالة دون اخرى ، ولا الحدّ والمحدود « كالإنسان » و « الحيوان الناطق » كما نصّ عليه جماعة ، منهم العلاّمة في النهاية (١) والحاجبي في المختصر ، وإن ذهب جمع من غير المحقّقين إلى كونهما من المترادفة ، على ما حكاه العلاّمة (٢) لأنّ المعتبر في المحدود هو الماهيّة الكلّية من حيث هي من دون نظر إلى أجزائها ومفرداتها ، وفي الحدّ هو الأجزاء والمفردات.

وفي كون مثل « أسد » و « غضنفر » حيثما استعملا مجازا في معنى رجل ، وكذا « أسد » و « رجل » في ذلك المعنى من الألفاظ المترادفة إشكال ، واحتمله بعضهم في الأخير وهو الملفّق من الحقيقة والمجاز ، غير أنّ المصرّح به في شرح المنهاج عدمه ، حيث عرّف الترادف بتوالي الألفاظ المفردة الدالّة على معنى واحد باعتبار واحد ، فقال : وبقولنا : « باعتبار واحد » خرج الألفاظ الدالّة على معنى واحد بالحقيقة والمجاز ، كالإنسان والأسد الدالّين على الرجل الشجاع ، فإنّه من الألفاظ المتبائنة.

وفي توجيهه لفائدة القيد ما لا يخفى ، فإنّ واحدة الاعتبار وإن أخذها القوم في مفهوم الترادف ، غير انّ غرضهم بها ليس إفادة اعتبار جهة الاستعمال من حيث الحقيقة والمجاز ، بل إفادة واحدة الاعتبار الّذي لو تعدّد لقضى بتعدّد المعنى ذهنا ولو لمجرّد الاعتبار ، احترازا عن الامور المتقدّم إليها الإشارة وغيرها ، ولذا ترى أنّ العلاّمة بعد ما عرّف الألفاظ المترادفة في النهاية (٣) بالألفاظ المفردة الدالّة

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ١٩ ( مخطوط ) حيث قال : فخرج بالمفردة الحدّ مع المحدود ...

(٢) المصدر السابق : الورقة ١٩ ـ حيث قال ـ : وقد ذهب قوم غير محقّقين إلى أنّ الحدّ والمحدود مترادفان ...

(٣) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ١٩ ( مخطوط ).

٢٧٢

على مسمّى واحد باعتبار واحد ، قال : « فخرج بالمفردة » الحدّ مع المحدود ، وبقولنا : « باعتبار واحد » اللفظان إذا دلاّ على شيء واحد باعتبار صفتين « كالصارم » و « المهند » أو باعتبار الصفة وصفة الصفة « كالفصيح » و « الناطق ».

ولا يبعد القول باختصاص الاصطلاح في الترادف بالألفاظ الحقيقيّة بملاحظة الخلاف الواقع في إمكان الترادف ووقوعه بحسب اللغة ، فإنّ من الناس من أنكر ذلك ـ وإن كان شاذّا ـ ولم يورد عليه بأنّ إنكاره هذا يؤول إلى إنكار المجاز ووقوعه ، فتأمّل.

[٤٤] قوله : ( وإن تكثّرت المعاني واتّحد اللفظ من وضع واحد فهو المشترك ... الخ )

عن ابن المصنّف (١) عن والده أنّ المراد بالوضع الواحد ما لم ينظر فيه إلى الوضع الاخر ، فكان كلّ وضع ابتدائيّا ، فلا ينافيه قولهم : المشترك ما وضع لأوضاع متعدّدة.

وملخّص مراده : أنّ اللفظ إذا وضع لمعنى ثمّ لمعنى اخر ، من دون ملاحظة مناسبته للموضوع له الأوّل ولا ملاحظة عدم مناسبته له على وجه يكون تبعا للوضع الأوّل ، حصل وصف الكثرة في المعنى بالوضع الثاني مع كونه واحدا ، لمجرّد عدم ملحوظيّة وضع اخر معه ، بخلاف ما لو وضع ثانيا لمعنى باعتبار مناسبته لما وضع له أوّلا ، فإنّ هذا كثرة تنشأ من وضعين لمكان مدخليّة الوضع الأوّل فيها أيضا ، وإن كان الوضع الثاني أقوى وأشدّ في المدخليّة.

