تعليقة على معالم الاصول - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٤٤٣

أرادوا بالتعيين ما هو أعمّ من الاستعمال الشائع ، المتحقّق فيما صار حقيقة بالغلبة والاشتهار ، كأكثر المنقولات والحقائق العرفيّة ... الخ ، فإنّ الاستعمال الشائع إذا كان هو الاستعمال المجازي البالغ حدّ الغلبة والكثرة ، فلم يقصد به إلاّ الدلالة على المعنى بواسطة القرينة ، فكيف يصدق عليه أنّه تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه ، بعد الإغماض عن منع انصراف إطلاق « التعيين » إليه.

وثانيها : أنّ اعتبار « الدلالة بنفسه » في التعريف ، يقتضي انتفاء الوضع في اللفظ المشترك ، فإنّه لا يدلّ على شيء من معانيه إلاّ بالقرينة.

واجيب عنه بوجهين :

الأوّل : أنّ قضيّة تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه ، كون اللفظ الموضوع بالنسبة إلى الدلالة من باب المقتضى لها ، وظاهر أنّ المانع ليس جزا من المقتضي ، كما أنّ وجود الشرط ليس جزا منه ، ولذا قد يصادفه وجود المانع كما قد يصادفه فقد الشرط ، والمشترك أيضا لفظ موضوع للدلالة على كلّ واحد من معانيه ، وعدم الدلالة مع فقد القرينة إنّما هو لمصادفة وجود المانع ، وهو الاشتراك الناشئ عن تعدّد الوضع.

ويزيّفه : بعد المنع عن دعوى عدم الدلالة ، أنّه لا يحسم مادّة الإشكال بحذافيره ، فإنّ التعيين الّذي هو فعل اختياري للواضع لا يصحّ عقلا ممّن حصل الاشتراك بوضعه إلاّ مع عدم التفاته إلى الوضع الاخر ، سواء كان هو الواضع الأوّل أو غيره ، فهو حينئذ يعيّن اللفظ ليكون مقتضيا للدلالة على المعنى بنفسه ، وأمّا إذا التفت إلى الوضع الاخر فهو من حين الوضع عالم بمصادفة المانع.

ولا ريب أنّ كونه حينئذ قاصدا بفعله الدلالة على المعنى بنفس اللفظ يخلّ بصحّة ذلك الفعل ، لكونه مع هذا الفرض لغوا وعبثا فينا في حكمته ، وعلى فرض صدور الوضع منه والحال هذه ، فلا بدّ من التزام القول بأنّه إنّما قصد بوضعه الدلالة على المعنى بمعونة الغير ، وهو يناقض مفاد التعريف ، فالإشكال بالقياس إلى هذا الفرض بحاله.

٣٤١

ومن هنا يضعّف ما قد يقال ـ في تقرير الجواب المذكور ـ : من أنّ واضع المشترك إنّما صدر عنه الوضع ليترتّب عليه غاية الدلالة على المعنى بنفسه ، كما هو مفاد « لام الغاية ». ولا ريب أنّ انتفاءها لمانع الاشتراك لا يقضي بانتفاء الوضع ، إذ ربّ فعل لا يترتّب عليه الغاية المطلوبة منه لمانع ، فإنّ الواجب في مثل ذلك تعلّل الفعل بالغاية لا فعليّة ترتّب الغاية عليه.

ووجه الضعف : أنّ الفعل إنّما يعلّل بغايته المطلوبة منه إذا كانت الغاية معلوم الحصول أو مرجوّه.

وأمّا مع العلم بعدم اتّفاق حصولها أصلا فيستحيل في الحكمة تعلّله بها ، وإلاّ كان لغوا منافيا لحكمة الفاعل ، فالوجه المذكور إنّما يجري فيما لو حصل الاشتراك بوضع من لم يلتفت إلى وضع اخر ، وإن كان هو الفاعل للوضع الاخر ، فإنّ رجاء حصول الغاية ممكن حصوله منه ، ويصحّ معه فعل الوضع الموجب للإشتراك عقلا.

وأمّا الملتفت إلى الوضع الاخر ، فهو عالم بعدم ترتّب فائدة الدلالة على المعنى بنفس اللفظ على ما يصدر منه من فعل الوضع ، فيقبح فعله حينئذ لو صدر لأجل تلك الغاية ، وعلى فرض صدوره والحال هذه كشف عن كونه قاصدا لغاية اخرى وهي الدلالة على المعنى بمعونة الغير ، ويلزم منه انتقاض العكس حسبما زعمه المعترض.

والثاني : منع انتفاء الدلالة في المشترك عند تجرّده عن القرينة ، فإنّه بمجرّده يدلّ على جميع معانيه دلالة واحدة ، وإنّما يفتقر إلى ملاحظة القرينة تعيين ما هو المراد منها لا أصل الدلالة ، لأنّ الإجمال والتردّد حاصل في المراد دونها ، بخلاف المجاز فإنّ المفتقر إلى القرينة فيه إنّما هو أصل الدلالة ، وهذا هو التحقيق في الجواب.

وإن كان دعوى الدلالة على الجميع بالمعنى المقصود في تعريف الوضع ليست على ما ينبغي ، والّذي يحصل من الدلالة بالقياس إلى الجميع ليس بمقصود هنا ، وإلاّ بطل الفرق بين الحقيقة والمجاز.

٣٤٢

وينبغي أن نحرّر المقام على وجه ينكشف بعض الامور ويرتفع بعض الاشتباهات.

فنقول : ربّما يلتبس المعنى المراد من « الدلالة » المعتبرة في مفهوم الوضع ، ومن جهته يشتبه حقيقة ما فرّقوه بين الحقائق والمجازات ، من حصول الدلالة على المعنى بنفس اللفظ كما في الاولى ، أو بمعونة القرينة كما في الثانية.

وتحقيق هذا المقام : أنّ حقيقة الدلالة عبارة عن فهم المعنى من اللفظ ، كما هو المصرّح به في كلامهم ، ومعنى كون الفهم من اللفظ على ما هو مقتضى نشويّة كلمة « من » كون اللفظ سببا ومقتضيا لفهم المعنى في الجملة ، وفهم المعنى من اللفظ قد يكون تصوّريّا ، على معنى أنّه بمجرّده يوجب تصوّر المعنى والانتقال إليه انتقالا تصوّريّا ، وهو في الدلالة بهذا المعنى مشروط بأمرين :

أحدهما : وضعه له بالمعنى المتناول للرخصة النوعيّة في المجازات.

