تعليقة على معالم الاصول - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٤٤٣

المبتنى عليه ، فيكون التعبير به واردا على سبيل المسامحة ، وكما أنّه بناء على ظاهر عبارته أفرط فقد فرّط هو في إحكامه ، وجماعة اخرى ففسّروه بما يستند تحقّق الشيء إليه (١).

وصاحب الحاصل (٢) ففسّره بما منه الشيء ، وبعضهم ففسّره بمنشأ الشيء ، فإنّ هذه التفاسير ظاهرة كالصريح في إرادة العلّة التامّة للحدوث فقط.

وقد عرفت أنّه للأعمّ من الجهتين ، إلاّ أن يريدوا بها ما يرجع إلى المعنى الأعمّ.

وممّن فرّط في هذا المقام من فسّره بما يا بنى عليه الشيء ، لظهور ذلك في الابتناء الناشئ عن الجعل والاعتبار ، وهو في العرف للأعمّ منه وممّا يكون من مقتضيات ذات الشيء ، كالمعلول بالقياس إلى علّته التامّة ، بل الأشياء بالقياس إلى مشيئة الله تعالى.

وأضعف التفاسير ، تفسيره بما في القاموس من أسفل الشيء ، سواء اريد به المطلق ، أو المقيّد بما يكون على جهة الابتناء.

أمّا الأوّل : فلوضوح عدم إطلاق الأصل على كلّ أسفل حتّى ما لا يبتنى عليه غيره ، وهو كثير.

وأمّا الثاني : فلأنّ الأصل وإن كان يصدق على الأسفل المبتنى عليه الأعلى ، لكن لا باعتبار عنوان الأسفليّة ، بل باعتبار عنوان الابتناء عليه.

والحاصل : بين ما يبتنى عليه وأسفل الشيء عموم من وجه ، والأصل إنّما يصدق في مادّة افتراق الأوّل ومادّة اجتماعه مع الثاني ، لكن من جهة عنوان الابتناء عليه.

وبالجملة ، الّذي يساعد عليه العرف إنّما هو صحّة ما ذكره الأكثرون.

__________________

(١) حكى عنه في شرح الإشنوي : ٢٦.

(٢) الإحكام في اصول الأحكام ـ للامدي ـ ١ : ٨.

٤١

ومنه إطلاق الأصل على رئيس القوم وسيّدهم ، بتقريب : أنّه الّذي يبتنى عليه امورهم ممّا يصلحهم ويفسدهم.

ومنه اخذ أيضا ما في لسان الاصوليّين من إطلاقه على الدليل ، والقاعدة ، والظاهر على ما يأتي بيانه ، فإنّ الدليل ما يبتنى عليه العلم بالنتيجة ، والقاعدة ما يبتنى عليه معرفة أحكام جزئيّات موضوعها ، والظاهر ما يبتنى عليه مدار الإفادة والاستفادة بالألفاظ.

ومنه أيضا إطلاقه في لسان أهل القياس على المقيس عليه ، قبالا للمقيس المسمّى عندهم بالفرع ، فإنّه الّذي يبتنى عليه معرفة حكم الفرع.

نعم ربّما يطلق على ما يتردّد بين رجوعه إلى المعنى الأوّل ورجوعه إلى المعنى الثاني ، كما في لسان علماء الرجال من إطلاقه على الاصول الأربعمائة ، الّتي ألّفها الرواة من أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام في ضبط الأحاديث ، فإنّ كونها اصولا إمّا من جهة أنّها أوّل ما دوّنت في الإماميّة ، أو من جهة إنّها الّتي يبتنى عليها مذهب الإماميّة وشرعهم ، أو التي يبتنى عليها الكتب الأربعة وغيرها من كتب الحديث المنتخبة عنها.

وثالثها : واقعيّة الشيء وتحقّقه في نفس الأمر ، كما يقال : هل للشيء الفلاني أصل؟ وللخبر الفلاني أصل؟ وهكذا.

وكما أنّه لغة جاء للمعاني المذكورة فكذلك اصطلاحا يطلق على معان ، وهي الأربع المعروفة المتقدّم إليها الإشارة ، أعني الدليل والقاعدة والاستصحاب والظاهر ، وفي كلام غير واحد أنّه يستعمل اصطلاحا في معان كثيرة مرجعها إلى الأربع المعروفة ، ومرادهم بالمعاني الكثيرة ـ على ما يظهر للمتتبّع ويشهد له تعرّض جماعة لضبط تلك المعاني وجمعها في رسائل مفردة ـ هي الاصول المتداولة على لسان الاصوليّة والمتفقّهة من أصالة الحقيقة ، وأصالة العموم ، وأصالة الإطلاق ، وأصالة عدم التخصيص ، وأصالة عدم التقييد ، وأصالة عدم الاشتراك ، وأصالة عدم القرينة ، وأصالة عدم النسخ ، وأصالة البراءة ، وأصالة

٤٢

الاحتياط ، وأصالة النفي ، وأصالة العدم ، وأصالة عدم الدليل دليل العدم ، وأصالة الصحّة في فعل المسلم ، وأصالة اللزوم في العقد وفي البيع ، وأصالة الفساد في العبادة والمعاملة ، وأصالة الطهارة في الماء أو في الأشياء ، وأصالة الإمكان ، وأصالة التداخل أو عدم التداخل في الأسباب ، وأصالة الأقلّ فيما دار الأمر بينه وبين الأكثر ، وأصالة عدم الجزئيّة أو الشرطيّة ، وأصالة الركنيّة ، وأنّ الأصل في المسألة الإجماع مثلا ، وأنّ الأصل في الماء المشكوك كرّيته الكرّية أو عدمها ، إلى غير ذلك ممّا لا يكاد يحصى.

وقضيّة ذلك ، كون مرادهم بالكثرة المدّعاة هنا ، كثرة موارد الاستعمال ومصاديق المستعمل فيه الغير الخارج عن الأربع المذكورة ، فيكون المراد برجوعها إليها اندراجها فيها.

فمحصّل العبارة المذكورة : أنّه يستعمل في موارد كثيرة ، تندرج في الأربع المعروفة اندراج مصاديق الكلّي تحته ، لا أنّه يستعمل في معان كلّية متغايرة ومغايرة للأربع المذكورة لكن يرجع إليها بنحو من التأويل ، كما هو مؤدّى العبارة المذكورة ظاهرا ، لوضوح أنّ الموارد المذكورة ونظائرها ليست إلاّ مصاديق الأربع المعروفة ، ولم يعهد منهم إطلاقه على ما يغايرها مغائرة المفاهيم الكلّية بعضها لبعض كما لا يخفى.

