تعليقة على معالم الاصول - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٤٤٣

جهات المدخليّة الثابتة في الامور المعتبرة مع المعاملة ، حسبما مرّ بيانه في المناقشة.

وأمّا القسمان الأخيران فالظاهر ثبوت كلّ منهما في الشريعة ، وأمّا تعيين أحد هذين في شيء من الأسباب الشرعيّة فممّا لم يحم حوله أحد ، وإن كان يترجّح كون البيع وبعض اخر من أنواع العقود من هذا الباب ، غير أنّهما حيثما ثبتا ملزومان لعدم مجعوليّة جهات المدخليّة الثابتة في الامور المعتبرة معهما من الشارع ، لضرورة ثبوتها قبل أن يلحقهما التشريع وترخيص الشارع في استعمالهما كما هو واضح.

فمن حكم بكونها مجعولة إن أراد به كونها امورا واقعيّة ثابتة في نفس الأمر فهو حقّ ، وإن أراد به كونها مسبوقة بالجعل الشرعي فهو دعوى لا شاهد عليها.

ومن هنا ـ زيادة على ما مرّ ـ يتّضح عدم كون الصحّة والفساد المضافين إلى المعاملات من المجعولات الشرعيّة ، لأنّ الصحّة إمّا أن يراد بها كون الشيء بحيث يترتّب عليه الأثر ، أو عن نفس الأثر المترتّب ، أو عن ترتّبه ، وأيّاما كانت فليست مجعولة.

أمّا على الأوّل : فلأنّها بالمعنى المذكور عبارة اخرى من الملازمة الثابتة فيما بين السبب ومسبّبه ، وقد عرفت انتفاء الجعل فيها.

وأمّا الأخيران : فلأنّهما بعد عدم مجعوليّة أصل الملازمة أولى بعدم المجعوليّة ، مع أنّه لو سلّمنا الجعل في الملازمة لا نسلّمه فيهما ، لأنّهما من لوازم الوجود الخارجي المترتّبة على ما يقع في الخارج لمجرّد مطابقته المشروع.

وبذلك يعلم عدم مجعوليّة الصحّة والفساد المضافين إلى العبادات ، سواء اريد « بالصحّة » موافقة الأمر أو إسقاط القضاء ، فإنّهما يحصلان لمجرّد انطباق الفعل الموجود في الخارج على المأمور به الكلّي الواقعي ، أو الأعمّ منه ومن الظاهري فيكونان من لوازم الوجود الخارجي.

هذا كلّه في تحقيق المسألة على الإجمال ، رفعا للايجاب الكلّي الّذي يرجع

٢٢١

إليه مقالة من يرى الأحكام الوضعيّة مجعولة ، وأمّا تحقيقها على التفضيل استعلاما لأنّ النفي الّذي صرنا إليه هل هو من باب السلب الكلّي ، أو السلب الجزئي الغير المنافي للإيجاب الجزئي ، فيستدعي صرف النظر إلى ضبط الأحكام الوضعيّة إجمالا ، وكلماتهم في ذلك مضطربة ، حيث إنّ منهم من جعلها خمسة : السببيّة والشرطيّة والمانعيّة والصحّة والفساد ، وهم بين من أطلق في الأخيرين وبين من قيّدهما بالمعاملات. ومنهم من أضاف إلى الخمس المذكورة « الرخصة » وهي المشروع لعذر مع قيام المحرّم لو لا العذر ، كأكل الميتة للمضطرّ ، وقصر الصلاة في السفر ، و « العزيمة » وهي المشروع لا لعذر ، كفعل مباح الأصل بالمعنى الأعمّ. ومنهم من اقتصر على الثلاث الاولى ، ومنهم من اقتصر عليها مع تبديل المانعيّة بالجزئيّة. ومنهم من اقتصر عليها أيضا مع إضافة « الرخصة » فقط إليها. ومنهم من اقتصر عليها أيضا مع إضافة « الجزئيّة » إليها دون « الرخصة ». ومنهم من عدّ من الأحكام الوضعيّة العلّة والعلامة ، وعن الشهيد أنّه احتمل رجوع الأوّل من هذين إلى السبب ، ورجوع ثانيهما إليه أو إلى الشرط. ومنهم من ذكر من الأحكام الوضعيّة « الحجّة » كالبيّنة ونحوها. ومنهم من جعل منها بيان أنّ اللفظ الفلاني موضوع شرعا للمعنى الفلاني.

والراجح في النظر ـ وفاقا لغير واحد من أهل النظر ـ أنّها غير محصورة في عدد كما يظهر بالتتبّع في الشرعيّات ، فإنّ منها الضمان والولاية في أولياء الصغير والمجنون والحكومة في حكّام الشرع والوارثيّة والمورّثيّة والأقربيّة في الورثة والطهارة والنجاسة والمطهّريّة والمنجّسيّة والرافعيّة والناقضيّة ونحوها ، وإن كان بعض هذا المذكورات يرجع إلى الاخر ، ثمّ السببيّة والجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة وكذلك الصحّة والبطلان ليست من مجعولات الشارع بضابطة ما ذكرناه والرخصة والعزيمة على فرض اندراجها في الأحكام الوضعيّة يرجعان إلى

٢٢٢

التكليف بل هما نفسه على التفسير المتقدّم ، فالجعل الثابت فيهما جعل تكليفي فيكون تسميتهما وضعيّا اصطلاحا ، والنجاسة إن جعلناها عبارة عن نفس نبذة أحكام تكليفيّة مجتمعة في شيء ، من وجوب الاجتناب والمنع من الاستعمال في مشروط بالطهارة وغيره ، فالمتّجه كونها مجعولة لا لأنّها وضعي بل لأنّها عدّة أحكام تكليفيّة.

وإن جعلناها عبارة عن الصفة الثابتة في المحلّ الّتي هي منشأ للأحكام المذكورة ـ كما هو الراجح في النظر ، وعليه الأكثر ـ فربّما أمكن إرجاع الكلام في مجعوليّتها إلى ما فرض من المسألة العقليّة في توابع الماهيّات ولوازمها ، المبحوث عن كونها مجعولة أو منجعلة ، فيتّجه عدم المجعوليّة هنا على القول بعدم المجعوليّة ، نظرا إلى أنّ النجاسة في مواردها من اللوازم الثابتة للأعيان.

