تعليقة على معالم الاصول - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٤٤٣

من الأدلّة الخاصّة والعامّة ، كما أنّ لك ان تختار الاحتمال الثاني ، مع منع الملازمة المدّعاة تارة ، ومنع بطلان اللازم اخرى.

وتوضيحه : أنّ ما فرض من ورود الأخبار الظاهرة الواضحة الدلالة في كلّ حكم ، إن اريد به ما بلغ في الظهور والوضوح إلى حيث لم يكن الحاجة في استفادة المطلب منها ماسّة إلى إعمال النظر ولا مراعاة طرق الاستدلال ، فهو مع أنّه في غاية البعد بل لا يكاد يتحقّق في العادات ، غير قادح في سلامة الحدّ بخروج من يستفيد الحكم بهذا الطريق عن الحدّ ، بملاحظة قيد « عن أدلّتها » الظاهر في كون العبرة في الفقيه بقوّة يستتبع إدراك الأحكام بطريق النظر والاستدلال ، مع توجّه المنع من شمول العلم بمعنى الملكة لمثل هذه القوّة وصاحبها.

وإن اريد به ما لم يبلغ تلك المرتبة من الظهور والوضوح ، على معنى توقّف استفادة المطلب عن الأخبار المفروضة على إعمال النظر ومراعاة طرق الاستدلال ، فدعوى انتقاض الطرد بما يلزم من تكثّر اولي الملكات غفلة عن معنى الملكة ، الّتي قدّمنا شرحها وكونها مرادة في المقام وهي القوّة الراسخة الناشئة عن الممارسة في الفنّ ، والاطّلاع الإجمالي على مسائله ، والاشتمال على المبادئ المتوقّف حصولها على الخبرة بفنون كثيرة عمدتها العلوم العربيّة وعلم اصول الفقه ، والتمكّن من إعمالها حين مراجعة الأدلّة.

ولا ريب أنّ الكثير من الأفهام وقاطبة العوام فاقدون لتلك القوّة ، ومعه كيف يقال باندراجهم في الحدّ الّذي يراد من جنسه الملكة الموصوفة ، ومع هذا فلو فرض اولوا الملكات المتكثّرة من بلغ قوّتهم المرتبة المذكورة فلا مانع من تكثّرهم ، بل ولا مانع من حصول تلك الملكة لأهل العالم بأجمعهم ، لكونهم حينئذ من أفراد المحدود ، فالواجب اندراجهم في الحدّ لا خروجهم عنه.

والحاصل : إنّ المراد بالقوّة في تفسير الملكة هي القوّة القريبة من الفعل ، الغير الحاصلة لغير العالم الممارس في الفنّ ، فلا وجه للنقض بتكثّر اولي الملكات ، لأنّه لو اريد باللازم ما يلزم بالنسبة إلى العالم الممارس في الفنّ فبطلان اللازم ممنوع ،

١٤١

ضرورة صدق اسم « الفقيه » بالملكة على المفروض ، ولو اريد به ما يلزم بالنسبة إلى الأعمّ منه ومن العامي ، الّذي في حكمه العالم الممارس في غير ذلك الفنّ فالملازمة ممنوعة ، لكونها ناشئة عن القياس مع الفارق ، إذ العامي بالمعنى الأعمّ فاقد للقوّة المذكورة.

ولك أيضا أن تختار الاحتمال الثالث وتدفع انتقاض العكس ، بأنّه إنّما يلزم إذا اريد « بالإمكان » فيما يمكن استنباطه الإمكان الذاتي ، الغير المنافي للامتناع العرضي الناشئ عن ضعف القوّة ، وهو غير لازم بل غير ظاهر من لفظ « الإمكان » لظهوره في الإمكان الفعلي الغير المجامع للامتناع العرضي ، فعلى تقدير كونه مرادا لا يخرج الفقيه المفروض ولا أحد من الفقهاء عن الحدّ ، لعدم كون الحكم المفروض حصول استنباطه في أواخر العمر ممّا يمكن استنباطه فعلا من أوّل الأمر ، لدخوله فيما يمتنع استنباطه حينئذ امتناعا عرضيّا ، نظرا إلى أنّ الإمكان فيما يستنبط من الأحكام عن الأدلّة كالملكة له مراتب مختلفة في قلّة المتعلّق وكثرته ، ينشأ اختلافها عن اختلاف مراتب الملكة في الضعف والقوّة ، فإمكان الاستنباط في كلّ مرتبة إنّما يلاحظ بحسب مرتبة الملكة.

وممّا يناقش به في المقام عدم إمكان الجمع بين هذا الجواب عن الإشكال الأوّل وما سيأتي من الأجوبة في دفع الإشكال الثاني ، فإنّ مبنى هذه الأجوبة ـ على ما ستعرف ـ على اعتبار العلم بمعنى الإدراك الظاهر في الفعل ، ومبنى الجواب المذكور على أخذه بمعنى القوّة.

ومن البيّن أنّ الفعل والقوّة متقابلان فلا يمكن اجتماعهما في محلّ واحد ، والمفروض أنّ الحدّ لا يسلم إلاّ بدفع الإشكالين معا ، وهو يقضي بالجمع بين الجوابين وهو غير ممكن كما عرفت ، هذا مع ما يلزم على تقدير الجمع بين الجوابين بالقياس إلى وجوه الجواب عن الإشكال الثاني من كون العلم في جنس الحدّ مستعملا في معنييه الحقيقي والمجازي ، أو في معنييه المجازيّين وهو إمّا غير جائز أو في غاية المرجوحيّة الّتي لا يلتزم بها في الحدود.

١٤٢

يدفعها : أنّ الجمع بين الجوابين قد يتصوّر بنحو الوصف ، كأن يقال ـ مثلا ـ : الفقه ملكة ، هو الإدراك بجميع الأحكام أو بالعكس ، وقد يتصوّر بنحو العطف ، كأن يقال : الفقه ملكة وإدراك بجميع الأحكام ، وقد يتصوّر بنحو الإضافة ، كأن يقال : الفقه ملكة الإدراك بجميع الأحكام ، ومحذور الجمع بين المتنافيين إنّما يلزم لو قرّر الحدّ على الوجه الأوّل ، كما إنّه مع محذور الاستعمال في المعنيين إنّما يلزم لو قرّر الحدّ على الوجه الثاني كما لا يخفى.

وأمّا لو قرّر على الوجه الثالث فلا ، ضرورة أنّ ملكة الإدراك ممّا يمكن حصوله ، ويندفع به كلّ من الإشكالين ولا يلزم الاستعمال في المعنيين ، لعدم كون المضاف إليه في هذا المفهوم المركّب داخلا في المستعمل فيه.

