تعليقة على معالم الاصول - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٤٤٣

ومنها : ما يتداوله أهل الميزان ، وهو التصديق عند من يجعله بسيطا عبارة عن الحكم فقط ، المعبّر عنه بإسناد أمر إلى اخر إيجابا أو سلبا ، دون غيره من أجزاء القضيّة.

ومنها : ما يوجد في كلام بعض أهل الميزان أيضا ، من إطلاقه على النسبة الحكميّة المعبّر عنها بالنسبة الخبريّة.

ومنها : ما يوجد في كلام كافّة أهل العلم من إطلاقه على المسألة ، فيقال : أحكام النحو ، وأحكام الفقه ، أي مسائله.

والفرق بينه وبين سابقه : أنّ المسائل هي النسب الخبريّة الّتي يستدلّ عليها في الفنّ ، بخلاف النسبة المطلقة فإنّها تشمل النسب المتداولة في العرف أيضا.

ومنها : ما هو مصطلح قدماء الاصوليّين ، من أنّه خطاب الله المتعلّق بأفعال المكلّفين من حيث الاقتضاء والتخيير ، مع قيد « الوضع » أو إسقاطه على الخلاف فيه من جهة الاختلاف في كون الوضعيّات من الأحكام الشرعيّة أو من منتزعات العقل ، وإن لم نقل على الأوّل بكونها من مجعولات الشارع نظرا إلى أنّ كون الشيء حكما شرعيّا لا يستلزم كونه مجعولا وإن استلزم كونه مجعولا كونه حكما شرعيّا.

والمراد بالاقتضاء : ما يعمّ الأربع الطلبيّة وبالتخيير : ما يختصّ بالإباحة ، وأمّا الخطاب فالمستفاد من جماعة أنّ المراد به ما هو من مقولة اللفظ.

قال شيخنا البهائي قدس‌سره ـ في حواشي زبدته ـ : أنّ الخطاب لغة توجيه الكلام نحو الغير للإفهام (١).

وقد صرّح الامدي (٢) وغيره من علماء الاصول بنقله إلى الكلام الموجّه. انتهى.

__________________

(١) زبدة الاصول : ٣١.

(٢) الإحكام في اصول الأحكام ١ : ٨٥ حيث قال : والحقّ أنّه : « اللفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو متهيّئ لفهمه ».

٦١

وفي بيان المختصر ـ بعد ايراد التعريف ـ : أنّ الخطاب معناه توجيه ما أفاد في الاصطلاح نحو الحاضر ومن في حكمه ، واريد به هاهنا ما وقع به الخطاب ، وهو ما يقصد به إفهام من هو متهيّئ للفهم. انتهى.

ولكن يشكل هذا بملاحظة أنّ أصل هذا الاصطلاح في الحكم من الغزالي وتبعه اخرون ، وهو من الأشاعرة القائلة بالكلام النفسي ، الّذي يجعلونه مدلول. الكلام اللفظي الّذي منه الكتاب ، كما يرشد إليه قولهم الاتي في دفع شبهة اتّحاد الدليل والمدلول ، بناء على أخذ الحكم في التعريف بالمعنى المذكور.

فإنّ قضيّة هذا كلّه ، كون المراد بالخطاب هنا ما هو من مقولة المدلول لا اللفظ ، إلاّ أن يقال : بأنّ اصطلاحهم منعقد في اللفظ ، وحمله في الحدّ على المعنى تأويل ارتكبوه لدفع الشبهة.

ومنها : ما هو مصطلح الفقهاء من إطلاقه على الخمس التكليفيّة خاصّة ، وشاع عندهم إطلاقه على ما يعمّه الوضعيّات أيضا.

والفرق بين هذا وما تقدّم من مصطلح الاصولي واضح ، بناء على ما عرفت من تصريح الجماعة المقتضي كون المراد ثمّة بالخطاب ما هو من مقولة اللفظ.

نعم يشكل الفرق بملاحظة ما استظهرناه من الغزالي ، لأنّ مقتضاه اتّحاد الاصطلاحين كما سبق إلى بعض الأوهام أيضا ، إلاّ أن يفرّق بينهما أيضا بالنظر إلى الاعتبار ، بدعوى : أنّ الحكم الثابت لا بدّ فيه من جهتين صدورا وتعلّقا ، فهو من جهة صدوره قائم بنفس الشارع ومن جهة تعلّقه قائم بالمكلّف وفعله ، واصطلاح الاصولي ناظر إليه باعتبار جهة صدوره ، واصطلاح الفقيه ناظر إليه باعتبار جهة تعلّقه ، ويؤيّده التعبير عن الأوّل بالخطاب ، الظاهر في التوجيه الّذي هو صفة المخاطب بالكسر ، وعن الثاني بالوجوب والحرمة والندب والكراهة والإباحة ، الظاهرة فيما هو من صفات فعل المكلّف.

ويمكن القول : بأنّ مصطلح الاصولي أصله من المتكلّمين ـ كما يفصح عنه ما تقدّم من كونه من الغزالي الّذي هو من المتكلّمين ـ وهم إنّما يبحثون عن التكليف

٦٢

باعتبار ما يرجع إلى الشارع ، فلا يرتبط إلاّ بجهة الصدور ، كما أنّ الفقيه لا يبحث عنه إلاّ باعتبار كونه من عوارض فعل المكلّف ، فلا يرتبط إلاّ بجهة التعلّق ، فتعيّن الفرق حينئذ.

[٦] قوله : ( الشرعيّة ... الخ )

كلمة « الياء » في هذه اللفظة للنسبة ، فهي باعتبار هذه النسبة وصف للأحكام ، ويكون المعنى : الأحكام المنتسبة إلى الشارع ، والأحكام الشرعيّة بهذا المعنى يقال على ما يقابل الأحكام النحويّة والصرفيّة والمنطقيّة وغيرها.

وانتساب الأحكام إلى الشارع إمّا لأجل جعله الثابت فيها فيراد بها مجعولات الشارع ، أو لأجل الأخذ منه فيراد بها الأحكام المأخوذة منه ، أو لأجل كونها من طريقته الثابتة له بجعل أو إمضاء أو كشف عن الواقع.

والفرق بينه وبين الأوّلين ، انّهما يستدعيان تأويلا في لفظ « الشرع » بإرادة معنى الشارع بخلافه ، كما هو واضح.

والظاهر صحّة إرادة كلّ من الوجوه الثلاث إلاّ الوجه الأوّل ، على بعض تقادير الأحكام الوضعيّة حسبما تعرفه.