وعليه ، فما في كلام بعض الأعلام (١) من أنّه في العرف يطلق على معان كثيرة ، منها الأربعة المتداولة في ألسنة الاصوليّين ، لا محمل له سوى أن يراد بالمعاني الكثيرة ـ الّتي منها الأربعة المتداولة ـ ما يعمّ ما في كلام أهل الصرف ، وما في كلام أهل القياس ، وما في كلام علماء الرجال وما أشبه ذلك.

وكيف كان ، فالعمدة في المقام هو النظر في أنّه بالقياس إلى المعاني الأربع هل هو حقيقة في الجميع على طريق الاشتراك لفظا أو معنى أو مجاز في الجميع

__________________

(١) قوانين الاصول ٥ : ١.

٤٣

أو حقيقة في البعض ومجاز في اخر؟ وجوه ، أوجهها الأوّل لبطلان الوجوه الاخر بانتفاء لوازمها.

فإنّ الحقيقيّة في الجميع على طريقة الاشتراك المعنوي تستلزم كون الاستعمال بالقياس إلى كلّ من باب إطلاق الكلّي على الفرد ، بأن يكون المستعمل فيه المقصود من اللفظ أصالة هو المعنى اللغوي الكلّي ، ويكون كلّ من المعاني الأربع مرادا باعتبار الماهيّة الكلّية اللغويّة المتحقّقة فيه ، لا باعتبار الخصوصيّة المأخوذة فيه قيدا للماهيّة.

وهذا اللازم كما ترى ممّا يقطع بانتفائه في المقام ، من حيث إنّ المعلوم من طريقة أهل الاصطلاح ـ المعلومة بالتتبّع ـ في موارد إطلاقاتهم ، عدم ملاحظة المعنى اللغوي في شيء من إطلاقات اللفظ رأسا ، فضلا عن كونه مقصودا منه أصالة مستعملا فيه قصدا.

ومن هنا يعلم انتفاء ما هو من لوازم المجازيّة في الجميع أو في البعض ، فإنّ هذا الاحتمال وإن كان غير بعيد في حدّ ذاته ، لجواز بقاء اللفظ في لسانهم على معناه الأصلي من دون تجدّد وضع اخر له في مصطلحهم ، مع كون مبنى استعماله في كلّ من الأربع على التجوّز بملاحظة مناسبتها للمعنى الأصلي ، باعتبار الفرديّة أو غيرها من أنواع العلائق ، لكن ينفيه القطع بعدم ملاحظة شيء من هذه العلاقة ولا غيرها في شيء من إطلاقاته ، ومن البيّن أنّ ملاحظة العلاقة من شروط التجوّز.

نعم قد يستشكل في كونه حقيقة بالقياس إلى الظاهر ، وإلاّ لوجب اطّراده فيما يطّرد فيه الظاهر ، والتالي باطل ، لوضوح صحّة إطلاق الظاهر فيما لو استفيد حكم من [ دليل ] (١) لفظي مثلا ، فيقال : « الحكم الفلاني ظاهر هذا الدليل » و « إنّ الدليل الفلاني ظاهر في هذا الحكم » مع عدم صحّة القول بأنّ الحكم الفلاني أصل هذا الدليل ، وإنّ أصل الدليل الفلاني هذا الحكم ، مرادا به الظاهر.

__________________

(١) أضفناها لاستقامة العبارة.

٤٤

لكن يدفعه : أنّ كون الأصل حقيقة في الظاهر لا يستلزم كون كلّ ظاهر ممّا يصحّ إطلاق الأصل عليه ، كما في الخمر المستعمل في المسكر من العصير العنبي ، الغير المستعمل في كلّ مسكر.

والسرّ فيه : أنّ مسمّى الأصل ظاهر خاصّ ، اعتبر كونه وصفا قائما بما هو من صفات اللفظ وأحواله ، كالحقيقة والعموم والإطلاق ونحوه ، ولذا يصحّ أن يقال : « الأصل في الاستعمال الحقيقة ، وفي العامّ العموم ، وفي المطلق الإطلاق » ومفروض المثال المأخوذ موردا للنقض ليس من هذا الباب ، لوضوح أنّ الظاهر هنا ممّا اعتبر وصفا للمدلول.

وقد يستدلّ على بطلان المجازيّة باستلزامه المجاز بلا حقيقة ، وعلى بطلان الاشتراك المعنوي بفقد الجامع القريب ، وعلى بطلان المجازيّة في البعض بعدم وجود المناسبة ، والكلّ منظور فيه.

أمّا الأوّل : فأوّلا بالنقض بما قبل تحقّق النقل ، بناء على ما اختاره المستدلّ ، بعد البناء على الحقيقة في الجميع من باب الاشتراك لفظا من كونه تعيّنيّا للأصل فيه ، فإنّ وضع التعيّن يستلزم سبق الاستعمالات المجازيّة البالغة في الكثرة حدّا يستغنى معه عن القرينة ، فاللفظ حينئذ كان مجازا في الجميع ، فإن فرض له حقيقة في تلك الحالة فهي موجودة في جميع الأحوال ، وإلاّ لزم المجاز بلا حقيقة.

وثانيا : بالحلّ ، بأنّ وجود المعنى اللغوي الصادق على الجميع صدق الكلّي على الفرد كاف في هدم بنيان هذا المحذور.

والمفروض أنّ النقل على فرض تحقّقه حاصل عن هذا المعنى ، واحتمال كون المعتبر في نظر المستدلّ وجود حقيقة اخرى غير المعنى اللغوي ، مع اعتبار نقل اللفظ في لسانهم منه إليها بالقياس إلى تلك المعاني على فرض مجازيّتها مقطوع بفساده ، لعدم القول به لأحد ، مع عدم الإشارة إليه في كلام المستدلّ ، مع عدم لزومه حيث لا دليل عليه.

وأمّا الثاني : فلأنّ المراد بالجامع القريب ، إن كان مطلقه الّذي يكون عامّا

٤٥

لتلك المعاني ولغيرها ممّا ثبت إطلاق اللفظ عليه في العرف فهو موجود ، لكفاية المعنى اللغوي الموجود هنا.

وإن كان مقيده الّذي يكون خاصّا بها بحيث لا يتعدّاها إلى غيرها ، على معنى اعتبار نقل اللفظ في اصطلاحهم عن المعنى اللغوي العامّ إلى ما هو أخصّ منه وأعمّ منها جامعا لها.

