تعليقة على معالم الاصول - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٤٤٣

الّتي هي من فعل المكلّف ، والجزء العقلي إذا كان جنسا أو ما هو بمنزلة الجنس هو الّذي ليس البحث عنه بحثا في الفنّ الّذي موضوعه ما هو أخصّ منه ، لتركّبه منه ومن غيره الّذي هو إمّا فصل أو ما هو بمنزلة.

نعم البحث عن الجزء المساوي ولو عقليّا كالفصل ، بحث عن هذا المركّب لكون المبحوث عنه من الاثار المطلوبة له المختصّة به ، كما لا يخفى.

فالأولى ـ في دفع الإشكال ـ أن يقال : إنّ المأخوذ في عداد الأدلّة بالنظر إلى الكتاب والسنّة إنّما هو الألفاظ المعبّر عنها بالأدلّة اللفظيّة.

ومن البيّن ، أنّ الألفاظ إنّما تنهض أدلّة بالنظر إلى الأحكام الشرعيّة الفرعيّة إذا اخذت في جهة خاصّة لجهة عامّة ، فإضافة الامور المذكورة إلى الكتاب والسنّة تحقيق للجهة الاولى فيها ، وأخذها في عناوين المسائل على الوجه الأعمّ إنّما هو لمراعاة الجهة الثانية ، والجهتان ليستا بمتضادّتين ولا متناقضتين ، فالجمع بينهما بمراعاتهما معا في الموضوع لا يستتبع محذورا.

وتوضيحه : أنّ الأدلّة اللفظيّة لا تصلح أدلّة على الأحكام الشرعيّة إلاّ إذا كانت بينها وبين الأحكام ملازمة ، وهذه الملازمة ممّا لا يتأتّى فيها إلاّ إذا تضمّنت سندا ترجع من جهته إلى الشارع ، ودلالة ترجع من جهتها إليه أو إلى العرف العامّ أو اللغة ، فالإضافة إلى الكتاب والسنّة في الأمر والنهي وغيرهما من الامور المذكورة إنّما هي لإحراز السند الّذي هو الجهة الخاصّة ، وأخذها في عناوين المسائل لا بهذه الإضافة إنّما هو لإحراز الدلالة الّتي هي الجهة العامّة ، نظرا إلى أنّ دلالات الألفاظ على معانيها الّتي ينوط بها ثبوت الأحكام الشرعيّة ليست لمناسبات ذاتيّة ، بل لا بدّ فيها إمّا من الوضع الشرعي أو القرينة المقامة من الشارع ، وحيث انتفى الأمران لا بدّ فيها من مراعاة الوضع العرفي أو اللغوي ، التفاتا إلى أنّ طريقة الشارع في خطاباته غالبا إنّما هي طريقة العرف واللغة واعتبار جهة العموم في عناوين المسائل إنّما هو لمراعاة الملازمة المنوطة بالعرف واللغة نظرا إلى انتفائه الأمرين الأوّلين.

١٨١

وبعبارة اخرى : أنّ الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة إنّما ينظر في دلالاتها باعتبار العرف واللغة بعد الفراغ عن إثبات انتفاء الوضع الشرعي وفقد القرائن الشرعيّة فيها ، أو بعد الفراغ عن إثبات انتفاء الأوّل على التحقيق وفقد الثاني على الفرض والتقدير ، ليجدي الحكم الثابت فيها على جهة العرف واللغة في مواضع فقد القرينة.

وبالجملة ، فتخصيص الكتاب والسنّة بكونهما أدلّة عمّا بين الامور اللفظيّة تحقيق للسند المختصّ بالشارع ، وهو لا ينافي أخذ ألفاظها باعتبار العرف واللغة تحقيقا لما لا بدّ فيها من الدلالة ، لعدم مدخليّة جهة الشرع في ذلك.

فموضوع علم « اصول الفقه » إذا اعتبرناه من مقولة الأدلّة اللفظيّة ، إنّما هي الألفاظ في سند خاصّ لدلالة عامّة ، ومعنى عموم الدلالة كون جهة الإضافة إلى الشارع من حيث الدلالة ملغاة ، على معنى عدم اعتبار خصوصيّة هذه الإضافة في جهة الدلالة ، لعدم مدخليّة لها فيها على ما هو مفروض المقام ، فجعل الكتاب والسنّة بقيد الخصوصيّة دليلين إنّما هو لمدخليّة خصوصيّة الإضافة المذكورة في السند ، وهو لا ينافي عدم مدخليّتها في ألفاظها من حيث الدلالة.

والحاصل : اختصاص العنوان بوصف الدليليّة إنّما هو لخصوصيّة إحدى الجهتين ، ولا هو يقضي باختصاصه من الجهة الاخرى ، لكون الخصوصيّة من هذه الجهة ملغاة ، وهذا معنى كون الأمر والنهي وغيرهما مأخوذين في عناوين المسائل على الوجه الأعمّ ، على معنى أنّ الأمر الوارد في الكتاب أو السنّة بنفسه يفيد الوجوب من غير مدخليّة لوروده في الكتاب والسنّة في تلك الإفادة ، وهكذا يقال في سائر المسائل ، فعموم عناوينها باعتبار أنّ النظر فيها إلى حيث الدلالة ، وخصوصيّة الإضافة من هذه الحيثيّة على ما هو مأخوذ في مفهوم الموضوع ملغاة عنها ، وهو لا ينافي كونها معتبرة من الحيثيّة الاخرى ، لكون موضوع الفنّ على البيان المذكور الألفاظ الّتي خصوصيّة الإضافة مأخوذة فيها سندا وملغاة عنها دلالة.