ومن الأفاضل (١) من اعترض على إرادة الوجه الثاني باستلزامه انتقاض العكس ، بخروج مثل وجوب الحكم بوجود الصانع ، ووجوب شكر المنعم ، ووجوب النظر في المعجزة ، وغيره ممّا لا سبيل إلى إدراكه إلاّ من جهة العقل ، مع أنّ الجميع من الحكم الشرعي جزما ، من غير فرق بين أن يعتبر الأخذ فعليّا أو شأنيّا ، فإنّ هذه الأحكام ليست مأخوذة من الشارع فعلا لئلاّ يلزم الدور كما قرّر في محلّه ، ولا أنّ من شأنها أن تؤخذ منه ، لأنّ ممتنع الأخذ منه فعلا ليس من شأنه أن يؤخذ منه ، هذا ملخّص كلامه ، نقلناه بالمعنى.

ويدفعه : أنّ أخذ الحكم من الشارع أعمّ من أن يكون ببيان الشرع أو العقل ،

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٣ ( الطبعة الحجرية ).

٦٣

ومحذور الدور إنّما يتوجّه على الأوّل لتوقّفه على ثبوت الشرع ، المتوقّف على هذه الأحكام.

وقد اعترف المعترض بأنّها مأخوذة من العقل ، وحيث إنّه لسان الشرع فالأخذ منه أخذ من الشارع ، مع توجّه المنع إلى الملازمة بين كون الشيء ممتنع الأخذ منه فعلا وكونه بحيث ليس من شأنه أن يؤخذ منه ، فإنّ معنى شأنيّة الأخذ من الشارع أنّ في الشيء لذاته ما يقتضي الأخذ منه ، والمقتضي قد يصادف وجود المانع ، وامتناع الأخذ منه فعلا إنّما نشأ عن مصادفة مانع الدور ، وهو لا ينافي وجود المقتضى الّذي عليه مدار صدق القضيّة الشأنيّة.

ألا ترى إنّ العبادة الواقعيّة من شأنها أن يأمر الشارع كلّ مكلّف بها إيصالا له إلى ما فيها من المصالح النفس الأمريّة والصفات الكامنة فيها ، مع امتناع تنجّز ذلك بالقياس إلى الغافل وغيره من ذوي الأعذار ، لمصادفة مانع التكليف بغير المقدور.

وأضعف من هذا الاعتراض ما يستفاد من بعض الفضلاء (١) ـ على تقدير إرادة الوجه الثالث ـ وهو لزوم نسبة الشيء إلى نفسه ، حيث إنّ الأحكام ليست إلاّ عبارة عن نفس الطريقة المختصّة بالشارع ، فيكون مفاد وصفها بالشرعيّة بهذا المعنى الطريقة المنتسبة إلى الطريقة ، وإنّه محال لوجوب تغاير المنسوب والمنسوب إليه في النسبة.

ويدفعه : أنّ الطريقة المنتسبة إلى الشارع إمّا عبارة عن مجموع امور تثبت بجعل الشارع وإمضائه وكشفه عن الواقع ، أو عمّا يصدق على كلّ من الجهات المتحقّقة فيما بين التكليفيّات وماهيّات العبادات والمعاملات صدق الكلّي على أفراده ، فهي بالإضافة إلى الخصوصيّات المندرجة فيها إمّا كلّ بالقياس إلى أجزائه ، أو كلّي بالقياس إلى جزئيّاته.

وأيّامّا كان فنسبة « الأحكام » إليها صحيحة على حدّ نسبة الجزء إلى كلّه ،

__________________

(١) الفصول : ٢.

٦٤

ونسبة الجزئي إلى كلّيه ، بناء على اعتبار العموم في « الأحكام » فالمنسوب في الحقيقة أفراد هذا ، وهي بالقياس إلى الطريقة إمّا أجزاء أو جزئيّات.

ثمّ قد عرفت أنّ أخذ الشيء من الشارع من جهة اعتباري الفعل والشأن على قسمين ، كما أنّه أيضا من جهة اعتباري الأخذ منه بلا واسطة والأخذ منه بواسطة العقل على قسمين ، فيتصوّر في الوجه الثاني ـ على تقدير إرادته ـ وجوه خمس : ما اخذ من الشارع فعلا بلسان الشرع ، وما اخذ منه فعلا ولو بلسان العقل ، وما من شأنه أن يؤخذ منه وقد اخذ فعلا بلسان الشرع ، وما من شأنه أن يؤخذ منه وقد اخذ فعلا ولو بلسان العقل ، وما من شأنه أن يؤخذ منه مطلقا.

ولا يصحّ من هذه الوجوه إلاّ الثاني والرابع والخامس ، لاستلزام الأوّل والثالث انتقاض العكس بخروج مستقلاّت العقل ، فيجب الحمل على ما عداهما حذرا عن ذلك ، من غير فرق فيه بين ما لو حمل « الأحكام » على النسب الخبريّة ، أو التصديقات ، أو المسائل ، أو مصطلح الفقهاء بمعناه الأعمّ أو الأخصّ ، إن قلنا بكون الوضعيّات ليست مجعولة ولا أنّها من الأحكام الشرعيّة ، فإنّ الحمل عليها مع قطع النظر عن الإشكالات المتوجّهة إلى أكثرها لا يستلزم محذورا بالقياس إلى الوجوه الثلاث الجارية في قيد « الشرعيّة » خلافا لمن توهّم عدم استقامة الأخذ بتلك الوجوه إلاّ إذا حمل « الأحكام » على مصطلح الفقهاء ، تعليلا : بأنّ الحمل على المعاني الاخر لا يلائم شيئا من الوجوه الخمس المذكورة ، لاستلزامه انتقاض العكس والطرد معا في بعض تلك الوجوه كالأوّل والثالث وانتقاض الطرد فقط في البعض الباقي ، فإنّ المستقلاّت العقليّة تخرج على الأوّل والثالث.

كما أنّ القصص والأمثال والمواعظ والنصائح ومسائل الحبط والتكفير وتجسيم الأعمال ونحوها ممّا ورد في الكتاب والسنّة تدخل على الجميع وإن اختصّ ذلك ببعض هذه الامور في الثالث والرابع والخامس من الوجوه ، فإنّ الجميع نسب خبريّة أو تصديقات ، أو مسائل مأخوذة من الشارع ، كما أنّ مسائل الحبط والتكفير وتجسيم الأعمال من الامور الّتي من شأنها أن تؤخذ من الشارع.

٦٥

وفيه : منع واضح بعد اعتبار الشأن مع قيد الحيثيّة ، فإنّ الحكم الشرعي ما اخذ أو من شأنه أن يؤخذ من الشارع من حيث إنّه شارع ، والامور المذكورة مأخوذة منه أو من شأنها أن يؤخذ منه من حيثيّات اخر لا من حيث الشارعيّة ، كما في سائر تفاصيل أحوال المعاد وغيرها ممّا لا يؤخذ إلاّ من الشارع.