وثانيهما : العلم بذلك الوضع الملحوظ بالمعنى الأعمّ ، على معنى كون الناظر في اللفظ كالسامع ونحوه عارفا بمعانيه الحقيقيّة والمجازيّة ، فمعنى دلالته التصوّريّة حينئذ أنّه يوجب حضور معانيه حقيقيّة ومجازيّة في الذهن حضورا تصوّريّا.

وقد يكون تصديقيّا على معنى أنّه يوجب ولو بمعونة الغير التصديق بما هو المراد منها ، فإنّ الذهن بعد ما حصل له تصوّر المعاني بالمعنى الأعمّ ، وإذعانه بأنّ صدوره من لافظه لا ينبغي أن يكون بعنوان اللغويّة ، نظرا منه إلى كونه في مقام الإفادة ، يتوجّه إلى تعيين ما هو المراد منها ، المردّد بين كونه المعنى الحقيقي أو المجازي ، فلا جرم يتوجّه إلى جانب اللفظ ، فقد يوجد معه ما يرجّح إرادة المعنى المجازي من القرائن على وجه يوجب التصديق بإرادته ، وقد لا يوجد معه ما يرجّح المعنى المجازي فيترجّح إرادة المعنى الحقيقي على وجه يستتبع التصديق بإرادته ، وقد يوجد معه ما يتردّد بين المرجّح للمعنى المجازي وعدمه فيبقى متردّدا بين المعنيين ، كما في المجاز المشهور على المشهور ، والدلالة إنّما تحصل

٣٤٣

في الصورتين الاوليين ـ حسبما بيّنّاه ـ وقضيّة ذلك توقّف الدلالة التصديقيّة زيادة على توقّفها على ما كانت الدلالة التصوّريّة متوقّفة عليه من الأمرين المتقدّمين على أمر ثالث ، وهو القرينة المرجّحة للمعنى المجازي في المجاز ، وتجرّد اللفظ عن تلك القرينة في الحقيقة.

ولا ريب أنّ الدلالة المأخوذة في تعريف الوضع ، الفارقة بين الحقائق والمجازات إنّما هي الدلالة التصديقيّة ، لما هو معلوم ضرورة بالوجدان أنّ الدلالة التصوّريّة ـ حسبما بيّنّاه ـ بالقياس إلى المعنى الحقيقي والمجازي إنّما تحصل بنفس اللفظ حيثما احتوى الشرطين المتقدّمين ، ولأنّها الّتي ينطبق عليها حكمة الوضع المصرّح بها في كلامهم ، وهي تفهيم المعاني وما في الضمائر وإفادتها من دون تجشّم القرائن.

ولا ريب أنّ مجرّد إفادة التصوّر ممّا لا يعقل له فائدة ، لتكون هي الحكمة الباعثة على الوضع ، ضرورة أنّ الأحكام والاثار المطلوبة في المحاورات إنّما يترتّب على التصديقات بالمرادات والمقاصد الكامنة في الضمائر ، ولأنّه لو لا ذلك لخرج أصالة الحقيقة ـ الّتي عليها مدار الإفادة والاستفادة وبناء المحاورات والمخاطبات في كافّة اللغات ـ بلا مورد ، لكون موضوعها اللفظ المجرّد عن القرينة المتردّد في نظر السامع العارف بمعنييه الحقيقي والمجازي بين المعنيين ، فإنّ التردّد فرع على التصوّر ، المفروض توقّفه في المعنى المجازي على القرينة ، فكيف يجامعه فرض التجرّد عنها ، وحينئذ فاتّضح الفرق بين المجاز والمشترك في توقّف أصل الدلالة في الأوّل ـ وهو الفهم التصديقي ـ على القرينة ، بحيث لولاها لم تكن الدلالة حاصلة أصلا ، وعدم توقّفها في الثاني عليها ، فإنّه إذا صدر من المتكلّم أوجب الدلالة التصوّريّة على جميع معانيه حقيقيّة ومجازيّة أوّلا ، وإذا توجّه النفس إلى تعيين ما هو المراد ، وراجع جانب اللفظ ووجدته مجرّدا عمّا يرجّح شيئا من المعاني المجازيّة ، يترجّح عنده حقيقي مّا من حقائقه ، على معنى حصول التصديق بإرادته ، فيبقى المراد لعدم تعيينه مردّدا بين الجميع ، فيرجع

٣٤٤

حينئذ إلى ما يعيّن ذلك المراد المدلول عليه بنفس اللفظ ، فمراجعة القرينة المعيّنة في المشترك إنّما هو بعد الفراغ عن الدلالة التصديقيّة على جهة الإجمال.

ولا ريب أنّ هذه الدلالة ليست إلاّ بنفس اللفظ ، وعلى ما قرّرناه من القاعدة يترتّب مطالب شريفة وبه ينكشف تحقيق الحال في مسائل مهمّة :

منها : تحقيق الحال في المسألة المعنونة ، بأنّ عدم القرينة هل هو جزء لما يقتضي حمل اللفظ على معناه الحقيقي ، أو وجودها مانع عن الحمل ، وهذه المسألة وإن كانت ليس لها ثمرة إلاّ ما قد يذكر من جواز إحراز عدم القرينة بالأصل عند الشكّ في وجودها وعدم جوازه ، فعلى تقدير كون وجودها مانعا يجوز إحراز عدمها بالأصل ، لأنّ المانع من شأنه أن يحرز فقده به ، بخلافه ما لو كان عدمها جزا للمقتضي ، فإنّ الشكّ فيه حينئذ يرجع إلى الشكّ في المقتضي.

ومن المعلوم أنّ المقتضي لا يحرز وجوده بالأصل ، فإنّ الحكم بوجود المقتضي بالأصل خلاف الأصل ، المقتضي لعدم الوجود.

ويخدشه : أنّ القيود العدميّة من شأنها أن تحرز بالأصل وإن اخذت جزء للمقتضي ، وإنّما لا يحرز به الأمر الوجودي الّذي يشكّ في وجوده ، والمقام ليس منه ، إذ المقتضي هنا أمر مركّب من أمرين وجوديّين هما الوضع والعلم به ، وأمر عدمي وهو التجرّد عن القرينة ، ووجود الأوّلين متيقّن لا يعقل الشكّ فيه ، فلا حاجة في إحرازه إلى الأصل المقتضي للعدم ، وإنّما الشكّ في الجزء الأخير الّذي يشكّ في وجوده.

ولا ريب أنّ الأصل يقتضي عدم الوجود ، وهذا الأمر العدمي الّذي يحرز عدمه بالأصل ، إذا انضمّ إلى الجزئين الأوّلين انعقد تمام المقتضي ، فلا يتفاوت الحال من هذه الجهة بين الوجهين.

