تعليقة على معالم الاصول - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٤٤٣

في كلّ لفظ من ألفاظ كلّ لغة ، على معنى لزوم ألايبلغ إدراك أحد إلى معاني ألفاظ اللغات ، لمكان جهل الكلّ بالمناسبات الذاتيّة ، وقصور الأذهان عن البلوغ إلى إدراكها ، وبطلان التالي معلوم بالضرورة فالمقدّم مثله.

لا يقال : إنّ الملازمة على التقدير الثاني لعلّها ممنوعة ، فإنّ المناسبة الذاتيّة بالنسبة إلى الدلالة إذا اخذت من باب المقتضي ، المشروط في تأثيره بالعلم بها أو ما يقوم مقامه ـ وهو نقل أصل الدلالة إلى الجاهل بالمناسبة ممّن أدركها وعثر عليها ـ لم يلزم ما ذكر ، إذ من الجائز أن يحصل العثور عليها لأوائل أهل اللغة أو الأواحدي من كلّ امّة ، فتحصل من جهته الدلالة المستندة إليها لهم ، فعرّفوها لمن عداهم ممّن قصر نظره عن إدراك المناسبة ، فيكون الدلالات حينئذ بحيث نقلها كلّ سابق إلى لاحقه حتّى وصلت إلينا وإلى غيرنا من الجاهلين بالمناسبات ، وإن حصل ذلك النقل بشهادة الحال وقرائن الأحوال نظرا إلى أنّه لا يعتبر فيه التنصيص.

غاية الأمر اشتراط المناسبة في اقتضائها الدلالة بأحد الأمرين ، من العلم بها أو حصول نقل أصل الدلالة المستند إليها لغير العالم بها.

لأنا نقول : بأنّ الالتزام به عدول عن القول باستناد الدلالة إلى المناسبة الذاتيّة ، لكون النقل المذكور المعلوم لقاطبة الجاهلين بالمناسبات حينئذ هو العلّة التامّة لها ، ولا يعقل معه لها مدخليّة فيها أصلا ، مع أنّه لو كانت هناك مناسبات ذاتيّة أدركها الأوائل أو الأواحدي من الناس لقضت العادة بنقلها ، وامتلئت الأسماع بحكاياتها ، وكثرت التصانيف في ضبطها وجمعها ، كما كثرت في ضبط أصل اللغات ، والعلائق المعتبرة في مجازاتها ، والأحوال العارضة لها صحّة واعتلالا ، إعرابا وبناء ، فصاحة وبلاغة ، ووضعت للوصول إليها أمارات وعلائم ، كما وضعت للوضع أمارات وعلامات ، واللوازم كلّها ممّا يقضي البديهة ببطلانه.

وأمّا الملازمة : فلتوفّر الدواعي إلى هذه اللوازم ، وكثرة الفوائد المترتّبة عليها بل دواهي هذه اللوازم القائمة بالنسبة إلى أصل اللغات وأحوالها الإعرابيّة والإعلاليّة وغيرها ، وعلائق مجازاتها بأعيانها قائمة هنا.

٣٦١

وهنا وجوه اخر احتجّوا بها في إبطال القول بالمناسبة ، لا يخلو شيء منها عن شيء :

منها : أنّه لو كانت الدلالة باعتبار المناسبة الذاتيّة لما دلّ لفظ على معنى مجازي بواسطة القرينة ، لأنّ ما بالذات لا يزول بالغير ، فانسدّ باب المجاز رأسا ، وأنّه باطل.

ويزيّفه ما قرّرناه سابقا ، من أنّ قرينة المجاز لا تنافي الدلالة على الحقيقة ، إن اريد بها مجرّد الفهم التصوّري.

نعم إنّما ينافيها لو اريد بالدلالة فهمها التصديقي ، ويتطرّق المنع حينئذ إلى دعوى الملازمة ، لجواز كون المناسبة الذاتيّة عند قائليها معتبرة من باب المقتضي الصالح لمصادفة وجود المانع وهو القرينة ، فليس عدم الدلالة حينئذ من قبيل زوال ما بالذات بالغير ، بل هو من قبيل عدم تأثير ما بالذات بالغير.

ومنها : أنّا نقطع بانّ المنقولات والأعلام وغيرها من الألفاظ الّتي حدث فيها الوضع ، لم تكن لها قبل حدوثه دلالة على ما يفهم منها بعده ، وإنّما حدثت فيها الدلالة عليه تبعا لحدوث الوضع ، وأنّ الكثير منها كان دالاّ قبل حدوث وضعه الثاني على ما لا دلالة له عليه بعد حدوثه ، وليس ذلك إلاّ لحدوث الوضع اللاحق وزوال أثر الوضع السابق بالهجر ، إذ لو كانت الدلالة ذاتيّة لاستوت في جميع الأحوال.

ويزيّفه في شقّه الأوّل ما نبّهنا عليه من قضيّة الخروج عن محلّ النزاع ، فالخصم في الألفاظ المشار إليها لا ينكر استناد الدلالة بالنسبة إلى المعنى الجديد إلى الوضع.

ويمكن دفعه في شقّه الثاني بجواز الالتزام بكون المناسبة الذاتيّة بالقياس إلى الدلالة من باب المقتضى ، المشروط تأثيره بعدم مصادفة ما يمنعها عنه ، ولا ريب أنّ النقل المتضمّن للهجر يصلح مانعا.

ومنها : أنّ من الألفاظ ما يدلّ على معنيين متنافيين « كالقرء » الدالّ على الطهر

٣٦٢

والحيض ، و « الجون » الدالّ على الأبيض والأسود ، ولو لا ذلك لأجل الوضع لقضي بأن يناسب الشيء الواحد بالذات كلا المتنافيين ، وأن يدلّ على الاتّصاف بالمتنافيين وأن يختلف ما بالذات إن اعتبر دلالته عليهما معا ، أو يتخلّف إن اعتبر دلالته على أحدهما ، واللوازم بأجمعها باطلة فكذا ملزومها.

واجيب عنه : بأنّ الممتنع كون الشيء الواحد مناسبا للمتنافيين من حيث إنّهما متنافيان ، وأمّا كونه مناسبا لهما من غير جهة التنافي ، بل باعتبار أمر مشترك ، أو جهتين مختلفتين فلا إمتناع فيه قطعا ، ومنه يعلم جواز الاختلاف في المدلول ، فإنّ امتناعه فرع امتناع المناسبة للمتنافيين ، وقد عرفت ما فيه.