[٧] قوله : ( الفرعيّة ... الخ )

صفة بعد صفة للأحكام و « ياؤها » كما في الشرعيّة أيضا للنسبة ، فيراد بالأحكام الموصوفة بها الأحكام المنتسبة إلى الفرع ، وانتساب الأحكام إلى الفرع معناه تعلّقها به ، كما يراد بالأحكام الاصوليّة الأحكام المنتسبة إلى الاصول باعتبار تعلّقها بها.

ومن هنا يتّضح أنّ الفرع اصطلاح للمتشرّعة في مقابلة الأصل ، فيقال : فروع الدين قبالا لاصول الدين.

و « الأصل » اصطلاح لهم في المعارف الخمس وما يتبعها ، فهي عبارة عن عقائد مخصوصة للمكلّف ، تعلّق بها بخصوصها من الشارع أحكام مخصوصة ، وتسمّى تلك الأحكام بهذا الاعتبار اصوليّة ، وقد تسمّى علميّة لكون متعلّقها علم المكلّف ، ويقابلها العمليّة مرادفة للفرعيّة لكون متعلّقها عمل المكلّف ، فالمراد بالفرع ما يقابل اعتقاد المكلّف ويرادف عمله ، ولذا قد يعرّف الفرعيّة : بما يتعلّق بالعمل بلا واسطة ، والموصول هنا كناية عن موصوف مطويّ وهو « الأحكام » بمعنى المسائل ـ على ما نختاره ونحقّقه ـ لا « العلم » مطلقا ولا « العلم بالحكم الشرعي » كما توهّم.

وأخذ « التعلّق » في الصلة تنبيه على أنّ المعتبر في انتساب الأحكام إلى الفرع المستفاد من كلمة « الياء » ما يكون بنحو التعلّق والعروض ، على معنى كون تعلّق الأحكام الشرعيّة بالفرع تعلّقا عروضيّا ، وبيان لتغاير الانتساب المأخوذ هنا لما هو مأخوذ في قيد « الشرعيّة ».

والجمع بين هاتين الجهتين من الانتساب ، تنبيه على أنّ الحكم المأخوذ في

٦٦

حدّ « الفقه » يعتبر فيه باعتبار الصدور والتعلّق جهتان ، يرجع اوليهما إلى الشارع تعالى وثانيتهما إلى عمل المكلّف.

ويتّضح بذلك ـ زيادة على ما مرّ ـ كون الحكم عبارة عن أمر فعلي ، نظرا إلى أنّ الفعليّة وصف لا يتأتّى إلاّ بالتعلّق الّذي هو ظاهر في الفعل ، كما أنّه يندفع به ـ مضافا إلى ما مرّ ـ ما قيل على طرد الحدّ من صدق « الأحكام الشرعيّة الفرعيّة » على أحكام شرع اليهود وغيرهم من سائر الامم ، لانتسابها إلى الشرع والفرع معا ، إلاّ أن يخصّص « الشرعيّة » بشرع نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو حمل اللام على العهد احترازا عمّا ذكر ، فإنّ هذه الشرائع مخرجة بقيد « الأحكام » بملاحظة ما قدّمناه من ظهورها في الفعل ، ولا فعليّة في الشرائع الاخر ، ولو سلّم عدم وفاء ذلك بالإخراج فاعتبار التعلّق في « الفرعيّة » الظاهر في العروض الفعلي كاف في إخراجها.

نعم ربّما يتوجّه النقض بأحكام الملائكة والتكاليف المختصّة بهم ، فإنّ العلم بها من هذه الجهة كالعلم بشرائع الامم السالفة لا يسمّى فقها ، ولا العالم بها فقيها ، مع أنّ ما ذكر في تعريف الفرعيّة صادق عليها.

ويمكن دفعه : بأنّ الظاهر المنساق من التعريف كون الحكم متعلّقا بالعمل تعلّقا يجب معه العمل عليه ، والتديّن به على العالم به ، أو من شاركه في التكليف.

ولا ريب أنّ الأحكام المتعلّقة بالملائكة بالقياس إلى من يعلمها من البشر ليست بتلك المثابة.

وقد يدفع : باعتبار كون العمل عملا للمكلّف الادمي من باب التقييد أو حمل اللام على العهد.

ومنهم من زاد في تعريف الفرعيّة قيد « الكيفيّة » مضافة إلى « العمل » وهي الهيئة المخصوصة الّتي تعتبر مع العمل في تعلّق الحكم الشرعي به.

والمراد بها إمّا الصورة النوعيّة الّتي يمتاز بها كلّ نوع من العمل عن مشاركاته في الجنس ، أو الهيئة العارضة له من انضمام أو تقييد أو انضمام وتقييد (١) على

__________________

(١) كذا في الأصل.

٦٧

ما يأتي الإشارة إلى تفصيل ذلك عند بيان تشريع الماهيّات واختراعها ، وملخّصه : أنّ المخترع للعبادة أو المعاملة يلاحظ الماهيّة مكيّفة بكيفيّات مخصوصة ، حاصلة من انضمام امور بعضها إلى بعض وهو التركيب ، واقترانها بامور اخر من حالة كذا أو جهة كذا أو زمان كذا أو مكان كذا وهو التقييد ، ثمّ يجعل لها حكما من الخمس ، وإلى هذا يشير ما قيل : من أنّ مفهوم الصيغة يرد على المادّة بعد اعتبار قيودها وحيثيّاتها ، فمورد الحكم الفرعي هو العمل الملحوظ معه الكيفيّة المخصوصة بأحد المعنيين أو كليهما ، لا ذات العمل بعنوانه العامّ الغير الملحوظ معه شيء من الكيفيّات المخصوصة ، ففائدة قيد « الكيفيّة » إمّا مجرّد توضيح هذا المعنى ، أو المحافظة على طرد التعريف بمثل مسألة وجوب شكر المنعم ، الّتي هي إمّا مسألة عقليّة صرفة أو مسألة كلاميّة وليست من المسائل الفرعيّة ، مع أنّ الحكم المأخوذ فيها متعلّق بالشكر الّذي هو عبارة عن صرف العبد جميع ما أنعمه المنعم فيما أنعمه لأجله ، وهو كما ترى عمل للمكلّف غير أنّه لم يلاحظ معه في هذه القضيّة شيء من الكيفيّات المخصوصة الّتي يتوقّف ثبوتها على ورود الشرع وثبوته ، فهو من هذه الجهة ليس بحكم فرعي ، بل الحكم الفرعي ما اعتبر في متعلّقه الكيفيّة المخصوصة ، فيخرج بهذا القيد عن التعريف.