١٨٢

وأمّا ما في كلام بعض الفضلاء (١) من دفع الإشكال بأنّ الامور المذكورة إنّما يبحث عنها باعتبار وقوعها في الكتاب والسنّة ، فعند التحقيق ليس موضوع مباحثهم مطلق تلك الامور بل المقيّد منها بالوقوع في الكتاب والسنّة. ولا يقدح في ذلك بيانهم لوضعه اللغوي والعرفي ، إذ المقصود بيان مداليل تلك الألفاظ بأيّ وجه كان.

فليس بسديد جدّا إلاّ أن يرجع إلى ما قرّرناه من اعتبار جهتين مجتمعتين في موضوع هذا العلم هو موضوع مباحثهم ، أحدهما يقتضي التخصيص الّذي لا يتأتّى إلاّ بأخذ الإضافة إلى الكتاب والسنّة الّتي هي بعينها إضافة إلى الشارع ، واخرهما تقتضي التعميم الّذي لا يتأتّى إلاّ بإلغاء تلك الإضافة ، ولا يخفى ما في العبارة حينئذ من القصور عن إفادة هذا المعنى.

وثانيها : أنّ موضوع هذا العلم إذا كان « الأدلّة » فلا يرتبط به جملة من مسائله ، كحجّية الكتاب وخبر الواحد وغيرهما من مباحث الحجّية ، فإنّ ذلك بحث عن حال ما ليس بدليل ، ضرورة أنّ الغرض بالبحث إثبات الدليليّة ولا يلتئم ذلك إلاّ بفرض موضوع المسألة ما ليس له وصف الدليليّة ، فلا يرتبط بموضوع العلم.

ومن هنا اضطربت كلمتهم في التفصّي عن الإشكال ، فهم بين جماعة التزموا بخروج هذه المباحث عن مسائل الفنّ بتوهّم دخولها في الاصول الكلاميّة ، ومنهم بعض الأعلام (٢) حيث إنّه بعد ما نقل عن بعضهم أنّه ذكر قولهم : الكتاب حجّة مثالا لما يكون من المسائل موضوعه نفس موضوع العلم ، ردّه بقوله : ولا يرجع إلى محصّل ، إذ ذلك معنى كونه دليلا ، والمفروض أنّا نتكلّم بعد فرض كونها « أدلّة » وهو خارج عن الفنّ ، وبيانه ليس من علم الاصول كما لا يخفى ، بل هو من توابع الكلام. انتهى.

وبين فرقة جزموا بكونها من مسائله بتكلّف اعتبار الموضوع ذات الدليل

__________________

(١) الفصول : ٩.

(٢) قوانين الاصول : ١.

١٨٣

معرّاة عن وصف الدليليّة ، ومنهم بعض الفضلاء (١) قائلا : وأمّا بحثهم عن حجّية الكتاب وخبر الواحد فهو بحث عن الأدلّة ، لأنّ المراد بها ذات الأدلّة لا هي مع وصف كونها أدلّة ، فكونها أدلّة من أحوالها اللاحقة لها. انتهى.

وفي جميع ذلك من التعسّف ما لا يخفى على المنصف ، والّذي يرشد إليه التحقيق ويساعد عليه النظر الدقيق ، منع خروج هذه المسائل عن وضع المسائل الاصوليّة الباحثة عن الأدلّة الظاهرة فيها بوصفها العنواني ، وليس في شيء من ذلك ما يرتبط بالاصول الكلاميّة ولا ما يقضى بكون البحث فيها لاحقا بذوات الأدلّة معرّاة عن وصف الدليليّة ، وإن كان البحث عن الحجّية نفيا وإثباتا يرجع إلى البحث عن الدليليّة ، وصلاحيّة المورد للطريقيّة الّتي مرجعها إلى الملازمة بينه وبين مدلوله.

وتوضيحه : أنّ الملازمة المقصودة من الدليليّة والطريقيّة قد تفرض فيما بين الحكم الشرعي وما ادّعي كونه دليلا عليه وطريقا إليه ، كالملازمة فيما بينه وبين السنّة المفسّرة بقول المعصوم أو فعله أو تقريره ، أو بينه وبين قول الله سبحانه الخالي عن الإجمال والمنع الطارئ عن العمل به.

وقد تفرض فيما بين طريق الحكم الشرعي الثابت كونه طريقا إليه بالفرض وبين ما ادّعي كونه طريقا إلى إحراز هذا الطريق ، كالملازمة فيما بين قول المعصوم أو رأيه وإجماع العلماء على طرق الخاصّة ، ومثلها الملازمة فيما بين السنّة وبين نقل العدل الواحد لها مثلا ، أو بين قول الله تعالى والنقل الغير العلمي لهذا القول.

وقد تفرض فيما بين طريق طريق الحكم الشرعي الثابت كونهما طريقين وما ادّعي كونه طريقا إلى إحراز طريق الطريق ، كالملازمة فيما بين الإجماع بعد البناء على كونه دليلا لكشفه عن قول المعصوم أو رأيه وبين نقله الغير البالغ حدّ التواتر.

__________________

(١) الفصول : ٩.