نعم يلزم على هذا التقدير بالنسبة إلى بعض الأجوبة عن الإشكال الثاني سبك المجاز في المجاز ، وهو أن يستعمل اللفظ فيما يناسب مناسب الموضوع له لعلاقة بينه وبين ذلك المناسب لا لعلاقة بينه وبين نفس الموضوع له ، كما لو حمل « العلم » في الجواب عن الإشكال الثاني على الظنّ أو الاعتقاد الراجح ، فإنّ العلاقة بين الملكة والإدراك الفعلي إنّما هي علاقة السببيّة ، وهي إنّما تتحقّق بالقياس إلى الموضوع له إذا اعتبر « العلم » بمعنى ملكة الاعتقاد الجازم.

وأمّا إذا اعتبر بمعنى ملكة الاعتقاد الظنّي أو الاعتقاد الراجح فلا ، ضرورة عدم كون الملكة بوصف هذه الإضافة سببا للاعتقاد الجازم وإنّما هي سبب للظنّ ، والقدر المشترك بينه وبين الجزم والّذي بينه وبين الجزم يحصل العلاقة فهو الظنّ أو الاعتقاد الراجح ، فعند إرادة ملكة أحد هذين من « العلم » لا بدّ من العدول أوّلا عن الجزم إلى أحدهما لعلاقة المشابهة في الرجحان ، أو علاقة العموم والخصوص ، ثمّ العدول عنه إلى الملكة المضافة إليه ، لعلاقة السببيّة ، وهو كما ترى محذور اخر يتوجّه إلى من اعتبر الظنّ أو الاعتقاد الراجح في دفع الإشكال الثاني ، مضافا إلى ما ورد من الوجوه الواردة على هذين القولين.

وممّا يناقش أيضا ، أنّ حمل « العلم » على الملكة مبنيّ على كون ألفاظ العلوم

١٤٣

أسامي لملكاتها ، حذرا عن البينونة فيما بين المعرّف والمعرّف وهو خلاف التحقيق ، بل هي أسامي لنفس المسائل أو التصديق بها ، وأيّا ما كان فلا يجوز أخذ جنس الحدّ بمعنى الملكة ، وعليه يدفع الإشكال المشهور المتقدّم بحمل « الأحكام » على الاستغراق العرفي دون الحقيقي ، بإرادة جملة منها يعتدّ بها بحيث تكون كافية في ترتّب الثمرة المطلوبة وحصول الغاية المقصودة من وضع الفنّ ، وهذه المناقشة يستفاد من كلام بعض الأفاضل (١) لكن يدفعها التحقيق المتقدّم (٢) في أسامي العلوم ومعه لا مناص من حمل « العلم » على الملكة.

[٢٤] قوله : ( وهو أن يكون عنده ما يكفيه في استعلامه من الماخذ والشرائط ، بأن يرجع إليه فيحكم ... الخ )

واعلم أنّ التهيّؤ للعلم بالجميع عبارة اخرى لملكة العلم بالجميع بالمعنى المتقدّم ، وهو الحالة النفسانيّة الناشئة عن الممارسة في الفنّ واستحضار مسائله ومبادئه ، على نحو لم يكن بينها وبين الإدراك الفعلي حالة منتظرة إلاّ مراجعة الماخذ والمبادئ ، وإنّما تحصل تلك الحالة باجتماع جميع ما له مدخل في الإدراك ، من الشروط والعلل الناقصة الّتي هي بالقياس إلى العلّة التامّة أجزاء ، إلاّ الجزء الأخير منها أو ما يقرب من الجزء الأخير.

ثمّ إنّ لفظة « من » في عبارة قوله : « من الماخذ » ظاهرها كونها بيانا لكلمة « ما » بناء على أنّ المراد « بالشرائط » ما يعمّ الملكة ، وكونها صلة « ليستعلم » احتمال يزيّفه عطف « الشرائط » بملاحظة أنّها لا يستعلم منها كالماخذ ، بل هي ممّا يستعلم بها ، وبعد في العبارة نوع تشويش يظهر وجهه بالتأمّل.

[٢٥] قوله : ( وإطلاق العلم على مثل هذا التهيّؤ شائع في العرف ... الخ )

إشارة إلى دفع ما يناقش أيضا ، من أنّ « العلم » بمعنى الملكة مجاز معيب أخذه كالمشترك في الحدود.

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٨ ( الطبعة الحجرية ).

(٢) تقدّم في التعليقة الرقم ١ ، الصفحة : ٢٠.

١٤٤

وحاصل الدفع : منع إطلاق هذا الكلام ، فإنّ ذلك إنّما يعيب إذا أخذ المجاز بحيث لم يتّضح معه المعنى المجازي المراد ، لمنافاته ما هو الغرض الأصلي في مقام التحديد من إيضاح حال المحدود واستعلام حقيقته.

ولا ريب أنّ ذلك يزول إذا أخذ المجاز مع القرينة الموضحة للمراد ، و « العلم » ممّا ادّعى شيوع إطلاقه على الملكة ـ كما في العبارة ـ حتّى أنّ المستفاد من بعضهم بلوغه لكثرة الاستعمالات حدّ الحقيقة بالوضع الثانوي التعيّني ، وعلى فرض عدم بلوغه هذا الحدّ فهو من المجاز المشهور لا محالة ، فيكفي ما معه من قرينة الشهرة وشيوع الاستعمال في إيضاح المعنى المراد منه ، فتأمّل.

ولو سلّم منعه نقول : إنّ العلم بكون لفظ المحدود اسما للملكة ينهض قرينة على المعنى المجازي المراد من لفظ الجنس ، لكن يبقى الكلام في استعلام العلاقة المعتبرة في هذا التجوّز.

والّذي يستفاد من كلامهم ـ وهو المصرّح به في كلام بعضهم ـ كون التجوّز هنا لعلاقة السببيّة ، وظاهر ذلك فرض السببيّة في جانب الملكة ، على معنى كونها سببا للإدراكات الفعليّة الحاصلة منها ، وهذا حسن إذا ثبت كون السببيّة ـ المعدودة عندهم من العلائق ـ عبارة عمّا يعمّ السبب الاصولي وغيره من الشروط والمعدّات ، بأن يراد منها مجرّد المدخليّة والتأثير في الوجود ، سواء كانت المدخليّة من باب مدخليّة السبب أو الشرط أو غيره من العلل الناقصة ، ضرورة أنّ الملكة بالقياس إلى الإدراكات الفعليّة ليست سببا ، بل السبب الّذي هو مقتض لها إنّما هو الأدلّة التفصيليّة والملكة شرط. والظاهر أنّ ذلك هو المستفاد من أرباب الفنّ ، كما يرشد إليه تمثيلهم « برعينا الغيث » و « أمطرت السماء نباتا » ونحوه.