ثمّ اعتبر في الحكم الفرعي ـ مضافا إلى اعتبار تعلّقه بالعمل ـ كون تعلّقه بلا واسطة غريبة في العروض ، بأن يكون عروضه له ذاتيّا وإسناده إليه حقيقيّا ، لا بأن يكون بحيث لو اسند إليه كان إسنادا مجازيّا ، كحركة السفينة المسندة إلى جالسها ، فالوجوب المستفاد من قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) حكم فرعي لتعلّقه بالعمل بلا واسطة ، لا نحو وجوب الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الاخر وغيرها من اصول العقائد وتوابعها ، وإن صحّ فرض تعلّقه بالصلاة بعيدا بواسطة غريبة وهي الإيمان المذكور باعتبار كونه من شروط صحّة الصلاة ، وغيرها من الفروع ، فإنّه لمجرّد مثل هذا التعلّق البعيد لا يسمّى حكما فرعيّا.

__________________

(١) الأنعام : ٧٢.

٦٨

ويمكن القول بالاستغناء عن القيد المذكور بملاحظة ظهور الصلة في التعلّق الحقيقي ، فيخرج به ما يكون تعلّقه بواسطة غريبة ، حتّى نحو وجوب الوضوء بالقياس إلى الصلاة بواسطة كون الوضوء من شروط صحّة الصلاة ، فإنّه وإن صحّ فرض تعلّقه بالصلاة ، بأن يقال : إنّ معنى قولنا : يجب الوضوء في الصلاة ، يؤول إلى قولنا : يجب الصلاة مقرونة بالوضوء ، إلاّ أنّ كونه حكما فرعيّا ليس بهذا الاعتبار البعيد ، الّذي ينشأ بعده من كون اسناده إلى الصلاة مجازيّا ، بل باعتبار تعلّقه بنفس الوضوء الّذي هو عمل وتعلّق به الحكم المذكور بلا واسطة.

ثمّ إنّ هاهنا إشكال يصعب دفعه ، يرد على ما ذكر من تعريف الحكم الفرعي ، وهو لزوم أحد الأمرين من انتقاض طرده أو عكسه بالأحكام الوضعيّة ـ بناء على كونها من الأحكام الشرعيّة ـ فإنّها إن كانت من الأحكام الفرعيّة والمسائل الفقهيّة انتقض العكس بخروج جملة كثيرة منها ، وإن لم تكن منها انتقض الطرد بدخول جملة اخرى ، وينتقض من جهته حدّ « الفقه » بأحد الوجهين ، لاشتماله على قيد « الفرعيّة » بالمعنى المذكور.

وتوضيحه : أنّ الأحكام الوضعيّة حسبما ساعد عليه الاستقراء أنحاء :

منها : ما هو متعلّق بعمل المكلّف كالسببيّة المتعلّقة بالوضوء وأخويه ، والإتلاف والغصب والقتل والجناية ونحوها ، حيث إنّ الثلاث الاولى أسباب للطهارة وتالياها سببان للضمان ، والأخيران سببان للقصاص والدية.

ومنها : ما هو متعلّق بعين المكلّف ، كطهارة المسلم ونجاسة الكافر ، والولاية والسلطنة والمالكيّة والوارثيّة والمورثيّة ونحوها.

ومنها : ما هو متعلّق بحال من أحوال المكلّف ، كالشرطيّة للطهارة ، ومستوريّة العورة ، وكونه مستقبل القبلة ، والمانعيّة للحيض والحدث والنجاسة ونحوها.

ومنها : ما هو متعلّق بالأعيان الخارجيّة ، كنجاسة الكلب والخنزير ونحوهما ، وطهارة الماء والغنم وغيرهما.

ومنها : ما هو متعلّق بحال من أحوال الأعيان الخارجيّة ، كالسببيّة لدلوك الشمس.

٦٩

ومنها : ما هو متعلّق بعمل أو عين ما هو شبيه بالمكلّف ، كالوضعيّات المتعلّقة بأفعال الصبيان والمجانين وأعيانهم ، فإن كانت الوضعيّات بجميع أنواعها المذكورة من المسائل الفقهيّة خرج ما عدا النوع الأوّل وهو انتقاض العكس ، وإن لم يكن منها دخل النوع الأوّل وهو انتقاض الطرد ، ولمّا كان الراجح في النظر عدم كونها من المسائل الفقهيّة ، لأنّها ليست كالأحكام التكليفيّة مقصودة بالأصالة ، بل إنّما تذكر في الفقه استطرادا أو استتباعا للتوصّل بها إلى ما هو مقصود بالأصالة ، انحصر الإشكال في انتقاض الطرد.

ويمكن دفعه أيضا : بظهور الجملة الفعليّة الدالّة على التجدّد والحدوث في حدوث التعلّق اللازم للجعل الثابت في التكليفيّات فقط ـ على ما سنقرّره ـ فيخرج به السببيّة القائمة بالأفعال المذكورة وغيرها ، ممّا يندرج في عمل المكلّف بحكم الملازمة الواقعيّة الّتي كشف عنها الشارع ، أو الملازمة العرفيّة التي أمضاها الشارع ، وأيّامّا كانت فليست السببيّة حادثة متأخّرا حدوثها عن محلّها ولو ذهنا ، كما هو الحال في الأحكام التكليفيّة.

نعم يبقى في المقام إشكال اخر بالقياس إلى عكس هذا التعريف ، بالنسبة إلى أفراد المعرّف وهي التكليفيّات ، بملاحظة أنّ متعلّق هذه الأحكام على أنواع :

منها : ما كان أمرا وجوديّا اختياريّا صادرا من الجوارح ، وما كان أمرا وجوديّا غير اختياري مستندا إلى الجوارح أيضا ، كالأفعال التوليديّة ، بناء على صحّة تعلّق التكليف بها كما هو الحقّ.

ومنها : ما كان أمرا عدميّا اختياريّا أو غير اختياري مستندا إلى الجوارح أيضا ، كالتروك ولو كانت من التوليديّات.

ومنها : ما كان أمرا وجوديّا اختياريّا أو متولّدا من الاختياري قائما بالقلب غير اعتقاد ، كالنيّة وقصد القربة ، حيث يتعلّق بهما الوجوب أو غيره ، وقصد المعصية ـ بناء على قبحه ـ والرياء والعجب والبخل والحسد حيث يتعلّق بها الحرمة ، فإنّ هذه الأحكام تعدّ عندهم من الفروع ، مع أنّ العمل المأخوذ في

٧٠

التعريف ظاهر عرفا ولغة في الوجودي الاختياري الصادر من الجوارح ، فيخرج منه ما عدا النوع الأوّل.

ويمكن دفعه أيضا : بأنّ « العمل » هنا ـ على ما عرفت ـ مرادف « للفرع » المقابل « للأصل » المصطلح عندهم في الاعتقاد ، المنقسم إلى المعارف الخمس وما يلحق بها ، وينبغي أن يكون الفعل المأخوذ موضوعا للفقه مرادفا لهما.