وقد يقرّر الوجه المذكور على نهج اخر ، وهو انّه يصحّ وضع كلّ لفظ لكلّ معنى حتّى لنقيض ما قد وضع له وضدّه ، فإنّه لو فرض ذلك لم يلزم منه محال لذاته ، بل ذلك معلوم الوقوع « كالقرء » للطهر والحيض وهما نقيضان ، و « الجون » للأسود والأبيض وهما ضدّان ، ولو كان الدلالة لمناسبة ذاتيّة لما كان كذلك.

وتقريره : أنّا لو فرضنا وضع اللفظ الدالّ على الشيء لنقيضه أو لضدّه ، دلّ عليه دون هذا المدلول لهما فعليهما ، وما بالذات لا يتخلّف ولا يختلف ، هكذا قرّره العضدي ، وأوضحه التفتازاني : بأنّ دلالة الألفاظ على معانيها لو كانت لمناسبة ذاتيّة بينهما لما صحّ وضع اللفظ الدالّ على الشيء بالمناسبة الذاتيّة لنقيض ذلك الشيء أو ضدّه ، لأنّا لو وضعناه لمجرّد النقيض أو الضدّ لما كان له في ذلك الاصطلاح دلالة على ذلك الشيء ، فيلزم تخلّف ما بالذات وهو محال ، ولو وضعناه لذلك الشيء ولنقيضه أو ضدّه فدلّ عليهما لزم اختلاف ما بالذات ، بأن يناسب اللفظ بالذات للشيء ونقيضه أو ضدّه وهما مختلفان إنتهى. ويظهر ضعفه بملاحظة الكلمات المتقدّمة.

وحجّة القول بالمناسبة الذاتيّة : أنّه لو تساوت الألفاظ بالنسبة إلى المعاني لم تختصّ الألفاظ بالمعاني ، وإلاّ لزم الاختصاص بدون تخصيص أو التخصيص بدون مخصّص ، وكلاهما محال.

٣٦٣

وحاصله : أنّه إن لم يكن مع الاختصاص المفروض تخصيص فهو المحال الأوّل ، لأنّه ترجّح بلا مرجّح ، وإن كان معه تخصيص فهو المحال الثاني ، لأنّ المفروض كون اللفظ الواحد متساوي النسبة إلى جميع المعاني ، والمعنى الواحد متساوي النسبة إلى جميع الألفاظ.

وجوابه التحقيقي : منع الملازمة باختيار الشقّ الثاني وهو كون الاختصاص عن تخصيص ، ودعوى : أنّه تخصيص بلا مخصّص ، ممنوعة ، أمّا أوّلا : بالنقض بالأعلام وغيرها ممّا عرفت خروجها عن محلّ النزاع ، فإنّ الاختصاص المستند فيها إلى التخصيص ممّا لا إشكال ولا خلاف فيه ، فكلّ ما يخرج ذلك عن محذور الترجيح بلا مرجّح ، يوجب خروج محلّ الكلام عنه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ التخصيص يقتضي مرجّحا ما ، وأمّا أنّه المناسبة الذاتيّة دون غيرها فلا ، لجواز أن يكون هناك وجوه واعتبارات أو حكم خفيّة أحاط بها علم الواضع الحكيم ، فاختار كلّ لفظ لمعناه لوجه واعتبار أو حكمة من الحكم ، وليس علينا تعيين ذلك ، كالوجوه المرعيّة في وضع الأعلام وغيرها من الامور الاصطلاحيّة.

وقد يجاب عنه أيضا : بمنع استحالة ترجيح أحد المتساويين من دون مرجّح إن اريد به مجرّد الاختيار ، وإنّما المستحيل جعله راجحا وهو حسن.

وفي كلام غير واحد الجواب عنه بمنع الملازمة ، فإنّ إرادة الواضع المختار يصلح مخصّصا من غير انضمام داعية إليها ، فمن الله كتخصيص خلق الحوادث بأوقاتها ، ومن الناس كتخصيص الأعلام بمسمّياتها.

وردّ عليه : أنّ الاكتفاء بالإرادة في الترجيح التزام بالترجيح بلا مرجّح ، لأنّ الإرادة لكونها اختياريّة بنفسها تقتضي مرجّحا ، وقد يذبّ عنه بالنسبة إلى إرادة الله بأنّها عبارة عن العلم بالأصلح ، وهو لا يقتضي مرجّحا ، وبالنسبة إلى إرادة الناس بأن المرجّح خطور اللفظ واحده عمّا بين الألفاظ ، وسبق المعنى إلى الذهن عمّا بين المعاني.

٣٦٤

ويرد على الأوّل : أنّ الالتزام بكون المرجّح هو العلم بالأصلح يقرب من كونه التزاما بموجب الحجّة ، لجواز أن يستظهر الخصم بأن يدّعي أنّ الأصلحيّة المعلومة إنّما هي من جهة المناسبة الذاتيّة ، ومعها لا حاجة إلى تخصيص.

وعلى الثاني : أنّ أخذ الحضور (١) والسبق مرجّحين لا يكاد يجدي ، لما يشاهد بالوجدان عند إرادة الوضع أن كثيرا مّا يخطر بالبال ألفاظ كثيرة ، أو يسبق إلى الذهن معاني عديدة ، ومع ذلك لا يختار إلاّ لفظ معيّن لمعنى معيّن ، وهذا ممّا يقتضي مرجّحا ، فالوجه في الجواب هو ما قرّرناه ، ودونه تاليه.

وقد يفرّع القول بالمناسبات الذاتيّة على ما أطبق عليه علماء العدد ، من إثبات الطبائع لحروف التهجّي على حدّ ما هو ثابت في العناصر ، فكما أنّ للعناصر طبائع يترتّب عليها اثار مختلفة ، ومن جهتها انقسمت إلى أنواع أربعة ، منها ما له طبيعة تقتضي الحرارة واليبوسة وهو النار ، ومنها ما له طبيعة تقتضي الحرارة والرطوبة وهو الهواء ، ومنها ما له طبيعة تقتضي البرودة والرطوبة وهو الماء ، ومنها ما له طبيعة تقتضي البرودة واليبوسة وهو الأرض ، فكذلك الحروف فإنّها لتضمّنها طبائع تترتّب عليها اثار مخصوصة تنقسم ـ على ما ذكر في بعض كتبهم ـ إلى كونها ناريّة وهوائيّة ومائيّة وأرضيّة.

