تعليقة على معالم الاصول - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٤٤٣

وبالجملة ، هذا القيد بناء على خروج الضروريّات عن الفقه مطلقة أو في الجملة لا يخلو عن فائدة.

وقد يقال : إنّ فائدة هذا القيد إخراج علم المقلّد ، والمستفاد من بعض الأعاظم (١) أنّه من جملة فوائده ، لكن اختلفت عباراتهم في وجهه ، ففي بعضها أنّ علم المقلّد مقصور على السماع الّذي هو سبب ضروري فلا يشمله ذات الدليل حسبما هو معتبر في الاصطلاح ، وفي بعضها أنّ علمه كعلم المجتهد وإن كان محصّلا عن الدليل ، غير أنّ الفرق بينهما أنّ المجتهد له أنواع من الأدلّة وليس للمقلّد إلاّ نوع واحد ، فيخرج علمه باعتبار الجمعيّة المستفادة من « أدلّتها ».

وفي بعضها أيضا أنّ الإضافة في « أدلّتها » إذا كانت للعهد و « الأدلّة » محمولة على المعهودة الّتي يستعملها المجتهد كانت مخرجة لعلم المقلّد ، لعدم كون دليله من جملة هذه الأدلّة ، وفي جميع هذه الوجوه من الضعف ما لا يخفى.

أمّا الأوّل : فلأنّ السماع سبب ضروري لإفادة تصوّر معاني الألفاظ الصادرة من المجتهد في مقام الإفتاء ـ مفردة ومركّبة ـ بل هو عند التحقيق سبب ضروري للعلم بوجود لفظ الفتوى وصدوره عن لافظه ، كما هو الحال في سائر المقامات.

وأمّا استفادة مرادات المجتهد ومعتقداته فمتوقّفة على إعمال مقدّمات كثيرة ، يدفع بها احتمال التجوّز والإضمار والتخصيص والتقييد والكذب والخطأ والسهو والنسيان وما أشبه ذلك ، نظرا إلى أنّ اللفظ الصادر من المجتهد كاللفظ الصادر من المعصوم عليه‌السلام له عامّ وخاصّ ، ومطلق ومقيّد ، ونصّ وظاهر ، ومجمل ومبيّن ، ومحكم ومتشابه ، فيجري فيه جميع ما يجري في كلام المعصوم من الاصول والمقدّمات الّتي يحرز بها المرادات والمعتقدات فيندرج بذلك قول المجتهد في عداد الأدلّة بالقياس إلى مقلّده على حدّ اندراج قول المعصوم عليه‌السلام في عدادها بالقياس إلى المجتهد.

__________________

(١) إشارات الاصول : ٣.

١٢١

وأمّا الثاني : فلأنّ الجمعيّة هنا ملغاة ، كما يفصح عنه إسناد الأكثر خروج علم المقلّد إلى قيد « التفصيليّة » كيف لا تكون ملغاة ولو فرض اقتصار المجتهد في علمه بجميع الأحكام على نوع واحد من الأدلّة كالسنّة مثلا ـ على تقدير كفايتها ـ كان فقيها وعلمه فقها في الاصطلاح من دون نكير ، فالأدلّة هنا يراد بها جنس الدليل ليشمل الواحد وما فوقه ، فيندرج فيها دليل المقلّد أيضا.

وأمّا الثالث : فلأنّ عهد الإضافة مرجعه إلى إرادة المعهود المعيّن الخارجي من المضاف ، وهو خلاف ظاهر لا داعي إلى المصير إليه ، ومجرّد كونه مرادا للمعرّف اعتبار لا يخفي بحصوله ظاهر اللفظ فلا يكفي ، للزوم كون المدخل والمخرج في الحدود ظاهر ألفاظها ولو بمعونة القرينة.

فتحقيق المقام أن يلاحظ أنّ علم المقلّد بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة هل هو ممّا يصدق عليه « الفقه » أو لا؟

وعلى الثاني ، فهل يقع مشمولا لجنس الحدّ ليحتاج إلى مخرج أو لا؟ وعلى الأوّل ينظر في مخرجه ، ويتّضح الكلام في جميع ذلك إن شاء الله.

[١٤] قوله : ( وخرج بالتفصيليّة علم المقلّد في المسائل الفقهيّة ، فإنّه مأخوذ من دليل إجمالي مطّرد في جميع المسائل ... الخ )

واعلم : أنّ « الفقه » على ما عرفته سابقا يطلق على معان :

أحدها : المعرفة على الإطلاق ، وهو المعنى اللغوي.

وثانيها : ما هو أخصّ من الأوّل ، وهو معرفة الأحكام الشرعيّة اصوليّة وفروعيّة على طريق الاجتهاد أو التقليد.

وقد شاع إطلاقه عليه في أخبار الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام على ما قيل ، حتّى أنّ التفقّه الوارد في الاية بحكم الروايات المفسّرة محمول عليه ، لكن كونه إطلاقا فيما يغائر المعنى اللغوي في الاية والرواية موضع تأمّل ، لقوّة احتمال كونه من باب إطلاق الكلّي.

١٢٢

وثالثها : ما هو أخصّ من الأوّلين وهو المصطلح عليه عند الفقهاء الّذي يراد من الحدّ ، سواء كان من مخترعاتهم أو واصلا إليهم من الأئمّة عليهم‌السلام أو من الشارع ـ على تقدير ثبوت الحقيقة الشرعيّة فيه كما توهّم ـ فإن أخذ « الفقه » على أحد المعنيين الأوّلين فلا إشكال في صدقه على علم المقلّد لكنّه ليس بمحلّ كلام.

وإن اخذ على المعنى الأخير ، فالمصرّح به في كلامهم عدم صدقه عليه وهو الحقّ الّذي لا محيص عنه ، كما يفصح عنه صحّة سلب اسم « الفقيه » عنه واسم « الفقه » عن علمه بحسب الاصطلاح.

وظاهر أنّ هذا الاختلاف بينه وبين المجتهد الّذي لا يصحّ السلب عنه وعن علمه ، لا بدّ وأن يكون من منشأ معنوي مأخوذ في مفهوم « الفقه » اصطلاحا غير موجود فيه ، وهو لا يخلو عن أمرين :

أحدهما : أن يكون المعتبر في مسمّاه الاصطلاحي كونه ملكة أو إدراكا ناشئا عنها بالمعنى المتقدّم ذكره ، وهو الحالة النفسانيّة الناشئة عن الممارسة في الفنّ واستحضار مسائله ـ ولو إجمالا ـ ومبادئه على وجه لم يكن بينه وبين إدراكاته الفعليّة حالة منتظرة ، سوى الرجوع إلى المدارك واستعمال مبادئها الحاضرة لديه ـ ولو قوّة ـ حين المراجعة.