وقد ذكرنا سابقا أنّ « الفرع » اصطلاح للمتشرّعة فيما يقابل الاعتقاد ، وليكن مرادفاه أيضا كذلك ، وهو بهذا الاعتبار يشمل جميع الأنواع المذكورة ، والجامع لها الأمر الغير الاعتقادي الّذي يصحّ عرفا أن يسند إلى المكلّف نفسه ، وهذا كما ترى صادق على الجميع ، فينبغي أن يكون هذا هو المعنى المصطلح عليه ، ولا ينافيه الظهور المدّعى بحسب العرف واللغة فيما هو أخصّ منه ، لأنّ هذا ظهور أوّلي والعبرة بالظهور الثانوي الناشئ من الاصطلاح بقرينة المقابلة ، لكن ينبغي أن يراد من « المكلّف » هنا ما من شأنه أن يكون مكلّفا ، ليشمل التعريف عبادات الصبيّ ـ بناء على شرعيّتها ـ وحيث إنّ « المكلّف » مأخوذ هنا فيخرج به ما يتعلّق بأفعال الباري تعالى ، كقبح الظلم ، وإظهار المعجزة في يد الكافر ، ووجوب اللطف عليه تعالى ، وكونه مختارا في أفعاله إلى غير ذلك ، إن قلنا بأنّ هذه المذكورات أحكام شرعيّة ، وإلاّ ـ فبناء على التحقيق ـ هذه أحكام عقليّة كلاميّة فتخرج بقيد « الشرعيّة » ولا حاجة معه إلى اعتبار خروجها من « الفرعيّة » أيضا ، وإن كان ذلك يستلزم انتقاض تعريفها طردا بالخصوص من غير أن يسري النقض إلى حدّ « الفقه » كما يظهر بأدنى تأمّل.

ولو أردنا صون تعريفها أيضا عن النقض المذكور نتشبّث بما ذكر ، وحيث إنّ المكلّف في لسان المتشرّعة ينصرف إلى الادميّين فيخرج به الأحكام المتعلّقة بأفعال الملائكة والأجنّة لو فرض حصول العلم بها بطريق الاستدلال ، بناء على أنّ هذا العلم لا يسمّى « فقها » في الاصطلاح ، وانّ ما ذكرنا سابقا (١) في دفع إشكال

__________________

(١) تقدم في نفس هذه التعليقة ، الصفحة : ٥٣.

٧١

عدم سلامة الطرد من جهة هذه الأحكام لا ينهض مخرجا لها ، وإلاّ فلا حاجة إلى تكلّف دعوى الانصراف. فليتأمّل.

[٨] قوله : ( عن أدلّتها ... الخ )

متعلّق بعامل مقدّر عامّ « كالحصول » فيكون الظرف مستقرّا باتّفاق النحاة ، أو خاصّ كالأخذ أو الاستنباط أو الاستفادة أو غيرها ممّا يلائم كلمة المجاوزة ، فالظرف لغو في قول ومستقرّ في اخر ، والعامل على التقديرين وصف راجع إلى العلم ، فيكون المعنى : العلم بالأحكام الحاصل أو المأخوذ أو المستنبط أو المستفاد عن الأدلّة التفصيليّة ، أو إلى الأحكام فيكون المعنى : العلم بالأحكام الحاصلة أو المأخوذة أو المستنبطة أو المستفادة عن الأدلّة.

وقضيّة قاعدتهم في الظرف الواقع عقيب المعرفة كونه باعتبار العامل المقدّر حالا على التقديرين ، وهذا معنى رجوعه إلى « العلم » أو « الأحكام » لا أنّ العامل هو « العلم » أو « الحكم » ولكن ظاهر لفظ الحدّ يقتضي رجوعه إلى العلم.

وقد يقال : بعدم إمكان كونه من متعلّقات العلم ، لأنّ العلم المسمّى « بالفقه » ليس حاصلا عن الأدلّة ، وما يحصل عنها ليس من الفقه ، نظرا إلى أنّ الثاني ما يعتبر في مقام الاجتهاد والأوّل معتبر في مقام الفقاهة ، والاجتهاد مع الفقاهة وصفان مرتّبان لموصوف واحد ، لتأخّر رتبة الفقاهة عن رتبة الاجتهاد ، والمجتهد بمجرّد استفراغ الوسع في تحصيل العلم أو الظنّ بالأحكام الشرعيّة والنظر في الأدلّة المحصّلة لهما لا يسمّى « فقيها » ولا علمه أو ظنّه الحاصلان عنها « فقها » بل غاية ما هناك أن يحصل له صغرى وجدانيّة فيجب عليه تحصيلا لمقام الفقاهة أن يحصّل كبرى كليّة ويضمها إلى الصغرى المذكورة ، فينتظم عنده صورة قياس منتجة لكون مؤدّى اجتهاده حكم الله في حقّه ، وحينئذ يصير « فقيها » وعلمه المأخوذ في تلك النتيجة « فقها » وهذا العلم كما ترى لم يكن حاصلا عن الأدلّة التفصيليّة ، فوجب حينئذ اعتبار تعلّق الظرف « بالأحكام » ليكون المعنى : أنّ الفقه هو العلم بالأحكام الحاصلة عن الأدلّة التفصيليّة ، ومعنى حصولها عنها كون ذواتها

٧٢

وهي التي يشار إليها في صغرى القياس بلفظة « هذا » حاصلة عنها ولقد سبق منّا تحقيق القول في دفعه (١) ولا حاجة إلى الإعادة.

[٩] قوله : ( التفصيليّة ... الخ )

وصف للأدلّة قبالا للأدلّة الإجماليّة ، وهي المنسوبة إلى الإجمال ، وهو الجمع يقال : أجملت الشيء إجمالا ، أي جمعته من غير تفصيل ، ومنه اللفظ المجمل لجمعه أكثر من احتمال واحد ، فمعنى إجماليّة الدليل كونه عن وسط واحد جامع لشتات جميع الجزئيّات ، لا بمعنى كونه مجملا مرادفا للمبهم كما هو من لوازم مجمل اللفظ كما توهّم ، حتّى يورد على القول بكون دليل المقلّد إجماليّا بأنّ دليله عامّ لا أنّه مجمل ، فالأدلّة التفصيليّة يراد بها المنسوبة إلى التفصيل المأخوذ من الفصل بمعنى الفرقة ، ومعنى تفصيليّة الأدلّة كونها عن أوساط متفرّقة مختلفة الحقائق.