أمّا الناريّة فسبعة حروف يجمعها « أعهطحفش » وطبيعتها الحرارة واليبوسة كالنار ، وأمّا الهوائيّة فسبعة حروف يجمعها « قيصغظكض » وطبيعتها الحرارة والرطوبة كالهواء ، وأمّا المائيّة فسبعة أيضا يجمعها « سلزتنود » وطبيعتها البرودة والرطوبة كالماء ، وأمّا الأرضيّة فسبعة أيضا يجمعها « جمرنحبشذ » وطبيعتها البرودة واليبوسة كالأرض ، ولذلك تراها تترتّب عليها باعتبار صورها الأفراديّة والتركيبيّة على وجوهها المختلفة بوجوداتها النطقيّة والكتبيّة في العوالم العلويّة والسفليّة من غرائب الاثار وعجاب الأسرار ما لا يكاد يخفى على اولي الأبصار ، كما يشهد به ما يشاهد بالنقل والتجارب والامتحانات من التأثير في الحروف

__________________

(١) كذا في الأصل.

٣٦٥

المقطّعة والعوذات والطلسمات والنيرنّجاب والأشكال المشتملة على الأعداد من المثلّثات والمربّعات وغيرها ، وهذا كما ترى في غاية الوهن والسقوط ، لعدم انطباق المناسبات عند قائليها على القاعدة المذكورة ، لأنّ مرادهم بالمناسبات الذاتيّة إمّا أن يكون ما يتبعه أصل دلالات الألفاظ على معانيها ، كما هو المعنى المعروف من محلّ الخلاف ، أو ما يتبعه الوضع للدلالة على ما زعمه بعضهم واحتمله جماعة ، وأيّا ما كان فتوهّم التفريع فاسد.

أمّا على الأوّل : فلأنّ الدلالة بالنسبة إلى اللفظ ليست من باب الاثار المترتّبة على طبائع الحروف الّتي يتألّف منها اللفظ ، وإلاّ لزم إمّا توقّف تلك الاثار في ترتّبها على العلم بالجهة المقتضية لها ، أو عدم توقّف الدلالة في حصولها على العلم بالجهة المقتضية لها ، واللازم بكلا قسميه يبطله دليل الخلف ، فإنّ الدلالة لا تحصل إلاّ للعالم بالجهة المقتضية ، واثار طبائع الحروف لا تدور مدار العلم بطبائعها المقتضية لها.

وتوضيحه : أنّ الاثار الغريبة والأسرار العجيبة إنّما تترتّب على طبائع الحروف من باب الخاصيّة ، على معنى إنّها خواصّ أودعها الله عزّ وجلّ لحكمته البالغة فيها كالخواصّ المودعة في كثير من الأجسام المركّبة من العناصر الأربعة ، بل الخواصّ المودعة في الأدوية والمعاجين حسبما هو معهود عند الأطبّاء ، ومن حكم الخواصّ ألايكون للعلم والجهل مدخليّة فيها ، كما في سمّيّة السمّ ، بخلاف دلالة اللفظ على المعنى ، فإنّها وإن كانت من اثار اللفظ غير أنّها متوقّفة على العلم بالجهة المقتضية لها ، من مناسبة ذاتيّة أو وضع أو قرينة ، فلو جعلناها من مقتضيات طبائع الحروف الّتي تألّفت منها الألفاظ على حدّ سائر الاثار الغريبة والأطوار العجيبة ، لامتنع حصولها إلاّ للأواحدي الواقفين على الطبائع ، كعلماء العدد مثلا وخلافه معلوم بالضرورة ، وذلك ممّا يكشف حينئذ عن عدم مدخليّة لها في الدلالة وعدم كونها منوطة بها ومتوقّفة عليها.

وتوهّم كون الأواحدي بعد ما حصل لهم الدلالة بعثورهم على الطبائع المقتضية لها عرّفوها لمن لم يبلغ رتبتهم.

٣٦٦

يدفعه أوّلا : ما تقدّم إليه الإشارة.

وثانيا : كونه خلاف الفرض على ما هو معلوم أيضا ضرورة ، فإنّ المفروض عدم استناد معرفة الدلالات إلى نقل علماء العدد وغيرهم من الواقفين بطبائع الحروف ، هذا مضافا إلى أنّ مدخليّة طبائع حروف الألفاظ بالناريّة والهوائيّة والمائيّة والأرضيّة في الدلالة على المعاني أمر بنفسه غير معقول ، ولو مع العلم بتلك الطبائع.

لا يقال : ليس المراد بالتفريع المذكور أنّ طبائع الحروف بأنفسها مؤثّرة في الدلالة ، فإنّ ذلك إنّما يتّجه على ما كان يوهمه بعض العبارات من تفسير ذاتيّة الدلالة بكون الألفاظ لذواتها دالّة على معانيها ، وليس الأمر كما يوهمه كما تقدّم الإشارة إليه ، بل المراد استناد الدلالة إلى التناسب الحاصل فيما بين الألفاظ والمعاني في الطبيعة ، باعتبار كون كلّ منهما ذوات الطبائع وهذا أمر معقول.

لأنّ ذلك ممّا يوهنه ما يبطل به الوجه الثاني ، وهو أنّ كون وضع الألفاظ حاصلا تبعا للمناسبة الحاصلة بينها وبين المعاني في الطبائع إنّما يستقيم بعد إحراز مقدّمات أربع.

أحدها : كون الألفاظ أو الحروف الّتي يتألّف منها الألفاظ ذوات طبائع ، على معنى كون طبائعها من نوع الطبائع الثابتة في المعاني في الجملة ، كما إذا كانت من مقولة العناصر أو الأجسام المركّبة منها ، وهو موضع منع ، ولا ينافيه ما عليه علماء العدد ، لمكان البينونة بين الطبائع الّتي أثبتوها للحروف والطبائع الثابتة للعناصر ، ولذا ترى أنّ الاثار واللوازم المترتّبة على كلّ واحدة منهما غير الاثار واللوازم التابعة للاخرى.

ومن الظاهر أنّ اختلاف اللوازم ممّا يكشف عن اختلاف الملزومات ، وتنويع الحروف عندهم إلى الأنواع الأربع المتقدّمة مبنيّ على ضرب من الاستعارة والتشبيه ، لا أنّ معنى ناريّة الحروف أو مائيّتها أنّها تؤثّر أثر النار أو الماء في الحقيقة ، فإنّ ذلك باطل ببديهة من الحسّ والوجدان.

٣٦٧

ولعلّ النظر في ذلك إلى أنّ الحرارة المترتّبة على النار كما أنّها تستلزم تعبا وشدّة وألما ، والبرودة المترتّبة على الماء كما أنّها تستلزم سكونا وراحة ولذّة ، فكذلك التأثيرات المترتّبة على الحروف الناريّة من التفريق والعداوة والهلاكة ، والتأثيرات المترتّبة على الحروف المائيّة من التحبيب والجمع ونيل الامال تستلزم هذه الامور كما لا يخفى ، فليست الألفاظ ذوات طبائع بالمعنى الّذي يعتبر في العناصر وما يتركّب منها.