لكن يظهر تحقيقها ممّا مرّ من القاعدة ، فإنّ حمل اللفظ على معناه الحقيقي إن اريد به دلالته التصوّريّة عليه ـ وإن كان خلاف الظاهر من لفظ « الحمل » ـ فلا ريب أنّ القرينة حينئذ لا مدخليّة لها فيه أصلا ، لا وجودا ولا عدما ، كما لا مدخليّة

٣٤٥

لها وجودا وعدما في دلالته التصوّريّة على المعنى المجازي ، وإن اريد به دلالته التصديقيّة عليه ـ كما هو ظاهر لفظ « الحمل » ـ فعدم القرينة بمعنى تجرّد اللفظ عنها جزء للمقتضي.

ومنها : تحقيق الحال في المسألة المعنونة ، بأنّ الدلالة تتبع الإرادة أو الوضع وبعبارة اخرى : أنّ الإرادة هل لها مدخليّة في الدلالة شطرا أو شرطا أو لا مدخليّة لها فيها أصلا ، فإنّ « الدلالة » إن اريد بها الفهم التصوّري فمدخليّة الإرادة فيها غير معقولة ، وإن اريد بها الفهم التصديقي فعدم مدخليّة الإرادة فيها غير معقول ، ضرورة أنّها متعلّقة للتصديق الّذي لا يعقل بدون المتعلّق ، وينهض ذلك نحو محاكمة بين الفريقين ، بل لا يبعد القول بعود النزاع بينهما لفظيّا بدعوى : أنّ أهل القول بمدخليّة الإرادة إنّما يدّعون المدخليّة فيما لا ينبغي لأحد إنكار مدخليّتها فيه وهو الفهم التصديقي ، كما أنّ أهل القول بنفي المدخليّة أيضا يدّعونه فيما لا ينبغي لأحد إنكار عدم مدخليّتها فيه وهو الفهم التصوّري ، المتعلّق بذات المعنى ، بل التأمّل في كلمات الطرفين بعين الدقّة ممّا يعطي الجزم بذلك.

ألا ترى أنّ الفريق الأوّل يفسّرون « الدلالة » بفهم المعنى من اللفظ على أنّه مراد للمتكلّم ، ولا يعقل له معنى محصّل إلاّ التصديق بكونه مرادا ، وفي معناه الحكم بكونه مرادا على معنى ترتيب اثار الإرادة ، بناء على حجّية أصالة الحقيقة تعبّدا إذا لم يستتبع إذعانا بإرادة المعنى الحقيقي.

وعلى التفسير المذكور ينطبق عبارة المحقّق الطوسي ـ المحكيّة في شرح منطق التجريد للعلاّمة ـ القائلة : « بأنّ اللفظ لا يدلّ بذاته على معناه ، بل باعتبار الإرادة والقصد ، واللفظ حين يراد منه معناه المطابقي لا يراد منه معناه التضمّني ، فهو إنّما يدلّ على معنى واحد لا غير ». انتهى.

بناء على أنّ مراده « بذات اللفظ » ما لو اخذ لا بشرط كونه مرادا ومقصودا به المعنى ، فالمراد به باعتبار الإرادة والقصد هو اللفظ من حيث إنّه اريد وقصد منه معناه.

٣٤٦

وقضيّة ذلك كون معنى « دلالته عليه » الدلالة من حيث إنّه مراد ومقصود للافظة وليس له معنى محصّل إلاّ التصديق بإرادته.

وإنّ حجج الفريق الثاني الّتي أقاموها على نفي مدخليّة الإرادة كلّها مطبقة على نفيها عن مجرّد الفهم التصوّري ، فإنّهم احتجّوا تارة : بالألفاظ الصادرة عن النائم والساهي والهازل الدالّة على معانيها مع انتفاء الإرادة رأسا.

واخرى : بالمجازات الدالّة على معانيها المجازيّة ، بواسطة دلالتها على معانيها الحقيقيّة الغير المرادة.

وثالثة : بالكنايات بالقياس إلى الملزومات الغير المرادة ، المستعمل فيها المدلول عليها.

ورابعة : بالألفاظ المنقوشة الدالّة على المعاني مع انتفاء الإرادة.

وخامسة : بالألفاظ الّتي اختلف فيها الاصطلاح ، فإنّ أهل كلّ اصطلاح إنّما يفهمون منها المعنى الّذي اصطلحوا عليه ، وإن كان المستعمل لها أهل اصطلاح اخر.

ألا ترى أنّ المتشرّعة إذا سمعوا لفظ « الصلاة » يتبادر إلى أذهانهم المعنى الشرعي ، ولو كان المستعمل من أهل اللغة وأراد منه المعنى اللغوي.

وسادسة : بالدلالات التضمّنيّة والالتزاميّة اللتين من الدلالات الوضعيّة ، ولا يعقل فيهما اعتبار الإرادة ، لأنّ التضمّن فهم الجزء في ضمن الكلّ ، والالتزام فهم اللازم في ضمن الملزوم.

وهذه الوجوه يزيّفها : أنّ مفادها بالنسبة إلى الدلالة بمعنى التصوّر حقّ ولا منكر له من هذه الجهة ، ويبقى ما دخل فيه الإرادة سليما عمّا ينافيه.

والظاهر أنّ مبنى الاحتجاج بالوجوه المذكورة ، على توهّم كون « الدلالة » في مفهوم الوضع عبارة عن مجرّد الفهم التصوّري الحاصل ابتداء.

وقد تبيّن فساده ، وإلاّ بطل الفرق بين الحقائق والمجازات ، لاستناد هذه الدلالة في الجميع إلى نفس اللفظ.

٣٤٧

ومنها : تحقيق الحال في قضيّة قولهم : « المجاز معاند للحقيقة » بدليل قياس المساواة ، الّذي يقرّر : بأنّ المجاز ملزوم للقرينة المعاندة للحقيقة ، وملزوم معاند الشيء معاند له ، فإنّه يعلم بملاحظة التحقيق المتقدّم.

وتوضيحه : أنّ العناد إمّا أن يراد به ما هو من أحوال اللفظ ، بدعوى : أنّ اللفظ المستعمل حيثما لحقه عنوان المجازيّة يستحيل أن يلحقه مع ذلك عنوان الحقيقيّة ، أو ما هو من أحوال المعنى باعتبار صفة راجعة إلى السامع وهو الدلالة ، بدعوى : أنّ اللفظ المستعمل إذا دلّ باعتبار القرينة على معنى مجازي دلالة تصديقيّة يستحيل مع ذلك أن يدلّ بتلك الدلالة على المعنى الحقيقي ، أو ما هو من أحوال المعنى باعتبار صفة راجعة إلى المتكلّم وهو الإرادة ، بدعوى : أنّ اللفظ المستعمل إذا أراد المتكلّم منه باعتبار القرينة معناه المجازي يستحيل أن يريد معناه الحقيقي أيضا.