وربّما سبق إلى بعض الأوهام تجويز انعكاس الفرض ، بدعوى قيام السببيّة بالإدراكات لا الملكة ، على معنى كون الملكة مسبّبة عن الإدراكات وإن كانت هي بنفسها سببا لإدراكات ، فلا بدّ من فرض إدراكات سابقة تكون الملكة مسبّبة عنها ، وإدراكات لاحقة تكون الملكة سببا لها ، غير أنّه عند التحقيق بيّن الفساد لاستلزامه

١٤٥

أحد الأمرين ، من انتقاض عكس الحدّ أو كون لفظ الجنس مستعملا في معنييه الحقيقي والمجازي ، وذلك لأنّ « العلم » المحمول على الملكة إمّا يعتبر بحيث يختصّ بالإدراكات اللاحقة ، أو بحيث يشمل كلاّ من اللاحقة والسابقة ، والأوّل يستلزم انتقاض العكس بخروج الإدراكات السابقة ، مع أنّها من أفراد المحدود ، والثاني يتصوّر على وجهين :

أحدهما : اعتبار شمولاه لهما بمعنى الملكة.

وثانيهما : اعتبار شمولاه للإدراكات السابقة ، بمعنى الإدراك الجزمي وللإدراكات اللاحقة بمعنى الملكة ، والأوّل خلاف الفرض لعدم كون الإدراكات السابقة ناشئة عن الملكة ، كيف ولو صحّ ذلك لأدّى إلى الدور لو فرض كونها ناشئة عن الملكة والمسبّبة عنها ، أو التسلسل لو فرض كونها ناشئة عن ملكة اخرى ، والثاني يستلزم استعمال « العلم » في المعنيين الحقيقي والمجازي كما لا يخفى.

[٢٦] قوله : ( وأمّا عن سؤال الظنّي ... الخ )

والحقّ في الجواب عن سؤال ظنّية الأحكام أن يقال : أوّلا ، بمنع عدم شمول جنس الحدّ لظنّيات الفقه ، بعد ملاحظة حمل « العلم » على الملكة والتهيّؤ القريب حسبما مرّ بيانه في دفع أوّل الإشكالين (١) إذ لا ريب أنّ الظانّ في جميع موارد ظنّه له ملكة الاعتقاد الجازم ، ولا ينافيه عدم تحقّق الجزم له فعلا ، لأنّه إنّما هو من جهة عدم وجود الأدلّة العلميّة أو لوقوع الاختلال في الأدلّة الموجودة ، بحيث لو لا هاتان الجهتان لكان الجزم متحقّقا لمجرّد ما له من الملكة والقوّة القريبة من الفعل ، وهذا البيان من الدفع كما ترى ممّا يغني عن الوجوه الاخر الّتي يأتي إليها الإشارة.

والعجب عنهم أنّهم لم يلتفتوا هنا إلى ذلك مع تعرّضهم له في دفع الإشكال الأوّل وهو يدفع الإشكالين معا ، ولعلّه لأجل أن يندفع هذا الإشكال بوجوه اخر ولو على تقدير عدم استقامة ما ذكروه في دفع الاشكال الأوّل ، أو يندفع ذلك

__________________

(١) تقدّم في التعليقة الرقم ٢٣ ، الصفحة : ١٢٣.

١٤٦

ولو فرض عدم جريان ما ذكروه ثمّة بجميع تقاديره هنا ، بملاحظة أنّ أحد تقديري الجواب المذكور ثمّة ـ وهو حمل « الأحكام » على البعض ـ غير جار هنا ، ويمكن أن يكون النكتة في التفكيك بين الإشكالين بعدم إجراء الوجه المذكور في دفع ثانيهما مع إجرائه في دفع أوّلهما ، اعتبار الملكة بحيث يدخل في مفهومها وجود المدرك والتمكّن من استعماله ، فحينئذ يكون المذكور فاقدا للملكة بهذا المعنى ، لما نبّهنا عليه من عدم وجود الأدلّة العلميّة له مع وجود الاختلال في الأدلّة الموجودة.

وثانيا : منع توجّه الإشكال على تقدير حمل « الأحكام » على الفعليّة ، وقد تقدّم أنّها الظاهر من إطلاقها عرفا ولغة ، فحينئذ يشمل الحدّ لجميع موارد الفقه وإن كانت تختلف بالنظر إلى الواقع بكون بعضها مقطوعا بها ، والبعض الاخر مظنونا بها ، والبعض الثالث مشكوكا فيها ، لأنّه في الجميع جازم إذا اعتبر فيه وصف الفعليّة بملاحظة دليله المؤلّف من مقدّمتين قطعيّتين ، المعبّر عنهما « بأنّ هذا مؤدّى اجتهادي ، وكلّ مؤدّى اجتهادي فهو حكم الله في حقّي » والمناقشة فيه : بأنّ مقتضى الحدّ حصول العلم عن الأدلّة التفصيليّة وهذا دليل إجمالي.

يدفعها : ما قدّمنا الإطناب في تحقيقه وتقريبه من أنّ استناد صغرى هذا القياس إلى الأدلّة التفصيليّة ـ كما هو المفروض ـ كاف في صحّة استناد النتيجة إليها ، ولا يضرّ فيه استناد الكبرى إلى غيرها ، ويتأكّد هذا البيان بملاحظة ما سبق (١) من كون « الفقه » من جملة العلوم الّتي يطلب بالبحث فيها إحراز صغريات بالنظر ، تنضمّ إليها كبرى مسلّمة مأخوذة من الخارج ، فالمسائل الفرعيّة حينئذ هي النتائج المستند صغريات قياساتها إلى الأدلّة التفصيليّة ، ويجب أن يكون هذا هو المراد بما في الحدّ من تعلّق « الأدلّة » بالعلم على ما هو الظاهر.

[٢٧] قوله : ( وما يقال ـ في الجواب أيضا ـ : من أنّ الظنّ في طريق الحكم لا فيه نفسه ، وظنّية الطريق لا ينافي علميّة الحكم ... الخ )

__________________

(١) تقدّم في التعليقة الرقم ١٣ ، الصفحة : ١٠٣.

١٤٧

والقائل به العلاّمة (١) تبعا لما في كتب أكثر العامّة ، وهذا كما ترى يرجع إلى ما قرّرناه أخيرا ، بناء على أنّ المراد بطريق الحكم هو الدليل المذكور المؤلّف من مقدّمتين قطعيّتين ، فإنّ الظنّ في هذا الدليل إنّما أخذ وسطا ، لوقوعه محمول الصغرى وموضوع الكبرى ، لا أنّه في نفس الحكم بأن يكون بنفسه مظنونا ، بل هو مقطوع به لقطعيّة مقدّمتي دليله ، أمّا الاولى فبالفرض والوجدان ، وأمّا الثانية فبالأدلّة القاضية بوجوب التعبّد بالظنّ بعنوان القطع ، والفرق بين الاعتبارين أنّ الظنّ على الاعتبار الأوّل من أجزاء القضيّة محمولا وموضوعا ، وعلى الاعتبار الثاني من عوارض النسبة الّتي هي أيضا من أجزائها ، لكن المصنّف ومن تبعه لم يرض بهذا الجواب نظرا منه إلى أنّه لا يرتبط إلاّ بمقالة المصوّبة.