وعلى القول الاخر فالمتّجه ثبوت الجعل هنا أيضا ، لكن يشكل ذلك بناء على اعتبار الحيثيّة كما هو الظاهر ، والجعل على فرض ثبوته في المسألة العقليّة ليس من حيث الشارعيّة ، والطهارة أيضا على قياس ما ذكر في النجاسة إن كانت وصفا وجوديّا ، وإلاّ فهي أولى بعدم المجعوليّة.

وأمّا البواقي ممّا أشرنا إليه وغيره فغير خالية عن كونها في الحقيقة حكما تكليفيّا ، كالرخصة والعزيمة والولاية والضمان والحجّية على أحد الوجهين ، أو متولّدا عن الحكم التكليفي كالحجّية في وجهها الاخر ، أو من اثار السببيّة العرفيّة الّتي أمضاها الشارع ، أو الواقعيّة الّتي كشف عنها الشارع ، فإنّ المشروع لعذر والمشروع لا لعذر ليسا إلاّ حكمين تكليفيّين كما أشرنا إليه ولذا ينقسم الأوّل إلى الوجوب والندب والإباحة على ما صرّحوا به ، وكذا الثاني.

غاية الأمر أنّهما يسمّيان بهذين الاسمين ، تنبيها على انقسام التكليفيّات باعتبار اختصاص ثبوت البعض بمقام العذر والبعض الاخر بغيره ، هذا إن

٢٢٣

جعلناهما اسمين لنفس الأحكام ، وأمّا إذا جعلنا [ هما ] (١) اسمين لفعل المكلّف الّذي يعرضه هذان القسمان من الأحكام التكليفيّة ـ كما يظهر ذلك من بعضهم ، حيث أخذ المقسم فيهما فعل المكلّف ـ فعدم المجعوليّة فيهما حينئذ واضح ، لأنّ المجعول هو التكاليف العارضة للفعل العذري والفعل الغير العذري ، بل يشكل تسميته بهذا الإعتبار حكما شرعيّا ، لأنّه على هذا الوجه موضوع للحكم الشرعي ، فلو انعقد ذلك إصطلاحا فلا مشاحّة.

والولاية في أولياء الصبيّ وغيره ليست إلاّ عبارة عن الإذن في التصرّف في ما يتعلّق بالمولّى عليه أو المأذونيّة فيه ، والأوّل تكليف والثاني متولّد منه.

والضمان ليس عبارة إلاّ عن وجوب الخروج عن العهدة أو كون الشيء في العهدة ، والأوّل تكليف ، والثاني متولّد منه أو هو من اثار السببيّة العرفيّة أو الواقعيّة. والحجّية عبارة إمّا عن وجوب العمل بالأمارة أو عن كونها وسطا ، والأوّل تكليف والثاني متولّد منه. والوارثيّة والمورّثية ؛ وغيرها ممّا تقدّم من اثار السببيّة القائمة بموت الإنسان الموجبة لانتقال أملاكه إلى غيره ، وهي إمّا من الملازمات العرفيّة أو الواقعيّة ، وأيّا ما كان فليست مجعولة للشارع.

فالإنصاف : انّ الأحكام الوضعيّة لم يتبيّن فيها ما يكون مجعولا بالخصوص.

نعم قد يوجد في بعض الايات والروايات ما يوهم تحقّق الجعل في بعض الموارد كما في قوله تعالى : ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً )(٢) وقوله تعالى : ( يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ )(٣) وقوله تعالى : ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً )(٤) وقوله عليه‌السلام ـ في مقبولة عمر بن حنظلة ـ : « فإنّي قد جعلته حاكما عليكم فارضوا به حكما » (٥) وقريب منه ما في

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) الإسراء : ٣٣.

(٣) ص : ٢٦.

(٤) البقرة : ٣٠.

(٥) الكافي ٧ : ٥٤١٢ / ٥ ، التهذيب ٦ : ٢١٨ / ٥١٤ ، الوسائل ٢٧ : ١٣٦ أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ١.

٢٢٤

مشهورة أبي خديجة (١) فإنّ الحكومة من الأحكام الوضعيّة ، كما أنّ السلطنة منها ، والخلافة إمّا ولاية أو سلطنة أو هي صالحة لأن تكون منها ، وقد نصّت الاية والرواية بالجعل فيها.

لكن يدفعه : منع النصوصيّة بل منع الظهور في الجعل بالمعنى المبحوث عنه ، فإنّ السلطان في الاية الاولى مرجعه إلى إذن وليّ المقتول في القصاص ، ويؤيّده النهي المتأخّر بقوله تعالى : ( فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ )(٢) فإنّ ما قبل النهي لمّا كان موهما لإطلاق الإذن فرفعه بالنهي عن الإسراف ، والخليفة قد جاءت لمعان : السلطان الأعظم ، والمدبّر في امور الناس ، والخلفة لمن سلف ، فمعنى جعله خليفة على الأوّل توفيق أسباب السلطنة وجمعها له ، وعلى الثاني خلقه بحيث يكون مدبّرا في الأرض ، أي بحيث خلق له قابليّة واستعدادا به يدبّر امور الناس ، وعلى الثالث خلقه بحيث يكون خلفة لمن سلف من الرسل ، وعلى أيّ تقدير كان لا ربط له بمحلّ البحث.

وعلى المعنى الثاني يحمل الاية الثالثة ، بل هو المتعيّن بملاحظة ما ورد في شأن نزولها ، وجعل من جامع الصفات الواردة في الرواية حاكما لا معنى له إلاّ إذنه في الحكم والقضاء بين الناس ، اللذين هما من مناصب الإمامة.