وثانيتها : كون المعاني بأجمعها ذوات طبائع ، وهذه أيضا في محلّ المنع لوضوح أنّ أكثر المعاني المتداولة في المحاورة من مقولة الأعراض ، من الأفعال والكيفيّات والكمّيّات والإضافيّات كالفوقيّة والتحتيّة والاعتباريّات والفرضيّات ولا يعقل لها طبائع تقتضي ما تقدّم من مقتضيات العناصر.

وثالثتها : حصول التناسب بين طبائع الألفاظ وطبائع المعاني ، على معنى كون طبيعة معنى كلّ لفظ مناسبة لطبيعة حروف ذلك اللفظ ، وهذه أيضا موضع منع ، ويكفي في سنده ملاحظة الألفاظ الأربع الموضوعة للعناصر الأربع ، فإنّ في لفظ « النار » ليس من الحروف الناريّة إلاّ حرف واحد ، وأمّا « الهواء » فليس فيه شيء من الحروف الهوائيّة ، ولا في « الماء » شيء من الحروف المائيّة ، ولا في « الأرض » شيء من الحروف الأرضيّة.

ورابعتها : كون التناسب على فرض حصوله في قاطبة الألفاظ والمعاني ممّا لاحظه الواضع ، واعتبره وأوجد الوضع في الكلّ لأجله ، وهذا أيضا واضح المنع.

وربما ينزّل القول بالمناسبة أيضا على ما عليه أئمّة الاشتقاق والتصريف ، كما عن السكّاكي من أنّ للحروف بأنفسها خواصّ بها تختلف ، كالجهر والهمس والشدّة والرخاوة والتوسّط بينهما وغير ذلك ، وتلك الخواصّ تقتضي أن يكون العالم بحالها إذا أخذ في تعيين شيء مركّب منها لمعنى لا يهمل التناسب بينهما قضاء لحقّ الحكمة « كالفصم » بالفاء الّذي هو حرف رخوة لكسر الشيء من غير أن يبيّن و « القصم » بالقاف الّذي هو حرف شدّة لكسر الشيء حتّى يبيّن ، وأنّ

٣٦٨

الهيئات تركيب الحروف أيضا خواصّ كالفعلان والفعلى بالتحريك ، كالنزوان والجيدي لما في مسمّاهما من الحركة ، وكذا باب « فعل » بضم العين مثل شرف وكرم للأفعال الطبيعيّة اللازمة.

وهذا الكلام وإن كان لا يساعد عليه المذهب المعروف من أهل القول بالمناسبة الذاتيّة ولا ظاهر حجّته المتقدّمة ـ حسبما بيّنّاه سابقا ـ غير أنّه بنفسه دعوى لا تنكر في باب الوضع ، فإنّ ما ذكره أيضا من الوجوه والاعتبارات الداعية إلى الوضع والتخصيص ، ومنها : انطباق لفظ معيّن بصورته على الصوت المرتفع عن مسمّاه.

فإن شئت قلت : إنّه يؤخذ من الألفاظ ما هو بوزان هذا الصوت ، فيوضع لذيه كما في الغراب والهدهد ، الموضوعين لنوعين من الطير ، ولعلّ البعير الّذي جمعه « الأباعر » من هذا الباب ، ويمكن القول بكون « القصم » و « الفصم » أيضا من هذا الباب ، كما يشهد به التأمّل الصادق.

ومنها : ما لو كان المسمّى مناسبا في بعض صفاته لمسمّى لفظ اخر ، فيؤخذ من ذلك اللفظ لفظ اخر ويوضع لذلك المسمّى ، كما في « الإنسان » المأخوذ على ما قيل من الانس أو النسيان الموضوع للحيوان الناطق لما فيه من الوصفين.

وبالجملة : فالواضع لوجوب حكمته لا يعدل عمّا هو أولى من مراعاة ما يدفع عن فعله توهّم الترجيح من غير مرجّح ، وليس بلازم أن يكون ذلك مناسبة ذاتيّة بمعنى يعمّ التناسب المتوهّم فيما بين المعاني والحروف الّتي يتألّف منها الألفاظ في الطبائع الأربع المذكورة على تقدير ثبوتها واطّرادها في كلا الطرفين ، وحصول الموافقة بينهما فيها ، كيف وكلّ من ذلك محلّ منع.

٣٦٩

ـ تعليقة ـ

اختلفوا في توقيفيّة اللغات مطلقا أو اصطلاحيّتها كذلك ، أو توقيفيّة القدر الضروري المحتاج إليه في التعريف واصطلاحيّة الباقي ، أو اصطلاحيّة القدر الضروري المحتاج إليه وتوقيفيّة الباقي ، أو الوقف مطلقا. أو التوقيف إن اكتفى فيه بغير قطعي وإلاّ فالوقف ، على أقوال عزي أوّلها إلى أبي الحسين الأشعري ومتابعيه ، وجماعة من الفقهاء ، فقالوا : إنّ واضع اللغة هو الله ووضعها توقيفي مستفاد من وحي ، أو خلق الأصوات ، أو حروف يسمعها واحد أو جماعة من البشر ، أو خلق علم ضروري به.

وثانيها : إلى أبي هاشم الجبّائي وأصحابه وجماعة من المتكلّمين ، فقالوا : إنّ وضع اللغة اصطلاح من البشر من واحد أو جماعة تواطؤوا على وضعها ، ثمّ حصل التعريف لاخرين بالإشارة والقرائن مع التكرار ، كما أنّ الأطفال يتعلّمون اللغات بترديد الألفاظ مرّة بعد اخرى ، مع قرينة الإشارة وغيرها.

وثالثها : إلى الاستاد أبي إسحاق الاسفرائيني ، فقال : بأنّ ابتداء اللغة توقيفي والباقي اصطلاحي.

والرابع : إلى جماعة قالوا بعكس الثالث.

والخامس : إلى القاضي أبي بكر والغزّالي والمحقّقين ، كما في المحكّي عن

٣٧٠

المحصول (١) وحكاه في النهاية (٢) عن جمهور المحقّقين واستقربه ، وإن قوّى القول بالتوقيف أيضا (٣) ، فقالوا بإمكان الجميع عقلا ، وفقدان ما يوجب العلم ببعض ما ذكر على جهة التعيين فلا بدّ من الوقف.