ولا ريب أنّ الملكة بهذا المعنى غير حاصلة للمقلّد ، ولا أنّ إدراكه الفعلي ناش عنها.

وثانيهما : إنّ علم المقلّد بوصف أنّه مقلّد إنّما يستند إلى وسط واحد ، وهو العنوان الكلّي الجامع لجزئيّات المسائل بأسرها ، الّذي ينشأ منه علمه في كافّة المسائل ، كعلم المجتهد واعتقاده بناء على أنّه مأخوذ موضوعا لأحكام المقلّد ، بخلاف المجتهد الّذي يكون علمه عن أوساط عديدة مختلفة الحقائق ، على معنى كونه صالحا لأن يستند إليها ولو فرض في بعض الصور النادرة استناده إلى وسط واحد ، كما لو انحصر دليله في جميع المسائل إلى الكتاب أو خبر الواحد ، فإنّه لا يمنع عن صلاحيّة استناده إلى أكثر من وسط واحد على نحو التوزيع ، بأن يستند

١٢٣

في جملة منها إلى الكتاب ، وفي اخرى إلى السنّة ، وفي ثالثة إلى الإجماع ، وفي رابعة إلى العقل والظنّ المطلق على القول به.

ولا ريب أنّ هذه الصلاحيّة منتفية في علم المقلّد ، ولا يجدي في إعطاء الصلاحيّة فرض تعدّد المجتهدين ، ولا اختلافهم في الأعلميّة وغيرها والحياة والموت ونحوها كما توهّم ، لكون الوسط في الجميع واحدا وهو العلم والاعتقاد فتأمّل.

فإذا أخذت هذه الصلاحيّة في مسمّى « الفقه » اصطلاحا ، كان وجها اخر في الفرق بين المقلّد والمجتهد ، وكأنّه إلى هذا الفرق ينظر ديدنهم الجاري في الفرق بينهما ، بأنّ المقلّد ليس له إلاّ دليل واحد إجمالي بخلاف المجتهد فإنّ له أدلّة تفصيليّة ، نظرا إلى أنّ الدليل الإجمالي يراد به المنسوب إلى الإجمال وهو الجمع ، يقال : أجملت الشيء إجمالا أي جمعته من غير تفصيل ، ومنه اللفظ لجمعه الاحتمالين أو أكثر ، فمعنى إجماليّة دليل المقلّد مع واحدته كونه وسطا واحدا جامعا لشتات الجزئيّات بأسرها ، لا بمعنى كونه مجملا مرادفا للمبهم ، كما هو من لوازم مجمل اللفظ كما توهّم ، حتّى يورد عليه : أنّ دليل المقلّد عامّ لا أنّه مجمل ، والأدلّة التفصيليّة يراد بها المنسوبة إلى التفصيل المأخوذ من الفصل بمعنى الفرقة ، فمعنى تفصيليّة أدلّة المجتهد كونها أوساطا متفرّقة مختلفة الحقائق ، وقضيّة هذا الفرق أيضا ألايصدق « الفقيه » على المقلّد ولا « الفقه » على علمه.

وبعد وضوح الفرق بينهما في الوجهين المذكورين ، فإن كان جنس حدّ الفقه محمولا على الملكة ـ بالمعنى المتقدّم (١) ـ بقرينة ما تقدّم (٢) من كون ألفاظ العلوم أسامي للملكات ، أو بقرينة أخذ الجمع المعرّف في الحدّ المفيد للاستغراق الغير الصالح إلاّ على تقدير إرادة الملكة على ما يأتي بيانه ، فعلم المقلّد خارج بنفس الجنس ، ضرورة عدم شمول اللفظ المحمول على معنى مجازي بواسطة القرينة معناه الحقيقي ولا ما هو من أفراده ، فلا يفتقر حينئذ إلى مخرج.

__________________

(١) تقدّم في التعليقة الرقم ٤ ، الصفحة : ٤٥.

(٢) تقدّم في التعليقة الرقم ٤ ، الصفحة : ٤٥.

١٢٤

نعم إن كان الجنس محمولا على نفس الإدراك كان شاملا لعلم المقلّد ، فيحتاج حينئذ إلى مخرج ولا مخرج له إلاّ قيد « التفصيليّة » على ما فهمه الأكثرون ومنهم المصنّف على ما هو صريح العبارة المتقدّمة ، لأنّ العلم الحاصل عن الأدلّة التفصيليّة على ما بيّنّاه مخصوص بالمجتهد.

لكن أورد عليه : تارة بأنّه إن اريد بما ذكر أنّ الدليل الإجمالي مقصور على المقلّد ولا يوجد للمجتهد.

ففيه : أنّ نظير ذلك موجود له أيضا ، وهو قوله في كلّ مسألة مسألة : هذا ما أدّى إليه اجتهادي ، وكلّما هو كذلك ، فهو حكم الله في حقّي وحقّ مقلّدي.

وإن اريد به أنّ للمجتهد ـ مضافا إلى الدليل الإجمالي ـ أدلّة تفصيليّة ولا يوجد مثلها للمقلّد.

ففيه : أنّ له أيضا أدلّة تفصيليّة ، وهي فتاوى المجتهد المجتمعة له في الوقائع كلّها.

واخرى : بمنع خروج علم المقلّد بقيد « التفصيليّة » فإنّه لاستناده إلى علم المجتهد وفتواه المستندين إلى الأدلّة التفصيليّة ، ممّا يصدق عليه مفهوم قولنا : العلم المستند إلى الأدلّة التفصيليّة.

وثالثة : بمنع كون الدليل الإجمالي ممّا استند إليه علم المقلّد ، بل هو دليل لاعتبار علمه كما إنّ نظيره موجود للمجتهد.

ورابعة : بمنع استناد خروج علم المقلّد إلى قيد « التفصيليّة » ـ وإن صحّ ذلك ـ بل هو مستند إلى قيد « أدلّتها » لما قرّر في محلّه من أنّه إذا اجتمع في الحدّ قيدان صالحان لإخراج شيء فالأولى إسناد خروجه إلى أوّلهما ، فيكون قيد « التفصيليّة » لمجرّد التوضيح.

والجواب عن الأوّل : فباختيار الشقّين معا ، على معنى أنّ ليس للمجتهد إلاّ أدلّة تفصيليّة ولا للمقلّد إلاّ دليل إجمالي.