١٨٤

ثمّ الدليل الثابت كونه بنفسه ولذاته ملزوما للحكم الشرعي قد يطرأه مانع أو منع شرعي عن العمل به ، كالكتاب الّذي هو قول الله على ما ادّعاه الأخباريّة فيه من طروّ الإجمال لظواهره كما يستفاد من بعضهم ، أو قيام المنع من الشارع عن العمل به بمقتضى الأخبار الناهية عنه حسبما يظهر من البعض الاخر ، فالبحث عن الحجّية نفيا وإثباتا إن رجع إلى الملازمة الاولى فلا جرم يكون ذلك البحث من مباحث الكلام ، ويكون موضوعه ذات الدليل بدون وصف الدليليّة ، ضرورة أنّ كون قول المعصوم ملزوما للحكم الشرعي من توابع العصمة الّتي إثباتها وظيفة المتكلّم ، وكذلك كون قول الله سبحانه ملزوما له فإنّه من توابع وجوب حكمته وامتناع الكذب والقبيح عليه وغير ذلك ، ممّا له مدخل في الحكم بمطابقة هذا القول للواقع ، فلا يبحث عنهما إلاّ في الكلام ولا رجوع للاصولي إلى هذا البحث ، كما أنّه لا تعلّق لفنّ « اصول الفقه » بهذا المبحث ونظائره ، وليس مأخوذا في شيء من كتبه ولا في مسائله المدوّنة ، بل المأخوذ فيها الّذي يكون البحث عنه وظيفة الاصولي من مباحث الحجّية إنّما هو الملازمة بالمعنى الثاني أو الثالث ، أو ما هو من لوازم الملازمة بالمعنى الأوّل أو ملزوماتها ، فإنّ قول الاصولي : « خبر الواحد حجّة » يريد به أنّ نقل السنّة بغير تواتر ملزوم للسنّة وطريق يحرز به السنّة ، لأنّ الخبر ليس نفس السنّة بل كلام محكيّ السنّة ، وقوله : « الإجماع المنقول حجّة » يريد به أنّ نقل الإجماع ملزوم له وطريق إلى إحرازه ، وهذا كما ترى بحث عن حال الدليل بوصف الدليليّة ، لأنّ مرجعه إلى أنّ السنّة والإجماع يثبتان بالنقل الغير العلمي ، ولو قال الاصولي : « الإجماع حجّة أو ليس بحجّة » كان باحثا عن حال الدليل أيضا ، لكون معنى القضيّة حينئذ : « انّ الإجماع هل هو ملزوم لقول المعصوم أو رأيه بأحد طرقه المعهودة لدى أصحابنا أو ليس بملزوم له » وظاهر أنّ قول المعصوم ورأيه داخلان في السنّة المعدودة من الأدلّة ، غاية الأمر كونه حينئذ سنّة إجماليّة.

فخلاصة الكلام : أنّ كلّ بحث عن الحجّية إذا رجع إلى الملازمة بالمعنى

١٨٥

الأوّل ، لم يكن بحثا عن حال الدليل في شيء من طرفي الملازمة ـ اللازم والملزوم ـ ولا أنّ القضيّة معه مأخوذة في المباحث الاصوليّة ، وكلّ بحث عنها إذا رجع إلى الملازمة بالمعنى الثاني أو الثالث كان بحثا عن حال الدليل باعتبار أحد طرفي الملازمة وهو اللازم ، فيكون القضيّة معه من المسائل الاصوليّة وهو المعهود المتداول فيما بين أهل الفنّ المأخوذ في مباحثه كما لا يخفى على الخبير البصير.

وأمّا البحث عن حجّية الكتاب إن اريد به ما وقع بين الأخباريّين وأصحابنا المجتهدين ، فمرجعه إلى أنّ ظواهر الكتاب العزيز هل طرأها إجمال لئلاّ يجوز العمل بها وتسقط عن الحجّية الذاتيّة ، وهل طرأها منع شرعي عن العمل بها أولم يطرأها شيء من ذلك لتكون على حجّيتها الذاتيّة ، ويترتّب عليها أثر الحجّية؟وهذا أيضا بحث عن حال الدليل جدّا ، لأنّ الإجمال والبيان من عوارض الأدلّة ، وإن اريد به غير ذلك على معنى رجوع النزاع إلى الكتاب باعتبار السند بأن يرجع إنكار المنكر للحجّية إلى إنكار سند الكتاب الموجود بأيدينا ، فهذا النزاع غير معهود عن أهل هذا الفنّ ، ولا أنّ ذلك البحث مأخوذ في مباحثه ، كما لا يخفى على الخبير البصير.

نعم ربّما يبحث فيه عن قرانيّة ما قد ينقل في الشواذّ من الايات ، وهو في الحقيقة بحث عن حال الدليل أيضا ، بالتقريب المتقدّم في حجّية خبر الواحد ونحوه ، لرجوع البحث حينئذ إلى أنّ القرانيّة الّتي هي موضوع الحجّية هل تثبت بنقل الاحاد أو لا؟ ومنشأ هذا البحث ما وقع في كلامهم من أنّ القران متواتر فما نقل احادا ليس بقران.