[٣٨] قوله : ( ومسائله هي المطالب الجزئيّة المستدلّ عليها فيه ... الخ )

والمراد بالمطالب الجزئيّة ـ بقرينة ما سبق ـ خصوص ما يرجع إلى الأحكام التكليفيّة مع ضميمة الصحّة والبطلان ، وفيه تنبيه ـ كما عرفته ـ على خروج المباحث المتعلّقة بسائر الأحكام الوضعيّة بأنفسها عن المسائل الفقهيّة ، وقد تقدّم منّا ما يعضده وتفصيل القول فيه : أنّ الّذي يظهر ـ والله أعلم ـ أنّها بأسرها ليست كالأحكام التكليفيّة لتكون مقصودة بالأصالة ، وإنّما يبحث عنها في الفقه تبعا

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٢ / ٤ ، الفقيه ٣ : ٢ / ١ ، التهذيب ٦ : ٢١٩ / ٥١٦ ، الوسائل ٢٧ : ١٣٩ أبواب صفات القاضي ب ١١ ح ٦.

(٢) الإسراء : ٣٣.

٢٢٥

لاستلزامها أحكاما تكليفيّة والّذي يدلّ عليه وجوه :

أحدها : أنّ مسائل كلّ علم ـ على ما قرّرناه سابقا ـ عبارة عن النسب الخبريّة الّتي يستدلّ عليها في الفنّ أصالة ، ويعبّر عنها بما دوّن العلم لأجل بيانه ، على معنى كون الغرض من تدوين الفنّ بيانه ، بحيث لولاه لم يكن الفنّ مدوّنا ، وهي بهذا المعنى مخصوصة بالأحكام التكليفيّة ، ضرورة أنّه لو فرض عدم وجود مكلّف أصلا ، أو عدم ثبوت تكليف لبني نوع الإنسان ، بأن يكون حالهم وحال سائر الحيوانات والبهائم سواء ، لم يكن للفقهاء غرض في وضع الفقه وتدوينه ، ولم يكونوا دوّنوه أصلا ، كما أنّه لو لا عروض الأحوال الإعرابيّة والبنائيّة لكلمات العرب ، ولو لا جهة الإيصال إلى المجهول النظري ملحوظة في التصوّرات والتصديقات ، بأن تكونا بأسرهما نظريّتين أو ضروريّتين لم يكن النحاة وأهل المنطق دوّنوا النحو والمنطق ، وإذا كانت الأحكام التكليفيّة المتوجّهة إلى بني نوع الإنسان بتلك المثابة ، فتكون هي المقصودة بالأصالة ، والبحث عن الأحكام الوضعيّة مقصود تبعا ، لما ينشأ منها من الأحكام التكليفيّة.

ويؤيّده أنّ النجاسة في الكلب وغيره من الأعيان النجسة الّتي يبحث عنها في الفقه ، من الصفات الذاتيّة لتلك الأعيان ، ولها صفات ذاتيّة اخر ولم يتعرّض الفقهاء لبيان تلك الصفات ، بل لو تعرّض أحد لبيانها كان مستنكرا ، فإفرادهم النجاسة بالبحث دون غيرها ليس إلاّ من جهة أنّ النجاسة منشأ لتكاليف لا تنشأ عن غيرها.

وثانيها : أنّ من الأحكام الوضعيّة ـ على ما تبيّن سابقا ـ السببيّة والجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة بل هي العمدة منها ، والبحث عنها في الفقه في كلّ من العبادات والمعاملات معا راجع إلى بيان ماهيّة العبادة والمعاملة ، الّتي هي من موضوعات الأحكام التكليفيّة ، كالوجوب في الصلاة ونحوها ، والحلّية في البيع ونحوه ، والحرمة في الرباء ونحوه.

٢٢٦

ومن المقرّر المصرّح به في كلامهم ، أنّ بيان الموضوع ليس من العلم ، بل خارج عنه يقع فيه من باب المبادئ.

وثالثها : ما اتّفقت كلمتهم على التصريح بأنّ موضوع الفقه فعل المكلّف ، وقد أشرنا سابقا إلى أنّ موضوع العلم عبارة عن الجهة الجامعة لمسائله ، والمعتبر في الجهة الجامعة كون المسائل بأسرها واردة عليه عارضة له ولو بالواسطة ـ حسبما فصّلناه ـ لكونها عبارة عن عوارضه الذاتيّة ، فيجب أن يكون الموضوع بحيث لم يخرج عنه شيء من المسائل بعروضه لغيره ، وإلاّ لم يكن جهة جامعة ، وظاهر أنّ المسائل الّتي يكون فعل المكلّف جامعا لها على وجه لم يخرج عنه شيء ليست إلاّ الأحكام التكليفيّة ، لما عرفت من أنّ أغلب الأحكام الوضعيّة خارجة عن فعل المكلّف عارضة لغيرها ، فلو أنّها أيضا كانت من المسائل المقصودة أصالة في الفقه لوجب اعتبار الموضوع ما يعمّها بأسرها والأحكام التكليفيّة كذلك.

ويؤيّد الجميع قضاء الاعتبار بأنّ الفقهاء لمّا وجدوا أفعال المكلّفين على أنواع ، منها : ما أمر به الشارع على وجه الحتم ، ومنها : ما أمر به على وجه الندب ، ومنها : ما منع عنه على وجه الحتم ، ومنها : ما منع عنه على وجه التنزيه ، ومنها : ما سوّا فيه بين طرفي الفعل والترك ، فاضطرّوا إلى وضع فنّ يضبط فيه المصاديق المندرجة تحت الأنواع المذكورة ، فيكون بحثهم عن الوضعيّات أيضا لأجل هذا الغرض ، لا لأنّها مقصودة بالأصالة.

٢٢٧
٢٢٨

معالم الدين :

المقصد الثاني

في تحقيق مهمّات المباحث الاصولية الّتي هي الأساس لبناء الأحكام الشرعيّة ، وفيه مطالب :

المطلب الأوّل

في نبذة من مباحث الألفاظ

تقسيم :

اللفظ والمعنى إن اتّحدا ، فامّا أن يمنع نفس تصوّر المعنى من وقوع الشركة فيه ، وهو الجزئيّ ، أولا يمنع ، وهو الكلّيّ ثم الكلّي : إمّا أن يتساوى معناه في جميع موارده ، وهو المتواطي ؛ أو يتفاوت ، وهو المشكّك.

وإن تكثّرا ، فالألفاظ متباينة ، سواء كانت المعاني متّصلة كالذات والصفة ، أو منفصلة كالضدّين.

وإن تكثّرت الألفاظ واتّحد المعنى فهي مترادفة.