١٢٥

ودعوى : أنّ للمجتهد أيضا دليلا إجماليّا بالبيان المذكور ، غفلة عمّا قدّمناه (١) من تفسير الدليل الإجمالي ، وما قدّمناه (٢) في تحقيق مسائل الفقه من أنّ البحث فيها يرجع إلى إحراز صغريات مستفادة من الأدلّة التفصيليّة بالمعنى المتقدّم ، فإنّ إجماليّة الدليل عبارة عن كون العلم الحاصل به عن وسط واحد ليس إلاّ ، جامع لشتات جزئيّات المسائل ، وما اخذ من الوسط في دليل المجتهد وإن كان واحدا بحسب المفهوم ، لكنّه واحد جنسي ينحلّ إلى أوساط متكثّرة مندرجة تحته ، اندراج الأنواع تحت جنس عامّ لها ، لكون كلّ في حدّ ذاته عنوانا كلّيا ، فالصغري المأخوذة في هذا الدليل منحلّة إلى صغريات عديدة مشتملة على محمولات متفرّقة مختلفة الحقائق ، ضرورة أنّ قولنا : « هذا ما أدّى إليه اجتهادي » بمنزلة أن يقول ـ في جملة من المسائل ـ : هذا ما أدّى إليه الكتاب ، وفي اخرى : هذا ما أدّى إليه خبر الواحد ، وفي ثالثة : هذا ما أدّى إليه الإجماع ، وفي رابعة : هذا ما أدّى إليه الظنّ المطلق وهكذا ، وهذا هو معنى استناد علم المجتهد إلى الأدلّة التفصيليّة ، وهذا كما ترى ممّا لا إجمال فيه بحسب الحقيقة ولا عبرة بالإجمال المنوط بالاعتبار ، كما أنّ التفصيليّة بهذا المعنى غير حاصلة للمقلّد.

وتوهّم كون الفتاوى المجتمعة عنده أدلّة تفصيليّة له ، يدفعه : أنّ الفتاوى المجتمعة جزئيّات حقيقيّة لعنوان واحد نوعي ، وهو مفهوم « الفتوى » الراجعة إلى علم المجتهد واعتقاده ، فليست الصغريات المفروضة هنا في الوقائع الجزئيّة مشتملة على أوساط متفرّقة مختلفة الحقائق كما لا يخفى ، فليس علم المقلّد إلاّ عن وسط واحد إجمالي جامع لشتات المسائل الجزئيّة.

وعن الثاني : بأنّ استناد العلم إلى الأدلّة التفصيليّة وحصوله منها ظاهر في الحقيقي الّذي لا يتخلّل معه بين المستند والمستند إليه واسطة ، ولا ريب أنّ استناد علم المقلّد إليها غير حقيقي.

__________________

(١) تقدّم في نفس التعليقة ، الصفحة : ١١٠.

(٢) تقدّم في التعليقة الرقم ١٣ ، الصفحة : ١٠٣.

١٢٦

وعن الثالث : بأنّ المراد من كون القياس المذكور دليلا لاعتبار علم المقلّد لا لأصل العلم غير واضح ، فإنّ علم المقلّد إنّما يراد به العلم المأخوذ في نتيجة هذا القياس ، وهو من حيث إنّه علم لا يفتقر إلى دليل الاعتبار ، لكون اعتباره من القضايا الّتي قياساتها معها ، فإنّه عبارة عن انكشاف الواقع وليس وراء الواقع شيء اخر يكون معتبرا بنفسه ليفتقر اعتبار انكشافه إلى دليل ، بل معنى اعتبار انكشافه اعتبار نفسه ، وهو في نفسه ولذاته يقتضي الاعتبار.

نعم كون الاعتقاد المفروض في متعلّقه ـ كالنسبة الموجودة في النتيجة مثلا ـ انكشافا للواقع يتوقّف على صدقها ، ويكفي فيه صدق المقدّمتين الصغرى والكبرى والمفروض هنا صدقهما ، أمّا صدق الصغرى ـ وهو قولنا : « هذا ما أفتى به المفتي » ـ فلأنّه المفروض ، وأمّا صدق الكبرى وهو قولنا : « كلّ ما أفتى به المفتي فهو حكم الله في حقّي » فللأدلّة القاضية بحجّية الفتوى ، ووجوب رجوع العامي إلى العالم المجتهد ، وقضيّة صدق المقدّمتين صدق النتيجة المتولّدة منهما ، ويلزم من ذلك كون المجموع منهما سببا للعلم المأخوذ في النتيجة ، ولا يعني من كون الدليل الإجمالي دليلا لعلم المقلّد إلاّ هذا ، وهكذا يقال في دليل المجتهد.

وأيضا فإنّ مناط دليليّة الدليل إنّما هو الوسط المأخوذ فيه ، وهو العنوان المتكرّر في مقدّمتيه ، وقد تبيّن أنّ وسط دليل المقلّد فتوى المجتهد ، كما أنّ وسط دليل المجتهد ما ينحلّ إلى الكتاب والسنّة والإجماع والعقل وغير ذلك.

ولا ريب أنّ الفتوى من حيث إنّها الفتوى ليست دليلا على اعتبار علم المقلّد بل هي سبب لأصل العلم ، كما أنّ أوساط دليل المجتهد من حيث إنّها الامور المذكورة أسباب لأصل علمه ، لا أنّها أدلّة على اعتبار هذا العلم.

نعم كلّ من الفتوى والامور المذكورة ملزومة للاعتبار بالأدلّة الدالّة على حجّيتها ، أمّا الفتوى فبما دلّ على وجوب رجوع الجاهل في الأحكام إلى العالم ، وأمّا غيرها فبما دلّ على حجّية كلّ ولو من باب كونه من أسباب الظنّ.

ولك أن تقول حينئذ : إنّ « الفقه » يراد به هنا ما كان ملزوما للاعتبار ، كما أنّ

١٢٧

المطلوب من الدليل إجماليّا كان أو تفصيليّا ليس إلاّ ما كان ملزوما للاعتبار ، فإنّ المكلّف مجتهدا كان أو مقلّدا لا يرجع إلى الدليل إجماليّا كان أو تفصيليّا إلاّ بعد إحراز كبرى كلّية ، وهي كون كلّ ما أدّى إليه الاجتهاد أو كلّما أفتى به المفتي [ فهو ] حكم الله الفعلي في حقّه ، وهي كما ترى تفيد اعتبار ما يحصل لهما من العلم عن الدليل المفروض على أحد الوجهين ، فمنظوره في الرجوع إلى الدليل حينئذ إحراز صغرى تنضمّ إلى تلك الكبرى الكلّية.

ومن المعلوم أنّ الصغرى ممّا لا بدّ له من مستند ، كما أنّ العلم المطلوب فيها لا بدّ له من مدرك ، وهذا المستند هو الدليل الّذي يرجع إليه ، فإن كان أدلّة تفصيليّة كان العلم المأخوذ في النتيجة المتولّدة عن الصغرى المنضمّة إلى الكبرى المذكورة « فقها » وإن كان دليلا إجماليّا وهو فتوى المفتي ورأيه واعتقاده كان العلم المأخوذ في النتيجة المتولّدة عن المقدّمتين المذكورتين خارجا من الفقه.