ففيه : أنّه غير لازم ، إذ مع وجود المعنى العامّ لا جهة لاعتبار غيره على جهة الاختصاص بهذا اللسان.

إلاّ أن يقال : بابتناء الكلام على فرض ثبوت النقل في هذا اللفظ ، فحينئذ لو كان بعد ذلك النقل مشتركا معنويّا بين المعاني الأربع لاستلزم وجود جامع قريب بينها يكون هو المنقول إليه ، ومرجعه إلى اعتبار بناء الاشتراك المعنوي على الوضع الجديد الاصطلاحي وهو مفقود.

فيدفعه : مع أنّه لا داعي إلى التزام هذا الاعتبار ، إمكان فرض وجود مثل هذا المعنى ، نحو ما يستنبط منه الحكم الشرعي مثلا ، إلاّ أن يراد بفقده [ عدم ] (١) معهوديّة إطلاق اللفظ على نحو ذلك في لسانهم ، فيرجع إلى ما بيّناه بنوع من التأويل.

وأمّا الثالث : فلأنّ المناسبة المعتبرة هنا المفروض انتفاؤها إمّا أن يراد بها المناسبة العامّة الغير المختصّة بتلك المعاني ، فهي موجودة فيما بينها وبين المعنى اللغوي ، فلم لا يجوز كون استعماله في بعض تلك المعاني مجازا لأجل تلك المناسبة بالغا حدّ الحقيقة وفي بعضها الاخر غير بالغ هذا الحدّ. أو يراد بها ما هي

__________________

(١) في الأصل : [ على ] والظاهر أنّه سهو من قلمه الشريف والصحيح هو ما أثبتناه في المتن بقرينة ما جاء في التحرير الأوّل من التعليقة بخطّه الشريف ، حيث قال ـ في هذا الموضع ـ : « إلاّ أن يراد بفقده عدم اعتباره في لسانهم وعدم وقوع استعمالاتهم فيه على وجه يكون بالقياس إلى تلك المعاني من باب إطلاق الكلّي على الفرد ، فحينئذ يرجع الاستدلال إلى ما قدّمناه من الحجّة على نفي هذا الاحتمال ».

٤٦

مختصّة بها ، على معنى اعتبار كون بعض تلك المعاني وهو المعنى المجازي مناسبا للبعض الاخر الّذي فرض كون اللفظ حقيقة فيه ، ففيه :

أوّلا : منع لزوم ذلك وعدم الداعي إليه ، لكفاية المناسبة اللغويّة في صحّة التجوّز.

وثانيا : منع عدم وجودها ، فإنّ مشابهة بعض تلك المعاني لبعض في وصف استنباط الحكم الشرعي منها ـ مثلا ـ كافية في صحّة التجوّز ، ومع وجودها لا معنى للإنكار إلاّ أن يرجع إلى إنكار اعتبارها وملاحظتها حين الاستعمال ، فيرجع هذا الوجه أيضا إلى ما قرّرناه من الحجّة على نفي هذا الاحتمال.

وعلى أيّ حال كان ، فهل الوضع الثابت هنا ـ بناء على المختار ـ ثابت من باب التعيين أو التعيّن؟ وجهان ، مبناهما على أنّ الأصل في الوضع حيثما ثبت مردّدا بينهما هل هو التعيين أو التعيّن؟

قد يقال : بكون الأصل الثاني ، لأصالة تأخّر الحادث ، وأصالة عدم تعدّد الوضع ، وللنظر في ذلك مجال واسع ، لمكان المناقشة في كلّ من الأصلين.

أمّا الأوّل : فلأنّ أصالة التأخّر ـ بعد تسليم اعتبارها ثمّ جريانها في الألفاظ ـ لا تفيد نفعا في ثبوت وضع التعيّن ، إلاّ بإحراز مقدّمتين :

إحداهما : ثبوت كون التقدّم من لوازم وضع التعيين وخصائصه ، على معنى عدم اجتماعه مع وضع التعيّن ، واخراهما ثبوت كون التأخّر من لوازم وضع التعيّن وخصائصه ، على معنى منافاته لوضع التعيين.

والمقدّمة الاولى وإن كانت لا مجال إلى إنكارها ، للزوم وضع التعيّن مسبوقيّته للاستعمالات المجازيّة ، فيلزمه التأخّر عن الصدر الأوّل الّذي حدث فيه الاصطلاح وتأسيس الفنّ وموضوعاته المتداولة ، فلا يمكن تقدّمه على حدوث الاستعمال. لكنّ المقدّمة الثانية في حيّز المنع ، لعدم منافاة التأخّر لوضع التعيين في حكم العقل ، بإمكان تحقّقه فيما بين الاستعمالات المجازيّة المتأخّرة ، الّتي هي في قوّة أن يحدث معها وضع التعيّن ، بدعوى : أنّ صاحب الفنّ والاصطلاح بعد تحقّق

٤٧

الاستعمالات المجازيّة البالغة حدّ القوّة المذكورة في متن الواقع تصدّى لتعيين اللفظ تسهيلا للأمر على نفسه وتابعيه ، وقضيّة ذلك استناد تعيّن اللفظ إلى التعيين دون كثرة الاستعمالات المجازيّة ، في مكان لولاه لكانت الكثرة مؤثّرة في حصول ذلك التعيّن ، فأصالة التأخّر حسبما فرضها المستدلّ لا تنهض منتجة لوضع التعيّن بعينه ، بل لما هو مردّد بعد بينه وبين وضع التعيين.

وأمّا الثاني : فلأنّ الوضع الّذي يراد نفي تعدّده بالأصل ، إمّا أن يراد به ما هو من أحوال الموضوع ـ المعبّر عنه بالمعنى المفعولي ـ وهو الموضوعيّة ، أو ما هو من أحوال الواضع المعبّر عنه بالمعنى الفاعلي.

وبعبارة اخرى : إمّا أن يراد به المسبّب الّذي هو التعيّن ، أو السبب الّذي هو التعيين ، على معنى أنّ الأصل عدم تعرّض أحد لجعل هذا اللفظ ثانيا بإزاء المعنى المبحوث عنه ، بعد ما تعرّض واضع اللغة لجعله وتعيينه بإزاء المعنى اللغوي ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ المفروض تيقّن حدوث الوضع بهذا المعنى ، والشكّ إنّما هو في سببه المردّد بين التعيين وكثرة الاستعمالات المجازيّة ، فلا يعقل نفيه بالأصل.