وبما عرفت من البيان تعرف حقيقة المراد في بحث حجّية الشهرة بناء على أنّ معنى حجّيتها ـ عند قائليها بالنظر إلى الحكم الشرعي ـ حجّية المنكشف وهو الدليل المعتبر الّذي لو عثرنا عليه لعملنا به من غير تأمّل ، فيرجع البحث حينئذ إلى أنّها هل تكشف عن وجود دليل معتبر في المسألة وهل يثبت بها الدليل مستندا لها

١٨٦

أولا؟ ولعلّه إلى ذلك يشير ما في كلام الشهيد في الذكرى (١) عند الاستدلال على حجّية الشهرة من أنّ عدالتهم تمنع عن الاقتحام على الإفتاء بغير علم ، ولا يلزم من عدم الظفر بالدليل عدم الدليل ، خصوصا وقد تطرق الدروس إلى كثير من الأحاديث ، لمعارضة الدول المخالفة ومبائنة الفرق المنافية ... الخ. ويظهر منه انكشاف وجود ما يكون من السنّة.

ويجري نظير ذلك في مسألة حجّية القياس الّتي أنكرها أصحابنا الإماميّة ، نظرا إلى أنّ علّة الحكم الشرعي حيثما ثبت علّيتها بالقاطع فهي دليل عليه ، ولذا صار أصحابنا ـ إلاّ بعضهم ـ إلى حجّية القياس المنصوص العلّة ، فكون العلّة دليلا على الحكم ممّا لا إشكال فيه كما لا خلاف فيه ، وإنّما الخلاف بالنسبة إلى القياس المستنبط العلّة واقع في أنّ الطرق المقرّرة عند جمهور المخالفين لاستنباط العلّة هل تفيد العلّية على الاستقلال أو لا؟

وبعبارة اخرى : هل العلّة الّتي هي دليل على الحكم الشرعي تثبت بطرق الاستنباط أو لا؟ فيكون هذا أيضا بحثا عن حال الدليل ، لرجوعه إثباتا ونفيا إلى الملازمة بين الحكم العقلي بالعلّيّة بواسطة الطرق المقرّرة للاستنباط ، وبين نفس العلّة الّتي حيثما ثبتت كانت دليلا على الحكم في غير مورد النصّ ، ومعه فلا حاجة في التفصّي عن الإشكال بالقياس إلى بحثهم عن عدم حجّية القياس والاستحسان ونحوهما إلى تكلّف القول بأنّه استطرادي تتميما للمباحث ، أو أنّ المقصود من نفي كونها أدلّة انحصار « الأدلّة » في البواقي فيكون بحثا عن أحوالها ، أو أنّ المراد « بالأدلّة » ما يكون دليلا ولو عند البعض ، أو ما يحتمل عند علماء الإسلام ـ ولو بعضهم ـ أن يكون دليلا ، كما ارتكبه بعض الفضلاء (٢).

نعم ربّما يقوى في بادئ الرأي خروج بحثهم عن حجّية الظنّ المطلق وعدمها عن مباحث الفنّ ، لكون الحجّية المتنازع فيها عبارة عن الملازمة بين الظنّ ونفس

__________________

(١) ذكرى الشيعة ٥١ : ١.

(٢) الفصول : ٩.

١٨٧

الحكم الشرعي الواجب اتّباعه ، لكنّ النظر الدقيق يقضي بخلافه ، ويشهد برجوع ذلك أيضا إلى البحث عن حال الدليل.

أمّا على الظنّ في الطريق الّذي اختاره الهداية (١) والفصول (٢) فواضح ، وأمّا على الظنّ في نفس الأحكام الّذي هو المعروف من أهل القول بالحجّية ، فلأنّ عبارة قولهم : « الظنّ حجّة أو ليس بحجّة » وإن كانت تقضي بظاهرها بكبرويّة النزاع ، على معنى كونه في أصل الملازمة بين الظنّ والحكم الشرعي ، غير أنّ المستفاد من مطاوي كلماتهم وتضاعيف عباراتهم في الاستدلال والنقض والإبرام كون الكبرى والملازمة المذكورة مسلّمة ، ورجوع النزاع إلى أمر صغروي ، وهو وجود الطرق المعتبرة المرخّص في الرجوع إليها شرعا بعنوان القطع وإن لم تكن بأنفسها علميّة في أزمنة الغيبة وفقدها على هذا الوجه ، كما يفصح عنه مقابلة القول بالحجّية لمقالة الأخباريّة القائلة بقطعيّة أخبارنا اليوم مطلقة أو الموجودة منها في الكتب الأربعة خاصّة ، ومقالة أهل القول بالظنون الخاصّة ، ومقالة من احتمل عند نقض دليل الانسداد كون المرجع حال الانسداد هو الاحتياط أو البراءة الأصليّة أو غيرها من الاصول المقرّرة في الشريعة.

ولذا كان المهمّ في نظر أهل القول بالحجّية إثبات انسداد باب العلم ، بنفي وجود الطرق العلميّة والظنون الخاصّة ونفي مرجعيّة الاصول العامّة ، فالقول بالحجّية مرجعه في الحقيقة إلى دعوى فقد الطرق العلميّة وغيرها من المعتبرة شرعا ، كما أنّ مرجع القول بنفيها إلى دعوى وجودها بأحد الوجوه المذكورة ، ويشهد به الإجماعات المنقولة على الحجّية على تقدير الانسداد مطلقا.

وثالثها : أنّ من المسائل المقرّرة في الفنّ ، المباحث المتعلّقة بالاصول العامّة

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٤٠٧ ( الطبعة الحجرية ) في ذيل البحث عن دليل الانسداد على حجّية الخبر الواحد.