والسادس : إلى أكثر المتأخّرين منّا ومن العامّة ، وصار إليه ابن الحاجب (٤) وهو المعتمد تعويلا على ما سيجيء من اية اختلاف الألسنة ، وظاهر أنّ معقد هذا الخلاف ومورد تلك الأقوال هي الموضوعات الأصليّة الّتي لم يطرأها نقل ولا ارتحال ، ولا تطرّق إليها تغيير وإبدال ، وأمّا غيرها من المنقولات الشرعيّة والعرفيّة العامّة أو الخاصّة والأعلام الشخصيّة فلا ينبغي الاسترابة في كونها من موضوعات البشر ، وليس المراد بالوضع المتنازع في واضعه مجرّد تأليف الحروف المفردة وضمّ بعضها إلى بعض ، وإن أوهمه بعض الوجوه الاتية المقامة على التوقيف ، بل جعل المؤلّفات بإزاء معانيها ، ولو قيل بالملازمة بين التأليف والجعل ، على معنى كون المؤلّف هو الواضع على كلا قولي التوقيف والاصطلاح لم يكن بعيدا ، فيكون النزاع في الجعل الّذي يلزمه النزاع في التأليف تبعا مع الاتّفاق على الملازمة ، وليس في المسألة أصل يعتمد عليه ، من أصل العدم وأصالة التأخّر ، للقطع بحدوث ما حدث ، والشكّ في تعيين محدثه من دون أن يرجع إلى بدو زمانه.

نعم قد يقرّر الأصل بمعنى الغلبة لكلّ من التوقيف والاصطلاح ، أمّا على الأوّل : فبناء على أخذ وضع اللغات من مقولة إيجاد الكائنات وخلق الموجودات.

وأمّا على الثاني : فبناء على جعله من مثابة تأليف الموادّ البسيطة الّتي أصل

__________________

(١) المحصول في علم الاصول ٨٢ : ١.

(٢) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة : ١٥ ( مخطوط ) حيث قال : والجمهور من المحقّقين توقّفوا هنا وهو اختيار القاضي أبي بكر والغزّالي.

(٣) نفس المصدر.

(٤) حيث قال : فالأقرب التوقف وتجويز كلّ منهما وإن كان التوقيف أقوى. ( نهاية الوصول إلى علم الاصول ) : الورقة ١٦ ( مخطوط ).

٣٧١

إيجادها من الله سبحانه ، وغيره من الأحوال العارضة لها على الانفراد أو الانضمام من الخلق ، بدعوى : أنّ الحروف الّتي هي موادّ الألفاظ ممّا أوجده الله تعالى ، ففوّض ما عداه من تأليفها وجعل المؤلف منها بإزاء مسمّياتها إلى خلقه ، كما في سائر الأشياء وإن كان الإقدار عليهما أيضا منه تعالى ، والكلّ ضعيف وليس فيها أيضا ثمرة يعتدّ بها ، وربّما يذكر ثمرات ضعيفة :

منها : عدم صحّة ما صار إليه المتأخّرون في الحروف والمبهمات وغيرها ، من عموم الوضع وخصوص الموضوع له ، على القول بواضعيّة البشر لاستحالة ملاحظة ما لا يتناهي في زمان متناه عليه ، وصحّته على القول بواضعيّة الله تعالى لكونه قد أحاط بكلّ شيء علما.

ويزيّفه : عدم اعتبار الملاحظة التفصيليّة ، كعدم استحالة الملاحظة الإجماليّة من البشر ، الحاصلة بملاحظة الة الملاحظة ، وهي كافية في الوضع ، وإن كان الواضع هو الله سبحانه.

ومنها : جواز نفي اعتبار المرّة والتكرار والفور والتراخي الزائدة على أصل الماهيّة عند وضع الصيغة لها بأصل العدم على القول بواضعيّة البشر ، لجواز الذهول والغافلة في حقّه وعدم جوازه على القول الاخر ، لأنّه لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، ولا يشغله علم شيء عن علم شيء ، ويستحيل عليه الغافلة والذهول.

ويزيّفه : أن ليس المراد بعدم الملاحظة عدم الالتفات إلى ما زاد على أصل الماهيّة ليستحيل إسناده إليه تعالى ، بل عدم اعتبار الزائد وأخذه من أجزاء الموضوع له أو قيوده كما هو واضح ، فلا ينافيه الالتفات كما لا يلازمه عدمه.

ومنها : عدم جواز وضع المفرد المعرّف باللام للمعهود الذهني على تقدير واضعيّة الله تعالى ، لما فيه من القبح الّذي هو منزّه عنه ، وجوازه على التقدير الاخر لعدم استحالة القبيح على البشر.

ويزيّفه : منع القبح أوّلا في هذا الوضع على تقدير وقوعه ، حيث لا مقتضى له

٣٧٢

عقلا ، ومنع جوازه من البشر لو كان هو الواضع ، لما في الواضع من وجوب الحكمة ولو بشرا ، فيستحيل الوضع المذكور على تقدير قبحه على القولين معا.

حجّة القول بالتوقيف : مضافا إلى بعد اهتداء العقول إلى مثل هذا الاختراع المشتمل على دقائق الحكم ولطائف البدع من دون توقيف من الله تعالى ، وجوه عمدتها قوله تعالى : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها )(١) بتقريب : أنّ « الاسم » هنا محمول على ما يتبادر منه في العرف العامّ ، وهو اللفظ الموضوع لمعنى ، ويحتمل كونه محمولا على معناه اللغوي أعني العلامة ، بناء على كونه من الوسم والسمة لهذا المعنى ، فيراد به هاهنا ما يرادف المعنى العرفي ، باعتبار أنّ كلّ لفظ موضوع علامة لمعناه الموضوع له ، من حيث كشفه عنه وإيجابه انتقال الذهن إليه ، فالأسماء لظهوره في العموم بل نصوصيّته فيه هاهنا بقرينة تأكيده بما هو نصّ فيه يشمل جميع الألفاظ الموضوعة ، حتّى ما هو من مقولة الأفعال والحروف.

وبذلك يندفع ما قد يتوهّم من كون الدليل أخصّ من المدّعى لعدم تناول الأسماء للأفعال والحروف ، فإنّ خطاب الشرع لا ينزّل على الامور الاصطلاحيّة ، والاسم في العرف واللغة لا يختصّ بما يختصّ به في اصطلاح النحو المحدث ، وربّما يستشهد لإرادة ما ذكر من المعنى مع عمومه بما اشتهر من أنّ الله تعالى أنزل على ادم عليه‌السلام حروف المعجم في إحدى وعشرين صحيفة ، وهي أوّل كتاب انزل إلى الدنيا وفيه ألف لغة ، وأنّه تعالى علّمه جميع تلك اللغات.