[٢٨] قوله : ( فضعفه ظاهر عندنا ، وأمّا عند المصوّبة القائلين بأنّ كلّ مجتهد مصيب ـ كما سيأتي الكلام فيه في بحث الاجتهاد ـ فله وجه ... الخ )

وحاصل مراده من هذا الاعتراض مع تحرير منّا : أنّ قولكم : ظنّية الطريق لا ينافي علميّة الحكم ، محتملا لوجوه ثلاث :

الأوّل : كون الدليل ظنّيا لا ينافي كون الحاصل منه هو القطع ، وهذا كما ترى واضح البطلان ولا يتفوّه به أحد ، لكون النتيجة في وصفي القطع والظنّ تابعة لدليلها فإن قطعيّا بقطعيّة مقدّمتيها فقطعيّة ، وإن ظنّيّا بظنّيّة إحدى مقدّمتيها أو كلتيهما فظنّيّة ، فإذا فرض الدليل ظنّيا لا يعقل كون الحاصل منه هو القطع.

الثاني : أنّ كون الدليل ظنّيا وإن استلزم كون الحاصل منه هو الظنّ ، لكن حصول الظنّ منه وتعلّقه بالحكم لا ينافي تعلّق القطع أيضا بمتعلّقه مع كونهما في درجة واحدة ، بأن لا يكون الظنّ علّة لشيء كالقطع ، وهذا أيضا ـ مع كونه خلاف الفرض حيث لم يكن الحكم مقطوعا به ، وإلاّ لم يكن هناك إشكال ـ واضح الفساد ، لأدائه إلى اجتماع المتضادّين في محلّ واحد من جهة واحدة.

__________________

(١) تهذيب الوصول إلى علم الاصول : ٢.

١٤٨

الثالث : أنّ كون الدليل ظنّيا وإن استلزم كون الحاصل منه هو الظنّ ، لكنّه لا ينافي تعلّق القطع بمتعلّق الظنّ الحاصل منه ، مع كون الظنّ علّة لحدوث جعل الحكم أو تعيينه.

فهذا هو المراد من العبارة المذكورة لوضوح فساد الأوّلين ، وهو أيضا لا يستقيم إلاّ على مذهب المصوّبة ، وهم قوم يزعمون ـ على ما حكي عنهم كما في نهاية العلاّمة (١) ـ إنّه ليس لله سبحانه في الوقائع قبل اجتهاد المجتهد حكم معيّن ، في مقابلة المخطّئة وهم القائلون : بأنّ له تعالى في كلّ واقعة حكما معيّنا في الواقع قبل اجتهاد المجتهد ، فهذا الحكم المعيّن إن أدركه المجتهد كان مصيبا وله أجران ، وإن لم يدركه كان مخطئا وهو معذور في خطائه وله أجر واحد.

فظنّ المجتهد على مذهب المصوّبة إمّا علّة لحدوث الحكم الواقعي إن رجع النفي في العبارة المنقولة عنهم إلى المقيّد ، على معنى ألايكون في الواقعة قبل الاجتهاد حكم أصلا ، فإذا اجتهد وأدّى اجتهاده إلى شيء يصير ذلك حكمه الواقعي بجعل الشارع له حكما في تلك الحال ، كما يقتضيه بعض الحكايات لهذا المذهب ، أو علّة لتعيّنه إن رجع النفي إلى القيد ، كما يقتضيه بعض اخر من الحكايات ، وهو أنّ الله تعالى لعلمه القديم بعدد المجتهدين وعدد ارائهم الحاصلة باجتهاداتهم فجعل (٢) بحسب تعدّد تلك الاراء أحكاما في الواقع من غير أن يعيّن بعضا لبعض ، فإذا اجتهد المجتهدون وأدّى اجتهاد كلّ إلى شيء منها عيّنه حينئذ حكما واقعيّا في حقّه ، فعبارة الجواب على الاحتمال الأخير ينطبق على أحد هذين المعنيين من مقالة المصوّبة ، فلا يلائم مذهب المخطّئة فيكون فاسد الوضع على هذا المذهب.

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ٢١٧ ( مخطوط ).

(٢) كذا في الأصل.

١٤٩

[٢٩] قوله : ( وكأنّه لهم ، وتبعهم فيه من لا يوافقهم على هذا الأصل ، غفلة عن حقيقة الحال ... الخ )

وفيه منع واضح ، بناء على ما وجّهناه على الوجه الصحيح.

وأمّا التوجيه الاخر المنطبق على مقالة المصوّبة ، فإنّما يستقيم بعد إحراز مقدّمتين ممنوعتين :

إحداهما : كون المراد « بالحكم » المذكور في العبارة المذكورة هو الحكم الواقعي وقد عرفت منعها ، لظهور الحكم في الفعلي الّذي هو أعمّ من الواقعي والظاهري.

واخراهما : كون المراد بظنّيّة الطريق كون الدليل مفيدا للظنّ ، وهو أيضا ممنوع بما أشرنا إليه : من أنّ المراد به كون الظنّ مأخوذا في الطريق من باب الوسطيّة ، كما صرّح به جماعة من فحول الاصوليّة من العامّة والخاصّة ، كالسيّدين العميدي والجرجاني في شرحيهما للتهذيب ، وشارح المختصر في بيانه ، وشارح المنهاج في نهاية المرام ، وهو ظاهر الاخرين.

وقد يدفع الاعتراض أيضا ، بحمل العبارة على إرادة أنّ الظنّ في طريق الحكم الواقعي ، وظنّية الطريق لا تنافي قطعيّة الحكم الظاهري ، ومحصّله : حمل « الحكم » في الفقرة الاولى على الواقعي وفي الفقرة الثانية على الظاهري فلا تصويب ، لأنّ إثبات الحكم الظاهري القابل للتعدّد باتّفاق المخطّئة من خواصّ غير المصوّبة.

وفيه من التفكيك الّذي ينافيه ظاهر سوق العبارة ما لا يخفى ، مع ابتنائه على تسليم المقدّمة الثانية ممّا تقدّم إليها الإشارة الّتي قد عرفت منعها.

ثمّ إنّهم أجابوا عن أصل الإشكال بوجوه اخر غير سديدة ، مع رجوع بعضها إلى ما قرّرناه أخيرا بنحو من الاعتبار.