(٢) الفصول : ٢٧٧ ، حيث أورده في ذيل الدليل الثامن من الأدلّة القائمة على حجّية الخبر ، وهو الدليل المعروف بدليل انسداد باب العلم.

١٨٨

العمليّة المقرّرة للجاهل ، من الاستصحاب وأصلي البراءة والاحتياط ، والبحث فيها غير راجع إلى حال الدليل بوصف كونه دليلا.

فإنّ المعروف فيما بينهم اندراج هذه الاصول في الأدلّة العقليّة ، وقد ذكروا في تعريف الدليل العقلي : « أنّه حكم عقليّ يتوصّل به إلى حكم شرعي » والبحث في هذه الاصول لا يخلو إمّا أن يرجع إلى أنّ العقل هل يحكم في موارد الاستصحاب ببقاء ما كان ، وفي موارد البراءة بنفي التكليف ، وفي موارد الاحتياط بوجوبه ، وفي موارد الاشتغال بوجوب اليقين بالبراءة أو لا يحكم ، فالقائل بالحجّية مدّع لحكم العقل ومنكرها ناف لحكمه.

أو يرجع إلى الملازمة بين حكم العقل المفروض ثبوته وبين حكم الشرع بما حكم به العقل من البقاء أو نفي التكليف أو وجوب الاحتياط أو وجوب اليقين بالبراءة ، فالقائل بالحجّية مدّع للملازمة والمنكر لها ينفيها.

فالبحث عن الأوّل يرجع إلى إثبات أصل حكم العقل ونفيه ، وعلى الثاني يرجع إلى إثبات كونه دليلا على الحكم الشرعي ونفيه ، وأيّا ما كان فليس بحثا عن حال الدليل الموصوف بوصفه العنواني.

ويجري هذا الكلام في المستقلاّت العقليّة الّتي نازعوا فيها تارة في إدراك العقل حسن بعض الأشياء وقبحها وعدمه ، واخرى في الملازمة بين ما أدركه العقل وكونه حكما شرعيّا وعدمها ، وتوهّم خروج هذه المباحث عن مسائل الفنّ رأسا يكذّبه القطع بخلافه ، بدلالة صدق تعريفه عليها ، ضرورة كونها قواعد لم تمهّد إلاّ لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة الواجب اتّباعها فعلا.

وهذا الإشكال ممّا يصعب دفعه إلاّ بالتزام الخروج وهو أصعب ، لكن قد يقال :بمنع التلازم بين مسائل الفنّ واندراجها في موضوعه إذا كانت بحيث يشملها تعريفه كما في المباحث المذكورة ، فيحكم بكونها من مسائله لمجرّد اندراجها في تعريفه وإن لم تندرج في ضابط موضوعه ، فإن صحّت هذه الدعوى اندفع بها الإشكال لكنّا لا نعرف لها وجها ، بل لا يلائمها ما صرّحوا به من أنّ موضوع العلم

١٨٩

لا بدّ وأنّ يكون جهة جامعة لمسائله ، ولا ما في كلام المحقّقين في ضابط مسائل كلّ علم من أنّه لا بدّ لها من موضوعات وهي إمّا نفس موضوع العلم ، أو جزء من أجزائه ، أو نوع من أنواعه ، أو عرض ذاتي له ، أو نوع من عرضه الذاتي.

نعم يمكن أن يتكلّف في دفعه في الجملة بأن يقال : ـ بالقياس إلى الاستصحاب ـ إنّ جمعا من الفحول قسّموا الاستصحاب على أربعة أقسام ، وصرّحوا بعدم الخلاف في حجّية أكثرها.

أحدها : نفي الحكم الشرعي وبراءة الذمّة منه إلى أن يظهر دليله وهو المعبّر عنه بالبراءة الأصليّة ، وقد وقع الخلاف فيه بين الأخباريّين ففرّقوا في الحجّية بين الشبهات الوجوبيّة فالحجّية والشبهات التحريميّة فعدمها ، بناء فيها على وجوب الاحتياط ، وبين المجتهدين فعمّموا الحجّية.

وثانيها : استصحاب حكم العموم إلى أن يقوم المخصّص وحكم النصّ إلى أن يرد الناسخ.

وثالثها : استصحاب إطلاق النصّ إلى أن يثبت المقيّد ، وهذان القسمان ممّا لا خلاف في حجّيته عند الفريقين كما هو المعلوم المصرّح به في كلام جماعة منهم صاحب الحدائق (١).

ورابعها : استصحاب حكم شرعي في موضع طرئت له حالة لم يعلم شمول الحكم لها ، بمعنى أنّه يثبت حكم في وقت ثمّ يجيء وقت اخر ولا يقوم دليل على انتفاء ذلك الحكم فيه ، فيحكم ببقائه على ما كان ، استصحابا لتلك الحالة الاولى ، وهذا هو الاستصحاب المعروف المتنازع في حجّيته الّتي أنكرها الأخباريّة ، فحينئذ نقول : إنّهم اتّفقوا على حجّية الاستصحاب في كثير من أقسامه ، وكونه دليلا

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٥١ : ١ ـ حيث قال في المطلب الثاني من المقدّمة الثالثة من مقدّمات الكتاب ، بعد بيان الأقسام الأربعة للاستصحاب ـ : إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لا خلاف ولا إشكال في حجّيته بالمعنى الثاني والثالث لأنّ مرجعهما إلى الاستدلال بعموم النصّ وإطلاقه ...