وقد روى عن أبي ذر الغفاري رضى الله عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : قلت له يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ نبيّ مرسل بم يرسل؟ قال بكتاب منزل ، قلت : يا رسول الله أيّ كتاب أنزل الله تعالى على ادم؟ قال كتاب المعجم ، قلت : أيّ كتاب المعجم ، قال ا ب ت ث وعدّها إلى اخره.

وفي تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام عن عليّ بن الحسين عليه‌السلام في معنى الاية ، علّمه أسماء كلّ شيء وفيه أيضا أسماء أنبياء الله وأوليائه وعتاة أعدائه.

__________________

(١) البقرة : ٣١.

٣٧٣

وفي حديث الشفاعة فيأتون ادم عليه‌السلام فيقولون : أنت أبو الناس ، خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته ، وعلّمك أسماء كلّ شيء.

وعن ابن عبّاس ومجاهد وقتادة ، أنّه علّمه اسم كلّ شيء حتّى القصعة والقصيعة.

وربّما يحتمل إرادة ما يعمّ الألفاظ وغيرها من أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات ، تعليلا : بأنّ اللغة واحدها ليست علما يصلح به تفضيل ادم عليه‌السلام على الملائكة كما يقتضيه سوق الاية ، والظاهر عدم كونه في محلّه ، فإنّ تعليم اللغة إذا اريد به أعلام الوضع كما هو المقصود من الدليل ، يستلزم تعليم سائر أنواع المدركات ، نظرا إلى أنّ الوضع نسبة بين اللفظ والمعنى ، فالعلم بها على معنى الإذعان لتلك النسبة لا يتأتّى إلاّ بمعرفة المنتسبين ، فتعريف المعاني بأسرها لازم من تعريف ألفاظها الموضوعة ، ومعه لا حاجة إلى ارتكاب خلاف الظاهر في الأسماء الظاهرة في الألفاظ واحدها.

وأمّا ما يقال ـ في دفع الاحتجاج ـ من كون الأسماء مرادا به المسمّيات والحقائق ، بقرينة ما يختصّ بذوي العقول من الضمير ، في قوله تعالى : ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ )(١) فلو أنّ المراد به الألفاظ لوجب أن يقال : ثمّ عرضها.

فيدفعه : أنّ إصلاح الضمير بإرجاعه إلى المسمّيات والحقائق لا يقضي بارتكاب التجوّز في الأسماء ، بعد ما بيّنّا لك من أنّ تعليم الألفاظ المتضمّن لإعلام الوضع يدلّ بالالتزام على تعريف المعاني.

غاية الأمر ، كون المرجع حينئذ معنويّا على ما قرّر في محلّه ولا ضير فيه ، كما لا تجوّز فيه بعد ملاحظة كون وضع ضمير الغائب لما هو معهود بين المتكلّم والسامع ، دلّ عليه الكلام بالمطابقة أو التضمّن أو الالتزام.

مع أنّ الحمل على المسمّيات على إطلاقه لا يكفي في حصول هذا الغرض ،

__________________

(١) البقرة : ٣١.

٣٧٤

بل لا بدّ من تقدير عود الضمير إلى ذوي العقول منها ، وحينئذ يلزم في الأسماء مجاز اخر باعتبار الهيئة زيادة على ما لزم منه فيها باعتبار المادّة.

ولا ريب أنّ الالتزام بهما من دون ما يقضي من القرائن باعتبار شيء منهما في الكلام خروج عن القواعد اللفظيّة ، وكون كلّ شيء من الموجودات حتّى الأحجار والحيوانات العجم بحسب استعداده وفي حدّ ذاته ذا عقل وشعور يعرف به بارئه ويسبّح من جهته خالقه على ما نطق به بعض الايات وورد عليه بعض الروايات ، لا يجدي نفعا في التفصّي عن الإشكال بالنسبة إلى الهيئة ، بدعوى : عدم الحاجة إلى إخراج المسمّيات عن إطلاقها اكتفاء بما ذكر من العقل والشعور ، لعدم كون هذا النحو من العقل معتبرا في نظر أرباب الفنّ بالنسبة إلى قواعدهم المقرّرة في باب الألفاظ ، مع أنّ التصرّف في المادّة بالحمل المذكور ممّا يأباه الضمير في « كلّها » مع عدم تحملّه إلاّ العود إلى « الأسماء » فلو لا المراد بها الألفاظ لوجب أن يقال : كلّهم. فالاختلاف بينه وبين الضمير في « عرضهم » قرينة واضحة على تغاير مرجعيهما ، وعليه يتعيّن كون « الأسماء » مرادا بها الألفاظ ، وضمير « عرضهم » مرادا به المدلول عليه بالالتزام ، إمّا بتأويله إلى إرادة الخمسة الطاهرة من أهل العصمة ، أو الأربعة عشر المعصومين بأجمعهم عليهم‌السلام ، أو كافّة الأنبياء والأوصياء وغيرهم من الأولياء ، أو ما يعمّهم وعتاة أعداء الله تعالى على ما نطق به بعض الروايات المتقدّمة من كون المراد بالأسماء ما يعمّ أسماءهم ، بل في تفسير الإمام عليه‌السلام ما يقضي باختصاص « الأسماء » هنا بأسمائهم ، حيث قال : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها )(١) أسماء أنبياء الله ، وأسماء محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ، والطيّبين من الهما ، وأسماء أخيار شيعتهم ، وعتاة أعدائهم ، ثمّ عرضهم أي عرض محمّدا وعليّا والأئمّة على الملائكة ، أي عرض أشباحهم وهم أنوار في الأظلّة ، فقال : ( أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ )(٢) انتهى كلامه.

__________________

(١) البقرة : ٣١.

(٢) البقرة : ٣٣.

٣٧٥

مع أنّ هذا الضمير بمقتضى السياق منساق على ما انساق به الإشارة في قوله : ( أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ ) والضميران في قوله : ( يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ ) فيكون الجمع المعرّف منطبقا على الجمع المضاف في هذه المواضع الثلاث ، ومن المستحيل كونه فيها مرادا به المسمّيات والحقائق ، وإلاّ لزم إضافة الشيء إلى نفسه كما لا يخفى ، فينهض ذلك أيضا قرينة واضحة على عدم الخروج عن مقتضى الحقيقة في الجمع المعرّف أيضا ، نظرا إلى أنّ التفكيك ممّا ينفيه واحدة السياق ، مضافة إلى أصالة الحقيقة.