ولا ريب في تحقّق العناد بينهما بالمعنى الأوّل ، فإنّ العنوانين قد اخذ فيهما كون اللفظ المستعمل مع القرينة أو مع التجرّد عنها.

ولا ريب أنّ تعاند القيدين يقضي بتعاند المقيّدين ، كما هو شأن كلّ عنوانين ممتازين بقيدين متناقضين أو متضادّين.

وكذلك على المعنى الثاني ، فإنّ قرينة المجاز إذا أوجبت الفهم التصديقي للسامع بإرادة المعنى المجازي ، فلا يمكن أن يحصل له التصديق بإرادة المعنى الحقيقي أيضا ، لعدم انعقاد تمام مقتضيه بانتفاء جزئه الأخير.

وأمّا على المعنى الثالث ، فإن اريد بالاستحالة ما يكون ذاتيّا ، بمعنى أنّ المتكلّم بعد ما أراد المعنى المجازي بواسطة القرينة لا يقدر بالذات على إرادة المعنى الحقيقي فهو واضح البطلان ، إذ الإرادة أمر اختياري والقرينة لا تصلح سالبة لذلك الاختيار في شيء من فروضه ، فالعناد بهذا المعنى غير متحقّق بين المجاز والحقيقة ، وان اريد بها ما يكون عرضيّا بمعنى الاستحالة العرضيّة المستندة إلى القبح الناشئ من منافاة الحكمة ، فالعناد بهذا المعنى متحقّق أيضا

٣٤٨

بينهما ، إذ اللفظ إذا أفاد بواسطة القرينة إرادة المعنى المجازي يبقى قاصرا عن إفادة إرادة المعنى الحقيقي ، فلو أراده والحال هذه يكون لاغيا ، ومعلوم أنّ المتكلّم لمكان حكمته في أمر التكلّم يقبح منه اللغو ، فيمتنع فلا يتحقّق منه إرادة المعنى الحقيقي حال إرادة المعنى المجازي بالقرينة.

فتقرّر بما ذكرنا معاندة المجاز للحقيقة بجميع وجوهها ، وهذا هو وجه الاحتجاج بها في سند القول بمنع استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي ، فما اعترضه المدقّق الشيرواني على الحجّة من أنّ المجاز ملزوم لقرينة مانعة عن إرادة المعنى الحقيقي منفردا لا مطلقا ، حتّى إرادته مجتمعا مع المعنى المجازي ، ليس في محلّه.

كما أنّ ما اعترضه عليها المحقّق السلطان من أنّ القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة في المجاز ، إنّما تمنع عن إرادتها بدلا عن إرادة المعنى المجازي. وأمّا بالنظر إلى إرادة اخرى منضمّة إليها فلا ، ليس في محلّه.

فإنّ هذين الاعتراضين مع ابتنائهما على اعتبار وجود قرينة المجاز مانعا ، لا اعتبار عدمها جزا للمقتضي ، وهو خلاف التحقيق ، يرد عليهما : أنّه إن اريد بكونها مانعة أنّها توجب استحالة إرادة المعنى الحقيقي على أحد الوجهين بالذات ، على معنى زوال القدرة من جهتها عن المتكلّم فهو في البطلان بمكان من الوضوح ـ على ما أشرنا إليه ـ وإن اريد به أنّها توجب الاستحالة العرضيّة فلا يتفاوت الحال من هذه الجهة بين ما لو اريد المعنى الحقيقي منفردا أو بدلا ، وبين ما لو اريد مجتمعا مع المعنى المجازي أو بإرادة مستقلّة منضمّة إلى إرادة المعنى المجازي ، إذ منافاة الحكمة لا ترتفع بفرض اجتماعه مع المعنى المجازي ، أو بفرض تعلّق الإرادة المستقلّة به المنضمّة إلى إرادة المعنى المجازي ، وانتظر لتتمّة الكلام في هذا المقام ، فإنّه سيلحقك في محلّه إن شاء الله.

ومنها : أنّه يندفع بما قرّرناه من الفرق بين الدلالتين ، وأنّ المأخوذ في تعريف الوضع هو الدلالة التصديقيّة لا غير ، التناقض المتوهّم بين قضيّة قول جماعة :

٣٤٩

بأن ليس الغرض من وضع الألفاظ المفردة إفادة معانيها وإلاّ لزم الدور ، وقضيّة التعريف حيث اخذ الدلالة غرضا للتعيين بمقتضى « لام » الغاية ، فإنّ الإفادة ليست إلاّ الدلالة ، فكيف يجتمع نفي كونها غرضا مع إثبات كونها غرضا في تعريف الوضع.

ووجه الاندفاع : بعد البناء على صحّة توهّم الدور فيما قالوه : إنّ المراد « بالإفادة » في موضوع القاعدة المذكورة ما ينطبق على الفهم التصوّري ، و « بالدلالة » في تعريف الوضع هو الفهم التصديقي بالمعنى المتقدّم فلا منافاة ، لتعدّد موضوعي القاعدتين ، مع اختصاص لزوم الدور بالأوّل دون الثاني.

أمّا تقريره في الأوّل ـ على ما زعموه ـ : أنّ تصوّر معنى اللفظ متوقّف على العلم بوضع اللفظ له ، لاستحالة الفهم من الجاهل ، والوضع لكونه نسبة بين اللفظ والمعنى فالعلم به متوقّف على تصوّر اللفظ وتصوّر المعنى ، فينتج أنّ تصوّر المعنى متوقّف على تصوّر المعنى.

وأمّا عدم لزومه في الثاني ، فلأنّ التصديق بكون المعنى مرادا وإن توقّف على العلم بالوضع ، ولكنّ العلم بالوضع لا يتوقّف عليه ، بل على تصوّر اللفظ والمعنى ، وهو لا يتوقّف على التصديق المذكور ، بل التصديق المذكور كالوضع يتوقّف على تصوّرهما فلا دور.

وأمّا أنّ الإفادة في مورد القاعدة المذكورة عبارة عمّا ينطبق على الدلالة التصوّريّة ، فلأنّ الدور المتوهّم هنا هو الدور الّذي توهّم في قولهم : بتوقّف الدلالة ـ بعد تفسيرها بفهم المعنى من اللفظ ـ على العلم بالوضع ، وكلامهم صريح في كون الدور ثمّة مفروضا في الدلالة بمعنى التصوّر.