وأمّا الثاني : فلأنّ الأصل بالقياس إليه مشغول بالمعارض ، إذ كما أنّ الأصل عدم تعرّض أحد لجعل هذا اللفظ وتعيينه ، فكذلك الأصل عدم تعرّض أحد لمراعاة لوازم المجاز فيه من نصب القرينة وملاحظة العلاقة ونحوها.

نعم هاهنا وجه اخر يمكن التعويل عليه لتأسيس هذا الأصل ، وهو الغلبة الثابتة بالاستقراء ، فإنّ الغالب في المنقولات كونها حاصلة بوضع التعيّن ، لكنّ النظر الدقيق يقضي بعدم استقامة ذلك أيضا ، فإنّ هذه الغلبة لا تجدي إلاّ بإحراز امور ، من استيفاء المنقولات الموجودة في الخارج كلاّ أو جلاّ ، ومن الاطّلاع على كيفيّة وضعها مع كون تلك الكيفيّة كيفيّة وضع التعيّن ، ومن عدم العلم بوجود فرد مخالف في الحكم ، كما هو شرط في كلّ استقراء مفيد للقطع أو الظنّ باللحوق ، وإن لم يوجد اعتباره في صريح كلام أحد ، نظرا إلى أنّ هذا القطع أو الظنّ إنّما ينشأ من

٤٨

القطع أو الظنّ بحكم الكلّي الحاصل بوجدان غالب أفراده على ذلك الحكم ، بتأليف قياس على طريق الشكل الأوّل ، مشتمل على صغرى موضوعها الفرد المشكوك فيه المستقرأ له ، وكبرى موضوعها ذلك الكلّيّ الجامع بين ذلك الفرد وغيره من الأفراد الغالبة المستقرأ فيها ، ومحمولها الحكم المعلوم ثبوته في تلك الأفراد المقطوع أو المظنون ثبوته للكلّي ، فمعنى قولهم : « الظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب » إنّ الظنّ بحكم الكلّي الّذي هو في قوّة الكبرى الكلّيّة المظنونة ، يلحق الشيء الّذي هو الفرد المشكوك فيه المأخوذ موضوعا في صغرى القياس بالأعمّ الأغلب ، الّذي هو الغالب من أفراد ذلك الكلّي المعلوم حكمها. ومحصّله : أنّ الظنّ بحكم الفرد المشكوك ظنّ بالنتيجة ، وهو لا يتأتّى إلاّ بنظم قياس صغراه كون هذا الفرد ملزوما لهذا الكلّي ، وكبراه كون الكلّي ملزوما لهذا الحكم.

ومن البيّن أنّ الظنّ بحكم الكلّي المعتبر في كبرى هذا القياس الحاصل بملاحظة أفراده الغالبة ، لا يتأتّى مع العلم بوجود فرد له مخالف في الحكم لتلك الأفراد ، بل يستلزم ذلك العلم بعدم كون ذلك الحكم المعلوم للأفراد الغالبة حكم ذلك الكلّي من حيث إنّه ذلك الكلّي ، ومعه لا يحصل الظنّ بحكم الفرد المشكوك فيه ، لأنّ الشبهة في حكمه من أوّل الأمر إنّما نشأت عن الشبهة في حكم كلّيه الّتي لم ترتفع بعد ، بل ارتفعت بانكشاف عدم كون الحكم المشكوك في ثبوته للفرد من لوازمه.

ومن هنا يتبيّن أنّ إعمال القياس هنا لا ينافي تسمية العمل بالاستقراء ، فإنّ الاستقراء ـ في مصطلح المنطقيّين ـ وإن كان يطلق على ما يقابل القياس والتمثيل ، غير أنّه في لسان الاصوليّين على ما علم من طريقتهم وملاحظة موارد تمسّكهم به يطلق على ما ينحلّ إلى حجّتين :

إحداهما : الاستقراء بمصطلح المنطقي ، ليعلم أو يظنّ به كون الحكم المعلوم للأفراد الغالبة من لوازم الكلّي الجامع لتلك الأفراد ولغيرها ، جنسا أو نوعا أو صنفا.

٤٩

واخراهما : القياس بمصطلحهم أيضا ، ليعلم به أو يظنّ كون ما هو من لوازم ذلك الكلّي ثابتا للفرد المشكوك في حكمه ، فإنّ المنطقيّين لا يتمسّكون بالاستقراء إلاّ لاستعلام حكم الكلّي من غير نظر لهم إلى فرد من أفراده ، بخلاف الاصوليّين حيث إنّهم لا يتمسّكون به إلاّ عند الشكّ في حكم الفرد ، الناشئ عن الشكّ في حكم كلّيه.

ومن البيّن أنّ الأوّل لا يرتفع إلاّ بإعمال القياس بطريق الشكل الأوّل ، كما أنّ الثاني لا يرتفع إلاّ بإعمال الاستقراء المصطلح عليه عند المنطقيّين ، والأوّل مترتّب على الثاني ، حيث إنّ العلم بلحوق الفرد بالأفراد الغالبة بعد العلم بحكمها لا بدّ له من طريق ، وهو إمّا ثبوت كونه من جملة الأفراد الغالبة وهو محال ، لإفضائه إلى الدور ، أو ثبوت كون الحكم المعلوم لها من لوازم الكلّي المشترك بينها وبين الفرد ، وهذا لا يثبت إلاّ بالاستقراء المنطقي ، كما أنّ العلم باللحوق بعده لا يحصل إلاّ بالقياس المنطقي.

وكيف كان ، فالامور المذكورة بأسرها منتفية في المقام ـ كما يظهر بأدنى تأمّل ـ ومعه كيف يمكن دعوى الغلبة ، ثمّ التعويل عليها.

فالحقّ أنّ المسألة لا أصل لها مع أنّها بنفسها قليل الجدوى ، وحيث لا ثمرة فيها إلاّ ما فرض نادرا في الحقائق الشرعيّة ـ على القول بثبوتها ـ من لزوم مراعاة التاريخ على تقدير كون النقل لوضع التعيّن.

[٢] قوله : ( في اللغة الفهم ... الخ )

هذا تعرّض للمقام الثاني الّذي يبيّن فيه ما يتعلّق بالجزء الثاني من لفظ « اصول الفقه » وله أيضا بحسب كلّ من اللغة والاصطلاح معنى :

أمّا الأوّل : فعلى ما في العبارة ، وكلام جمهور الاصوليّة ، وأئمّة اللغة ، أنّه الفهم.

وعن الرازي (١) تفسيره بفهم غرض المتكلّم من كلامه. وعن بعضهم

__________________

(١) المحصول في علم الاصول ـ للرازي ـ ١ : ٧٨.