١٥٠

أوّلها : التصرّف في لفظ « العلم » بحمله على الظنّ ـ كما صنعه شيخنا البهائي (١) ـ ولعلّه لتوهّم الترادف بين « الفقه » و « الاجتهاد » المأخوذ في مفهومه الاصطلاحي ـ على ما سيعلم في محلّه ـ الظنّ بالحكم الشرعي ، وهذا مع إنّه توهّم فاسد ممّا يدفعه :

أوّلا : ما سمعت سابقا من أنّ حمل « العلم » على الظنّ ممّا لا مسوّغ له من العرف واللغة ، وتنزيله على مصطلح أهل الميزان تكلّف بعيد.

وثانيا : أنّه وإن كان مجديا في حفظ الحدّ بالنظر إلى ظنّيات الفقه ، لكنّه يقضي بانتقاض عكسه بالقياس إلى قطعيّاته ، بل شكيّاته الّتي يرجع فيها إلى الاصول العامّة المقرّرة للشاكّ ، إلاّ أن يدفع ذلك بدعوى : أنّ هذا الحدّ منزّل على الغالب وغير الظنّيات نادر ، والنادر في حكم المعدوم فلا يضرّ خروجه أو بالتزام خروج ما ذكر عن المحدود فيجب خروجه عن الحدّ أيضا.

والكلّ تعسّف لا يصغى إليه بل مقطوع بفساده ، فإنّ الأوّل إنّما يستقيم إذا كان النظر في التحديد إلى الأفراد فحينئذ أمكن مراعاة ما هو الغالب وعدم الالتفات إلى النادر ، وهو على خلاف القاعدة المقرّرة المتقدّم إليها الإشارة عند دفع أوّل الإشكالين ، من أنّ التحديد إنّما هو باعتبار الماهيّة من غير نظر إلى الأفراد ، فلا يتفاوت الحال حينئذ بين الغالب والنادر ، فيكون خروج كلّ مضرّا.

والثاني خلاف طريقة القوم وتصريحاتهم ، فإنّ المعتبر في في الفقه بل العلوم بأسرها إعمال النظر في مسائلها. ومن المعلوم أنّ النظر قد يوصل إلى العلم بالمسألة ، وقد يوصل إلى الظنّ بها ، وقد لا يوصل إلى شيء ، ونحن نقطع أيضا أنّ الرجل يصدق عليه « الفقيه » في موارد قطعه وفي مجاري الاصول أيضا ، بل لو فرض اتّفاق القطع له في جميع المسائل على خلاف العادة كان فقيها وعلمه فقها ، ودعوى المرادفة بينه وبين الاجتهاد ممنوعة على مدّعيها.

__________________

(١) زبدة الاصول : ٦.

١٥١

نعم لو كان المراد من القطعيّات ما يستند القطع فيها إلى الأسباب الضروريّة كضروريّات الدين أو المذهب ـ في وجه تقدّم ذكره (١) ـ كان لالتزام خروجها وجه ، غير أنّ الإشكال بالقياس إلى القطعيّات النظريّة بحاله.

وثالثا : أنّ أخذ جنس الحدّ ظنّا ممّا يفسد به الحدّ رأسا ، إذ لا ينبغي أن يراد به الظنّ بشرط عدم الحجّية لضرورة أنّ من لا حجّية في ظنّه لا يسمّى « فقيها » في الاصطلاح وإن بلغ في الفضل والعلم إلى ما بلغ ، ولا الظنّ لا بشرط الحجّية وعدمها لأنّه أيضا في ضمن أحد فرديه خارج عن مسمّى الفقه ، فالواجب حينئذ إرادة الظنّ بشرط الحجّية ، وعليه فإمّا أن يراد بالحجّية ما يستلزم كون المظنون حكما واقعيّا فيراد « بالأحكام » الواقعيّة منها ، أو ما يستلزم كونه حكما فعليّا أعمّ من الواقعي وغيره فيراد « بالأحكام » الفعليّة منها ، فالفقه حينئذ إمّا عبارة عن الظنّ بامور المستلزم لكونها بأسرها أحكاما واقعيّة ، أو عن الظنّ بها المستلزم لكونها بأسرها أحكاما فعليّة ، وإن كان فيها ما يكون حكما واقعيّا أيضا ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلوضوح ارتباطه بالتصويب الّذي من أصله فاسد ، مع قضائه بعدم سلامة الحدّ في جميع المذاهب وهو خلاف المقصود.

وأمّا الثاني : فلأنّ الظنّ المستلزم لفعليّة الأحكام ، مأخوذ في وسط دليل الأحكام الفعليّة ، فلا يعقل أخذه من عوارض النتائج الّتي هي المسائل الفقهيّة ، والمقصود من جنس الحدّ ما يكون من عوارض المسائل هذا.

ومع الغضّ عن جميع ما ذكر نقول : هذا تجوّز في الحدّ لا داعي إلى ارتكابه مع إمكان ما لا يستلزمه.

ومنها (٢) : التصرّف في « العلم » أيضا ، بحمله على الاعتقاد الراجح ـ كما صنعه المصنّف ـ وهو مجاز شائع فلا بأس بأخذه في الحدود.

__________________

(١) تقدّم في التعليقة الرقم ١٣ ، الصفحة : ١٠١.

(٢) عطف على قوله سابقا : أوّلها : التصرّف في لفظ « العلم » بحمله على الظنّ.

١٥٢

وفيه : مع أنّ المجاز مع إمكان ما لا يستلزمه ممّا لا معنى للمصير إليه ، مع قضائه بانتقاض العكس بخروج الشكّيّات الّتي يرجع فيها إلى الاصول وهو فقيه بالنسبة إليها جزما ، ولا يمكن اندراجها في أحد فردي هذا المعنى وهو الجزم ، لأنّها أحكام معلومة في مرحلة الظاهر ، لأنّ مبنى الإشكال على أخذ « الأحكام » بمعنى الواقعيّة والتزام التصرّف في « العلم » لدفعه تقريرا للحمل على هذا المعنى إنّه يرد عليه باعتبار الفرد الاخر من هذا المعنى ـ وهو الظنّ ـ ما ورد على سابقه ، على تقدير أن يراد من الظنّ ما هو ملزوم الحجّية ، على معنى ما يستلزم صيرورة متعلّقه أحكاما واقعيّة أو صيرورته أحكاما فعليّة ، فإنّ الأوّل تصويب والثاني أخذ للوسط عارضا للنسبة في النتيجة.