١٩٠

في الشريعة في الجملة ، لكنّهم إختلفوا في انحصار الحجّة والدليل منه في المذكورات وعدم انحصارهما فيها ، بدعوى : كون القسم الأخير منه أيضا حجّة وانحصار الدليل فيما ذكر وعدمه حال من أحوال الدليل الّذي ثبت له وصف الدليليّة.

وبالقياس إلى أصلي البراءة والاحتياط بالمعنى الأعمّ من قاعدة الإشتغال إنّهم بعد اتّفاقهم على إنّ الجاهل بالحكم الواقعي المنقطع عن الدليل العلمي ، لا بدّ له من مرجع يرجع إليه لاستعلام حكمه الظاهري ، وطريق منصوب من الشارع يعتمد عليه في معرفة تكليفه الفعلي ، فهناك طريق منصوب من الشارع لا محالة ، نازعوا في تعيين هذا الطريق المقطوع بانتصابه ، فهذا دليل نوزع في تعيينه ، فمنهم من قال بأنّه البراءة ، ومنهم من زعم إنّه الاحتياط ، وهذا كما ترى أيضا نحو حال من أحوال الدليل ، هذا حسبما يختلج بالبال في تلك الحال المقرونة بضيق المجال ، وبعد فيه تأمّل إلى ما هدانا الله ذو الجلال مدفع الإشكال.

١٩١
١٩٢

معالم الدين :

فصل

واعلم : أنّ لبعض العلوم تقدّما على بعض ، إمّا لتقدّم موضوعه ، أو لتقدّم غايته ، أو لاشتماله على مبادي العلوم المتأخّرة ، أو لغير ذلك من الامور التي ليس هذا موضع ذكرها.

ومرتبة هذا العلم متأخرة عن غيره ، بالاعتبار الثالث ؛ لافتقاره إلى سائر العلوم واستغنائها عنه.

أمّا تأخّره عن علم الكلام ، فلأنّه يبحث في هذا العلم عن كيفيّة التكليف ، وذلك مسبوق بالبحث في معرفة نفس التكليف والمكلّف.

وأمّا تأخّره عن علم اصول الفقه ، فظاهر ، لأنّ هذا العلم ليس ضروريّا ، بل هو محتاج الى الاستدلال ، وعلم اصول الفقه متضمّن لبيان كيفيّة الاستدلال.

ومن هذا يظهر وجه تأخّره عن علم المنطق أيضا ، لكونه متكفّلا ببيان صحّة الطرق وفسادها.

وأمّا تأخّره عن علم اللّغة والنحو والتصريف ، فلأنّ من مبادي هذا العلم الكتاب والسنّة ، واحتياج العلم بهما إلى العلوم الثلاثة ظاهر. فهذه هي العلوم التي يجب تقدّم معرفتها عليه في الجملة. ولبيان مقدار الحاجة منها محلّ اخر.

١٩٣

[٣٠] قوله : ( واعلم أنّ لبعض العلوم تقدّما على بعض ، إمّا لتقدّم موضوعه أو لتقدّم غايته ، أو لاشتماله على مبادئ العلوم المتأخّرة ... الخ )

والمراد « بالتقدّم » هنا ما يعمّ الطبعي والرتبي ، لوضوح أنّ المتقدّم بالاشتمال على مبادئ المتأخّر لا يكون إلاّ متقدّما بالطبع ، كما أنّ المتقدّم بتقدّم الموضوع أو الغاية لا ينطبق إلاّ على المتقدّم بالرتبة.

وأمّا أمثلة الأقسام ، فمن القسم الأوّل علم « اصول الفقه » الباحث عن أحوال أدلّة الأحكام من حيث هي أدلّتها حسبما تقدّم بيانه ، بالقياس إلى « الفقه » الباحث عن نفس الأحكام من حيث تعلّقها بفعل المكلّف مستفادة من الأدلّة المفصّلة.

ومن القسم الثاني علم الصرف والنحو ، الباحث عن أحوال اللفظ العربي من حيث الصحّة والاعتلال ، ومن حيث صحّة التركيب وسقمه ، بالقياس إلى علوم البلاغة الباحثة عن أحواله من حيث مطابقته لمقتضى الحال ، واشتماله على محسّنات المقال.

ومن القسم الثالث ، علم النحو أيضا بالقياس إلى علوم البلاغة ، ضرورة أنّ الغرض المطلوب من النحو حفظ اللسان عن الخطأ في البيان ، ومن علوم البلاغة الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى بلفظ بليغ ، ولا يتأتّى ذلك إلاّ بعد مراعاة أدائه باللفظ الفصيح ، الّذي لا يتأتّى إلاّ بمراعاة فصاحة الكلام ، المعبّر عنها بخلوصه عن امور منها ضعف التأليف المفسّر بكون تأليف أجزائه على خلاف القانون المشتهر فيما بين معظم أصحابه ، مع فصاحة كلماته ، المفسّرة بخلوصها عن امور :

منها : مخالفة القياس المعبّر عنها بكون الكلمة على خلاف القانون المستنبط من تتبّع مفردات لغة العرب وألفاظهم الموضوعة ، كالإعلال في نحو « قام » والإدغام في نحو « مدّ » وغير ذلك ، ممّا هو مقرّر في مظانّه.

ثمّ إنّ من العلوم ما يتقدّم باعتبار الشرف ، كما أنّ منها ما يتقدّم في التعليم لنحو من وجوه الاستحسان.