ولو لا التفسير المنقول منه لكانت العبارة بظاهرها منصرفة إلى نحو اسم الإشارة ممّا وضع بوضع واحد لمعان خاصّة ومفاهيم جزئيّة كما لا يخفى ، فإنّ المعنى المذكور بعيد عن الفهم جدّا ، فتكلّف إرادته في التقسيمات الّتي هي في حكم التعريفات ليس بسديد.

__________________

(١) حكاه عنه سلطان العلماء رحمه‌الله في حاشيته المتعلّقة بالمقام ، المعالم : ٢٦.

٢٧٣

وقد يعترض عليه أيضا في تعبيره بذلك بما لو وضع اللفظ الموضوع لمعنى بإزاء مناسبه لمناسبته له ، فإنّه ممّا لا ينبغي التأمّل في كونه من المشترك مع خروجه عن الحدّ المستفاد من العبارة ، ولكنّه ليس في محلّه كما أنّ ما اضيف إليه أيضا من أنّه لو فرض بلوغ المجاز إلى حدّ الحقيقة من جهة الغلبة مع عدم هجر الأوّل كان من المشترك مع خروجه عن الحدّ قطعا ليس في محلّه كما ستعرفه ، وكأنّه مبنيّ على توهّم اعتبار الهجر في النقل وهو أيضا محلّ منع ، لعدم ثبوت اعتباره من الأكثر ، بل ظاهرهم قصر الفرق بينه وبين المشترك على ملاحظة المناسبة في الأوّل عند وضعه الثاني وما زاد دون الثاني وإن لم يساعد عليه عبارة المصنّف بل يساعد على خلافه ، فالمفروضان يندرجان في المنقول وإن كان لا يتحمّله ظاهر العبارة الاتية.

نعم يرد على بيانه ما لو وضع لفظ موضوع لمعنى ، لمعنيين اخرين على التعيين لمناسبتهما المعنى الأوّل ، أو استعمل فيهما مجازا إلى أن يبلغ حدّ الحقيقة ، فإنّ ذلك على الظاهر بالنسبة إلى المعنيين من الألفاظ المشتركة ولا يتناوله البيان المذكور ، لعدم صدق الواحدة بالمعنى المذكور على الوضع الحاصل لهما.

وأمّا على البيان المشهور في حدّ المشترك من أنّه لفظ وضع لمعان متعدّدة بأوضاع متعدّدة من دون ملاحظة المناسبة فيها فاندراجه فيه ظاهر ، ولا ينتقض بأنّه أيضا ممّا لوحظ فيه المناسبة ، لأنّها إنّما لوحظت بين المعنى الأوّل والمعنيين لا بين المعنيين بأنفسهما ، فالإشتراك حاصل بينهما لا بينهما وبين الأوّل ، ولذا يصحّ الفرض لو لم يكن بينهما مناسبة أصلا ، فهذا اللفظ باعتبار كونه بين الأوّل وبينهما يندرج في المنقول ، وباعتبار كونه بينهما يندرج في المشترك ، ولا منافاة بعد مراعاة الحيثيّة.

وقد بيّنا سابقا أنّ الحيثيّة ملحوظة في جميع أنواع هذا التقسيم ، ومن هنا يجوز اجتماع الترادف والتبائن والإشتراك وغيره في لفظ واحد ذي حيثيّات ، فلو فرض وضع لفظ « الأسد » للحيوان المفترس والثعلب ، ووضع لفظ « الغضنفر »

٢٧٤

للحيوان المفترس والأرنب ، كان كلّ بالقياس إلى معنييه مشتركا ، وهما بالقياس إلى الحيوان المفترس من المترادفة ، وبالقياس إلى الثعلب والأرنب من المتبائنة ، ويجوز فيهما فرض الحقيقة والمجاز والنقل والارتجال باعتبارات مختلفة ، كما لا يخفى.