وإن تكثّرت المعاني واتّحد اللفظ من وضع واحد ، فهو المشترك.

وإن اختصّ الوضع بأحدها ، ثمّ استعمل في الباقي ، من غير أن يغلب فيه ، فهو الحقيقة والمجاز. وإن غلب ، وكان الاستعمال لمناسبة ، فهو المنقول اللغويّ ، أو الشرعيّ ، أو العرفيّ. وإن كان بدون المناسبة فهو المرتجل.

٢٢٩

[٣٩] قوله : ( اللفظ والمعنى إن اتّحدا ... الخ )

واعلم ، أنّ كلاّ من الاتّحاد والتكثّر وصف يجري في كلّ من اللفظ والمعنى ، وبذلك يحصل بينهما نسبة دعتهم إلى تنويع الألفاظ المنتسبة إلى معانيها باعتبار هذين الوصفين إلى أربعة أنواع ، يضبطها كونهما معا متّحدين أو متكثّرين ، أو المعنى متّحدا مع تكثّر اللفظ ، أو اللفظ متّحدا مع تكثّر المعنى ، فالمقسم هو اللفظ باعتبار نسبته إلى المعنى بالاتّحاد والتكثّر ، ولذا عنون العلاّمة في النهاية (١) بحث هذا التقسيم بقوله : « البحث الخامس : في نسبة اللفظ إلى المعنى ... الخ » وعلى طبقه ما في المنية (٢) ببيان أوضح ، قائلا : ـ بعد نقل عبارة التهذيب المشتملة على التنويع : ـ هذا هو التقسيم الثالث من تقاسيم الألفاظ ، وهو باعتبار نسبتها إلى معانيها بالاتّحاد والتعدد ... الخ.

والمراد باللفظ في هذا التقسيم ما من شأنه أن يقصد منه المعنى ، المأخوذ معه طرفا للنسبة المذكورة وإن لم يكن تامّا ، كالهيئة أو المادّة المجرّدتين في الألفاظ الموضوعة بنوع هياتها أو موادّها ، كما أنّ المراد بالمعنى هاهنا ما من شأنه أن يقصد من اللفظ ، وإن لم يكن ممّا وضع له ذلك اللفظ.

ومن المعلوم أنّ الشأنيّة المأخوذة في كلّ من اللفظ والمعنى وصف فيهما لا يتأتّي إلاّ بأحد أمرين ، الوضع والعلاقة المرخّص فيها ، فإذا وضع لفظ لمعنى نوعا أو شخصا كان من شأنه أن يقصد منه ذلك المعنى ، ومن شأن المعنى أن يقصد من ذلك اللفظ ، كما أنّه إذا حصل بين ما وضع له اللفظ وغيره علاقة مرخّص فيها كان من شأن اللفظ أن يقصد منه هذا المعنى الغير الموضوع له ، ومن شأن هذا المعنى أن يقصد من اللفظ.

ومن هنا جرت عادتهم بأخذ الحقيقة والمجاز من أقسام بعض أنواع هذا التقسيم ، وكما أنّ النسبة ملحوظة هنا بين اللفظ ومعناه وكذلك ملحوظة بينه وبين

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ١٧ ( مخطوط ).

(٢) منية اللبيب في شرح التهذيب : الورقة ٢٦ ( مخطوط ).

٢٣٠

لفظ اخر وبين معناه ومعنى هذا اللفظ ، ولو لا ذلك لم يعقل كونهما معا متكثّرين ولم يعقل كون الألفاظ المتبائنة من أنواع هذا التقسيم ، ولذا قال في المنية (١) : إنّ التباين إنّما يلحق باللفظ عند نسبته إلى لفظ اخر ، ونسبة معناه إلى معناه وتحقّق التغاير بينهما ، فهو لا يعقل إلاّ مع تكثّر اللفظ والمعنى ، انتهى.

وقضيّة ذلك كون الحيثيّة معتبرة في جميع أنواع هذا التقسيم ، فاللفظ مع معناه إنّما يصير من المتبائنة مع ملاحظة نسبتهما إلى لفظ اخر ومعناه ، وأمّا إذا جرّد عن هذه الملاحظة فلا جرم كان داخلا في أحد العناوين الاخر ، وعليه فيمكن اجتماع هذه العناوين في لفظ واحد باعتبار توارد الحيثيّات عليه ، وسنورد عليك زيادة بيان في ذلك.

[٤٠] قوله : ( فإمّا أن يمنع نفس تصوّر المعنى من وقوع الشركة فيه وهو الجزئي ، أو لا يمنع وهو الكلّي ... الخ )

ولا يذهب عليك أنّ الضميرين بملاحظة ما ستعرفه من انعقاد اصطلاحهم في الكلّي والجزئي على الألفاظ يعودان إلى اللفظ دون المعنى ، وإن احتمله في بادئ النظر بملاحظة سبق الذكر لو قطع النظر عن قرينة ما ذكر ، الّتي يساعدها العطف بلفظه « ثمّ » في قوله : « ثمّ إمّا أن يتساوى معناه في جميع موارده وهو المتواطئ أو يتفاوت وهو المشكّك ، فإنّه بملاحظة إضافة المعنى إلى الضمير العائد إلى الكلّي الممتنع وقوعه على المعنى استحالة إضافة الشيء إلى نفسه يوجب القطع بما ذكرناه.

ويرادف العبارة حينئذ عبارة المختصر ، فإنّه بعد ما أشار إلى الأقسام الأربع المفروضة للّفظ والمعنى بقوله : « وللمفرد باعتبار واحدته وواحدة معناه وتعدّدهما أربعة أقسام » قال : « فالقسم الأوّل إن اشترك في مفهومه كثيرون فهو الكلّي ، فإن تفاوتت كالوجود للخالق والمخلوق فمشكّك ، وإلاّ فمتواط ، وإن لم يشترك

__________________

(١) منية اللبيب في شرح التهذيب : الورقة ٢٧ ( مخطوط ).