٥٠

تفسيره بفهم الأشياء الدقيقة (١).

وعن بعض الفضلاء (٢) أنّه : التوصّل إلى علم غائب بعلم شاهد ، والظاهر أنّ مراده العلم الحاصل بطريق النظر ، مع احتمال اختصاصه بالعلم التصديقي كما هو الظاهر ، فيكون المراد بالعلم الشاهد خصوص الحجّة ، أو عمومه للعلم التصوّري ، فيراد بالعلم الشاهد ما يعمّ المعرّف أيضا ، وقوّة الظنّ بل الجزم في جانب الأوّل ، وعلى طبقه ورد استعمالات الكتاب والسنّة على حدّ الكثرة.

منها : قوله عزّ من قائل : ( لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً )(٣) وقوله أيضا : ( وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ )(٤) وقوله عليه‌السلام : أنتم أفقه الناس ـ إلى ـ عرفتم معاني كلامنا ... الخ.

وأمّا التفاسير الاخر المتضمّنة للخصوصيّات المعلومة فإن رجعت إلى الأوّل بدعوى : ورودها لإرادة المثال من دون إرادة مدخليّة الخصوصيّات في المسمّى اللغوي فهو ، وإلاّ فلا يلتفت إليها.

وأمّا « الفهم » : فهو أيضا ممّا اختلفت كلمتهم في تفسيره ، فمنهم من فسّره بالإدراك المطلق ، المتناول لكلّ من التصوّر والتصديق ، وهو المتبادر من إطلاقاته الجارية على لسان العرف كما يظهر للمتتبّع.

ومنهم من فسّره بالعلم ، ولعلّه راجع إلى الأوّل ، لاحتمال إرادة ما يعمّ التصوّر من العلم وإن كان خلاف الظاهر.

ومنهم من فسّره بجودة الذهن من حيث استعداده لاكتساب المطالب من المبادئ.

__________________

(١) الفقه في اللغة فهم ما دقّ وغمض. شرح اللمح ( ١ : ١٥٧ ) ـ شرح اللمع للشيخ أبو إسحاق الشيرازي وهو إبراهيم بن عليّ بن يوسف ، جمال الدين الشيرازي. أحد أعلام الشافعيّة ، من أهمّ مؤلفاته في الاصول « اللمع » وشرحه ، والتبصرة. توفّي سنة ٤٧٦ ه‍. ( انظر : وفيات الأعيان ١ / ٩ ـ شذرات الذهب ٣ / ٣٤٩ ).

(٢) حكى في الفصول عن مفردات الراغب : ١.

(٣) الكهف : ٩٣.

(٤) الإسراء : ٤٧.

٥١

ومنهم من فسّره بسرعة الانتقال من المبادئ إلى المطالب ، وهذان الاستعمالان كما ترى غير معهودين في الاستعمالات العرفيّة.

نعم كثر وشاع إطلاقه عليهما في لسان العرف الخاصّ كما هو واضح بالوجدان ، لكنّه لا ينفع فيما هو مقصود المقام ، مع ما فيه من اقترانه بقرينة الحال ، من حيث وروده في مقام المدح والوصف.

ولعلّ الّذي فسّره بهما اشتبه عليه الأمر بملاحظة هذه الاستعمالات ، ومن هنا ضعف كلام من جزم بكونه لجودة الذهن ، فردّ تفسيره بالعلم المقتضي لترادفهما ، بدعوى الفرق بينهما كالفرق بين العامّين من وجه ، لتصادقهما في العالم الفطن وتفارق « الفهم » في العامي أو الطفل الفطنين ، وتفارق « العلم » في العالم الغبي ، فإنّ هذا الفرق مبنيّ على الأخذ بما هو في لسان أهل العرف الخاصّ ، فلا ينهض دافعا للقول المذكور.

وأمّا الثاني : فاختلفت عباراتهم أيضا في تعريفه ، اختلافا راجعا إلى مجرّد التعبير دون المسمّى ، حيث إنّه عند الجميع شيء واحد عبّر عنه كلّ أحد بما ساعد عليه نظره ، بزعم أنّه لو لا التعبير به لم يسلم التعريف طردا أو عكسا أو غير ذلك ممّا اعتبر مراعاته في التعاريف ، ونحن نقتصر منها على ما اختاره المصنّف ـ تبعا للأكثر ـ من أنّه : « العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة ».

[٣] قوله : ( وفي الاصطلاح ... الخ )

لا يذهب عليك ، أنّ هذا اللفظ حيثما اطلق عقيب ذكر المعنى اللغوي يراد به ما يقابل العرف العامّ وعرف الشرع ، فورود الحدّ المذكور أو غيره من مرادفاته في كلام الفقهاء أو الاصوليّين ـ قديما وحديثا ، من العامّة والخاصّة ـ مقيّدا بالاصطلاح ، تصريح بكونه معنى جديدا محدثا من المجتهدين ، من دون أن يكون للشارع فيه من حيث إنّه شارع مدخل وتصرّف فيه فليس من المعاني الشرعيّة ، ولا لفظ « الفقه » بالقياس إليه من الحقائق الشرعيّة ، كما هو الراجح في النظر القاصر لعدم ثبوت كون المعنى المذكور من مخترعات الشارع ليدخل اللفظ

٥٢

الواقع عليه في ضابط الحقيقة الشرعيّة ـ على القول بثبوتها كما هو الأظهر ـ خلافا لبعض المحدّثين في كلام محكيّ عنه (١) في المناقشة على من أخرج الضروريّات عن الفقه ، قائلا : « بأنّ الإجماع على بعض الأحكام من فرق الإسلام كلّها ، لا يخرجها عن كونها مسألة فقهيّة بحسب إطلاق الشرع ، ألا ترى أنّ كثيرا من الفرعيّات ممّا انعقد إجماع المسلمين عليها مع أنّها دوّنت في الكتب وذكروا مدارك أحكامها ».

وعنه أيضا : « أنّ الفقهاء لم يزعموا أنّ هذا الاصطلاح اخترعوه من عند أنفسهم ، بل قالوا : إنّه مفهوم من الأخبار وكلام الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ، ومن تتبّع كلامهم لم يختلجه شكّ ولا ريب في ذلك.

وفيه : أنّ إطلاق الشرع إن اريد به إطلاق الشارع على حدّ ما هو الحال في الحقائق الشرعيّة ، على أن يكون الإطلاق تابعا لوضعه تعيينا أو مستتبعا للوضع في زمانه تعيّنا.