[٤٥] قوله : ( وإن اختصّ الوضع بأحدهما ، ثمّ استعمل في الباقي من غير أن يغلب فيه ... الخ )

إيراد التثنية اكتفاء بأقلّ مراتب التعدّد ، لا قصر لأقسام متكثّر المعنى على ما لو اختصّ تعدّد معناه بين معنيين لا أزيد ، فيندرج فيه ما لو اختصّ الوضع بأكثر من معنى ، كما يندرج فيه ما لو كان الباقي المفروض انتفاء الوضع عنه أكثر من معنى.

والظاهر بملاحظة ما سبق كون المراد بالوضع المفروض اختصاصه بأحدهما هو الوضع المتقدّم ذكره ، وهو الوضع الواحد بالمعنى المتقدّم ، واختصاص الوضع بهذا المعنى بأحد المعنيين قد يكون لاختصاص أصل الوضع الّذي يلحقه وصف الواحدة ، وقد يكون لاختصاص واحدته الّتي هي وصف فيه ، فالباقي المنتفى عنه هذا الوضع بمقتضى مفهوم الاختصاص المنحلّ إلى عقدين إيجابي وسلبي قد يكون ممّا انتفى عنه أصل الوضع ، كما إذا كان معنى مجازيّا وقد يكون ممّا انتفى عنه الوصف المذكور ، كما إذا كان معنى نقليّا أو ارتجاليّا على بعض الوجوه.

ولمّا كان العقد السلبي المستفاد من الاختصاص متضمّنا لجميع هذه الأقسام فأخذ المصنّف يتقسيم موضوعه إليها على التفصيل بقوله : « ثمّ استعمل في الباقي من غير أن يغلب فيه » فإنّ ذلك بيان تفصيلي لما انتفى عن الباقي أصل الوضع ، بناء على أنّ المراد بالغلبة فيه هو غلبة اللفظ على المعنى ، بعود ضمير « يغلب » إلى اللفظ دون الاستعمال كما هو الظاهر بملاحظة السياق ، وبقرينة ما في العبارة الاتية من إظهار الاستعمال في قوله : « وكان الاستعمال لمناسبة » إذ لو كان ضمير الجملة المتقدّمة عليه عائدا إلى الاستعمال كان ما ذكر محلاّ للإضمار كما لا يخفى ، فالعدول عنه إلى الإظهار يقضي بمغايرة ما اضمر في الجملة المتقدّمة ، ولا يصلح له إلاّ ما يعود إلى اللفظ.

٢٧٥

وحينئذ فغلبة اللفظ على المعنى كناية عن تعيّنه له ، الناشئ عن وضع التعيين أو كثرة الاستعمالات المجازيّة البالغة حدّ الحقيقة ، فإنّ اللفظ والمعنى ما لم يحصل بينهما أحد الأمرين كانا متنافرين ، كالتنافر الحاصل بين المتقابلين الّذي هو معنى عدم اجتماعهما في جانب واحد ، فإذا حصل أحد الأمرين فكأنّ اللفظ بتعيّنه الناشئ عنه له غلب على المعنى وأخذه على جانبه ، وعلى هذا فقوله : « وإن غلب وكان الاستعمال لمناسبة فهو المنقول » يشمل كلا قسمي المنقول الحاصل نقله بالتعيّن أو التعيين ، ولا ينافيه قوله : « وكان الاستعمال لمناسبة » بدعوى : عدم ملائمته لوضع التعيين الّذي لأجله يلاحظ المناسبة لا لأجل الاستعمال ، لأنّ الاستعمال إذا وقع للوضع وهو للمناسبة فيصدق أنّ الاستعمال وقع للمناسبة ، وعلى هذا فلا قصور في عبارة المصنّف.