٢٣١

فجزئي ». ويرادفهما عبارة الشرح الموسوم ببيان المختصر ، القائلة : « والقسم الأوّل وهو أن يتّحد اللفظ والمعنى إن اشترك في مفهومه كثيرون فهو الكلّي ، فإن تفاوتت الأفراد في مفهومه بالأوّلية وعدمها أو الشدّة والضعف أو التقدّم والتأخّر سمّي مشكّكا ، وإن لم تتفاوتت الأفراد في مفهومه سمّي متواطئا ، وإن لم يشترك في مفهومه كثيرون فهو الجزئي مثل زيد وهذا الإنسان ».

وهذه العبارات قريبة في المؤدّى ممّا في نهاية العلاّمة (١) من قوله : « واعلم أنّ اللفظ المفرد إمّا يمنع نفس تصوّره من الشركة فيه وهو الجزئي الحقيقي ، إلى قوله : أو لا يمنع وهو الكلّي ، وأقسامه بالنسبة إلى الوجود الخارجي وتعدّد أفراده ستّة » وما في شرح المنهاج من قوله : « والاسم إن كان معناه مشتركا بين الأفراد المتوهّمة فهو الكلّي كالإنسان ، وإن لم يكن مشتركا فهو الجزئي كزيد ، وإنّما يطلق الكلّي والجزئي على الألفاظ تبعا لمعناها ، والكلّي لا يخلو من أن يكون حصوله في تلك الأفراد على السواء ، كحصول الإنسان في أفراده وهو اللفظ المتواطئ ، أو كان حصوله فيها على التفاوت كحصول الوجود في الواجب والممكن فهو اللفظ المشكّك ، لتشكيك الناظر فيه بأنّه من المشترك أو [ لا ] من المشترك (٢).

ومن المحقّقين (٣) من اعترض على المصنّف ، حيث أخذ التقسيم إلى الكلّي والجزئي في القسم الأوّل ، بأنّه يخرج عن ظاهر التقسيم ألفاظ الكلّي المترادفة ، وكذا ألفاظ الجزئي المترادفة ، وكذا الألفاظ المشتركة الموضوعة للكلّي والجزئي ، بل يخرج منه مجموع الألفاظ المتبائنة سواء كانت موضوعة للكلّي أو الجزئي ، ولا يدخل شيء إلاّ بعد اعتبار الحيثيّات وارتكاب التكلّفات الّتي لا يليق بالحدود والتقسيمات ، والأولى جعل التقسيم بالكلّي والجزئي تقسيما برأسه شاملا للمتّحد والمتكثّر ، وجعل التقسيم بالمتّحد والمتكثّر تقسيما اخر. انتهى.

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ١٧ ( مخطوط ).

(٢) كذا في الأصل ، وأضفنا لفظة [ لا ] لاستقامة العبارة في الجملة.

(٣) حاشية سلطان العلماء ـ المطبوعة بهامش المعالم ـ : ٢٥.

٢٣٢

ويمكن دفعه : بعد ملاحظة عدم منافاة جريانه في هذا القسم جريانه في الأقسام الاخر على فرض إمكانه ، التفاتا إلى أنّ قصر شيء على شيء لا يقضي بقصر المقصور عليه على المقصور ، بأنّ المقابلة فيما بين هذه الأقسام ليست بحقيقيّة ـ على ما بيّنّاه ـ بل هي اعتباريّة تنشأ من فرض الواحدة والكثرة في كلّ من جانبي اللفظ والمعنى ، ولو لا ذلك الفرض كان الكلّ من المتّحد ، ضرورة أنّ كلّ لفظ إذا لوحظ بما هو هو ليس إلاّ واحدا ، كما أنّ كلّ معنى إذا لوحظ كذلك ليس إلاّ واحدا ، فالإنسان والبشر إذا لوحظا معا ، والذهب والفضّة من معاني العين إذا لوحظا معا ، والإنسان مع معناه والفرس مع معناه إذا لوحظا معا ، كان الأوّل من المترادفة ، والثاني من متكثّر المعنى ، والثالث من المتبائنة ، ولو لا هذه الملاحظة كان كلّ في كلّ من المتّحد.

وعلى هذا فمورد القسمة بحسب المعنى ما يعمّ احاد جميع الأقسام.

وإن شئت قلت : إنّ المقسم في الجميع بعد تحليلها إلى احادها هو المتّحد ، ولولا هذا التحليل كان وصفها بالكلّية والجزئيّة من الحيثيّات المأخوذة فيها مستحيلا ، فإنّ المترادفة والمتبائنة وغيرها بوصف الكثرة المأخوذة فيها لا يلحقها وصف الكلّية والجزئيّة ، بل إنّما يلحق كلّ واحد من احادها الّتي حصلت الكثرة بانضمام بعض إلى اخر ، ثمّ ينبغي تتميم المبحث برسم مطالب :

المطلب الأوّل : في بيان جهة الكلّي والجزئي وشرح مفهوميهما من حيث إنّهما لحقان المفاهيم مع قطع النظر عن ألفاظها الدالّة عليها.

فنقول : إنّ المعروف في تعريف الكلّي أنّه : « ما لا يمنع نفس تصورّه عن وقوع الشركة فيه » ويقابله الجزئي وهو : « ما يمنع نفس تصورّه عن وقوع الشركة فيه » والمراد بنفس التصوّر ـ بعد جعل الموصول كناية عن المفهوم ـ تحصّله الذهني المعرّى عن ملاحظة الواقع ، من حيث عدم فعليّة وقوع الشركة في بعض الموارد المنكشف بحكم الضرورة والوجدان ، كما في مفهومي « اللاشيء » و « الممتنع » أو النظر والبرهان كما في مفهومي « واجب الوجود » و « شريك الباري ».

٢٣٣

ومحصّل المعنى ، إنّ « الكلّي » مفهوم لا يمنع تحصّله الذهني المعرّى عن ملاحظة الواقع عن شركة الكثرة فيه ، على معنى صدقه عليها صدقا يوجب اتّحاده مع الجميع في الوجود ، لو وجدت على وجه وجد مع كلّ حال وجوده مع الاخر ، سواء وجدت بالفعل مع التناهي وعدمه ، أولم توجد أصلا مع إمكان الوجود أو امتناعه ، أو وجد الواحد فقط مع إمكان غيره أو امتناعه.