فالعلم المطلوب في تلك النتيجة إنّما يطلب حصوله عن الأدلّة التفصيليّة أو الدليل الإجمالي وهو ملزوم للاعتبار ، وكون الاعتبار من لوازمه المستندة إلى أدلّة كبرى هذا القياس لا ينافي كونه في حدّ ذاته حاصلا عن الأدلّة التفصيليّة أو الدليل الإجمالي اللذين يحرز بهما صغرى هذا القياس ، نظرا إلى أنّ الأدلّة التفصيليّة أو الدليل الإجمالي يراد بهما في الحقيقة ما يحرز به الصغرى ، ومعنى استناد النتيجة إليهما استنادها باعتبار استناد الصغرى إليهما ، ووصف الاعتبار إنّما حصل بغير هذا الاعتبار فلا منافاة ، والقياس المذكور إنّما ينتظم بعد إعمال النظر في دليلي الكبرى والصغرى ، لا أنّه بنفسه دليل للعلم أو على اعتباره.

وبالجملة : نتيجة هذا القياس إنّما تسمّى مسألة فقهيّة باعتبار كون البحث فيها عبارة عن طلب إحراز صغرى بالنظر في الأدلّة التفصيليّة ، فكلّ نتيجة يكون البحث فيها عبارة عن طلب إحراز الصغرى بالنظر في الدليل الإجمالي لا الأدلّة التفصيليّة ، فليست من المسألة الفقهيّة.

وعن الرابع : بمنع صحّة استناد خروج علم المقلّد إلى قيد « أدلّتها » لأنّه لا يتمّ

١٢٨

إلاّ إذا فرض الفتوى من الأسباب الضروريّة الخارجة من عنوان الدليل إصطلاحا ، أو اعتبرت الجمعيّة في مفهوم « الأدلّة » ليكون الفقه عبارة عن العلم الحاصل عن جماعة من الأدلّة ، أو اعتبر العهد في الإضافة.

وقد عرفت إنّ هذه الوجوه بأسرها ضعيفة ، سيّما الوجه الأخير المؤدّي إلى ارتكاب خلاف الظاهر بلا داع إليه ولا قرينة عليه.

وتوهّم كون « التفصيليّة » قرينة ، يدفعه :

أنّه لا يتمّ إلاّ إذا اخذت « اللام » المأخوذة فيه للعهد ، وهذا أيضا يحتاج إلى قرينة اخرى ، مع أنّ ذلك تأويل يلتزم به لإخراج قيد من قيود الحدّ إلى كونه توضيحيّا مع صلاحيّة نهوضه للاحتراز به عن علم المقلّد ، مع بقاء قيد « الأدلّة » أيضا على الأصل ، لإفادته الاحتراز عن الضروريّات حسبما بيّنّاه (١) نظرا إلى أنّ قرائن المجاز بأسرها توضيحيّة ، وهذا كما ترى خلاف ضابطة الحدود.

ومن الأعلام من احتمل كون قيد « التفصيليّة » لإخراج الأدلّة الإجماليّة ، معلّلا بأنّ ثبوت الأحكام في الجملة من ضروريّات الدين ، فما دلّ على ثبوت الأحكام إجمالا من الضرورة وغيرها ، مثل عمومات الايات والأخبار الدالّة على ثبوت التكاليف إجمالا أدلّة لكن إجمالا لا تفصيلا ، وهذا لا يسمّى « فقها » بل الفقه هو معرفة تلك الأحكام الإجماليّة من الأدلّة التفصيليّة. انتهى (٢).

ولا يذهب عليك ان ليس مراده بالدليل الإجمالي هنا ما هو مفروض للمقلّد بالمعنى المتقدّم ، بل المراد به ما يكون مدلوله أمرا مجملا مردّدا بين أشياء ، نظير مجمل اللفظ المردّد بين معان ، ومعنى خروج الدليل الإجمالي بهذا المعنى خروج العلم الإجمالي السمتند إليه ، الّذي هو من لوازم الحكم المعلوم بالإجمال ، فإنّه لا يسمّى « فقها » في الاصطلاح ، بل « الفقه » هو العلم التفصيلي المستند إلى الأدلّة التفصيليّة ، وهذا المطلب في نفسه صحيح لا سترة عليه ، غير أنّ اعتبار دخول ما ذكر ثمّ إخراجه بالقيد المذكور وهم ، يكذبه النظر الدقيق.

__________________

(١) تقدّم في التعليقة الرقم ١٣ ، الصفحة : ١٠٠.

(٢) قوانين الاصول : ٦.

١٢٩

أمّا أوّلا : فلمنع شمول جنس الحدّ لمثل هذا العلم حسبما اعترف به رحمه‌الله في غير موضع من كتابه ، من دعوى ظهور لفظ « العلم » حيثما اطلق في العلم التفصيلي.

وأمّا ثانيا : فلأنّه على فرض اندراجه في الجنس ، خارج بظهور تعلّق العلم بالأحكام في تأخّره عن متعلّقه طبعا ، ضرورة تأخّر المتعلّق عن المتعلّق ، فيخرج العلم الإجمالي لتقدّمه طبعا على الحكم بالمعنى الّذي هو متعلّق عن المتعلّق ، فيخرج العلم الإجمالي لتقدّمة طبعا على الحكم بالمعنى الّذي هو متعلّق للعلم التفصيلي ، بملاحظة ما تقدّم إليه الإشارة من ظهور الحكم في الفعلي ، المتوقّف فعليّته على العلم الّذي يستحيل كونه هو العلم التفصيلي المأخوذ جنسا حذرا عن تقدّم الشيء على نفسه ، لاقتضاء تعلّقه بالحكم بوصف كونه فعليّا تأخّره عنه وعن فعليّته ، فلا جرم يكون ذلك علما اخر ، وليس إلاّ العلم الإجمالي المفروض استناده إلى الأدلّة الإجماليّة ، فإذا كان ذلك هو العلّة الموجبة لوصف الفعليّة في الحكم الّتي هي عبارة اخرى لتعلّق الحكم بالمكلّف ، كان متقدّما على وصف الفعليّة ، فيخرج بانفهام التأخّر من اعتبار تعلّق الجنس بالحكم المتّصف بهذا الوصف.

وأمّا ثالثا : فلأنّه على فرض عدم خروجه بذلك أيضا يصحّ أن يستند خروجه إلى قيد « الأحكام » بناء على ما رجّحناه من حملها على المسائل بمعنى النسب الخبريّة المستدلّ عليها في الفقه ، ضرورة أنّ الفقيه يبحث عن النسب الخبريّة المفصّلة ويستدلّ عليها ، لا عن النسب الخبريّة الإجماليّة.