ولا يرد عليه : أنّ الظاهر من كلامه أنّه لا وضع في المعنى المنقول إليه والمرتجل كما في المجاز ، حيث جعل الثلاثة من أقسام ما اختصّ الوضع بأحد المعاني ، فالفرق بينهما وبين المجاز اعتبار عدم الغلبة في المجاز واعتبارها فيهما. والفرق بينهما اعتبار المناسبة في المنقول دون المرتجل ، مع اشتراك الجميع في عدم الوضع الحقيقي كما سبق إليه بعض المحقّقين (١) فلا يلزم كون استعمالات المرتجل على كلامه غير صحيحة ، لفرض انتفاء الوضع وملاحظة المناسبة فيها معا ، ولا يخفى إنّ الاستعمال بدون أحد الأمرين غير صحيح ، فإنّ الغلبة المفروضة فيه بالمعنى الّذي قرّرناه ملزومة للوضع ، وهو أحد فردي مصحّح الاستعمال.

نعم يشكل الحال فيه بالقياس إلى أنّ مقتضى كلامه ثبوت الوضع في المرتجل وعدم كونه واحدا بالمعنى المتقدّم ، وهو ممّا لا يرتبط بما اعتبر فيه فرقا بينه وبين المنقول ، من كون الاستعمال بدون ملاحظة المناسبة ، فإنّ وصف الواحدة إنّما ينتفي مع ملاحظتها ، إلاّ أن يوجّه قوله : « بدون المناسبة » إلى إرادة كون الاستعمال لعدم

__________________

(١) حاشية سلطان العلماء رحمه‌الله على المعالم : ٢٦.

٢٧٦

المناسبة ، ومرجعه حينئذ إلى ما قد يذكر في الفرق بينه وبين المشترك والمنقول من أنّ المشترك ما لم يلاحظ في وضعه لمعانيه المناسبة ، والمنقول ما لوحظ في وضعه المناسبة ، والمرتجل ما لوحظ في وضعه عدم المناسبة.

وعلى أيّ حال ففي عبارته من البداية إلى تلك النهاية من الغلق والاضطراب ما لا يخفى ، وإصلاحها على وجه يسلم عن جميع المناقشات لا يكاد يحصل إلاّ بارتكاب أنحاء من التكلّف ، وإلاّ فالغلبة إن اريد بها الغلبة في الاستعمال الغير البالغة حدّ الحقيقة يرد عليه

أوّلا : ما تقدّم من اقتضائه ابتناء النقل والارتجال على انتفاء الوضع رأسا ، وهو خلاف ما يستفاد من القوم.

وثانيا : خروج استعمالات المرتجل غلطا كما عرفت.

وثالثا : انتفاض عكس المجاز وطرد المنقول بالمجاز المشهور.

وإن اريد بها ما احتمله بعض المحقّقين (١) من بلوغ الاستعمال إلى أن يترك ويهجر المعنى الأوّل ، على معنى أنّه لم يستعمل فيه بدون القرينة إلاّ أهل الاصطلاح الاخر ، لقضى بأنّ المجاز ما يعتبر فيه عدم هجران المعنى الأوّل لا انتفاء الوضع عن المعنى الثاني ، وهو كما ترى.

[٤٦] قوله : ( فهو المرتجل ... الخ )

المستفاد من جماعة في الفرق بين المنقول والمرتجل ، أنّ الأوّل ما نقل عن المعنى الأصلي إلى غيره لمناسبة بينهما ، والثاني ما نقل إلى الغير لا لمناسبة بينهما « كجعفر » الموضوع لغة للنهر الصغير ، و « طلحة » من الطلح الموضوعة في الأصل للشجرة الواحدة ، اللذين سمّي بهما الرجل ، وهذا الاصطلاح للمرتجل يخالف ما عليه النحاة ، من أنّه ما جعل علما لشيء ولم يكن منقولا إليه من معنى اخر ، كما حكاه في المنية (٢).

__________________

(١) حاشية سلطان العلماء رحمه‌الله على المعالم : ٢٦ في ذيل قوله رحمه‌الله : من غير أن يغلب فيه ... الخ.