وهذه هي الأقسام الستّ الّتي أشار إليها العلاّمة (١) في العبارة المتقدّم إليها الإشارة ، وإنّما انيط المنع وعدمه بنفس التصوّر دون المتصوّر نفسه ، بأن يعرّف الكلّي « بما لا يمنع » والجزئي « بما يمنع » ليستقيم الحدّان عكسا وطردا بمثل المفاهيم الأربع المشار إليها وغيرها ممّا يشاركها في عدم فعليّة وقوع الشركة ، لعدم وجود الكثرة ولو بالامتناع نظرا إلى ظهور « ما لا يمنع » و « ما يمنع » في المنع الواقعي النفس الأمري ، فيسبق إلى ذهن الناظر في التعريف كون النظر فيهما إلى ما هو واقع الأمر ، ويحسب لشدّة اتّصال العلم الضروري أو النظري المركوز في ذهنه المانع عن شركة الكثرة ـ بل إمكانها أيضا ـ في المفاهيم المذكورة بالمفهوم المتحصّل في الذهن من أنّ المانع فيها نفس المفهوم ، فيوجب ذلك دخولها في نظره في حدّ الجزئي الموجب لخروجها عن الحدّ الاخر فيفسد طرد الأوّل وعكس الثاني ، فاضيف المنع وعدمه إلى نفس التصوّر تنبيها على الانصراف عن هذا الاستباق ، ببيان أنّ العبرة في الحدّين إنّما هو بالمفهوم من حيث إنّه أمر متحصّل في الذهن مع قطع النظر فيه عن لحاظ الواقع الّذي انكشف بالعلم الضروري أو النظري ، ولا ريب أنّه بهذا الاعتبار صادق على الجميع.

ومن الأفاضل (٢) من جعل التعريف بما ذكر أولى من تعريفهما : « بامتناع فرض صدقه على كثيرين وعدمه » تعليلا بما في لفظ « الفرض » من إشتراكه بين التقدير والتجويز ولا يصحّ الحدّ إلاّ على الأخير ، ولخروج الكلّي الّذي يمتنع

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ١٧ ( مخطوط ).

(٢) هداية المسترشدين : ١٨ ( الطبعة الحجرية ).

٢٣٤

صدقه على كثيرين مطلقا كشريك الباري ، أو على ما يزيد على الواحد كواجب الوجود عن الكلّي واندراجه في الجزئي ، لعدم تجويز العقل صدقه على كثيرين.

ويدفعهما : منع ابتناء صحّة الحدّ على أخذ « الفرض » بالمعنى الأخير ، بل يصحّ بكلّ من المعنيين ، فلا يوجب وقوعه في الحدّ فسادا فيه ، وإن كان مشتركا بين المعنيين ، فإنّ الألفاظ المشتركة إنّما يختلّ بصحّة التعريفات إذا أوجبت إخلالا بما هو الغرض المقصود من التعريف ، وهو انكشاف المعرّف واتّضاح حقيقته ، وإنّما يلزم ذلك إذا اخذ اللفظ بالمعنى المعيّن ولم يقم معه ما يعيّن هذا المعنى المعيّن ، وأمّا إذا اخذ على هذا الوجه مع وجود ما يعيّنه أوّلا على هذا الوجه ، بل على وجه يصحّ أخذه بكلّ من معنييه على البدل ، كأن يكون المعنيان متلازمان في الوجود الخارجي مع كونهما معا لازمين للمعرّف فليس بضائر في صحّته ، لفرض حصول الغرض بكلّ من المعنيين كما في المقام.

أمّا على أخذه بمعنى التقدير ، فلأنّ فائدته التنبيه على أنّه لا اعتبار في كلّية الكلّي لوجود الكثرة بالفعل ، بل المعتبر فيه عدم امتناع تقدير صدقه على الكثرة لو وجدت ، وتقدير الصدق على الكثرة معناه يرجع إلى تقدير وجود الكثرة ، وظاهر أنّ تقدير وجودها قد يصادف فعليّة الوجود ، وقد يصادف إمكان الوجود ، وقد يصادف امتناع الوجود ، فوجود الكثرة له مراتب ثلاث والتقدير ممكن في الجميع وليس بممتنع حتّى في المرتبة الأخيرة ، فإنّ الممتنع في تلك المرّة (١) هو المقدّر ولا يقضي امتناعه بامتناع أصل التقدير ، ويتبع تقدير وجود الكثرة في جميع هذه المراتب تقدير صدق المفهوم عليها إن كان كلّيا ، فإنّه أيضا قد يصادف فعليّة الصدق وقد يصادف إمكانه وقد يصادف امتناعه ، وهو ليس بممتنع حتّى بالقياس إلى المرتبة الأخيرة ، وإن كان أصل الصدق ممتنعا ، وعليه فيندرج في تعريف « الكلّي » جميع الأقسام الستّ المذكورة للكلّي ، ولا يندرج شيء منها في تعريف

__________________

(١) كذا فى الأصل.

٢٣٥

الجزئي ، لأنّ المأخوذ في تعريفه إنّما هو امتناع تقدير الصدق لا مجرّد امتناع الصدق.

وإلى ذلك ينحلّ ما قيل في الذبّ عن الإشكال الأخير ، من إمكان تصحيح الحدّ بالفرق بين استحالة الفرض وفرض المستحيل ، والمذكور في الحدّ هو امتناع الفرض ، والممتنع في الكلّي المفروض إنّما هو المفروض دون الفرض.

والعجب عن الفاضل المتقدّم ذكره أنّه مع علوّ شأنه في الفنّ غفل عن حقيقة مفاد العبارة ، فدفعه بقوله : وفيه ما لا يخفى ، نظرا إلى امتناع تجويز العقل ذلك في بعض الكلّيات ممّا يكون امتناع صدقه على الأفراد ضروريّا « كاللاشيء » و « الممتنع » وأيضا يلزم اختلاف حال المفهوم في الكلّية والجزئيّة باختلافه في التجوّز المذكور ، فإنّه قبل قيام البرهان على امتناع صدقه على كثيرين يندرج في الحدّ المذكور ، وبعد قيام البرهان عليه عند العقل يخرج عنه. انتهى (١).