ومنها : ما صنعه غير واحد من اعتبار وجوب العمل ، الّذي اضطربت الأفهام في توجيهه ، فقد يحتمل كون المراد اعتباره في مفهوم « الأحكام » بأن يراد منها ما يجب العمل به ، فيكون حاصل معنى الحدّ : إنّ « الفقه » هو العلم بالأحكام على أنّها ما يجب العمل بها لا على أنّها أحكام واقعيّة ، فإنّ الشيء قد يجتمع فيه حيثيّتان ، كونه ظنّيّا باعتبار إحداهما لا ينافي كونه علميّا باعتبار الاخرى ، كما يظهر بالتأمّل.

وقد يقال : إنّ المراد اعتباره من باب الإضمار ، فالفقه : هو العلم بوجوب العمل بالأحكام.

والمستفاد من بعض الأعلام (١) تارة : اعتباره علاقة للتجوّز في لفظ « العلم » بإرادة الظنّ ، إذ « العلم » كما أنّ معناه الحقيقي ممّا يجب العمل به ، فكذلك معناه المجازي الّذي هو الظنّ ، فهو استعارة له بتلك العلاقة ، كما أنّه على المذهب المتقدّم من حمله على الظنّ إستعارة له بعلاقة رجحان الحصول ، واخرى : اعتباره في مفهوم « العلم » بأن يراد منه ما يجب العمل به ، ولعلّه راجع إلى سابقه بكون

__________________

(١) وهو المحقّق القمّي رحمه‌الله في بعض حواشيه على القوانين ٨ : ١ في ذيل قوله : ومنها أنّ المراد به وجوب العمل ... الخ.

١٥٣

الموصول كناية عن الظنّ الموصوف بما يصلح علاقة للتجوّز ، ويحتمل كونه أعمّ منه بإرادة ما يعمّ المعنى الحقيقي والظنّ ، لاشتراكهما في الوصف الصالح علاقة.

وربّما يحتمل كون وجوب العمل بنفسه مرادا من « العلم » ليكون الفقه عبارة عن وجوب العمل بالأحكام ، بناء على فرض مقدّمتين ، كون المبحوث عنه في المسائل الفقهيّة وجوب العمل بالأحكام المفصّلة ، وكون لفظ « الفقه » اسما لنفس المسائل.

والصحيح من هذه الوجوه هو الوجه الأوّل ، ودونه الوجه الثاني ، فإنّ مظنونات الفقيه ـ الّتي حصل له العلم بها على أنّها مظنونات عن الأدلّة التفصيليّة ، نظرا إلى أنّ الظنّ بالشيء يستلزم العلم بكون ذلك الشيء مظنونا ، فالظنّ به ملزوم له ، واستناده إلى الأدلّة التفصيليّة يقضي باستناد لازمه إليها ـ كما أنّها تتّصف بكونها أحكاما فعليّة فكذلك تتّصف بوجوب العمل بها.

غاية الأمر أنّ هذا الوصف لازم لوصف الفعليّة ، فيكون التفسير به في الحدّ دون الفعليّة من باب التفسير باللازم ، والّذي أوجب العدول عنه إلى ما اخترناه من حملها على الفعليّة كونه عدولا عن الظاهر إلى خلافه ، لما بيّنّاه من ظهور الحكم في الملزوم ، وإلاّ فالفقيه بعد الفراغ عن إثبات كون مظنوناته أحكاما فعليّة يجب العمل بها ، طالب عند رجوعه إلى الأدلّة التفصيليّة للعلم بتلك المظنونات على أنّها أحكام فعليّة يلزمها وجوب العمل بها ، غير أنّ الظاهر من لفظ « الحكم » ما يعتبر فيه الفعليّة وإن لزمه وجوب العمل دون ما يعتبر فيه وجوب العمل ، وكذلك الداعي إلى العدول عن التزام الإضمار كونه عدولا عمّا لا يستلزمه ، وهو الظاهر إلى خلافه ، فإنّ الظاهر لا يعدل عنه في غير موضع العذر.

وأمّا الوجه الثاني ، فيدفعه : أنّ الظنّ ممّا لا مسوّغ له بحسب العرف واللغة ، ولو سلّم فوجوب العمل غير صالح لكونه علاقة ، بناء على أنّ المعتبر فيها ما يتداوله أهل العرف ولا معرفة لهم بأحكام الشرع ووجوب العمل حكم شرعي ، ولو سلّم فهو مخرج للقطعيّات والشكّيّات الّتي لا ينبغي خروجها على ما عرفت.

١٥٤

ولو سلّم فالظنّ الّذي يعتبر فيه وجوب العمل لا بدّ وأن يكون حجّة ، إمّا بمعنى ما هو ملزوم لصيرورة متعلّقه حكما واقعيّا فيلزم التصويب ، أو حكما فعليّا فيستحيل أخذه في الجنس ، لأنّ الظنّ بهذا الاعتبار مأخوذ في وسط دليل الحكم الفعلي ، فلا يعقل كونه مطلوبا من استدلالات المسائل الّتي هي نتائج هذا الدليل ، ضرورة أنّ الوسط ملزوم للأكبر وملزوم الشيء لا يصلح عارضا له ، والمفروض أنّ جنس الحدّ لا بدّ وأن ينحلّ إلى ما يؤخذ في نتائج الفنّ ويتعلّق بالنسب المأخوذة في تلك النتائج ، ولو سلّم فالتجوّز غير لازم الارتكاب بعد إمكان الحقيقة.

أمّا الوجه الرابع (١) : فمرجعه إلى سابقه إن اعتبر الموصول كناية عن الظنّ ، فيدفعه ما تقدّم ، وإلاّ فيرجع إلى ما سبق عن المصنّف من حمل « العلم » على مطلق الاعتقاد ، وإن حصل الفرق بينهما بالاعتبار من جهة تفاوت العلاقة المعتبرة ، لأنّه على ما سبق مجاز مرسل بعلاقة العموم والخصوص ، وعلى ذلك استعارة بعلاقة وجوب العمل ، فيرد عليه أكثر ما ورد على سابقه.

وأمّا الوجه الخامس (٢) فيدفعه :

أوّلا : منع كون مسمّى ألفاظ العلوم نفس المسائل

وثانيا : منع كون المطلوب بالبحث في المسائل الفرعيّة وجوب العمل بالمظنون ، بل المطلوب هو الحكم الفعلي المستلزم لوجوب العمل.

وتوضيحه : أنّ الفقيه إذا ظنّ بملاحظة قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(٣) بوجوب الصلاة ، ينتظم عنده قياس بتلك الصورة : « الصلاة ما ظننت بوجوبه ، وكلّما ظننت بوجوبه فهو واجب فعلا » والوجوب المأخوذ في نتيجة هذا القياس حكم فعلي ، ووجوب العمل ليس بعينه وإنّما هو لازمه شرعا ، والمبحوث عنه في الفقه هو الملزوم لا اللازم ، فلا وجه لأن يؤخذ جنسه ما هو من قبيل اللازم ،

__________________

(١) كذا في الأصل.