فيدفعه أوّلا : ما أشرنا إليه من عدم ثبوت كون المعنى المذكور من مخترعاته وجعليّاته الّتي من شأنها ألاتؤخذ إلاّ منه ، كما يظهر بأدنى تأمّل.

ولا شاهد في كلام الفقهاء بما زعمه ، بل الشاهد على ما عرفت من التقييد بالاصطلاح قائم بخلافه ، وكونه مفهوما من الأخبار وكلام الأئمّة الأطهار ـ على فرض تسليمه ـ لا يلازمه ، حيث إنّ الشارع لا يراد منه في مفهوم الحقيقة الشرعيّة ما يعمّهم أيضا.

وثانيا : منع كون الإطلاق عليه أو الوضع له بعد تسليم ثبوتهما من الشارع صادرا منه بعنوان الشارعيّة ، ومع عدم مدخليّة هذا العنوان في الإطلاق أو الوضع خرج المفروض عن ضابط الحقائق الشرعيّة ، وإلاّ كان كثير من الألفاظ المتّفق على عدم كونها منها داخلا فيها ، كما يأتي تحقيقه في محلّه.

__________________

(١) حكاه في هداية المسترشدين : ١ ( الطبعة الحجرية ).

٥٣

وإن اريد به إطلاق أهل الشرع بالمعنى الشامل للأئمّة عليهم‌السلام ، فثبوت أصل الإطلاق بل الوضع في الجملة ولو من الأئمّة عليهم‌السلام وفي زمنهم غير بعيد ، بل هو الظاهر بملاحظة أنّ علم الفقه قد شاع في زمنهم بين أصحابهم ـ ولا سيّما الصادقين عليهما‌السلام ـ وقد كان جماعة من أصحابهم معروفين بالفضل والفقاهة ، موسومين بلفظ « الفقيه » قبالا لمن كان منهم موسوما بلفظ « المتكلّم » وغيره من ألفاظ العلوم على ما يرشد إليه تتبّع الأخبار وكلمات العلماء الأخيار في الرجال في ضبط أحوال الرواة ، ولا ريب أنّ مجرّد ذلك لا يقضي بكون اللفظ حقيقة شرعيّة.

ومن هنا يعلم أنّ نفي الحقيقة الشرعيّة هنا لا ينافي ما نسب إلى الفقهاء من أنّهم لم يزعموا أنّ هذا الاصطلاح من عند أنفسهم.

وأمّا المناقشة في إخراج الضروريّات فستعرف دفعها فيما بعد ذلك ، وانتظر لتتمّة الكلام فيما يتعلّق بإطلاقات هذا اللفظ ، عند الكلام في إخراج علم المقلّد عن الحدّ ، إن شاء الله تعالى.

[٤] قوله : ( هو العلم ... الخ )

العلم في اللغة والعرف بالمعنى الأعمّ ـ من العامّ والخاصّ ـ يطلق على معان كثيرة : الإدراك المطلق ، والتصوّر ، والاعتقاد الراجح المعبّر عنه بالتصديق مطلقا ، والاعتقاد الراجح الغير المانع من النقيض المعبّر عنه بالظنّ ، والاعتقاد الراجح المانع مطلقا المعبّر عنه تارة بالجزم واخرى بالقطع ، والراجح المانع الغير المطابق المعبّر عنه بالجهل المركّب ، والراجح المانع المطابق مطلقا والمانع المطابق الّذي يقبل الزوال بتشكيك المشكّك المعبّر عنه بالتقليد ، والمانع المطابق الّذي لا يزول بالتشكيك المعبّر عنه باليقين والملكة.

وقيل : قد يطلق أيضا على المسألة ، كما في قولهم : فلان يعلم علم النحو ، أي مسائله.

وجميع هذه الإطلاقات يوجد في العرف الخاصّ ، وإن اختصّ بعضها بل أكثرها بأهل المنطق.

٥٤

وأمّا العرف العامّ فلا يوجد فيه منها إلاّ بعضها ، والقدر المقطوع به منه بعنوان الحقيقة ، القدر الجامع بين التقليد واليقين تارة ، وخصوص التقليد اخرى ، واليقين ثالثة.

والظاهر أنّ موضوعة لغة هو الأوّل ، وإطلاقه على الأخيرين باعتباره لا لوضعه لخصوص كلّ منهما ، للتبادر وعدم صحّة سلبه عن الاعتقاد التقليدي ، وصحّة سلبه عن الظنّ والجهل المركّب ، وبعنوان المجاز الاعتقاد الراجح الجامع بين الجزم والظنّ.

وأمّا المعاني الاخر فلم نقف في العرف العامّ على إطلاقه عليها حتّى الظنّ ولو بعنوان المجاز.

وما يتوهّم من إطلاقه عليه مجازا بعلاقة وجوب العمل أو رجحان الحصول ويجعل من ذلك قوله تعالى : ( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ )(١) وقوله الاخر : ( إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً )(٢) بحمله على إرادة الظنّ المتاخم للعلم ، لتعذر حقيقة العلم هنا.

ففيه : منع ثبوت ذلك في استعمالات العرف ـ وفاقا لبعض مشايخنا قدّس الله أرواحهم ـ وتوهّم وروده في الايتين.

يدفعه : منع وجود القرينة عليه ، ودعوى تعذّر الحقيقة هنا غير مسموعة.

نعم لا نضائق تعسّر حصوله غير إنّه بمجرّده لا يقضي بعدم جواز إرادة الحقيقة ، ولو سلّم عدم كون الحقيقة مرادة فلا قاضي بتعيّن إرادة الظنّ بالخصوص ، لجواز كون المراد المعنى العامّ الثابت إطلاقه عليه في العرف العامّ.

ومع الغضّ عن جميع ذلك ، فاعتبار كون العلاقة وجوب العمل واضح الفساد ، لوجوب كون علاقة المجاز ممّا يعتبره العرف ، بناء على أنّ المعتبر فيها ثبوت ترخيص الواضع الّذي يكشف عنه المؤانسة العرفيّة. ووجوب العمل حكم شرعي لا يعرفه أهل العرف إلاّ من جهة الشرع ، وصلاحيّة رجحان الحصول لكونه علاقة أيضا ، لا يخلو عن منع.

__________________

(١) الممتحنة : ١٠.

(٢) النور : ٣٣.