وفيه ما لا يخفى ، أوّلا : من عدم تعلّقه بالقول المذكور ، فإنّه وارد على تقدير أخذ « الفرض » بمعنى التقدير ، وما ذكره في دفعه ـ على فرض تماميّته ـ مبنيّ على أخذه بمعنى تجويز العقل.

وثانيا : من عدم لزوم الالتزام بأخذ هذا المعنى ، فإنّ الحدّ ـ على ما قرّرناه ـ يستقيم على تقدير الأخذ بمعنى التقدير ، وكان الباعث على عدوله عن هذا المعنى إلى ما أخذ به ، توهّم قضائه بفساد حدّ الجزئي حينئذ ، لجريان الوجه المذكور في الجزئي أيضا ، والتقدير بالمعنى المزبور ممّا يصحّ فرضه فيه أيضا ، إذ لو قدّر في الخارج كثيرون كان الجزئي صادقا على الجميع فينقلب الجزئي كليّا ، ويلزمه انحصار المفاهيم في الكلّيات ، وهذا مع أنّه واضح الفساد بنفسه يقضي بأن لا توجد لحدّ الجزئي مصداق.

ويدفعه : أنّ الجزئي إنّما يصير جزئيّا لخصوصيّة المتعيّنة الّتي بها يمتاز عن جميع ما عداه.

__________________

(١) هداية المسترشدين : ١٨ ( الطبعة الحجرية ).

٢٣٦

ولا ريب أنّ هذه الخصوصيّة ما دامت موجودة كانت مانعة عن صدقه على كثيرين بل على غيره ، على معنى صحّة حمله المقتضي لاتّحاده مع كلّ في الخارج.

نعم هو مع إلغاء تلك الخصوصيّة وإن كان ممّا يمكن صدقه على كثيرين ، غير انّه خرج بهذا الاعتبار عن كونه جزئيّا وانقلب كلّيا ولا كلام فيه.

وأمّا هو ما دام جزئيّا فليس قابلا للصدق على الكثرة ، ولا قابلا لتقدير صدقه ، على معنى أنّ صدقه عليها كما أنّه بنفسه ممتنع كذلك تقديره أيضا ممتنع ، وهو الفارق بينه وبين الكلّي ، فهو بعد ما شارك الكلّي في ضمن بعض أقسامه في امتناع أصل الصدق على الكثرة ، يفارقه بامتناع تقدير الصدق فيه أيضا دون الكلّي ، وقضيّة قولهم : « فرض المحال ليس بمحال » ليست على إطلاقها ، بل ربّ ممتنع تقديره أيضا ممتنع.

وضابطه الكلّي أنّ كلّ ممتنع بحسب الخارج إذا كان معقولا في الذهن فتقديره ليس بممتنع ، كما في وجود شريك الباري مثلا ، ضرورة أنّه يدخل له فرد في الذهن كالالهة الباطلة وإن امتنع دخوله في الخارج ، فكلّ ممتنع بحسب الخارج إذا لم يكن معقولا فتقديره أيضا ممتنع ، لأنّ تقدير الشيء فرع لتصوّره وهو فرع لمعقوليّته ، فما لم يعقل لم يتصوّر وما لم يتصوّر إستحال تقديره ، وذلك كاجتماع النقيضين أو الضدّين في محلّ واحد خارجي ، فإنّه كما لا يدخل في ظرف الخارج كذلك لا يدخل في ظرف الذهن.

ولا ريب أنّ صدق بعض الكلّيات على الكثيرين من باب القسم الأوّل ، وصدق الجزئي الحقيقي عليها من قبيل القسم الثاني.

توضيحه : أنّ صدق المفهوم على الكثرة معناه يرجع إلى أنّه لو اعتبرنا قضايا عديدة على حسب عدد تلك الكثرة ، على وجه اخذ المفهوم محمولا فيها والكثرة المفروضة موضوعاتها على نحو التوزيع كانت بأجمعها صادقة ، كما في صدق الإنسان على أفراده الراجع إلى صدق قولنا : « زيد إنسان » و « عمرو إنسان » و « بكر إنسان » وهكذا.

٢٣٧

وظاهر أنّ صدق القضيّة إنّما هو باعتبار مطابقة النسبة المأخوذة فيها للواقع ، كما هي حقيقة معنى الصدق ، ومحصّل معناه حينئذ مطابقة تلك النسبة.

ويقرب منه ، ما قد يوجد في كلامهم من تفسيره بصحّة الحمل ، ونحوه أيضا تفسيره بالاتّحاد في الوجود الخارجي ، فإنّ الحمل لا يصحّ إلاّ مع مطابقة النسبة كما انّ الاتّحاد لا يحصل إلاّ معها.

ولا ريب أنّ مطابقة النسبة فيما بين بعض الكلّيات وأفرادها الفرضيّة وإن كانت ممتنعة بحسب الخارج ، غير أنّها أمر معقول بحسب الذهن ، فلا يمتنع تقديرها ، بخلاف مطابقة النسبة فيما بين الجزئي الحقيقي والكثرة ، فإنّها أمر غير معقول فيمتنع تقديرها ، لأنّه إن اخذ بلحاظ الخارج فهو فيه ليس إلاّ هو ، ولا يعقل معه الحمل ، نظرا إلى أنّه يقتضي تعدّدا وتغايرا في الذهن واتّحادا في الخارج ، والواحد بواحدته الشخصيّة غير قابل للتعدّد ، كما أنّ لحاظ الخارج غير قابل للتغاير الذهني ، وإن اخذ بلحاظ الذهن واعتبر محمولا في قضيّة موضوعها واحد من الكثرة المفروضة وصحّ الحمل ، اقتضى اتّحاده مع ذلك الواحد ذاتا ، على معنى كونه عينه ، وبقي ما عدا ذلك الواحد بالنسبة إلى القضايا الاخر بلا محمول ، وظاهر أنّ الحمل من غير محمول غير معقول.

وتوهّم : تقدير المحمول كالموضوع ، غايته كون كلّ من طرفي الحمل أمرا مقدّرا.