وأضعف ممّا ذكر ما احتمل أيضا في دفع الاحتجاج من كون التعليم مرادا به الإلهام بوضع الأسماء ، كما في قوله تعالى : ( وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ )(١) أو الإقدار على وضعها ، فإنّ في الثاني من المجاز في التعليم وإضمار الوضع وتجريد الأسماء عن الوضع ما لا يخفى ، والأوّل وإن سلم عن المجاز في التعليم ، حيث إنّ الإلهام من جملة طرق التعليم ، ولا مانع من حصوله في المقام بهذا الطريق حتّى على ما عرفته من تقريب الاستدلال ، وأمّا الإضمار والتجريد فلا مناص عنهما.

وممّا أورد على الاستدلال أيضا أنّه ـ بعد تسليم جميع ما مضى ـ إنّما يجدي إذا ثبت كون الأسماء الّتي علّمها الله ادم عليه‌السلام هي الألفاظ المتداولة عندنا ، واللغات المتعارفة لدينا ولا دليل عليه ، مع أنّه قد شاع واشتهر أنّ اللغة العربيّة إنّما حدثت في زمان إسماعيل وأنّ العرب من ولده.

ويندفع بعد ملاحظة أصالة التشابه ، بأصالة عدم حدوث شيء سوى ما علّمه الله تعالى ادم ، فإنّه القدر المقطوع بحدوثه ، وأصالة بقاء ما علّمه ادم بعده واستمراره إلى زمان القطع بانسلاخه ، وحكاية حدوث اللغة العربيّة في زمان إسماعيل وإن اشتهرت في الألسنة ، وصرّح به بعض الأجلّة إلاّ أنّها من الأكاذيب المشهورة والأغلاط المعروفة ، حيث لا مستند ولا مأخذ لها ، فيدفعها أوّلا : عدم القول بالفصل.

__________________

(١) الأنبياء : ٨٠.

٣٧٦

وثانيا : بعد تأخّر حدوث تلك اللغة عن غيرها ، مع اشتمالها من الفصاحة وغيرها من الدقائق المحكمة واللطائف المتقنة على ما لم يشتمل عليه غيرها.

وثالثا : ما في بعض النصوص على ما حكاه السيّد الجليل من أنّ أوّل من تكلّم بالعربيّة ادم عليه‌السلام.

ورابعا : ما ذكره السيّد أيضا من أنّ الحميريّين والعمالقة وقوم ثمود وعاد كلّهم من العرب ، وقد كانوا قبل إسماعيل بمدّة متطاولة ، نعم ال أدنان ـ وهم طائفة من العرب ـ من ولد إسماعيل.

وأمّا اشتهار هذه الحكاية فيمكن توجيهه : بأنّ ذرّية ادم عليه‌السلام كانوا بأجمعهم عالمين بجميع تلك اللغات ، فلما تفرّقوا في أكناف الأرض اختار كلّ قوم منهم لغة فتكلّموا بها ، وكان ما اختاروه غير لغة العرب فبقيت غير مشهورة إلى زمان إسماعيل ، ثمّ اشتهرت في زمانه وتكلّم أولاده بها ، فتوهّم أنّها إنّما حدثت في زمانه. كما يمكن توجيهه أيضا : بأنّ ادم رخّص كلّ طائفة من ولده بتعلّم لغة ، فلمّا تفرّقوا وانتشروا في أكناف الأرض كان أهل اللغة العربيّة ضعفاء قليلين غير معروفين إلى زمان إسماعيل ، فتكثروا في ذلك الزمان واشتهروا فاشتهرت لغتهم ، فتوهم الاخرون أنّها محدثة ، هكذا قيل.

نعم يمكن الإيراد عليه : بأنّ غاية ما يدلّ عليه الاية بعد اللتيا والّتي ، كون الأسماء بالمعنى المذكور ممّا علّمه الله تعالى ادم عليه‌السلام ، وأمّا كون وضعها من الله تعالى كما هو المطلوب أو من غيره فهي ساكتة عنه ، فيجوز أن يكون المراد « بالأسماء » ما وقع من ولده من الاصطلاحات واللغات ، لمكان علمه تعالى به وتساوي علمه بالقياس إلى الماضي والحال والاستقبال ، أو من خلق سابق عليه ، بناء على ما يستفاد من النصوص من وجود خلق اخر قبله.

وقد نقل عن عليّ بن إبراهيم أنّه روى في تفسيره في الصحيح أو الحسن كالصحيح عن مولانا الصادق عليه‌السلام أنّه قال : إنّ الله تبارك وتعالى أمر الملائكة بالسجود لادم عليه‌السلام ، فدخل في أمر الملائكة إبليس ، وأنّ إبليس كان مع الملائكة

٣٧٧

في السماء ، يعبد الله وكانت الملائكة تظنّ أنّه منهم ولم يكن منهم ، فلمّا أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لادم عليه‌السلام أخرج ما كان في قلب إبليس من الحسد ، فعلم الملائكة عند ذلك أنّ إبليس لم يكن منهم ، فقيل له عليه‌السلام فكيف وقع الأمر على إبليس ، وإنّما أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لادم عليه‌السلام فقال عليه‌السلام : كان إبليس منهم بالولاء ولم يكن من جنس الملائكة ، وذلك أنّ الله خلق خلقا قبل ادم عليه‌السلام ، وكان إبليس فيهم حاكما في الأرض فعتوا وأفسدوا وسفكوا الدماء ، فبعث الله الملائكة فقتلوهم وأسروا إبليس ورفعوه إلى السماء ، فكان مع الملائكة يعبد الله إلى أن خلق الله تبارك وتعالى ادم عليه‌السلام.

وفي معناه ما رواه المحدّث القاشاني في تفسيره ، والنصوص الدالّة على وجود الجنّ والنسناس قبل ادم كثيرة.

وقضيّة هذا كلّه ، كون المراد بالأسماء موضوعات غيره تعالى.