وإن شئت لاحظ كلام التفتازاني في المطوّل (١) حيث قرّره : بأنّه لو توقّف فهم المعنى من اللفظ على العلم بالوضع لزم الدور ، لأنّ العلم بالوضع موقوف على فهم

__________________

(١) المطوّل : ٢٤٥ ( الطبعة الحجرية ).

٣٥٠

المعنى ، لأنّ الوضع عبارة عن النسبة بين اللفظ والمعنى ، والعلم بالنسبة متوقّف على فهم المنتسبين.

ولا ريب أنّ التعبير بفهم المنتسبين صريح في إرادة التصوّر ، لأنّه الّذي يتوقّف عليه الإذعان للنسبة ، فيكون هو المراد بالإفادة في مورد القاعدة.

وأمّا أنّ « الدلالة » في تعريف الوضع عبارة عن الفهم التصديقي ، فلما أثبتناه وبرهنّا عليه ، وعليه ينطبق ما في كلام الجماعة بعد ما نفواكون إفادة المعاني غرضا من وضع الألفاظ المفردة ، من أنّ الغرض من وضعها إنّما هو تفهيم ما يتركّب من معانيها بواسطة تركيب ألفاظها الدالّة عليها للعالم بالوضع ، فإنّ تفهيم المعاني المركّبة ماله بالاخرة إلى التصديق بكون المعاني المركّبة مرادة ، إذ تفهيم المعنى من فعل المتكلّم ، وهو عبارة عن طلبه من السامع فهم المعنى الّذي قصده وما في ضميره ، ومعلوم ضرورة أنّه لا يطلب منه الفهم التصوّري ، إذ لا يتعلّق بمجرّد تصوّر ما في ضمير المتكلّم غرض وفائدة معتدّ بها ، بل يطلب منه الفهم التصديقي ، لأنّه الّذي يترتّب عليه الأحكام المقصودة ، إخباريّة وإنشائيّة ، ويرادف التفهيم بهذا المعنى ، أو يقرب منه الاستعمال الّذي هو أيضا فعل من المتكلّم ، لأنّه استفعال من العمل ، وعمل اللفظ في المعنى إفادته له ودلالته عليه ، فاستعماله حينئذ عبارة عن طلب المتكلّم من اللفظ إفادة ما في ضميره ، وهو يستلزم طلبه من السامع فهم ما في ضميره الّذي لا ينبغي أن يراد منه إلاّ التصديق بمراداته كما عرفت.

وقضيّة ذلك كون الغرض من وضع الألفاظ المفردة هو الاستعمال ، والمفروض أنّ الغرض من الاستعمال أيضا هو التصديق بالمرادات ، فيكون الغرض من وضع الألفاظ بالاخرة هو التصديق بالمرادات ، الّتي هي المعاني الموضوع لها الألفاظ المفردة ، وإنّما اعتبروا التركّب في المعاني لأنّ الاستعمال المتعقّب لتصديق السامع بالمرادات من عوارض اللفظ ، وهو لا يعرض الألفاظ المفردة إلاّ في التراكيب الكلاميّة خبريّة وإنشائيّة ، فتركّب الألفاظ المفردة بعضها مع بعض من لوازم الاستعمال العارض ، وقضيّة ذلك كون تركّب معانيها بعضها مع

٣٥١

بعض أيضا من لوازمه ، لأنّ تركّب الألفاظ يستلزم تركّب المعاني في النفس ، فيكون الغرض من وضع الألفاظ المفردة تفهيم معانيها المركّبة باستعمالها ، المستلزم لتركّب بعضها مع بعض ، المتعقّب للتصديق بتلك المعاني المركّبة ، أي بكونها مرادة فيرجع الغرض في الحقيقة إلى التصديق بمراديّة المعاني المركّبة ، فليفهم ذلك.

والعجب من بعض الأعلام (١) أنّه تصدّى لدفع التناقض المتوهّم ـ حسبما بيّنّاه ـ فحمل « الدلالة » في تعريف الوضع على كون اللفظ موجبا لتصوّر المعنى ، وحاصله : الحمل على الدلالة التصوّريّة ، والإفادة في مورد القاعدة المذكورة على إرادة التصديق بكون المعنى ما وضع له اللفظ ، فإنّ الأوّل واضح الفساد كما بيّنّاه بما لا مزيد عليه ، والثاني بمراحل عن مقصودهم جدّا ، وبقي الكلام فيما يتعلّق بالقاعدة المذكورة في أمرين :

أحدهما : في صحّة ما توهّموه من الدور وسقمه ، وغير خفي أنّه توهّم محض ، مندفع بما ذكروه من منع الملازمة على تقدير صحّة كون الغرض من وضع الألفاظ المفردة إفادة معانيها ، على معنى كونها موجبة لتصوّر تلك المعاني ، فإنّ تصوّر المعنى من اللفظ بوصف كونه ناشئا من اللفظ وإن كان يتوقّف على العلم بوضع اللفظ ، ولكنّه لا يتوقّف على تصوّره بهذا الوصف بل على تصوّره مطلقا.

ومن المعلوم أنّ تصوّره لا بشرط كونه من اللفظ لا يتوقّف على تصوّره من اللفظ ، ويقرب من ذلك ما قيل من أنّ تصوّر المعنى في الحال يتوقّف على العلم بالوضع السابق على تلك الحال ، وهو يتوقّف على تصوّره السابق لا على تصوّره في الحال.

أمّا ما في محكيّ نهاية السؤال (٢) في شرح منهاج الاصول في دفع الدور أيضا من : « أنّ الغرض من وضع اللفظ قد أثبتنا أنّه تعريف الغير ما في ضمير المتكلّم من

__________________

(١) قوانين الاصول : ١.

(٢) كذا ، والظاهر : نهاية السؤول.

٣٥٢

المعاني المدلول عليها بالألفاظ ، سواء كانت المعاني مفردة أو مركّبة ولا دور هنا ، فإنّا لا نستفيد العلم بتلك المسمّيات من تلك الألفاظ ، بل نستفيد قصد المتكلّم أو غرضه من المعاني المفردة من ذلك اللفظ المفرد » فغافلة عن مرادهم بما توهّموا وعجز عن دفع المحذور من أصله ، فإنّهم على ما عرفت لا ينكرون غرضيّة ما ذكره بل يعترفون به ، ولم يوردوا فيه دورا وإنّما أوردوه فيما ذكرناه ودفعناه كما دفعه المحقّقون.