(٢) كذا في الأصل.

(٣) الأنعام : ٧٢.

١٥٥

إلاّ أن يعتذر بكونه لمراعاة التعريف باللازم ، غير انّه لا يجدي إذا كان الحدّ بنفسه ظاهرا في الملزوم.

ومنها : ما صنعه بعضهم أيضا ، من اعتبار مدلول الدليل الّذي اضطربت العبارات المتكفّلة لبيانه أيضا ، والمتحصّل منها مع تحرير منّا وجوه :

الأوّل : كونه عنوانا يعتبر في « الأحكام » ليكون الفقه عبارة عن العلم بالأحكام على أنّها مداليل للأدلّة ، فإنّها بهذه الحيثيّة معلومة وإن كانت من حيث كونها أحكاما واقعيّة مظنونة ، فإنّ الشيء قد يجتمع فيه جهات وحيثيّات تكون بعضها معلوم النسبة إليه وبعضها الاخر مظنونها وبعضها الثالث مشكوكها وبعضها الرابع موهومها ، فكونه في بعضها مظنونا أو مشكوكا أو موهوما لا ينافي كونه معلوما في بعضها الاخر ، فكون مظنونات المجتهد من حيث إنّها أحكام واقعيّة مظنونة بالفرض لا ينافي كونها من حيث إنّها مداليل الأدلّة معلومة.

الثاني : اعتباره في الحدّ من باب الإضمار.

الثالث : اعتباره علاقة للتجوّز في « العلم » بإرادة الظنّ منه استعارة ، بمشابهة كونه كالعلم مدلولا للدليل.

ولا يخفى ضعف هذا الاعتبار بجميع وجوهه.

أمّا الوجه الأوّل : فلوضوح أنّ منظور الفقيه في المسائل الفقهيّة ليس استعلام ما هو مدلول الدليل ، بل منظوره استعلام أحكامه الفعليّة وإن لزمها كونها مداليل الأدلّة ، غير أنّه فرق واضح بين كون شيء هو الجهة المبحوث عنها في الفنّ وكونه من لوازم تلك الجهة ، فإنّ لازم الشيء قد لا يكون من قبيل المقاصد. ومن البيّن اختلاف العناوين باختلاف حيثيّاتها ، وهذا بعينه ينهض وجها لضعف الوجه الثاني.

وأمّا الوجه الثالث : فيظهر وجه ضعفه بملاحظة ما سبق (١) مضافا إلى أنّ كون شيء مدلولا للدليل لا يصلح علاقة للتجوّز.

__________________

(١) تقدّم في نفس التعليقة ، الصفحة : ١٣٦.

١٥٦

ولو سلّم ، فهو ليس بموجود في المقام ، ضرورة أنّ العلم والظنّ ليسا من قبيل المداليل ، بل المدلول هو المعلوم والمظنون.

ومنها : حمل « الأحكام » على الظاهريّة ـ كما صنعه غير واحد من أجلّة المعاصرين (١) ـ بناء على أنّ الإشكال إنّما توجّه لتوهّم كون « الأحكام » مرادا بها الواقعيّة ، وهي الأحكام المجعولة في الوقائع بعناوينها الخاصّة على طبق الصفات الكامنة فيها معلّقة على عدم مصادفة المانع من جهل المكلّف ونحوه ، ولعلّه عند التحقيق يرجع إلى ما اخترناه وإن كان لا يخلو عن نوع إجمال ، وبيانه : أنّ الحكم الظاهري في لسان الفقهاء والاصوليّين يرد لمعان :

أحدها : ما جوّزه الشارع وجعله في حال الاضطرار ، كالأحكام المبتنية على التقيّة وغيرها من جهات الاضطرار ، وقد يعبّر عنه « بالواقعي الثانوي » قبالا « للواقعي الأولي » المفسّر بما يختصّ بالمكلّف الجامع لجهات الاختيار ، فمقابله ما يختصّ بالمكلّف الغير الجامع لجهات الاختيار بطروّ الاضطرار لبعض جهاته.

وثانيها : مظنونات المجتهد حال انسداد باب العلم ، فإنّها ـ بناء على الظنّ المطلق ـ أحكام ظاهريّة ، وهذا أعمّ من وجه من الحكم الواقعي ، كما أنّ الأوّل مبائن له ، والوجه واضح بعد ملاحظة أنّ الحكم الواقعي قد يصادفه العلم ، والظنّ قد يصادف الحكم الواقعي وقد لا يصادفه ، فالأوّل افتراق الواقعي والأخير افتراق الظاهري والأوسط مورد اجتماعهما.

وثالثها : مؤدّيات الاصول العمليّة من أصل البراءة والاستصحاب وأصل الشغل ونحوه ، فإنّها أيضا أحكام ظاهريّة بينها وبين الأحكام الواقعيّة عموم مطلق كما لا يخفى.

ورابعها : مؤدّيات الأمارات التعبّديّة الصرفة المعمولة في الأحكام ، كخبر الواحد ومنقول الإجماع ونحوهما على القول بها من باب الظنّ الخاصّ ، أو في

__________________

(١) ضوابط الاصول : ٥.

١٥٧

الموضوعات الخارجيّة كالبيّنة واليد وسوق المسلم وما أشبه ذلك ، فإنّها أيضا أحكام ظاهريّة عندهم.

وخامسها : ما يعمّ المعاني الأربع المذكورة ، أعني الامور الّتي يجب بناء العمل عليها فعلا ، ولا ريب أنّ ذلك مفهوم يعمّ جميع المذكورات.

والظاهر أنّ من يحمل « الأحكام » على الظاهريّة لا يريد منها أحد الأربع الاول ، لاستلزامه انتقاض العكس بخروج ما سوى المحمول عليه وهو في صدد دفع هذا المحذور ، فإذا كان مراده المعنى الأخير يندفع به الإشكال بحذافيره ، إلاّ أنّ مرجعه إلى ما اخترناه لأنّ الحكم الظاهري بهذا المعنى عبارة اخرى للحكم الفعلي ، وإنّما عدلنا عن الحمل عليه لكونه بملاحظة ما ذكرناه من إطلاقه على المعاني المتعدّدة كالمقول بالاشتراك فلا يناسب أخذه الحدّ.

ومنها : حمل « الأحكام » على ما يعمّ الظاهريّة والواقعيّة ـ كما صنعه بعض الأعلام (١) ـ وإنّما دعاه إلى ذلك جعل الحدّ بحيث يتناول القطعيّات وغيرها ، فإنّ الأحكام الواقعيّة من هذا المعنى عبارة عن قطعيّات الفقيه ، كما أنّ الأحكام الظاهريّة من فرديه عبارة عن غير القطعيّات.