٥٥

ثمّ لا يجوز أخذ العلم المأخوذ في جنس الحدّ بمعنى المسألة ، ولا صورة الشكّ ، لقضائه بفساد الحدّ لفظا ومعنى ، كما أنّه لا ينبغي أخذه بمعنى التصوّر الساذج ولا الإدراك المطلق ، بقرينة تعديته بالباء الّتي لا تلائم شيئا من المعنيين ، واحتمال زيادة « الباء » كاحتمال إضمار لفظ « المتعلّق » وصفا للعلم كما سبق إلى بعض الأوهام ، ممّا لا يلتفت إليه في نظائر المقام لعدم الداعي إليه.

وأمّا البواقي فلا مانع من إرادتها في شيء من الجهتين ، وإن كان أكثرها يستلزم تجوّزا في اللفظ إن صحّحناه عرفا في بعضها ، لكن المتعيّن منها من جهة أصالة الحقيقة حمله على إرادة القدر الجامع بين التقليد واليقين ، لأنّه المسمّى الحقيقي على ما عرفت.

فلو قيل : إنّ الأصل المذكور إنّما يؤخذ به حيث لم يكن هناك ما يوجب صرف اللفظ عن مسمّاه الحقيقي ، وظرف « عن أدلّتها » ظاهر الرجوع إلى العلم ، وهذا يصلح صارفا له عن مسمّاه الحقيقي إلى إرادة الظنّ أو القدر الجامع بينه وبين المسمّى الحقيقي ، بتقريب : أنّ الحاصل من الأدلّة التفصيليّة في الغالب إنّما هو الظنّ بالحكم.

قلنا : أخذ رجوع الظرف إلى العلم قرينة صارفة له عن حقيقته ، مبنيّ على مقدّمة يقضي لزوم حفظ عكس التعريف وطرده بفسادها ، وهي أخذ « الأحكام » بمعنى الأحكام الواقعيّة الصرفة.

ووجه فساد ذلك استلزامه انتقاض عكس التعريف بخروج المعلومات والمشكوكات معا ، أو المشكوكات فقط.

وتوضيحه : أنّ الأحكام المأخوذة في التعريف عبارة عن مسائل الفقه ، المدوّنة في الكتب الفقهيّة ، وهي عبارة عن النسب الخبريّة الّتي يستدلّ عليها الفقيه في الفنّ ، أو المحمولات المنتسبة إلى الموضوعات الّتي ينظر الفقيه في إثباتها لها ، وهي بحكم الاستقراء القطعي على ثلاثة أنواع ، لأنّ الفقيه بعد ما ورد في كلّ مسألة تحقيقا لها وطلبا للدليل عليها ، فإمّا أن يظفر على دليل علمي ، أو يظفر على دليل

٥٦

ظنّي عليها ، بالمعنى الأعمّ من الظنّ الخاصّ والظنّ المطلق ، أو لا يظفر على شيء منهما ، فتصير المسألة مشكوكة الثبوت لموضوعها ، فيرجع حينئذ إلى الاصول العمليّة ، كلّ في الموضع المناسب له.

وهذا الاختلاف في المسائل إنّما يتأتّى إذا اخذت « الأحكام » بمعنى الأحكام الواقعيّة ، وهي المحمولات المنتسبة إلى الموضوعات لعناوينها الخاصّة.

وحينئذ فإن اخذ العلم بمعناه الحقيقي انتقض عكس التعريف بالمظنونات والمشكوكات ، وإن اخذ بمعنى الظنّ انتقض بالمعلومات والمشكوكات ، وإن اخذ بمعنى الاعتقاد الراجح انتقض بالمشكوكات ، فلا بدّ لحفظ العكس من أخذ « الأحكام » بالمعنى الجامع للأنواع الثلاث المذكورة ، وهو الأحكام الفعليّة التي هي عبارة عن المحمولات المتعلّقة بالمكلّف تعلّقا فعليّا ، بحيث يجب عليه بناء العمل عليه والتديّن به ويعاقب على مخالفته ، ويندرج فيها بهذا المعنى كلّ من المعلومات والمظنونات والمشكوكات.

أمّا اندراج الاولى ؛ فلأنّ الفقيه بعد الظفر على الدليل العلمي وحصول العلم بالمسألة له ، ينكشف عنده تعلّق معلومه به تعلّقا فعليّا ، بحيث يجب عليه بحكم العقل المستقلّ بناء العمل عليه.

وأمّا اندراج الثانية ؛ فلأنّه بعد الظفر على الدليل الظنّي وحصول الظنّ له ينكشف عنده بحكم الأدلّة القطعيّة القائمة بحجّيّة الظنّ ، تعلّق مظنونه به تعلّقا فعليّا ، بحيث يجب عليه بناء العمل عليه.

وأمّا اندراج الثالثة ؛ فلأنّه بعد اليأس عن الدليل علميّا وظنّيا يندرج الواقعة باعتبار كونها مشكوكة في موضوع الاصول العمليّة ، المأخوذ فيه الشكّ وجهالة الحكم الواقعي ، فينكشف عنده بحكم الأدلّة القطعيّة القائمة على تلك الاصول ، تعلّق مؤدّى الأصل الجاري في الواقعة به تعلّقا فعليّا ، بحيث يجب عليه أيضا بناء العمل عليه ، فيكون كلّ من المعلوم والمظنون ومؤدّى الأصل حكما فعليّا في حقّه ، فوجب حمل « الأحكام » على الفعليّة منها ليتناول جميع مسائل الفنّ.

٥٧

وقد يقال ـ في تقريب أخذها بمعنى الأحكام الفعليّة ـ : أنّ الأحكام الواقعيّة ليست إلاّ امورا تعليقيّة وقضايا شأنيّة وإطلاق الحكم عليها مبنيّ على ضرب من المسامحة ، لظهوره في الأمر الفعلي ، من حيث إنّه عند التحقيق عبارة عن النسبة الّتي هي الربط الحاصل بين المكلّف وفعله ، والمأخوذ في القضيّة الشأنيّة ليس بحاصل فعلا بل هو في قوّة الحصول ، فالمتعيّن حملها [ على ] (١) الفعليّة لأنّها النسب الّتي تتعلّق بالمكلّف فعلا بانعقاد شروطه ، ومن اثاره وجوب بناء العمل عليها ، وما قرّرناه أولى. وإذا أخذ « الأحكام » بمعنى الأحكام الفعليّة فلا صارف معه للعلم عن مسمّاه الحقيقي ، لأنّ الأحكام الفعليّة بأسرها معلومات للفقيه ، وهو عالم بها مطلقا.