وثانيهما : في وجه تخصيصهم إشكال الدور بالألفاظ المفردة ، بواسطة تقييد الألفاظ في عنوان القاعدة « بالمفردة » المخرجة للألفاظ المركّبة ، فيمكن القول بأنّه بناء على القول بانتفاء الوضع في الألفاظ المركّبة ، فلا وضع فيها حتّى ينظر في أنّ الغرض منه هل هو إفادة معانيها أو لا ، وأنّه على الأوّل هل يستتبع الدور أو لا ، لكنّه بعيد عن كلماتهم جدّا ، بل الّذي ينبغي أن يقال : إنّه بناء على منع لزوم الدور هنا لو كان الغرض من الوضع إفادة المعاني ، فإنّ معاني المركّبات تحصل في ذهن السامع قهرا بواسطة حصول معاني مفرداتها ، مع نسبها المخصوصة الطارئة لها بواسطة الحركات المخصوصة اللاحقة لألفاظها ، من غير توقّف له على العلم بالوضع الثابت لها.

وإن شئت صدق هذه المقالة لاحظ عبارة الجماعة ، فإنّها مصرّحة بذلك ، قال في المنية ـ بعد ما قرّر سؤال الدور بالنسبة إلى الألفاظ المركّبة ـ : بأنّ هذا بعينه وارد في المركّبات ، فإنّا لا نفهم منها معانيها إلاّ بعد العلم بكونها موضوعة لتلك المعاني ، وذلك يستدعي سبق العلم بتلك المعاني ، فلو استفيد العلم بتلك المعاني من تلك الألفاظ المركّبة لزم الدور.

قلت : لا نسلّم أنّ إفادة الألفاظ المركّبة لمعانيها يتوقّف على العلم بكونها موضوعة لها ، وبيان ذلك : أنّا متى علمنا كون كلّ واحد من تلك الألفاظ المفردة موضوعا لمعناه ، وعلمنا أيضا كون حركات تلك الألفاظ المفردة دالّة على النسب المخصوصة لتلك المعاني ، فإذا توالت الألفاظ المفردة بحركاتها المخصوصة على

٣٥٣

السمع ارتسمت تلك المعاني المفردة مع نسب بعضها إلى بعض في ذهن السامع ، ومتى حصلت المعاني المفردة مع نسب بعضها إلى بعض حصل العلم بالمعاني المركّبة لا محالة ، فظهر أنّ إفادة اللفظ المركّب لمعناه لا يتوقّف على العلم بكونه موضوعا له. انتهى (١).

وهذا البيان وإن كان يدفع الدور المتوهّم هنا ـ إن بنينا على وروده ثمّة ـ لكنّه يعطي بانتفاء الوضع في المركّبات رأسا ، إذ لو صحّ فهم معانيها من دون العلم بالوضع فماله إلى دعوى : أنّ ثبوت الوضع وعدمه فيها على حدّ سواء ، ويلزم من ذلك خروج فعله من الواضع عاريا عن الفائدة ، فيقبح صدوره فيمتنع من الحكيم.

ومنها : دفع الاعتراض المتقدّم بالنسبة إلى الحروف ، فيتّجه المنع إلى عدم دلالتها على معانيها بالمعنى المأخوذ في تعريف الوضع إلاّ بواسطة ضمّ الضمائم وذكر المتعلّقات ، بل دلالتها عليها بهذا المعنى تحصل بأنفسها وإنّما المحتاج إلى الضمّ والذكر غير هذه الدلالة ، وهو مجرّد تصوّراتها الذهنيّة وتحصّلاتها العقليّة المتقدّمة رتبة على الدلالة المذكورة.

والسرّ فيه يعلم بملاحظة ما بيّنّاه في تحقيق معاني الحروف في مباحث الكلّي والجزئي ، فإنّها إذا كانت عبارة عن النسب المخصوصة المحيّثة بحيثيّات مختلفة المعنونة باعتبارات وجهات متعيّنة ، فمن حكمها ألاتدخل في الذهن إلاّ بدخول متعلّقاتها فيه ، فإنّ النسبة من حكمها أن يتوقّف على منتسبيها خارجا وذهنا ، على معنى ألاتتحقّق في الخارج ولا تتعقّل في الذهن إلاّ بتحقّق وتعقّل المنتسبين ، فالضمائم والمتعلّقات لا مدخليّة لها إلاّ في هذه الدلالة.

وأمّا التصديق بما هو المراد من النسب المخصوصة الحاصلة في الذهن بملاحظة الضمائم والمتعلّقات ، للعارف بالموضوع له منها وخلافه ، فإنّما يحصل بعد مراجعة جانب اللفظ ، باقترانه بما يرجّح إرادة المعنى المجازي وتجرّده عنه ، فيصدق على الحرف حينئذ أنّه لفظ عيّن للدلالة على المعنى بنفسه ، بل أنّه لفظ يدلّ

__________________

(١) منية اللبيب في شرح التهذيب : ( مخطوط ).

٣٥٤

على المعنى بنفسه ، ولا ينافيه ما في كلام النحاة من انّه ما لا يدلّ على معنى في نفسه ، لتغاير موردي الإثبات والنفي من حيث القيدين ، بل القضيّتان تتصادقان عليه بهذا الاعتبار ، فإنّ الظرف في الاولى لغو متعلّق « بالدلالة » ولفظة « الباء » سببيّة والضمير عائد إلى « اللفظ » بخلاف ما في الثانية فإنّ لفظة « في » ظرفيّة والظرف مستقرّ والضمير عائد إلى « المعنى » وحاصل معنى التعريف : أنّه غير كائن في نفسه ، أو أنّه كائن في غيره ، وليس ذلك إلاّ من جهة أنّه أمر نسبي متقوّم بمنتسبيه ، وهذا هو الوجه في عدم استقلاله بالمفهوميّة كما عرفت ، إن فسّرنا به عدم كونه كائنا في نفسه كما في كلام النحاة أيضا ، وهو بهذا التفسير أيضا غير مضرّ في صدق القضيّة الاولى المستفادة من تعريف الوضع ، القاضي بصدق التعريف عليه أيضا ، إذ غاية ما فيه من عدم الاستقلال بالمفهوميّة إنّما هو عدم الاستقلال بالمفهوميّة بمعنى الإدراك التصوّري.

وقد عرفت أنه مسلّم وغير مناف لاستقلاله بالمفهوميّة من حيث الإدراك التصديقي ، المتعلّق بكونه مرادا ، المتأخّر في الوجود عن الإدراك التصوّري المتوقّف حصوله على ملاحظة الغير.

وإن شئت تعريفه الجامع بين التعريفين فقل : « إنّه لفظ يدلّ بنفسه على معنى غير كائن في نفسه ، أو كائن في غيره » وهذا واضح لا غائلة فيه.