وإلى إرادة هذا المعنى ينظر كلام الأكثرين في إخراج علم المقلّد بهذا القيد كما هو الأظهر ، ويحتمل كون المراد بالدليل الإجمالي ما يكون مدلوله أمرا مجملا مردّدا بين امور ، نظير مجمل اللفظ المتردّد بين معان ، وعليه مبنى ما يأتي عن بعض الأعلام (٢) من كون قيد « التفصيليّة » لإخراج الأدلّة الإجماليّة المقامة على الأحكام المعلومة بالإجمال ، بملاحظة الضرورة ، وعمومات الايات ، والأخبار الدالّة على ثبوت التكاليف إجمالا ، وستعرف الكلام في تزييفه إن شاء الله.

[١٠] قوله : ( فخرج بالتقييد بالأحكام العلم بالذوات ، كزيد وبالصفات ككرمه وشجاعته ، وبالأفعال ككتابته وخياطته ... الخ )

خروج هذه الامور بقيد « الأحكام » مبنيّ على أن يراد منها النسب الخبريّة كما هو أحد محتملاته بل الأقوال المتقدّمة ، ولذا قيل في وجه الإخراج ـ الّذي هو فرع على الدخول ـ إنّ العلم لا بدّ له من متعلّق ، وهو إمّا أن يكون في وجوده

__________________

(١) تقدّم في التعليقة الرقم ٤.

(٢) قوانين الاصول : ٦.

٧٣

الخارجي بحيث يحتاج إلى محلّ يقوم به أو لا ، والثاني هو الذات ، والأوّل إمّا أن يكون وجوده منوطا بقصد المختار وشعوره أو لا ، والأوّل الأفعال ، والثاني إمّا أن يكون محتاجا إلى محلّ واحد أو إلى محلّين ، والأوّل الصفات والثاني النسب ، وظاهر أنّ خروج ما عدا القسم الأخير لا يستند إلى قيد « الأحكام » إلاّ مع إرادة النسب ، بل إرادته لازم لكلّ من يجعل هذا القيد مخرجا للامور المذكورة.

وصرّح غير واحد من فحولنا بالحمل عليها في غير هذا الكتاب أيضا ، غير أنّ التحقيق والنظر الدقيق يقضي بفساد هذه الدعوى ، واستلزام الحمل عليها خروج القيد مستدركا ، فإنّ العلم بهذه الامور الّذي يخرج بهذا القيد إمّا أن يراد به العلم التصوّري المتعلّق بها ، أو العلم التصديقي المتحقّق معها ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ خروج شيء عن الحدّ فرع على دخوله في جنسه ، ولا يعقل دخول تصوّر الامور المذكورة إلاّ على تقدير إرادة الإدراك المطلق من « العلم ».

وقد عرفت سابقا منعه (١) وعدم ملائمته للتعدية « بالباء » وإضمار المتعلّق خلاف أصل لا يصار إليه إلاّ مع قرينة مفقودة في المقام.

وأمّا الثاني : فلأنّ « الحكم » الّذي اريد به النسبة لا يخرج التصديق المتضمّن للنسبة ، فخروج التصديق بهذه الامور على تقدير إرادة النسب من « الأحكام » لا بدّ وأن يستند إلى القيود الاخر ، وهذا معنى خروج قيد « الأحكام » مستدركا.

وأما الاعتراض على القول بإرادة هذا المعنى ، باستلزامه خروج النسب الإنشائيّة كما في قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(٢) ونظائره لو قيّدت النسب هنا بالخبريّة ، فليس بشيء ، إذ النسب الإنشائيّة لم تؤخذ إلاّ في أدلّة الأحكام وهي ملحوظة من باب المبادئ ، والنسب المرادة من الأحكام لا بدّ وأن تكون من باب النسب المأخوذة في مسائل الفنّ ولا يكون إلاّ خبريّة ، وهي النتائج الحاصلة عن دليل يكون العلم بالنسب الإنشائيّة المستفادة من الأوامر والنواهي محرزا

__________________

(١) تقدّم في التعليقة رقم ٤ ص

(٢) الأنعام : ٧٢.

٧٤

لصغراه ، وكما أنّ الحمل على هذا المعنى ممّا لا ينبغي ، فكذا الحمل على إرادة المعنى العرفي أعني الإلزام حتّى يكون « الفقه » عبارة عن العلم بالإلزامات الشرعيّة ، لخروج الحدّ معه غير منعكس بالقياس إلى الأحكام الغير الإلزاميّة ، كالندب والكراهة والإباحة والعلم بها داخل في المحدود جزما.

وأمّا الحمل على التصديق وإن احتمله المدقّق الشيرواني (١) ونقل القول به عن المحقّق الشريف ، لكنّه أيضا كسابقيه غير مستقيم ، سواء اريد به تصديق الفقيه أو تصديق الشارع.

أمّا الأوّل : فواضح.

وأمّا الثاني : فلأنّ الفقه الحاصل عن الأدلّة إنّما هو اعتقاد الفقيه بمعتقدات الشارع لا اعتقاداته ، فيلزم البينونة بين الحدّ ومحدوده ، إلاّ أن يؤوّل فيه بجعل التعريف بالتصديق باعتقادات الشارع تفسيرا باللازم ، بدعوى : أنّ الفقه في نفس الأمر وإن كان هو التصديق بمعتقد الشارع غير أنّه يلزمه التصديق باعتقاده.

وفيه : أنّ ذلك خلاف ظاهر لا داعي إلى ارتكابه مع إمكان صحّة الحدّ بدونه ، بحملها على بعض ما تقدّم من معانيها حسبما نقرّره ، من غير حاجة إلى ارتكاب تأويل.

وفي كلام غير واحد من العامّة ولا سيّما الأشاعرة ، أخذها بالمعنى المصطلح الاصولي المتقدّم ذكره (٢).

وعمدة ما يرد عليه : استلزامه خروج قيدي « الشرعيّة » و « الفرعيّة » مستدركا ، حيث إنّ خطاب الله المأخوذ بالاعتبار المذكور لا يكون إلاّ شرعيّا فرعيّا ، وهذا هو الّذي يرد عليه ، إلاّ أنّ المعروف عندهم الإيراد عليه بلزومه اتّحاد الدليل والمدلول ، فإنّ الحكم المأخوذ في الحدّ لا بدّ وأن يكون مدلولا للأدلّة

__________________

(١) حواشي الموسوم بحواشي ملا ميرزا ، المطبوعة بهامش المعالم : ٢٢.

(٢) تقدّم في التعليقة ٥ ، الصفحة ٤٧ ـ ٤٨.

٧٥

التفصيليّة الّتي منها الكتاب وهو أيضا خطاب الله ، فلو اخذ الحكم المستفاد منه بمعنى خطاب الله لزم كونه متّحدا مع دليله.