وأمّا رابعا : فعلى تقدير عدم خروجها بذلك القيد أمكن إخراجها بقيد « الشرعيّة » لأنّ الّذي من شأنه أن يؤخذ من الشارع هو الأحكام المفصّلة ، لا المعلومات بالإجمال باعتبار كونها مبهمة.

وأمّا خامسا : فعلى فرض عدم خروجه به أيضا فهو خارج بقيد « الفرعيّة » بناء على تفسيرها المتقدّم (١) من انتساب الحكم إلى الفرع على معنى تعلّقه به.

__________________

(١) تقدّم في التعليقة الرقم ٧ ، الصفحة : ٥٢.

١٣٠

« فالفقه » هو العلم بالحكم المتعلّق بالفرع من حيث تعلّقه به ، والعلم الإجمالي المتعلّق بالحكم ليس تعلّقه من هذه الحيثيّة ، بل إنّما يتعلّق به من حيث صدوره من الشارع ، لما عرفت من أنّه الّذي ينشأ منه تعلّق الحكم بالفرع ، فلا يعقل تعلّقه به من هذه الحيثيّة.

وبالجملة ، تعلّقه بجهة صدور الحكم علّة لحصول جهة التعلّق له والفقه علم يتعلّق بجهة تعلّق الحكم لا جهة صدوره ، وهذا هو المعنى المراد من الفرعيّة.

وأمّا سادسا : فلأنّ هذا العلم على فرض استناده الأوّلي إلى الضرورة ، مع فرض كون ورود عمومات الايات والروايات من باب التأكيد لمقتضى الضرورة ، سبيله سبيل الضروريّات المخرجة بقيد « الأدلّة » لعدم كون مستنده حينئذ مندرجا في عنوان « الدليل » نعم يسقط ذلك لو جعلنا العلم الإجمالي مستندا إلى العموم والضرورة ناشئة منه لكونه حينئذ حاصلا من الدليل.

[١٥] قوله : ( وقد أورد على هذا الحدّ ، أنّه إن كان المراد « بالأحكام » البعض ... الخ )

ومنشأ هذا الإشكال ملاحظة ورود الجمع المحلّى بحسب الإطلاقات على معان خمس ، وهي الإستغراق المدّعي على كونه حقيقة فيه ، الاتّفاق والمعهودان الخارجي والذهني ، وجنسا الجمع والمفرد ، فالسؤال عن إرادة الكلّ مبنيّ على احتمال كونه محمولا على الاستغراق ، كما أنّ السؤال عن إرادة البعض مبنيّ على احتمال كونه مرادا منه إمّا المعهود الذهني ـ أي الجماعة المعهودة في الذهن الغير المعيّنة في لحاظ الحدّ ، وإن كانت معيّنة في لحاظ الخارج ، بملاحظة أنّ التصديق في تعلّقه الخارجي يقتضي محلاّ معيّنا ـ أو جنس الجمع الصادق على القليل والكثير من الجماعات محمولا هنا على أوّل مصاديقه وهو الثلاثة ، أو جنس الفرد الصالح لأن يتحقّق في ضمن الواحد والكثير من الاحاد ، وأمّا المعهود الخارجي فلا مجال هنا إلى احتمال إرادته ، للزومه المعهوديّة بأحد أنحائها الثلاث المنتفية في المقام.

١٣١

وأمّا ما في كلام بعض الأفاضل (١) من أنّ إرادة العهد الذهني ممّا لا وجه له في المقام غير واضح الوجه ، بل عدم جواز إرادته هنا ممّا لا وجه له ، ولا يلزم من ذلك تعلّق التصديق بأمر مبهم حتّى ينهض سندا للمنع ، إذ عدم التعيين أعمّ ممّا هو في الخارج أو في الذهن فقط ، والتصديق لا يقتضي إلاّ التعيّن الخارجي ، وهو لا ينافي لأن يؤخذ في الحدّ الّذي لحاظه لحاظ الذهن البعض الغير المعيّن ، لعدم الملازمة بين عدم التعيّن الذهني وعدم التعيّن الخارجي ، كما في قوله عليه‌السلام : « ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني » (٢).

وإن شئت فقل : إنّه يراد من اللفظ الذات المتعيّنة في الخارج لا بوصف التعيّن.

ومن البيّن أنّ عدم اعتبار التعيّن في الذهن لا يستلزم انتفاءه بحسب الخارج.

وملخّص الإشكال : أنّ الأحكام إن اريد به الكلّ لم تنعكس الحدّ لخروج أكثر الفقهاء ـ إن لم نقل كلّهم ـ لعدم تيسّر الإحاطة لهم بجميع الأحكام ، وإن اريد به البعض لم يطّرد لدخول المقلّد الّذي عرف بعض الأحكام بطريق الاستدلال ، مع أنّه ليس بفقيه وعلمه ليس بفقه في الاصطلاح.

[١٦] قوله : ( لم يطّرد ... الخ )

وحيث إنّ الحدّ يعتبر كونه مساويا لمحدوده بعدم كونه أخصّ ولا أعمّ منه فيحصل بينهما الصدق الكلّي من الجانبين ، على معنى صدق المحدود على جميع ما يصدق عليه الحدّ ، وصدق الحدّ على جميع ما يصدق عليه المحدود ، وقد جرت العادة بالتعبير عن الكلّية الاولى « بالطرد » ومن لوازمه كون الحدّ مانعا ، وعن الكلّية الثانية « بالعكس » ومن لوازمه كون الحدّ جامعا ، فالطرد والعكس بحسب أصل الاصطلاح وصفان لهاتين الكلّيتين لا للحدّ ، بخلاف « المنع » و « الجمع » المعتبرين وصفين لنفس الحدّ ، ولو فسّر الطرد بكون الحدّ مانعا والعكس بكونه جامعا كان تفسيرا باللازم.

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٦ ( الطبعة الحجرية ).

(٢) مغني اللبيب : ص ١٠٢.

١٣٢

[١٧] قوله : ( ثمّ إنّ الفقه أكثره من باب الظنّ ، لابتنائه غالبا على ما هو ظنّي الدلالة أو السند ... الخ )

وهذا إشكال اخر في الحدّ.

وملخّص تقريره : أنّ العلم في جنس الحدّ ظاهر في الاعتقاد الجازم ، فيخرج به أكثر الأحكام الفرعيّة لابتنائها غالبا على الأدلّة الظنّية ، فإنّ الفقيه بالقياس إليها ظانّ والجنس لا يشمله.

[١٨] قوله : ( والجواب : أمّا عن سؤال الأحكام ... الخ )

اجيب عن أوّل الإشكالين باختيار كلّ من الشقّين ، فتارة باختيار أوّلهما وهو حمل « الأحكام » على إرادة البعض ، ولا ينتقض الحدّ معه في طرد ولا عكس.