ويمكن دفعه : أنّ احتمال لحوق الوضع من ولد ادم عليه‌السلام ممّا ينفيه سوق الاية ، المقتضي تفضيله عليه‌السلام على غيره من الملائكة ، فإنّه لو صحّ ذلك لقضي بكون ولده الواضعون أولى بالتفضيل ، لمكان علمهم باللغات مع اختراعهم لها ووضعهم إيّاها ، مع أنّ هذا النحو من الاختراع مع اشتماله على دقائق محكمة ولطائف متقنة لو كان صادرا عن أحد منهم لاستطر اسمه في الدفاتر والأوراق ، واشتهر مدحه ووصفه في الأعاصر والافاق ، كما هو الحال في مبدعي سائر الامور العجيبة والأطوار الغريبة ، لقضاء العادة بذلك ، مع أنّ كون تعليم الأسماء مرادا به تعليم ما وقع من ولد ادم عليه‌السلام من الاصطلاحات يقضي بالتزام أحد المحذورين ، من الكذب والتجوّز الغير الناشئ من شاهد معتبر ، فإنّ الأسماء باعتبار دخول الوضع في مفهومه عرفا ولغة إمّا أن يراد به الألفاظ الموضوعة بالوضع الحاصل في الحال فيلزم الكذب ، أو الموضوعة بالوضع الحاصل في الاستقبال باعتبار ما يؤول فيلزم المجاز.

وأمّا احتمال كون الوضع من خلق سابق ، فيدفعه : أنّه لا وجه فيه للصحّة إلاّ بإحراز أربع مقدّمات :

٣٧٨

إحداها : وجود خلق اخر قبل ادم عليه‌السلام ، واخراها : أن يكون لهم لغات يتحاوروا بها ، الثالثة : مطابقة لغاتهم للّغات المتداولة بين بني ادم ، والرابعة : صدور وضعها عن غيره تعالى.

وقصارى ما يسلّم من هذه المقدّمات إنّما هو المقدّمة الاولى ، ثمّ المقدّمة الثانية بعد الإغماض عن منعها ، ثمّ الثالثة كذلك ، وأمّا الرابعة فيتّجه المنع عنها ، بعد ملاحظة ما كان يقتضيه سوق الاية من تفضيل ادم على الملائكة ، فإنّه لو صحّ الفرض المذكور لكان غير ادم من الخلق الّذي فرض كونه واضعا أولى بإثباتها له ، لمكان علمه مع كونه مخترعا وواضعا ، وضرورة بطلان ذلك ـ كما ترى ـ تغني عن إقامة البيّنة والبرهان ، مضافة إلى أنّه ممّا يقضي به الاية ، حيث إنّه تعالى قرّر الملائكة في دعواهم الفضيلة على الخلق السابق واللاحق بالنسبة إلى السابق دون اللاحق حيث ردّهم بالنسبة إلى اللاحق بإثبات الفضيلة على ما ستعرف تفصيله دون السابق.

ودعوى : أنّ هذا الغرض غير حاصل ، وإن قدّر عدم صدور الوضع عن غيره تعالى ، لأنّ الملائكة أيضا لهم أن يتعلّموا الأسماء لو علّمهم الله ، فكيف يثبت بذلك فضيلة لادم عليه‌السلام ، فلا بدّ وأن يكون سبب فضيلته شيئا اخر ، ولعلّه من جهة شرافة نبيّنا خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله بل الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام على ما يقتضيه بعض الأخبار ، متّضح المنع ، بأنّ هذا الغرض لا يتوقّف حصوله على انتفاء استعداد التعلّم عن الملائكة ، بل على ما ظهر لهم من علوّ رتبته وارتفاع درجته عند الله تعالى ، حيث خصّه بتعليم الأسماء دونهم ، ولعلّه لأجل ما ذكر أو غيره ممّا يوجب القرب المعنوي ، وإنّما يقع النظر في تعليم الأسماء من جهة أنّه ممّا جعله الله تعالى كاشفا للملائكة عن ذلك القرب ، فالاستدلال به على الفضيلة من باب الإنّ ، وأقوى ما يفصح عن ذلك ويشهد به أنّه تعالى نصبه مرجعا لهم ، وفوّض إليه إنبائهم بالأسماء فقال : ( يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ )(١) بعد ما اعترفوا بالتحدّي والعجز عن الاستقلال

__________________

(١) البقرة : ٣٣.

٣٧٩

بالإنباء في قولهم : ( سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ )(١) وإنّما أراد الله بذلك تنبيههم على خطائهم في زعمهم أنّهم أفضل من ادم ، كما يشعر به قولهم : ( أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ )(٢) بعد ما أخبرهم تعالى ب ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) توهّما منهم أنّه كالخلق السابق في عدم الفضيلة عليه ، ولذا وصفوه بالإفساد وسفك الدماء.

وممّا يشعر بما نبّهنا عليه من قرب ادم عليه‌السلام عنده تعالى ، وعلوّ رتبته لديه ، قوله تعالى : ( إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ )(٣) أي إنّي أعلم فيه من الفضيلة وعلوّ الرتبة ما لا تعلمون ، وقوله أيضا : ( فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ )(٤) أي أعلم غيب السموات والأرض الّذي من جملته فضيلة ادم عليه‌السلام عليكم ، حيث خفي عنكم ، وأعلم ما تبدونه من إسناد الإفساد وسفك الدماء المنبئين عن الخذلان ، وما كنتم تكتمونه من دعواكم أنّكم أفضل منه.

هذا ، ولكنّ الّذي يقتضيه الإنصاف أنّ الاية لا يستفاد منها إلاّ انتفاء الواضعيّة عن ادم عليه‌السلام من دون تعرّض فيها للواضع وتعيينه.

وبالجملة لا قاضي فيها لا بنفسها ولا بسياقها المقتضي للتفضيل ـ حسبما فصّلناه ـ بأنّ واضع اللغات لا بدّ وأن يكون هو الله سبحانه ، لا بنحو النصوصيّة ولا بنحو الظهور ، أمّا عدم دلالتها بنفسها فواضح ، وأمّا عدم دلالتها بسياقها فلوضوح أنّ مجرّد استعداد تعلّم اللغة ، بل وفعليّة تعلّمها بل وإنباء الملائكة بها ، ليس له مزيد دخل في تلك الفضيلة لينتقل بها إلى انتفاء هذه الامور عن غير ادم عليه‌السلام من خلق سابق أو لا حق ، المستلزم لانتفاء الواضعيّة عنه أيضا ، ولا أنّها بمجرّدها ممّا اعتبرها الله تعالى كاشفا عمّا في ادم عليه‌السلام من القرب المعنوي وعلوّ الرتبة ، بل الكاشف عن ذلك لعلّه ما ظهر لهم بإنبائه عليه‌السلام إيّاهم بأسماء العقلاء على حسب ما

__________________

(١) البقرة : ٣٢.

(٢) البقرة : ٣٠.

(٣) البقرة : ٣٠.

(٤) البقرة : ٣٣.

٣٨٠