أمّا الأوّل : فيختلف الحال فيه بحسب اختلاف الموضوعات والغايات في

١٩٤

الشرافة والضعة ، كما في الكلام والتفسير والحديث والفقه والبلاغة بالقياس إلى غيرها.

وأمّا الثاني : فلكون مسائل أحد العالمين سهل المأخذ ، بيّنة المقدّمات دون الاخر ، فناسب تقديمه في التعليم لسهولة تحصيله على المتعلّم ، فيقوى بذلك استعداده ويزيد ملكته المقتدر بها على الإدراكات الجزئيّة ، فيهون عليه الاشتغال بالاخر ، أو لكون أدلّة أحدهما أقوم وبراهينه أحكم وأبعد عن الخطأ. فيقدّم في التعليم ، ليتعوّد المتعلّم على عدم قبول المطالب الواهية ، وعدم الإذعان بالنتائج الغير الواضحة المقدّمات ، ويتجنّب عن التعويل على البراهين الخفيّة ، ويتحرّز عن الاعتماد على الشواهد الغير الجليّة ، وهاتان الجهتان حاصلتان في العلوم الرياضيّة بالقياس إلى سائر الفنون الفلسفة ، على ما كان متعارفا عند قدماء الفلاسفة في تعاليمهم من تقديم الاولى على الثانية ، وكان قوله : « أو لغير ذلك من الامور الّتي ليس هذا موضع ذكرها » إشارة إلى ذلك.

١٩٥
١٩٦

معالم الدين :

فصل

ولا بدّ لكلّ علم أن يكون باحثا عن امور لاحقة لغيرها. وتسمّى تلك الامور مسائله ، وذلك الغير موضوعه. ولا بدّ له من مقدّمات يتوقّف الاستدلال عليها ، ومن تصوّرات الموضوع وأجزائه وجزئيّاته. ويسمّى مجموع ذلك بالمبادي.

ولمّا كان البحث في علم الفقه عن الأحكام الخمسة ، أعني :الوجوب ، والندب ، والإباحة ، والكراهة ، والحرمة ؛ وعن الصحّة والبطلان ، من حيث كونها عوارض لأفعال المكلّفين ، فلا جرم كان موضوعه هو أفعال المكلّفين ، من حيث الاقتضاء والتخيير. ومباديه ما يتوقّف عليه من المقدّمات ، كالكتاب والسنّة والاجماع ، ومن التصوّرات ، كمعرفة الموضوع وأجزائه وجزئيّاته ؛ ومسائله هي المطالب الجزئيّة المستدلّ عليها فيه.

١٩٧

[٣١] قوله : ( ولا بدّ لكلّ علم أن يكون باحثا عن امور لاحقة لغيرها ... الخ )

البحث على ما في كلام بعض المحقّقين جعل موضوع العلم أو نوع منه أو عرض ذاتي له أو نوع من عرضه الذاتي موضوعا للامور المذكورة المسمّاة « بالمسائل » على ما في العبارة وغيرها ، والمعبّر عنها « بالعوارض الذاتيّة » على ما يساعد عليه النظر ، كالعدد في لحوق الناقص أو التامّ أو الزائد أو الزوج أو الفرد له ، والثلاثة في لحوق مخرج الثلث له ، والزوج في لحوق الانقسام بمتساويين له ، وزوج الزوج في لحوق قبول التنصيف أزيد من مرّة واحدة إلى أن ينتهي إلى الواحد له ، في مقابلة ما لا يقبل التنصيف إلاّ مرّة واحدة ، المسمّى بزوج الفرد كالعشرة ، وما يقبله أزيد من مرّة من دون أن ينتهي إلى الواحد المسمّى بزوج الزوج والفرد كعشرين ، وأمّا المقابل لهما فكالثمانية ولا يقدح فيما يلحق النوعين كونه أعمّ منهما لشيوع وقوعه في العلوم ، كما في قول الفقهاء : « المسكر حرام » وقول النحاة : « الفاعل مرفوع ».

نعم يعتبر عدم كونه أعمّ من موضوع العلم لدخوله حينئذ في العوارض الغريبة ، كما لو قال المحاسب : الثلاثة عرض ، وزوج الزوج كمّ مثلا.

وقد صرّح بما ذكرناه من اعتبار عدم الأعميّة المحقّق الطوسي ـ على ما حكي عنه ـ في نقد التنزيل.

وأمّا إذا لم يكن أعمّ منهما على وجه ساوى الموضوع ، فقد يتوهّم منافاته لما جرى عليه ديدنهم من عدّ ما يلحق الموضوع بواسطة أمر خارج عنه أخصّ منه من الأعراض الغريبة ، غير أنّه سيلحقك ما يدفعه ، من أنّ العوارض الذاتيّة في تعريف الموضوع عبارة عمّا يختصّ به ولا يوجد في غيره ، مع شمولاه بجميع أفراده منفردا أو منضمّا إليه ما يقابله في لحاظ الحمل إذا اعتبر فيهما على البدل ، بأن يفرض المحمول في كلّ مسألة موضوعها أمر أخصّ مع مقابلاته من محمولات سائر المسائل الاخر شاملا لجميع أفراد الموضوع ، فيكون قبول

١٩٨

التنصيف أزيد من مرّة إلى أن ينتهي إلى الواحد إذا اخذ مع مقابليه المتقدّمين على وجه الترديد عرضا ذاتيّا للعدد لعدم خلوّه عن أحدها ، ولو لا ذلك لانتقضت القاعدة بأكثر مسائل العلوم بأسرها ، لكون موضوعاتها أنواعا لموضوع العلم مع عدم مساواة محمول كلّ نوع بانفراده له ، كما يظهر بالتأمّل.