لا يقال : أخذ « الأحكام » بمعنى الأحكام الفعليّة لا يجدي نفعا في تصحيح رجوع الظرف إلى العلم ، لأنّ العلم بالأحكام الفعليّة إنّما من دليل إجمالي مطّرد في جميع المسائل ، وهو قولنا : « هذا ما أدّى إليه اجتهادي ، وكلّ ما أدّى إليه اجتهادي فهو حكم الله في حقّي وحقّ مقلّدي » لا عن الأدلّة التفصيليّة ، لأنّ كلاّ من المقدّمتين مأخوذة من الأدلّة التفصيليّة.

أمّا المقدّمة الاولى ؛ فلأنّ الفقيه في كلّ مسألة ترد عليه ، يعلم بالضرورة أنّ له ولمقلّده في هذه المسألة حكما فعليّا لا محالة ، فيجتهد في طلبه وإذا أدّى نظره بواسطة دليل علمي أو ظنّي إلى العلم أو إلى الظنّ بحكم ، أو بواسطة فقد الدليل بكلا قسميه إلى مؤدّى أصل من الاصول العمليّة ، يحرز عنده مقدّمة : أنّ هذا ما أدّى إليه اجتهادي بعنوان القطع.

وأمّا المقدّمة الثانية ؛ فلأنّ مدركها ليس بخارج عن الأدلّة التفصيليّة الّتي هي الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، وحيث إنّ مقدّمتي هذا الدليل تستندان إلى الأدلّة التفصيليّة ، استند إليها العلم بالأحكام الفعليّة أيضا ، لأنّه مفهوم كلّي منتزع عن النتائج من مقدّمتي هذا الدليل.

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

٥٨

ولا ريب أنّ النتيجة الحاصلة منهما مستندة في حصولها إليها ، فصحّ أن يقال : إنّ العلم بالأحكام الفعليّة حاصل عن الأدلّة التفصيليّة.

هذا مع أنّ النتيجة لا تغائر بالذات مقدّمتي القياس ، والعلم بها ليس بخارج عن العلم بهما ، بل هي بعينها مطويّة في كلّ منهما ، والعلم بها مندرج في العلم بكلّ منهما ، فإنّها قضيّة يحكم فيها بثبوت الأكبر من حيث هو للأصغر من حيث هو.

وفي إحدى مقدّمتي القياس إذا كان بطريق الشكل الأوّل يحكم بثبوت الأكبر بعنوان الأوسط للأصغر كالصغرى ، وفي الاخرى يحكم بثبوت الأكبر من حيث هو للأصغر بعنوان الأوسط كالكبرى ، ففي نتيجة دليل حدوث العالم ـ مثلا ـ يحكم بثبوت « حادث » من حيث هو « للعالم » من حيث هو ، وفي صغراه يحكم بثبوت « حادث » بعنوان إنّه متغيّر « للعالم » من حيث هو ، وفي كبراه يحكم بثبوت « حادث » من حيث هو « للعالم » من حيث إنّه متغيّر ، فالجميع متضمّن للعلم بحدوث العالم ، إلاّ أنّه في النتيجة بطريق التفصيل وفي كلّ من المقدّمتين بطريق الإجمال ، إمّا لإجمال في محمول القضيّة أو لإجمال في موضوعها.

والسرّ فيه ، أنّ في الصغرى يحكم بثبوت حادث بعنوان عامّ جامع لجميع لوازمه الّتي منها « الحادث » للعالم ، وفي الكبرى يحكم بثبوت « حادث » للعالم بعنوان عامّ جامع لجميع ملزوماته الّتي منها « العالم » فالعلم بحدوث العالم حاصل في النتيجة وفي كلّ من المقدّمتين ، بلا فرق فيه بينها وبين كلّ منهما إلاّ بالإجمال والتفصيل ، فيكون العلم في النتيجة مستندا إلى الأدلّة التفصيليّة ، باعتبار أنّه في كلّ منهما مستند إليها ، فيصدق على العلم بالأحكام الفعليّة انّه علم حاصل عن الأدلّة التفصيليّة ، فرجوع الظرف إلى العلم لا يصلح صارفا للعلم إلى إرادة الظنّ أو الاعتقاد الراجح.

هذا كلّه دفعا لتوهّم كون الظرف باعتبار رجوعه إلى العلم قرينة صارفة مع كون المصروف أحد هذين المعنيين.

وأمّا حمله على الملكة ، بناء على كون ألفاظ العلوم أسامي لملكاتها ، أو كون

٥٩

لفظ « الفقه » بالخصوص اسما لملكة هذا العلم ، كما هو قضيّة بنائهم دفع الإشكال الاتي الوارد على عكس التعريف من جهة خروج أكثر الفقهاء على ذلك ، فلا نضائقه إلاّ أنّه يشكل الحال حينئذ من وجهين :

أحدهما : ما ينشأ من تعلّق مدخول « الباء » بالعلم ، فإنّ الملكة ليست من معاني الأفعال ليصحّ تعلّق الظرف وما في حكمه بها.

وثانيهما : ما ينشأ من ظهور رجوع ظرف « عن أدلّتها » إلى العلم ، فإنّه يقضي بحصول العلم عن الأدلّة التفصيليّة ، والملكة إنّما تحصل عن الممارسة في الفنّ لا عن الأدلّة.

ولكن يسهل دفعه في كلا الوجهين ، بأنّ الملكة المرادة من لفظ « العلم » عبارة عن الملكة الّتي يقتدر بها على العلم بالأحكام عن الأدلّة ، فهو مفهوم مركّب عمّا يصحّ تعلّق الظرف وما في حكمه به ، وهو العلم بمعنى التصديق الجازم ، وهذا هو الّذي يقدّر حصوله عن الأدلّة ، لا أصل الملكة من حيث إنّها هيئة راسخة في النفس ، فلا إشكال أصلا.

[٥] قوله : ( بالأحكام ... الخ )

جمع مفرده الحكم ، وهذا أيضا يطلق على معان :

منها : الإلزام الّذي يتداوله العرف الكاشف عن اللغة ، فإنّه المتبادر من إطلاقاته عرفا ، يقال : حكمت عليه بكذا ، أي ألزمته عليه. ومنه ما يسند إلى حكّام الجور من سلطان وولاته ، وما يسند إلى حكّام الشرع في رفع الخصومات ، ويعتبر في الحكم بهذا المعنى امور :

أوّلها : كونه من مقولة الإنشاء فلا يتناول الإخباريّات.

وثانيها : كون الإنشاء على وجه الحتم تعلّق بفعل شيء أو تركه ، فلا يصدق على ما لا حتم فيه.

وثالثها : علوّ رتبة الحاكم شرعا أو عرفا بالنسبة إلى المحكوم عليه ، فلا يطلق على إلزامات الداني والمساوي.

٦٠