(٢) منية اللبيب في شرح التهذيب : الورقة ٢٨ ( مخطوط ).

٢٧٧

ثمّ إنّ تربيع أقسام النوع الرابع وهو اللفظ المتّحد لمعنى متعدّد هو المعروف بينهم ، وقد يجعل أقسامه ثلاثة بإدراج المرتجل في المشترك ، وكأنّه لزعم اشتراكهما في عدم ملاحظة المناسبة ، وإن افترقا في ابتناء الارتجال على هجر المعنى الأصلي كما قيل دون مطلق المشترك ، وقد يدرج المنقول أيضا في المشترك ، كما يستفاد ذلك من الحاجبي ، حيث قال : « الثالث إن كان حقيقة لمتعدّد فمشترك وإلاّ فحقيقة ومجاز ».

وربّما يعترض على التقسيم بعدم كونه حاصرا لجميع أنواع اللفظ ، لقصوره عن الشمول لمثل « هذا » وغيره على رأي المتأخّرين.

وهذا ما تعرّض له بعض المحقّقين بقوله : لا يخفى أنّه لمّا كان المعتبر في المشترك تعدّد الوضع لا مجرّد تعدّد الموضوع له ، فيخرج منه مثل لفظ « هذا » ممّا وضع بالوضع العامّ الواحد لمعان خاصّة متعدّدة ـ كما هو التحقيق فيها ـ وفي أمثالها ، لكن يخدشه : أنّه على هذا وإن خرج من المشترك لكن لا يدخل في شيء من أقسام المتعدّد المعنى الّتي ذكرت ، مع كونها متعدّد المعنى على هذا المذهب قطعا (١).

وقد يقرّر الاعتراض بأنّ المعنى في المقسم إن اريد به خصوص ما وضع له اللفظ ، بطل إدراج الحقيقة والمجاز في المتعدّد المعنى ، لأنّ المعنى الموضوع له حينئذ واحد ، فيلزم دخولهما في المتّحد اللفظ والمعنى ، وإن اريد به ما يعمّه والمستعمل فيه بطل الحصر بمثل « هذا » ونحوه على رأي المتأخّرين ، لعدم اندراجه في شيء من الأنواع ولا شيء من أقسام النوع الرابع.

أمّا عدم اندراجه في النوع الأوّل فلتكثّر المعنى ، وأمّا عدم اندراجه في النوع الثاني فلاتّحاد اللفظ ، وأمّا عدم اندراجه في النوع الثالث فلتكثير المعنى واتّحاد اللفظ ، وأمّا عدم اندراجه في المشترك والمنقول والمرتجل فلاتّحاد الوضع هنا

__________________

(١) حاشية سلطان العلماء رحمه‌الله على المعالم : ٢٦.

٢٧٨

وتعدّده فيها ، وأمّا عدم اندراجه في الحقيقة والمجاز فلكون المعاني بأجمعها حقائق.

أقول : هذا الإشكال على تقدير وروده لا اختصاص له بمقالة المتأخّرين ، بل هو مشترك الورود بينها وبين مقالة القدماء ، القائلة بعموم الوضع والموضوع له معا في تلك الألفاظ ، فإنّ الموضوع له عندهم وإن كان واحدا لكن المستعمل فيه متعدّد على حسب اعترافهم بعدم وقوع استعمالاتها إلاّ على الخصوصيّات المندرجة تحت كلّي الموضوع له ، والمفروض أنّ المعنى في المقسم مراد به المستعمل فيه وإن لم يكن موضوعا له فلا تندرج حينئذ في شيء من الأنواع لما عرفت.