وليس ذلك من باب ما يلحق الموضوع بواسطة أمر خارج أخصّ ليكون من الأعراض الغريبة ، لأنّ موضوعات هذه المحمولات المتقابلة وإن كانت امور متقابلة ، غير أنّها إذا اعتبرت مجتمعة كانت مساوية للموضوع ، فيكون محمولاتها اللاحقة له على الوجه المذكور ممّا يلحقه بواسطة أمر مساو ، بناء على حمل الواسطة المساوية له على ما يعمّ المساوي له بحسب الحقيقة أو بحسب الاعتبار ، فيكون محمولاه المعتبر كونه مساويا له أعمّ ممّا ينحلّ إليه محمولات المسائل على طريق الترديد.

وعليه فليحمل ما يكون محمول نوعه بالقياس إليه عرضا غريبا على ما ليس له بحسب الخارج إلاّ نوع واحد أو على ما لا محمول بحيث اخذ مسألة في العلم إلاّ لأحد أنواعه ، أو على ما لو اخذ محمول بعض الأنواع بالقياس إليه بشرط الإنفراد ، بناء على أنّ كونه بهذا الاعتبار عرضا غريبا بالقياس إليه ، لكونه أخصّ منه غير شامل لجميع أفراده لا ينافي كونه بشرط الانضمام إلى محمولات سائر الأنواع على وجه الترديد من الأعراض الذاتيّة ، وعليه فلا حاجة إلى حمل كلام المتأخّرين في تعريف الموضوع حيث لم يأخذوا فيه إلاّ الأعراض الذاتيّة على المسامحة ، كما صنعه المحقّق الدوّاني ، كما لا حاجة إلى تكلّف حمله على البناء على الفرق بين محمول العلم ومحمول المسألة ، كالفرق بين موضوعيهما ، بدعوى : أنّ محمول العلم ما كان عرضا ذاتيّا لموضوعه بخلاف محمول المسألة ، فإنّه ربّما لا يكون عرضا ذاتيّا له ، كما إذا كان موضوعها نوعا من موضوع العلم ، فإنّ محمول المسألة على هذا التقدير إنّما لا يكون عرضا ذاتيّا لموضوع العلم إذا اخذ بانفراده ، وأمّا إذا اخذ مع ما يقابله على نحو الترديد فقد عرفت أنّه يكون حينئذ

١٩٩

عرضا ذاتيّا له ، فيكون محمول العلم على ذلك التقدير ما ينحلّ إليه محمولات المسائل المأخوذة على وجه الترديد ، ولك أن تقول : إنّ انتساب الأعراض إلى ذات الموضوع ، يشمل محمولات الأنواع ولو اخذت بانفرادها ، بناء على انّ الإضافة ممّا يكفي فيه أدنى الملابسة.

ومن المعلوم أنّ لذات الموضوع مدخليّة في اتّصاف نوعه بمحمولاه ، لكون النوع عبارة عن ذات الموضوع المأخوذة مقيّدة بالخصوصيّة الحاصلة من انضمام الفصل أو ما هو بمنزلته.

غاية الأمر ، انّ الخصوصيّة أيضا له مدخليّة في ذلك ، بل هي في كثير من الصور أقوى الجزئين ، غير انّها لا تنافي مدخليّة الذات فيه أيضا ، وهذا يكفي في النسبة وجعل الأعراض اللاحقة للأنواع ذاتيّة بالقياس إليه ، بناء على انّه لا يعتبر في حصول هذه النسبة ـ بعد ملاحظة ما ذكر ـ صحّة أخذ محمول النوع بانفراده محمولا لنفس الموضوع ، ولعلّ إلى هذا التوجيه يشير ما عن الشيخ في الشفاء ـ بعد ما عرّف موضوع الصناعة بما يبحث فيها عن الأحوال المنسوبة إليه ، والعوارض الذاتيّة له ـ من انّ المسائل هي القضايا الّتي محمولاتها عوارض ذاتيّة لهذا الموضوع ، أو لأنواعه أو لعوارضه ... الخ.

فإنّ كون العوارض ذاتيّة بالقياس إلى الأنواع والعوارض لا ينافي كونها بالقياس إلى الموضوع من الأحوال المنسوبة إليه ، بل العوارض الذاتيّة له بالنظر إلى التوجيه ، لكن يزيّفه : انّ العبرة في انتساب الأعراض إلى الذات هنا إنّما هي بكونها من محمولات الذات كما ظهر بالبيان المتقدّم ، ويلحقك أيضا زيادة بيان فيه ، لا بكونها من معلولاتها كما هو قضيّة التوجيه.

[٣٢] قوله : ( وتسمّى تلك الامور مسائله ... الخ )

واعلم انّ المسائل والمطالب والمباحث والنتائج ألفاظ متقاربة المعنى بل متّحدة ، حيث لا تغاير بينها إلاّ بالاعتبار ، فإنّ النسب التامّة الخبريّة التي يستدلّ عليها في الفنّ من حيث إنّها تسأل عنها تسمّى مسائل ، ومن حيث إنّها تطلب في

٢٠٠