وملخّص الجواب على هذا التقدير : أنّ المورد إمّا أن يكون ممّن يجوّز التجزّي في الاجتهاد أو لا ، فإن كان من الثاني فلا يشمل الحدّ إلاّ المجتهد في الكلّ ، إذ ليس المراد بالبعض هنا البعض بشرط لا ، بل البعض لا بشرط بالنظر إلى كونه في ضمن الكلّ وعدمه ، وهو لا يعقل بالنسبة إلى المقلّد الّذي جعلوه موردا للنقض ، لأنّه على هذا القول أجنبيّ عن كونه عالما ببعض الأحكام ، لاستحالة معرفة البعض المنفكّ عن الكلّ على مذاق هذا القائل ، فانحصر البعض لا بشرط في أحد فرديه وهو البعض المندرج في ضمن الكلّ ، والعالم بالبعض كذلك مجتهد في الكلّ ، فالحدّ على هذا القول لا يشمل إلاّ المجتهد في الكلّ ، وإن كان من الأوّل فيشمل الحدّ للعلم المفروض ، ويطّرد لكونه حينئذ من أفراد المحدود.

والفرق بين طرفي الترديد أنّ بناء الأوّل على أنّ العلم المذكور ليس من أفراد الفقه وهو غير داخل في حدّه ، فلم يثبت عدم اطّراده.

وبناء الثاني على أنّه من أفراده وهو داخل فيه ، فلا يكون صدق الحدّ عليه ممّا يوجب عدم اطّراده ، بل الواجب صدقه حينئذ مراعاة لانعكاسه ، وأيضا في الأوّل تسليم قول المورد أنّه ليس بفقيه في الاصطلاح ، وفي الثاني منع له.

ويشكل ذلك على مذهب المصنّف في مسألة التجزّي من إمكانه وعدم اعتباره ، وبعبارة اخرى : جواز التجزّي عقلا وإنكار جوازه شرعا.

١٣٣

فإنّ الأقوال في تلك المسألة على ما ستظفر عليه أربعة :

الأوّل : القول بعدم إمكان التجزّي.

الثاني : إمكانه وعدم اعتباره مطلقا وعليه المصنّف.

والثالث : إمكانه مع اعتباره للمتجزّي بالخصوص ، وهو الأظهر.

والرابع : إمكانه واعتباره له ولغيره ممّن يقلّده ، والبيان المذكور إنّما يجدي في دفع الإشكال على أحد القولين الأخيرين.

وأمّا على القول الثاني ، فيبقى انتقاض الطرد بحاله ، إلاّ أن يقال : بكون « الفقه » اسما للأعمّ من الصحيح والفاسد كما احتمله بعضهم.

لكن يدفعه : منع ذلك بملاحظة ما مرّ مرارا من ظهور « الأحكام » في الفعليّة. ولا ريب أنّ مؤدّى الاجتهاد لا يصير حكما فعليّا إلاّ مع اعتبار الاجتهاد شرعا ، فيكون الصحّة مأخوذة في مسمّى « الفقه » اصطلاحا ، إذ لا يراد بالصحّة هنا إلاّ ما يرجع إلى الاعتبار الشرعي.

واتّضح بهذا البيان عدم انتقاض الطرد على مذهب المصنّف أيضا ، لكن لا يخفى ما في عبارته من القصور ، ولذا عدل بعض الأعلام عن بيانه إلى بيان اخر أبسط منه (١) كما يظفر عليه من يراجع كلامه.

[١٩] قوله : ( فبأنّا نختار أوّلا : أنّ المراد البعض ... الخ )

واعلم أنّ العلم ببعض الأحكام مفهوم كلّي له أفراد أربع :

الأوّل : العلم بالبعض في ضمن الواحد.

الثاني : العلم بالبعض في ضمن الكثير.

الثالث : العلم بالبعض في ضمن الأكثر.

الرابع : العلم بالبعض في ضمن الكلّ.

ويعبّر عن الرابع بالبعض بشرط شيء ، وعن الأوّل والثاني والثالث بالبعض بشرط لا ، وعمّا يشمل الجميع بالبعض لا بشرط.

__________________

(١) قوانين الاصول : ٩.

١٣٤

ولا ريب أنّ القائل بعدم إمكان التجزّي يمنع إمكان حصول العلم بالبعض بشرط لا دون البعض بشرط شيء ، والقائل بإمكانه يجوّز البعض بشرط لا والبعض بشرط شيء معا ، فالعلم بالبعض ـ الّذي هو مفهوم كلّي ـ له أفراد متعدّدة موجودة بأجمعها في الخارج على القول بالإمكان ، وغير موجودة فيه إلاّ واحد منها على القول الاخر ، فهو على مذاقه كلّي منحصر في فرد واحد كواجب الوجود.

ومن البيّن أنّ الجواب باختيار هذا الشقّ لا يستقيم إلاّ إذا اعتبر البعض المراد من « الأحكام » لا بشرط شيء ، لانتقاض الطرد لو اعتبر البعض بشرط لا والبعض بشرط شيء.

أمّا على الأوّل فبخروج العلم بالبعض المنضمّ إلى الكلّ ، وأمّا على الثاني فبخروج علم المتجزّي على القول بجوازه ، على ما يراه المصنّف من كونه من أفراد المحدود ، وعليه يجب أن يراد من « الأحكام » من المعان الخمس المتقدّمة للجمع المحلّى ، جنس المفرد دون غيره لما يتّضح وجهه.

[٢٠] قوله : ( قولكم : لا يطّرد لدخول المقلّد فيه ، قلنا : ممنوع ، أمّا على القول بعدم تجزّي الاجتهاد فظاهر ، إذ لا يتصوّر على هذا التقدير انفكاك العلم ببعض الأحكام كذلك عن الاجتهاد ، فلا يحصل للمقلّد وإن بلغ من العلم ما بلغ ... الخ )

وفيه نظر : لأنّ مرجعه إلى أنّ « الأحكام » بمعنى البعض اللابشرط وإن كان كلّيا بحسب المفهوم ، لكنّه في نظر القائل بامتناع التجزّي من باب كلّي ليس له في الخارج إلاّ فرد واحد ، وهو البعض المنضمّ إلى الكلّ كما عرفت ، فلا يكون الحدّ شاملا لما فرض في السؤال ، لا لأنّ له وجودا ولا يشمله الحدّ بل لأنّه لا وجود له في الخارج فالسالبة بانتفاء الموضوع ، وهذا كما ترى لا يدفع السؤال إلاّ على تقدير أحد الأمرين ، من القول بأنّ هذا الحدّ إنّما هو بالنظر إلى الأفراد وهو خلاف ما اتّفقوا عليه من أنّ الحدود لا بدّ وأن تكون للماهيّات بالماهيّات ، أو القول بأنّ

١٣٥

العبرة في الكلّي إنّما هي بفعليّة الصدق على الكثيرين لا بقابليّة الصدق ، وهو أيضا خلاف ما صرّحوا به ، وإلاّ لزم أن يكون مثل شريك الباري والعنقاء وواجب الوجود كلّيا ، وبعد بطلان هاتين المقدّمتين يبقى السؤال على حاله ، إذ البعض اللابشرط بعنوان إنّه كلّي في نظر العقل يصدق على المفروض في السؤال ، وإن كان لا وجود له فعلا في الخارج ، إذ صدق الكلّي على شيء إنّما هو على فرض وجوده وفرض المحال ليس بمحال.