وفيه : أوّلا منع الملازمة بين القطع بالشيء وكون المقطوع به حكما واقعيّا ، لكثرة ما يقع فيها من الخطأ ، فالحكم الواقعي الّذي أحد فردي هذا المعنى لا يشمل جميع القطعيّات إلاّ أن يقال : باندراج ما عدا الواقعي منها في الفرد الاخر.

وثانيا : منع الحاجة إلى هذا التكلّف ، بل الحمل على خصوص الأحكام الظاهريّة بالمعنى الأخير كاف في شمول جميع القطعيّات وغيرها ، وذلك لأنّ الأدلّة الّتي يستعملها الفقيه عند الاستنباط لا تخلو عن أنواع أربع :

الأوّل : ما يكون دليليّته واعتباره منوطا بإفادته القطع كالإجماع والعقل.

والثاني : ما يكون دليليّته منوطة بإفادته الظنّ كالأمارات على الظنّ المطلق.

__________________

(١) قوانين الاصول ٦ : ١.

١٥٨

والثالث : ما يكون دليليّته لمجرّد التعبّد ، كخبر الواحد وغيره على الظنّ [ الخاصّ ] (١).

والرابع : ما يكون دليليّته منوطة بعدم ورود دليل من أحد الأنواع المذكورة على الخلاف ، كالاصول العمليّة.

ولا ريب إنّ المستنبط في الرجوع إلى جميع تلك الأنواع لا يحرز إلاّ صغرى ، وهي بمجرّدها لا تقضي بكون مفاد الدليل حكما في حقّه إلاّ إذا انضمّ إليها الكبرى المحرزة في الخارج ، طلبا للنتيجة التي هي الحكم المجعول في حقّه ، وهذا كما ترى هو الحكم الفعلي بمذاقنا ، والحكم الظاهري بمذاق من تقدّم ، فالحكم الظاهري بهذا المعنى يشمل الأحكام المستفادة من الأدلّة القطعيّة أيضا ، إلاّ أن يدفع أوّل الإشكالين بأنّ الغير الواقعي من القطعيّات وإن خرج عن أحد فردي الأحكام بهذا المعنى ، لكنّه يدخل في الفرد الاخر وهو الظاهري منهما ، وثاني الإشكالين بأنّ المراد بالأعمّ من الواقعي والظاهري القدر المشترك بينهما الجامع لهما ، وهو ما يجب بناء العمل عليها ، فيرجع محصّله حينئذ إلى الحمل على إرادة الأحكام الفعليّة ، ومعه فلا مخالفة.

هذا كلّه فيما يتعلّق بمركّب « اصول الفقه » باعتبار جزئيه المادّيين المضاف والمضاف إليه. وأمّا ما يتعلّق به باعتبار جزئه الصوري ومعناه العلمي ، فالكلام فيه يقع في مقامين :

المقام الأوّل : واعلم أنّ « الاصول » من هذا المركّب إن أخذ بأحد معانيه اللغويّة المتقدّم (٢) ذكرها المبتنى عليه ، والمحتاج إليه ، والمستند إليه ، والمنشأ ، وما منه الشيء ، ومن معانيه الاصطلاحيّة بمعنى الدليل أو الراجح أو الاستصحاب كانت الإضافة بينه وبين « الفقه » لاميّة ، سواء اخذ « الفقه » بمعنى المسائل أو التصديق بها أو ملكة التصديق بها ، وإن اخذ بمعنى القاعدة أمكن جعلها بيانيّة ، بناء على أخذ « الفقه » بمعنى المسائل.

__________________

(١) زيادة تقتضيها السياق.

(٢) تقدّم في التعليقة الرقم ١ ، الصفحة : ٢٥.

١٥٩

وأمّا على أخذه بمعنى التصديق بالمسائل أو ملكة التصديق بها فالمتعيّن أيضا كونها لاميّة.

والضابط أنّ المضاف بعد ملاحظة استحالة إضافة المساوي إلى مثله والأخصّ إلى الأعمّ لا بدّ وأن يكون أعمّ مطلقا أو من وجه من المضاف إليه ، ولو باعتبار الوجود والتحقّق دون الحمل والصدق ، لئلاّ ينتقض بمثل « غلام زيد » و « ضرب اليوم » فإن كان عمومه بأحد الوجهين باعتبار الوجود والتحقّق كانت الإضافة معه ظرفيّة ، بمعنى « في » إن كان المضاف إليه ظرفا له ، ولاميّة إن لم يكن ظرفا له ، وإن كان باعتبار الحمل والصدق كانت الإضافة بيانيّة ، لنهوضه بيانا عن كون المراد بلفظ المضاف ما هو عين المضاف إليه إن كان أخصّ منه مطلقا ، أو خصوص مادّة اجتماعه معه إن كان أخصّ منه من وجه.

وهذا هو المستفاد من تتبّع موارد الإضافة ، ويشهد به الذوق والسليقة ، وعليه فالإضافة في مثل « يوم الأحد » و « علم الفقه » و « شجر الإراك » بيانيّة إن اخذ « الفقه » بمعنى التصديق بالمسائل ، أو بمعنى الملكة مع حمل « العلم » عليها أيضا ، لا أنّها لاميّة كما توهّم ليحتاج في إصلاحها إلى تكلّف أن يقال : بأنّه لا يلزم فيما هو بمعنى اللام أن يصحّ التصريح بها بل يكفي فيه إفادة الاختصاص الّذي هو مدلول « اللام » فقولك : « يوم الأحد » و « علم الفقه » و « شجر الإراك » بمعنى « اللام » ولا يصحّ إظهار « اللام » فيها كما ارتكبه بعض النحاة.

وممّا ذكر يظهر أنّ ما ذكره ذلك البعض في ضابط الأقسام الثلاث ، من أنّ المضاف إليه إمّا مبائن للمضاف ، وحينئذ إن كان ظرفا له فالإضافة بمعنى « في » وإلاّ فهي بمعنى « اللام » وإمّا مساو له أو أعمّ مطلقا فالإضافة على التقديرين ممتنعة ، وإمّا أخصّ مطلقا « كيوم الأحد » و « علم الفقه » و « شجر الإراك » فالإضافة حينئذ أيضا بمعنى « اللام » وإمّا أخصّ من وجه ، فإن كان المضاف إليه أصلا للمضاف فالإضافة بمعنى « من » وإلاّ فهي أيضا بمعنى « اللام » فإضافة خاتم إلى فضّة بيانيّة ، وإضافة فضّة إلى خاتم بمعنى « اللام » كما يقال : فضّة خاتمك خير من فضّة خاتمي ، ليس بسديد جدّا.

١٦٠