يدفعه : أنّه إن قدّر مثل المحمول الأوّل رجع إلى حمل الكثرة على الكثرة ، وهو ـ إن صحّحناه ـ خارج عن محلّ البحث الّذي هو من حمل الواحدة على الكثرة ، وإن قدّر غير المحمول الأوّل الّذي قضى الحمل في القضيّة الاولى باتّحاده مع موضوعها ، عاد إلى حمل ذلك الموضوع على ما يبائنه ، لكون احاد الكثرة المفروضة امورا متبائنة ، والحمل المقتضي للاتّحاد في الوجود الخارجي بينها غير معقول ، لأوله بالاخرة إلى اجتماع الضدّين في محلّ واحد.

ووجه الفرق بين حمل الكلّي الغير المستتبع للمحذور وحمل الجزئي

٢٣٨

المستتبع له ، أنّ الكلّي مفهوم يؤخذ لا بشرط شيء من جميع التعيّنات الخارجيّة وهو صالح لها بأجمعها ، ومن حكمه أنّه إن اخذ في القضيّة بهذا الاعتبار فالحمل يقتضي أن يلحقه باعتبار كون موضوعها ذاتا متعيّنة في الخارج نحو من التعيّن الّذي هو من جملة التعيّنات المذكورة ، مع بقائه على وصف اللابشرطيّة بالنسبة إلى سائرها ، كما هو قضيّة كون اللابشرط ممّا لا ينافيه ألف شرط.

ثمّ إذا اخذ في قضية اخرى قضى الحمل أيضا بتعيّنه بموضوع تلك القضيّة بنحو اخر من التعيّن ، مع بقائه على الوصف أيضا وهكذا إلى أن يحصل له جميع التعيّنات الصالحة له من دون تمانع ، كما هو قضيّة أنّ اللابشرط يجتمع فيه ألف شرط ، وهذا هو السرّ في صدق القضايا كلّها بخلاف الجزئي ، فإنّه مفهوم لو اخذ بشرط تعيّن خاصّ غير صالح لسائر التعيّنات المضادّة له ، فإنّه لو اخذ في القضيّة وصحّ حمله لقضي باتّحاده مع موضوعها ذاتا ، على معنى كونه عينه من حيث إنّه ذات متعيّنه في الخارج ، فيبقى القضيّة الاخرى بلا محمول إلاّ بفرض الذات المذكورة محمولا فيها ، فيؤول الأمر إلى المحذور المذكور.

وقضيّة هذا الفرق كون الحمل في الأوّل متعارفيّا مقتضيا للاتّحاد في الوجود ، على معنى كون المحمول موجودا بوجود الموضوع الّذي هو وجود واحد مع قابليّته للتعدّد بحسب الذات ، وفي الثاني ذاتيّا مقتضيا للاتّحاد في الموجود على معنى اتّحاد ذاتي المحمول والموضوع ، لا في مجرّد وصف الوجود.

وأمّا على أخذه بمعنى التجوّز ، فلأنّ الصدق بمعنى الحمل المقتضي للاتّحاد مع كثيرين ، أو الاتّحاد الناشئ عن مطابقة النسبة في قضيّة الحمل على كثيرين ، إنّما هو بنفس قابليّة المفهوم له ، وهو لا ينافي عدم وجود كثيرين ولا استحالة وجوده ، والّذي يستحيله الضرورة في مثل الممتنع واللابشيء ، أو البرهان في شريك الباري وواجب الوجود ، إنّما هو وجود كثيرين لا صدق المفهوم على تقدير الوجود ، نظرا إلى قابليّته ، فالقضيّتان مختلفتان موضوعا ، ضرورة أنّ التجويز وارد على صدق المفهوم بنفسه ، والاستحالة متعلّقة بوجود كثيرين ،

٢٣٩

ولا يلزم من كذب قضيّة وجود الموضوع كذب قضيّة صدق وصف المحمول على ذات الموضوع لو وجد.

وإن شئت قلت : إنّ قضيّة تجويز العقل لصدق المفهوم على كثيرين شرطيّة ، على معنى أنّه يجوّز الصدق لو وجدت الكثيرون ، فتجويز الصدق معلّق على وجود الكثيرين.

وواضح أنّ كذب الشرط لا ينافي صدق الشرطيّة ، كما أنّه لا يستلزم كذبها وحينئذ فلا يتفاوت الحال في اتّصاف المفهوم بالكلّيّة بالنظر إلى ما قبل البرهان وما بعده ، فإنّ المفهوم من حيث هو ممّا يجوّز صدقه العقل على كلّ حال ، والّذي يختلف حاله بالنظر إلى صورتي ما قبل البرهان وما بعده إنّما هو وجود الكثيرين ، فإنّه قبل قيامه لا يحكم عليه بالامتناع وبعد قيامه يحكم عليه به ، وهذا ليس من اختلاف الشيء في الكلّية والجزئيّة في شيء ، والجزئيّة امتناع تجويز الصدق على كثيرين.

وأمّا ما أورد على حدّ الكلّي بناء على أخذ « الفرض » بمعنى التجويز ، تارة : بأنّ الشبح المرئيّ من البعيد ممّا يجوّز العقل صدقه على امور عديدة مع عدم كونه كلّيا وقد نصّ الشيخ (١) بأنّ الطفل يدرك شبحا واحدا من امّه بحيث يصدق على غيرها ولذا يتخيّل أن يكون كلّ وارد عليه هي امّه ، فيصدق ذلك على كثيرين مع كونه جزئيّا حقيقيّا.

واخرى : بأنّ كلاّ من المفاهيم الجزئيّة مطابق لصوره الّتي في أذهان الجماعة فيلزم أن يكون كلّيا والذبّ عنه ـ بأنّ الكلّية والجزئيّة من العوارض الذهنيّة ، فهي إنّما تعرض المفاهيم الحاصلة في الذهن دون الامور الخارجيّة مردود ، بأنّا لا نلاحظ المفهوم المذكور من حيث وجوده في الخارج ، بل من حيث تصوّر المتصوّر له ، فإنّ ذلك المفهوم الحاصل في العقل مع كونه جزئيّا حقيقيّا منطبق على جميع تلك الصور الكثيرة الحاصلة في الأذهان العديدة ـ فواضح الدفع.

__________________

(١) حكى عنه في هداية المسترشدين : ١٨ ( الطبعة الحجرية ).

٢٤٠