[٢١] قوله : ( وأمّا على القول بالتجزّي ... الخ )

واعلم : أنّ القائل بجواز التجزّي لو كان قائلا بالملازمة بين الاجتهاد والفقه في الوجود والعدم ليس له إرادة الاستغراق من « الأحكام » حذرا عن انتقاض العكس بخروج ما عدا الفرد الأخير ممّا اندرج تحت العلم بالبعض ، وهو العلم به في ضمن الواحد أو الكثير أو الأكثر ، ولا المعهود الخارجي أو الذهني ، لكون المعنى ـ حينئذ ـ : « جماعة واحدة من الأحكام » فينتقض العكس أيضا ، إذ بقيد « الجماعة » يخرج الأوّل من الأربع وبقيد « الواحدة » يخرج الرابع إلاّ أن يفرض الجميع جماعة واحدة ، ولا جنس الجمع فيخرج الأوّل من الأربع أيضا مع أنّ من شأنه على التقدير المذكور أن يدخل في الحدّ ، فتعيّن له إرادة جنس المفرد ، وما تقدّم من تجويز إرادة كلّ من المعهود الذهني وجنسي الجمع والمفرد إنّما هو بالنظر إلى تحليل السؤال ، لكونه بإطلاقه قابلا للجميع ، وأمّا الجواب المبنيّ على جواز التجزّي في الاجتهاد فليس قابلا له.

[٢٢] قوله : ( فالعلم المذكور داخل في الفقه ... الخ )

بناء على أنّ « الفقه » اسم لما يعمّ الصحيح والفاسد ، أو أنّ المراد بالتجزّي جوازه الشرعي الملازم للاعتبار ، وعلى أيّ تقدير يشكل الحال بأنّ أقصى ما يقتضيه القول بجواز التجزّي في الاجتهاد ، صدق « المجتهد » على المقلّد العالم البالغ رتبة

١٣٦

الاجتهاد في البعض ، وصدق « الاجتهاد » على فعله ، وهو لا يستلزم صدق « الفقيه » عليه ، ولا صدق « الفقه » على علمه والمقصود في المقام تحديد الفقه لا الاجتهاد.

وقد يوجّه عدم الصدق هنا ، بأنّ « الفقه » وغيره من أسماء العلوم ليس كالقران الصادق على الكلّ والأبعاض ، لكونه مشتركا أو وضعا للقدر المشترك بين الكلّ وكلّ بعض ، بل ألفاظ العلوم بأسرها أسام لمعظم مسائلها ، أو القدر المعتدّ به منها الّذي يحصل معه الغرض المطلوب من تدوينها ، للتبادر وصحّة السلب عمّا دون ذلك ، فالنحو مثلا لا يصدق على مسألة ولا على أزيد ما لم يبلغ حدّا يعتدّ به وليس « الفقه » من هذه الجهة إلاّ كنظائره ، فلا يصدق « الفقيه » على من يعلم مسألة أو أزيد إلى أن يبلغ الحدّ المزبور ، وقضيّة ذلك خروج الحدّ غير مطّرد ، ويجري هذا التوجيه على القول بوضع الألفاظ للملكات ، إذا قدّرت الملكة بالإضافة إلى الكلّ أو القدر المعتدّ به في حصول الغرض.

وبالجملة مبنى هذا الكلام على توهّم الملازمة بين الاجتهاد والفقه ، بأن يكون كلّ مجتهد فقيها وكلّ فقيه مجتهدا ، وهذا وإن كان قد ينسب إلى ظاهر المحقّقين لكنّه موضع منع ، بل بين العنوانين عموم مطلق ، والافتراق لجانب الفقه كما في المجتهد المتجزّي.

فاتّضح بما ذكرنا أنّ الاشكال المذكور لا يندفع بشيء من تقادير إرادة البعض من « الأحكام » وبشيء من أقوال التجزّي في الاجتهاد ، فيجب الاقتصار في دفع الإشكال على اختيار الشقّ الاخر من شقّي السؤال ، وهو إرادة الكلّ من « الأحكام » مع حمل الجنس على العلم الملكي.

[٢٣] قوله : ( ثمّ نختار ثانيا : إنّ المراد بها الكلّ ـ إلى قوله ـ قولكم : لا ينعكس لخروج أكثر الفقهاء عنه ، قلنا : ممنوع إذ المراد بالعلم بالجميع التهيّؤ له ... الخ )

هذا اختيار للثاني من شقّي الترديد ، بناء على إرادة التهيّؤ القريب من العلم ، المعبّر عنه بالعلم الملكي.

١٣٧

ومن المعلوم وجود العلم بهذا المعنى لكافّة الفقهاء في قاطبة الأحكام ، والّذي لا يوجد لهم غالبا إنّما هو العلم الفعلي بجميع الأحكام.

والمناقشة في ذلك باستلزامه لعدم ارتباط « عن أدلّتها » بالعلم ، من حيث إنّ الملكة أمر يحصل بسبب الممارسة في الفنّ لا عن الأدلّة التفصيليّة.

يدفعها : أنّ المراد به حينئذ ليس هو الملكة المطلقة حسبما مرّ بيانه (١) بل الملكة المضافة إلى التصديق على نحو يدخل معه الإضافة في المستعمل فيه ويخرج عنه المضاف إليه ، فالظرف يرتبط بالملكة باعتبار ما اضيفت إليه لا باعتبار نفسها.

« فالفقه » حينئذ هو ملكة التصديق بالأحكام ، الّذي يحصل ذلك التصديق عن الأدلّة التفصيليّة وهو ظاهر لا سترة عليه.

وقد يناقش فيه أيضا بما عن شيخنا البهائي (٢) من أنّ التهيّؤ لاستعلام جميع الأحكام كحصول العلم بالجميع فعلا متعذّر أو متعسّر أيضا ، لحصول التوقّف والتحيّر من فحول الفقهاء في كثير من المسائل ولو بعد استفراغ الوسع وبذل الجهد وحصول قوّة قويّة ، بحيث لا يتوقّف في شيء من الأحكام بعد بذل الوسع ممّا لا يتحقّق في العادات.