ولا ينبغي توهّم دخولها في الحقيقة والمجاز ، بناء على احتمال بقائها في كونها مجازات ، ولا في المنقول بناء على بلوغها بكثرة الاستعمالات المجازيّة حدّ الحقيقة بوضع التعيّن ، لأنّ المفروض عدم اتّفاق استعمالها في المعنى الكلّي الموضوع له ، المعتبر كونه المعنى الحقيقي على التقدير الأوّل ، أو المنقول منه على التقدير الثاني ، إلاّ أن يمنع اعتبار الاستعمال بدعوى : أنّ المعتبر فيهما وجود الموضوع له وإن لم يستعمل فيه اللفظ ، ولا ينافيه التعبير بالحقيقة في أحد القسمين لا بتنائه على مراعاة الغالب في الألفاظ الموضوعة من وقوع استعمالها في معانيها الموضوع لها ، وفيه : من التكلّف ما لا يخفى ، مع عدم مساعدة ظاهر كلماتهم عليه ، بل صريحها فإنّها بين ظاهر وصريح في اندراجها تحت النوع الأوّل كما ستعرفه.

ومع الغضّ عن ذلك فيكفي في فساد التوهّم ، أنّه خروج عمّا فرض كونه مقسما في تقسيم القوم ، وهو المعنى المستعمل فيه كما أشرنا إليه ، فإنّ قضيّة ذلك كون اللفظ في قسم الحقيقة والمجاز مستعملا في كلّ من معنييه الموضوع له والغير الموضوع له ، وفي قسم المنقول مستعملا في كلّ من معنييه المنقول منه والمنقول إليه.

وكيف كان ، فقد يذبّ عن الإشكال بأنّ التقسيمات المشهورة مبتنية على

٢٧٩

طريقة القدماء ، الذين لم يثبتوا فيما بين الألفاظ ما يكون موضوعا بوضع عامّ لمعنى خاصّ ، فلذا حصروا متكثّرة المعنى في تلك الأقسام ، ولم يأخذوا فيها ما يكون من قبيل الألفاظ المذكورة.

وأمّا المتأخّرون فهم وإن أثبتوا ذلك ، إلاّ أنّهم لم يغيّروا ما ذكره القدماء في تقسيم الألفاظ محافظة على ما استقرّ عليه كلام القوم في مبادئ العلم ، وإنّما أشاروا إلى ما هو المختار عندهم في تقرير المطالب.

وهذا الوجه مستفاد من كلام السيّد الجليل العلاّمة الطباطبائي في شرحه للوافية وهذا كما ترى مبنيّ على توهّم اختصاص ورود الإشكال بمقالة المتأخّرين ، بزعم اندراج الألفاظ المذكورة في النوع الأوّل ، لما فيها من اتّحاد المعنى الموضوع له الكلّي ، وقد عرفت ما فيه ، مضافا إلى ما ستعرفه.

ومن الأعلام (١) من يستفاد منه الالتزام بخروجها عن التقسيم لزعم عدم اندراجها في المقسم ، بدعوى : انعقاد تقسيماتهم في المفاهيم المستقلّة فيخرج عنها الحروف ، وكذلك أسماء الإشارة ونظائرها لمشابهتها لها في الوضع ، وهذا البيان وإن كان قد ذكره في تقسيم الكلّي والجزئي ، غير أنّ عموم كلامه يجري في المقام كما لا يخفى ، ويجري هنا ما قدّمناه في تزييفه ثمّة ، مضافا إلى ما سيظهر.

ومن الفضلاء (٢) من تفصّى عن الإشكال بإدراجها في أقسام متكثّر المعنى بزيادة قسم اخر على أقسامه المتقدّمة ، فإنّه بعد ما أخذ بتقسيم النوع الرابع ، جعل ما وضع لكلّ من المعاني على قسمين :

أحدهما : ما تعدّد فيه الوضع على حسب تعدّد المعنى فهو المشترك إن كانت الأوضاع ابتدائيّة بأن لم يلاحظ في بعضها مناسبة لاخر ، وإلاّ فإن لوحظ في الثاني مناسبته للأوّل فهو منقول تعييني أو تعيّني وإلاّ فمرتجل.

__________________

(١) قوانين الاصول ١٠ : ١.

(٢) الفصول : ٩.

٢٨٠