ومبنى هذا الإيراد على توهّم كون المراد بالخطاب المأخوذ في مفهوم الحكم بهذا المعنى ما هو من مقولة اللفظ ، ولعلّ منشؤه ما تقدّم عن جماعة من التصريح بكون المراد به هنا الكلام الموجّه ، أو ما وقع به الخطاب.

ويشكل بما أشرنا إليه من أنّ أصل هذا التعريف من الأشاعرة القائلين بالكلام النفسي ، ولم يعهد أخذ « الأحكام » في الحدّ بهذا المعنى عن غيرهم ، فلم لا يجوز أن يكون ذلك منهم بناء على مذهبهم في الكلام النفسي فحينئذ لا يتوجّه إليهم الإيراد المذكور.

ومن هنا عزي إليهم الفرق في دفع الإشكال بين الخطابين بكون أحدهما من مقولة الكلام اللفظي وهو الدليل ، والاخر من مقولة الكلام النفسي وهو المدلول فلا اتّحاد ، ولكن اعترض عليه بوجوه :

منها : ما تفرّد به بعض الأعلام (١) من أنّه يلزم حينئذ كون الكتاب كاشفا عن المدّعى لا مثبتا للدعوى ، فلا يكون دليلا في الاصطلاح.

وأوضحه في حواشيه بأنّ الدليل في اصطلاح الاصوليّين هو ما يمكن التوصّل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري ، فإذا كان الخطاب هو المبيّن للكلام النفسي والمظهر له أوّلا من دون سبق اطّلاع عليه لا إجمالا ولا تفصيلا ، فأين المطلوب الخبري الّذي يعمل النظر في الكتاب لتحصيله ، فلا بدّ أن يسبق الدعوى على الدليل ، ولو سبقا إجمالا حتّى يطلب من الدليل.

ووافقه على هذا الاعتراض بعض الأعاظم (٢) وملخّصه : أنّ الدليل بحسب الاصطلاح يعتبر فيه سبق الدعوى ، الّذي لازمه صدق عنوان المطلوبيّة على النتيجة الحاصلة منه ، لوضوح أنّه ما يقع فيه النظر الّذي هو ترتيب امور معلومة للتأدّي إلى مجهول.

__________________

(١) قوانين الاصول : ٥.

(٢) إشارات الاصول : ٢.

٧٦

ولا ريب أنّ الترتيب بهذا المعنى لا يتأتّى إلاّ بعد إحراز ما يكون مطلوبا يعمل النظر في طلبه من جهة كونه مجهولا قبل النظر ، وقد وقع الإشارة إلى اعتبار ذلك في مواضع من التعريف :

أحدها : لفظ « التوصّل » الّذي لا بدّ له ممّا يتوصّل إليه.

وثانيها : لفظ « النظر » الّذي لا بدّ له ممّا ينظر له.

وثالثها : لفظ « المطلوب » بتقريب : أنّ وقوعه غاية يقتضي كون مطلوبيّته محرزة قبل اعتبار المغيىّ ، وهذا المعنى كما ترى غير حاصل فيما بين الكلام اللفظي ومدلوله ، لأنّ اللفظ ما يكشف عن مدلوله كشفا ابتدائيّا من دون سبق دعواه ولا اطّلاع عليه تفصيلا وإجمالا.

وهذه الدعوى ممّا لا مدفع لها ، ولا يمكن منعها في الدليل الاصطلاحي ، بل لا اختصاص لاعتبار هذا الشرط بمصطلح الاصولي كما يظهر بأدنى تأمّل في بعض ما ذكر ، فما في كلام غير واحد من دفعها بمنع اعتبار ما ذكر في الدليل ليس على ما ينبغي ، كما أنّه كذلك ما قيل في دفعها من نقضه بالإجماع الّذي نهوضه دليلا منوط بالكشف عن قول المعصوم ، فإنّ المعترض لا ينكر كون دلالة الدليل في بعض أقسامه من باب الكشف ، كالدليل الإنّي الّذي مبنيّ على ذلك ، ووجوده ممّا لا يقبل الإنكار ، بل الأدلّة النقليّة بأسرها والعقليّة في موضع يكون حكم العقل إدراكا لمجعول الشارع لا جعلا لما سكت عنه الشارع منوطة بذلك ، فما توهّم من كلامه من أنّه بصدد إنكار ما يكون من الأدلّة إنيّا واضح الضعف.

نعم يتوجّه إليه في هذا الاعتراض منع الملازمة الّتي يدّعيها ، بناء على جعل الكتاب من باب الكلام اللفظي والحكم من باب الكلام النفسي ، فإنّ الكلام اللفظي ـ خبريّا كان أو إنشائيّا ـ يكشف تارة عن قيام مدلوله وهو النسبة ـ خبريّة كانت أو إنشائيّة ـ بذهن المتكلّم ، واخرى عن مطابقة ذلك المدلول للواقع إذا كان خبريّا وتعلّقه بالسامع مثلا إذا كان إنشائيّا ، ومعنى كشفه عنهما إفادته الاعتقاد بهما علما أو ظنّا.

٧٧

وغاية ما يمكن أن يناقش في دليليّة الكلام اللفظي إنّما هو باعتبار كشفه الأوّل مع إشكال فيه ستعرفه ، وأمّا باعتبار كشفه الثاني فلا مانع من اندراجه في الدليل الاصطلاحي ، فيكون الكتاب دليلا بهذا الاعتبار ، ولا ينافيه اشتراط سبق الدعوى والعلم الإجمالي بالمدّعى فيه ، لأنّ المخاطب إذا وجد مخاطبه في معرض الخطاب ، فهو يعلم أنّ له مقصود أو مقاصد وهو مريد لإبرازه له وإفادته إيّاه ، فيكون هذا المعلوم بالإجمال مجهولا تفصيله ويصير بذلك مطلوبا له ، لأنّه بنظره في كلام المتكلّم طالب للعلم التفصيلي بذلك المعلوم بالإجمال.

ولو سلّم منع ذلك في كلام كلّ متكلّم ، فلا سبيل إلى منعه في الكتاب الّذي هو كلام لفظي لله سبحانه ، لوضوح الفرق بين كلام ألقاه المتكلّم إلى مخاطبه وكلام يبلّغه رسوله إليه ، لإمكان تطرّق الغافلة إلى المخاطب عن غرض المتكلّم في الأوّل بخلاف الثاني ، فإنّه إذا اطّلع على قضيّة كون ذلك الرسول مرسلا إليه ، يعلم إجمالا أنّ عنده أحكاما راجعة إليه وهو قاصد لتبليغها ، فينتظر للعلم التفصيلي بها بالنظر في الكلام ، ولا ريب أنّ الكتاب العزيز من هذا الباب ، فالمخاطبون بخطاباته كانوا يلاحظون فيها ـ بعد علمهم بتضمّنها أحكاما راجعة إليهم ـ إجمالا طلبا لمعرفة تفاصيل تلك الأحكام المعلومة بالإجمال.