ولا يخفى ما فيه من الوهن الواضح ، فإنّ الملكة والتهيّؤ للعلم بالجميع إنّما يعتبر من باب المقتضى بالقياس إلى جهة الفعل. ومن البيّن أنّ المقتضى قد لا يستتبع الاقتضاء الفعلي لمصادفة فقد شرط أو وجود مانع ، فوفور التوقّف لفحول العلماء في كثير من المسائل ليس لأجل ضعف المقتضي وقصوره أو عدم وجوده ، بل لأجل مصادفة وجود المانع له ، وهو في موارد التوقّف إمّا فقد الدليل أو إجماله أو معارضة دليل اخر له ، ولا ريب أنّه في القوّة القريبة بحيث لولا وجود هذه الموانع لتيسّر عن العلم الفعلي ، فالملكة حينئذ حاصلة وإن لم يترتّب عليها أثر الفعليّة لوجود أحد الموانع المذكورة.

__________________

(١) تقدّم في التعليقة ٤ ، الصفحة : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) زبدة الاصول : ٦.

١٣٨

مع أنّ لك أن تمنع كونها من باب المقتضي بالمعنى المرادف للسبب الاصولي ، بل الّذي يساعد عليه النظر كما سنشير إليه أيضا كونها بالقياس إلى الإدراك الفعلي من باب الشروط.

هذا ، مع أنّه إنّما يتّجه الاعتراض لو اريد من « الأحكام » خصوص الأحكام الواقعيّة ، وقد عرفت مرارا منعه ، بل المراد منها إمّا الأحكام الفعليّة أو الأحكام الظاهريّة ، المرادفة بأحد الوجوه الاتية في دفع الإشكال الثاني للأحكام الفعليّة.

ومن البيّن أنّ الفقيه له ملكة العلم بجميع الأحكام الفعليّة أو الظاهريّة حتّى بالقياس إلى موارد التوقّف ، من حيث إنّ التوقّف إنّما يحصل بالنسبة إلى الحكم الواقعي ، ومن المقرّر أنّ المرجع حينئذ هو الاصول العمليّة.

وقد عرفت ـ كما تعرف أيضا ـ أنّ مؤدّيات الاصول بعد اليأس عن الدليل أيضا أحكام فعليّة أو ظاهريّة ، فهو بالقياس إلى تلك الموارد متهيّؤ لمراجعة الاصول واستعلام الأحكام الفعليّة المستندة إليها.

وقد يستشكل في المقام أيضا ، بناء على أنّ المراد بالملكة المرادة من العلم هي القوّة الّتي يقتدر بها على استنباط جميع الأحكام الشرعيّة عن الأدلّة التفصيليّة ، بما يرجع محصّله إلى أنّ الملكة بهذا المعنى محتملة لوجوه ثلاث :

أحدها : القوّة الّتي يمكن أن يستنبط بها جميع الأحكام من الأدلّة الموجودة المتداولة.

وثانيها : القوّة الّتي يمكن أن يستفاد بها جميع الأحكام عن الأدلّة على فرض وجودها وورودها في الشريعة على قدر الكفاية.

وثالثها : القوّة الّتي يقتدر معها على استنباط ما يمكن استنباطه من الأحكام عن الأدلّة الموجودة ، واستنباط ما لم ينهض به تلك الأدلّة ممّا يضاهي تلك في وجوه الإشكال وصعوبة الاستدلال ، ولا سبيل إلى شيء من تلك الوجوه.

أمّا الأوّل : فلقضاء العادة بامتناع حصول قوّة يستنبط معها جميع الأحكام عن الأدلّة الموجودة ، ضرورة عدم وفاء تلك الأدلّة بجميع الأحكام ، مع أنّ كثيرا منها لم يرد بيانها في الأخبار المأثورة ، ولم يقم عليه شيء من سائر الأدلّة.

١٣٩

وأمّا الثاني : فلاستلزامه تكثّر اولي الملكات ، لابتناء الكلام على الفرض الّذي له عرض عريض ، فلو فرض أنّه ورد في كلّ حكم من أحكام الشريعة أخبار ظاهرة واضحة الدلالة لأدركه أكثر الأفهام ، حتّى كثير من العوام ، سيّما مع اشتهارها وغاية وضوح أسانيدها ، وهذا هو اللازم مع انتفاء صدق « الفقه » على تلك القوّة و « الفقيه » على صاحبها.

وأمّا الثالث : فمع ما فيه من التعسّف البيّن ، إنّه أيضا ممّا يمتنع بحسب العادة ، لوضوح تجدّد ظهور وجوه الاستدلال وطرق الاستنباط بحسب تلاحق الأفكار.

ألا ترى أنّ الفقيه الواحد يستنبط في أواخر عمره من الأدلّة ما لم يصل إليه فكره في الأوّل ، فالقوّة المتقدر بها على استنباط الكلّ بعد الاجتهاد خارج عن مجاري العادات ، وكأنّ مرجع ذلك إلى نقض عكس الحدّ بما فرضه من الفقيه المختلف أحواله ، نظرا إلى أنّ حصول استنباط ما لم يبلغ إليه فكره أوّلا في أواخر العمر ممّا يكشف عن كون ذلك الحكم ممّا يمكن استنباطه عن تلك الأدلّة من أوّل الأمر ، مع فقد القوّة المذكورة في ذلك الحين ، وإلاّ لم يتأخّر استنباطه إلى أواخر العمر ، فاعتبار الملكة بهذا المعنى ممّا يوجب خروج جميع الفقهاء عن الحدّ.

وأنت خبير بوهن هذه المناقشة أيضا ، فلك أن تختار الاحتمال الأوّل من دون امتناع في حكم العادة ، بعد ملاحظة أنّ « الأحكام » محمولة على الأحكام الفعليّة حسبما قرّرناه وأنّ الأدلّة المأخوذة في الحدّ مراد بها ما يعمّ الأدلّة الخاصّة الناهضة على الوقائع المخصوصة ، والأدلّة العامّة الناهضة على ما لم يلاحظ فيه خصوصيّة الواقعة من العنوان العامّ ، المعبّر عنه « بما لم يعلم حكمه بالخصوص » كالاصول الّتي قرّرها الشارع في حقّ الجاهل بالحكم الواقعي المأيوس عن الوصول إليه ، إذ قد عرفت أنّ مؤدّيات الاصول العمليّة أيضا في مجاريها أحكام فعليّة ، فتلك الاصول تجري مجرى الأدلّة العامّة بسبب ما في مداركها من العموم ، ومع فرض هاتين المقدّمتين فأيّ امتناع في حكم العادة في حصول قوّة يقتدر بها على استنباط جميع الأحكام الفعليّة عن الأدلّة الموجودة ، المفروض كونها أعمّ

١٤٠