وأمّا ما قد يقال ـ في دفع الاعتراض أيضا بعد تسليم عدم الدلالة فيه بدون ذكر المتعلّقات ـ : من أنّ عدم دلالة اللفظ على المعنى بنفسه قد يكون لقصور اللفظ عن الدلالة ، ولا يكون إلاّ لانتفاء الوضع كما في المجازات ، وقد يكون لقصور المعنى عن المدلوليّة بنفسه كما في المقام ، فعدم الدلالة لقصور المعنى لا ينافي استقلال اللفظ في الدلالة لو لا قصور المعنى ، فتعريف الوضع بالتعيين للدلالة على المعنى بنفس اللفظ صادق عليه ، فلعلّه لا يجدي نفعا بعد ملاحظة أنّ هذا البيان يؤول إلى ما تقدّم في الجواب الأوّل عن اعتراض المشترك ، من أنّ تعيين اللفظ بالنسبة إلى الدلالة على المعنى بنفسه يعتبر من باب المقتضى ، فلا ينافي صدقه

٣٥٥

انتفاء الدلالة لمصادفة وجود المانع أو فقد الشرط. ومن المعلوم أنّ قابليّة المعنى للمدلوليّة بنفسه واستقلاله بالمفهوميّة شرط لدلالة اللفظ عليه ، فانتفاؤها في الحرف مستند إلى فقد هذا الشرط لا إلى انتفاء المقتضى.

فيضعف بنظير ما تقدّم ثمّة من أنّ العلم بمصادفة فقد الشرط ممّا يخلّ بصحّة الفعل من الحكيم ، فلا بدّ وأن يلتزم إمّا بعدم إقدام الواضع الحكيم على إيجاد الوضع رأسا ، أو بأنّه إنّما أوجده لغاية الدلالة بواسطة الغير ، وأيّا ما كان فهو التزام بخروجه عن قضيّة التعريف كما لا يخفى ، مع أنّ المقصود إصلاح التعريف على وجه يتناوله ، ولا يتأتّى ذلك إلاّ بما قرّرناه.

وأضعف منه ما قيل في الجواب أيضا : من أنّا لا نسلّم أنّ دلالة الحرف على معناه مشروطة بذكر المتعلّق ، وقول النحاة : « الحرف ما دلّ على معنى في غيره » لا يقتضي ذلك ، لجواز أن يكون المراد منه ما ذكره بعض المحقّقين منهم في بيان ذلك ، من أنّ المعنى ما دلّ على معنى ثابت في لفظ غيره ، فإنّ « اللام » في قولنا : « الرجل » مثلا يدلّ بنفسه على التعريف الّذي هو في الرجل ، و « هل » في قولنا : « هل قام زيد » يدلّ بنفسه على الاستفهام الّذي هو في جملة « قام زيد » إلى غير ذلك.

سلّمنا ذلك لكن معنى دلالة اللفظ بنفسه ، أنّ دلالته على المعنى ليست بواسطة قرينة مانعة عن إرادة المعنى الأصلي والحرف ، كذلك فإنّ ثبوت معنى الحرف في لفظ غيره مع أنّه بالبيان المذكور غير مطّرد من أصله غير معقول حتّى في المثالين المذكورين ، لوضوح أنّ التعريف من لواحق معنى اللفظ الاخر ، والّذي يجري في اللفظ هو أحكام تعريف المعنى لا أنّ نفس تلك الأحكام تعريف ، وإطلاق المعرفة على اللفظ اصطلاح لا مدخليّة لوضع الحرف باعتبار أصل اللغة فيه ، والاستفهام الّذي هو مدلول الحرف يتعلّق بمضمون الجملة ، ضرورة أنّه عبارة عن طلب الفهم التصديقي فلا يتعلّق إلاّ « بقيام زيد ».

وبما قرّرناه في وجه افتقار معنى الحرف إلى الغير ، يعلم فساد ما قيل في

٣٥٦

وجهه من أنّ الواضع اشترط ذكر المتعلّق في دلالته على المعنى الإفرادي ، فإنّ معنى الحرف إذا كان هو النسبة المخصوصة فافتقاره إلى ذكر المتعلّق من ضروريّاته وإن لم يشترطه الواضع ، بل يكون اشتراطه على هذا التقدير أمرا سفهيّا ، ضرورة أنّ الاشتراط إنّما يحسن من الحكيم إذا كان المحلّ بنفسه قابلا لفقدانه الشرط.

وقد عرفت أنّ معنى الحرف لا يعقل إلاّ بواسطة متعلّقه ، فذكره ضروري فيقبح معه التصريح بالاشتراط.

ومنها : دفع الاعتراض بالنسبة إلى أسماء الإشارة ونظائرها ، ويعلم وجهه بملاحظة ما قدّمناه في دفع اعتراض المشترك ، فإنّ أصل الدلالة فيها بمعنى التصديق بإرادة جزئي ما من الجزئيّات الموضوع لها يحصل بنفس اللفظ ، والقيود اللفظيّة أو المعنويّة إنّما يتحرّى عنها بعد إحراز الدلالة لتعيين المدلول عليه بتلك الدلالة لا غير.

وقد يجاب عنه بمثل ما تقدّم في المشترك أيضا : من أنّ غاية ما هنالك إنّما هو انتفاء الغاية لمزاحمة تعدّد الموضوع له ، وهو لا يقضي بانتفاء أصل الفعل ، ولا يجب فعليّة ترتّبها عليه ، بل الواجب تعلّله بها وصدوره لأجل حصولها ، وإن اتّفق عدم حصولها فعلا لمانع.

وردّ : بأنّه إنّما يتمّ ذلك حيثما كانت مرجوّ الحصول حال الفعل ، وأمّا مع العلم بعدمه للعلم بمصادفة المانع سيّما إذا كان المانع من قبله فلا.

٣٥٧

ـ تعليقة ـ

عن عبّاد بن سليمان الصيمري وأهل التكسير وأوائل المعتزلة أنّ بين اللفظ والمعنى مناسبة ذاتيّة ، وأطبق أصحابنا وغيرهم من المحقّقين على بطلانه ، فقالوا ليس بين اللفظ ومدلوله مناسبة ذاتيّة تقتضي اختصاص اللفظ بالمعنى في الدلالة.

وتحرير المقام على وجه ينكشف به محلّ الكلام ، أنّه لا إشكال في اختصاص كلّ لفظ بمعناه وتعيّنه له ، كما لا إشكال في دلالته عليه حيثما اطلق والاختصاص مع الدلالة على ما يختصّ به اللفظ من المعنى ، كأنّهما متلازمان بحسب الخارج ومعلولان لعلّة مشتركة بينهما ، وهذا كلّه ممّا اتّفق عليه الفريقان وإنّما اختلفوا في تعيين هذه العلّة المشتركة ، فالعبّاد وأصحابه على أنّها المناسبة الذاتيّة بين اللفظ والمعنى لا غير ، وغيره على أنّها الوضع بمعنى الجعل والتعيين لا غير.