ولو سلّم منع ذلك أيضا ، نقول : إن اريد بدليليّة الكتاب كونه دليلا في الاصطلاح مطلقا حتّى بالقياس إلى المشافهين الموجودين في مجلس الوحي ، فلا داعي إلى التزامها ولا يظنّ بأحد أنّه اعتبره دليلا على هذا الوجه ، وإن اريد بها كونه كذلك في الجملة وبالقياس إلى المعدومين فقط بل الغائبين عن مجلس الوحي ، فإنكاره حينئذ مكابرة صرفة ، ضرورة أنّ المعدومين لا ينظرون فيه إلاّ طلبا لمعلوماتهم الإجماليّة ، وهذا هو معنى سبق الدعوى على إعمال النظر في الدليل ، ولذا ترى يتوقّف استفادة تفاصيل تلك الأحكام منه على إعمال مقدّمات يندفع بها احتمال التجوّز والاشتراك والنقل والنسخ والتقييد والتخصيص

٧٨

والإضمار والتحريف والتأليف (١) والزيادة والنقيصة والسقط وما أشبه ذلك من الأحوال المزاحمة لدلالة الخطاب اللفظي ، فمع افتقار استفادة المطلب من الكتاب ـ ولو كان من مقولة الكلام اللفظي ـ إلى النظر الملازم للعلم الإجمالي ، فكيف ينكر صدق الدليل عليه اصطلاحا ، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين القول بشمول الخطابات الشفاهيّة للمعدومين وخلافه.

ولا يذهب عليك ، أنّ هذا وإن كان يدفع الاعتراض المذكور من الجهة الّتي تقدّم ذكرها ، ولكن تطبيقه على مذهب الأشاعرة لا يخلو عن إشكال ، لأنّ حاصل ما قرّرناه كون الكلام اللفظي دليلا في الاصطلاح باعتبار كشفه الثاني ، والمنقول من مذهبهم يقتضي دليليّته باعتبار كشفه الأوّل ، حيث إنّهم جعلوا مدلوله الكلام النفسي المفسّر عندهم تارة : بالمعنى القائم بنفس المتكلّم ، واخرى : بالنسبة الذهنيّة ـ خبريّة كانت أو إنشائيّة ـ وثالثة : بالنسبة القائمة بالذهن ، حتّى أنّهم يجعلونه بهذا التفسير مغائرا للنسبة الخارجيّة ، ومعنى كونه مدلولا للكلام اللفظي إفادة الكلام العلم بقيامه في الذهن ، وهذا كما ترى هو الكشف الأوّل من الكلام ، وقد عرفت أنّه بهذا الاعتبار لا يعدّ دليلا في الاصطلاح ، فالاعتراض متوجّه إليهم ، لكن لا لما علّله المعترض من عدم سبق الدعوى والعلم الإجمالي بالمدّعى ، فإنّ السبق والعلم الإجمالي حاصلان في الكلام اللفظي بكلّ من التقادير الثلاث المتقدّمة ، ولو بالقياس إلى الكشف الأوّل ، بل لأنّ الكلام بهذا الاعتبار من الأسباب الضروريّة للعلم لأنّه يورث العلم بلا نظر وفكر بقيام مدلوله في ذهن المتكلّم ، إلاّ أن يمنع ذلك أيضا ويقال : إنّه سبب ضروري بالقياس إلى أمر اخر وهو التصوّر ، أو هو مع العلم بوجود اللفظ في الخارج وصدوره من لافظه لا بالقياس إلى ما ذكر من الكشفين.

وبيان ذلك : أنّ الكلام اللفظي كقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(٢) له إفادة من جهات ثلاث :

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) الأنعام : ٧٢.

٧٩

إحداها : أنّه يفيد تصوّر معاني ألفاظه مفردة ومركّبة ، وحضور تلك المعاني في ذهن السامع ، فإنّه بمجرّد سماعه اللفظ يحضر عنده تلك المعاني حضورا تصوّريّا.

وثانيتها : أنّه يفيد العلم أو الظنّ بالمراد من تلك المعاني الّذي هو المعنى القائم بذهن المتكلّم ، فإنّ السامع إذا حضر عنده في المقام الأوّل معاني اللفظ ـ حقيقيّة ومجازيّة ـ يتوجّه ذهنه إلى تعيين ما هو المراد منها ، القائم بنفس المتكلّم ، فيحتاج في هذا المقام إلى إعمال مقدّمات كثيرة سبق إليها الإشارة فإذا علم أو ظنّ بعد إعمالها في المثال المتقدّم أنّ المراد منه الطلب الحتمي للصلاة بمعنى الأركان المخصوصة ، يحرز به صغرى قياس اخر يوجب العلم أو الظنّ بتعلّق ذلك الطلب بالسامع تعلّقا تكليفيّا وهذا هو الجهة الثالثة من الإفادة المتوقّفة على إعمال مقدّمات اخر ، بعضها نتيجة القياس المنتظم في الجهة الثانية ، وبعضها قضايا مأخوذة من الكلام مبتنية على وجوب شكر المنعم ، الموجب لإطاعة المنعم الحقيقي فيما يأمره وينهاه.

ولا ريب أنّ الجهة الاولى هي الّتي لا يصدق معها على الكلام اللفظي عنوان الدليليّة ، لأنّه من هذه الجهة سبب ضروري للتصوّر بل التصديق بصدور اللفظ من لافظه ، والمعتبر في الدليل اصطلاحا كونه موصلا بالنظر إلى التصديق.

وأمّا الجهتان الاخريان فيصدق عليه باعتبارهما عنوان الدليليّة ، لكونه في كلّ منهما موصلا إلى التصديق بالنظر ، لوضوح أنّه في كلّ منهما يتوصّل بصحيح النظر إلى مطلوب خبري.

وقضيّة كلام الأشاعرة اعتبار الكتاب دليلا على الكلام النفسي من الجهة الاولى من هاتين الجهتين ، ويلزم من ذلك كون هذا العلم هو المأخوذ في حدّ « الفقه » وينبغي النظر في انطباقه على المحدود وعدمه ، ويبتنى ذلك على النظر في أنّ العلم المأخوذ في ذلك هل المراد منه عندهم العلم بالمعاني القائمة بنفس الشارع ، المبنيّ على كون الأحكام عبارة عن الامور النفس الأمريّة مع قطع النظر عن تعلّقها بالمكلّف ، أو العلم بالامور المتعلّقة بالمكلّف تعلّقا فعليّا موجبا لترتّب اثار التكليف عليه الّتي منها الثواب والعقاب.

٨٠