وهذا هو المستفاد من كلماتهم في صريح عنواناتهم للمسألة ، وتعبيراتهم عن القولين فيها.

وأمّا ما يتراءى عن بعض العبارات في حكاية مذهب عبّاد ومن تبعه ، من أنّه يجعل وضع الألفاظ لمعانيها للمناسبات الذاتيّة بينهما ، على معنى أنّه بعد اعترافه بثبوت الوضع يجعله تابعا لها ، فلعلّه لا ينافي ما ذكرناه إن اريد « بالوضع » ما هو صفة اللفظ أعني التعيّن والاختصاص ، فإنّه كما عرفت على القول بالمناسبة الذاتيّة من اثار المناسبة ، كما هو مقتضى كونها علّة فلا اختلاف في نقل هذا المذهب كما توهّم.

٣٥٨

نعم لو اريد به ما هو فعل الواضع كان الاختلاف ثابتا ، غير أنّه يتطرّق حينئذ الاسترابة إلى النقل المذكور ، لوروده على خلاف المعنى المعروف ، مع عدم كونه ممّا يساعد عليه حجّة هذا المذهب الاتية ، من حيث إنّ مفادها بصراحتها كون ثبوت الوضع بمعنى الاختصاص متسالما للفريقين ، وإنّما المقصود بالحجّة إثبات استناده إلى المناسبة دون الوضع بمعنى التعيين والتخصيص.

وبذلك يضعّف ما عن جماعة من تأويلهم هذا القول ـ لظهور فساده بظاهره ـ إلى دعوى كون التناسب الذاتي هو العلّة الباعثة على الوضع ، الّذي هو السبب في دلالة اللفظ على المعنى ، ولا ينافيه وصفها بكونها ذاتيّة ، لمكان توقّفها على الوضع المتوقّف على المناسبة الذاتيّة الّتي هي علّة ، له فيصدق عليها أنّها متوقّفة على المناسبة الذاتيّة إن أرادوا بالوضع فعل الواضع ، وإلاّ فالوجه المذكور ليس تأويلا في هذا القول بل هو أخذ بصريحه عنوانا ودليلا حسبما بيّنّاه ، وكون المنقول في كتب الاصول هو القول بالمناسبة الذاتيّة بين اللفظ والمعنى ، وإن كان بنفسه صالحا للتوجيه المذكور ويتحمّله ، غير أنّ انضمام حجّته إليه يخرجه عن تلك الصلاحيّة ، فتأمّل.

وفي كلام شارح المنهاج ما يوهم كون الدلالة ذاتيّة ، على معنى دلالة الألفاظ على معانيها لذواتها ، وقضيّة ذلك كون اللفظ لذاته هو الجهة المقتضية للدلالة لا المناسبة الذاتيّة وغيرها ، وهو بظاهره واضح البطلان ، محجوج عليه بنفس حجّة هذا القول الّتي مبناها على استحالة الترجّح من غير مرجّح. وهذا البيان على فرض الالتزام به تجويز له كما يظهر بالتأمّل.

ثمّ الظاهر أنّ مرجع القولين إلى دعوى الإيجاب الجزئي والسلب الكلّي ، الّذي يدّعيه الجمهور بالنسبة إلى نفي استناد الدلالة إلى المناسبة الذاتيّة ، فإنّ من الألفاظ جملة كثيرة لا يمكن الاسترابة في استناد دلالاتها إلى الوضع بالمعنى الأعمّ ، من التعيين والتعيّن الناشئ عن غلبة الإطلاق كالأعلام الشخصيّة والمنقولات العرفيّة عامّة وخاصّة من الحقائق الشرعيّة والامور الاصطلاحيّة ،

٣٥٩

فمطرح الخلاف حينئذ الألفاظ الأصليّة الواقعة في العرف على المعاني الأصليّة الواصلتين عن أصل اللغة ، من غير أن يتطرّق إليها تغيّر ولا نقل ولا ارتجال ، كلفظ « الماء » و « الأرض » و « السماء » و « النار » وغير ذلك.

وإن شئت قلت : موضع النزاع هنا الألفاظ الّتي وقع النزاع على تقدير ثبوت الوضع فيها في تعيين واضعها ، فالقول بالمناسبة الذاتيّة في هذه الطائفة من الألفاظ قول بالإيجاب الجزئي.

وإذا تمهّد هذا كلّه فاعلم : أنّ الّذي ينبغي أن يقطع به ما صار إليه الجمهور من عدم استناد الدلالة إلاّ إلى الوضع ، بل وعدم كون ما سواه معقولا ، بناء على أنّ المناسبة مفاعلة من النسبة ، وهو الربط الحاصل بين أمرين ، وكونها ذاتيّة معناه استنادها إلى ذاتي اللفظ والمعنى ، على معنى كونهما لذاتهما مقتضيين لها ، فإنّ ذلك في الحقيقة دعوى غير معقولة كما تعرفه.

لنا : أنّه لو كان بين كلّ لفظ ومدلوله مناسبة ذاتيّة استندت إليها الدلالة لكانت إمّا علّة تامّة للدلالة ، على معنى ، ألايكون لما عداها من الامور العدميّة والوجوديّة ـ حتّى علم السامع بها ـ مدخليّة في الدلالة ، أو سببا معلّقا تأثيره على أمر وجودي كالعلم بها ، أو أمر عدمي كعدم القرينة ونحوه ، والتالي بكلا قسميه باطل.

أمّا الأوّل : فلقضائه بامتناع اختلاف الامم باختلاف اللغات ، وامتناع اختصاص الدلالة في حصولها بشخص دون اخر ، وامتناع تحقّق الجهل لأحد بشيء من ألفاظ شيء من اللغات المختلفة ، ووجوب اهتداء كلّ أحد إلى جميع الاصطلاحات المتبائنة ، لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته التامّة ، وقد علمنا خلاف جميع ذلك ضرورة ، هذا مضافا إلى استلزامه استحالة تحقّق النقل إن اخذ فيه الهجر ، واستحالة حصول الهجر معه إن لم يؤخذ فيه في الألفاظ المتنازع فيها لعين ما ذكر ، وبطلان اللازم أيضا معلوم بالضرورة.

وأمّا الثاني : فلقضائه بانسداد باب الدلالة ، وامتناع فهم المعنى من كلّ أحد

٣٦٠