تعليقة على معالم الاصول - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٤٤٣

ثمّ المستفاد من كلماتهم بل المصرّح به في عباراتهم أنّ هذا المركّب اصطلاح لهم في هذا العلم المخصوص ، المعدود من مبادئ الفقه وشرائط الاجتهاد ، وهل بناء هذا الاصطلاح حيثما يجري اللفظ على لسانهم بالقياس إلى هذا العلم على إطلاق الكلّي على الفرد ، أو على النقل ، وعليه فهل المسمّى المنقول إليه اعتبر بحيث اخذ معه المعنى الإضافي المنقول منه وصفا له ، على معنى اعتبار النقل إليه موصوفا بوصف كونه ما يبتنى عليه الفقه ، أو يحتاج إليه أو يستند إليه أو نحو ذلك ، أو اعتبر معرّى عن هذا الوصف ، وإن كان ملحوظا حين النقل اعتبارا للمناسبة غير إنّه لم يؤخذ جزا للمسمّى ، على معنى إعتبار النقل إليه من حيث إنّه مجموع عدّة مسائل يجمعها أمر واحد أو امور متعدّدة ، أو من حيث إنّه التصديق بهذه المسائل ، أو من حيث إنّه ملكة التصديق بها على الوجوه الثلاث المتقدّمة وجوه.

من أصالة عدم النقل ، ومن أنّ الأصل فيه ـ على فرض ثبوته ـ كونه نقلا من الكلّي إلى الفرد ، ومن أصالة عدم اعتبار ما زاد على ذات العلم في الوضع.

ويندفع الأوّل : بتصريح جماعة من أساطين أهل الاصطلاح من الخاصّة والعامّة بطروّ النقل فيه ، كما يومئ إليه أيضا اتّفاقهم على التعرّض لبيان المعنى العلمي لهذا اللفظ بعد التعرّض لبيان معناه الإضافي ، ولا ينافيه ما في كلام بعضهم من كون نفس الإضافة في هذا اللفظ تعريفا لهذا العلم كما سنشير إليه ، لما وجّهناه في مفتتح الباب وستقف على زيادة بيان في ذلك ، كما أنّه مع الثاني يندفعان بأنّ ملاحظة المعنى الوصفي الإضافي غير معهودة منهم في شيء من موارد إطلاق هذا اللفظ ، بل المتبادر منه حيثما تطلق ذات الموصوف المعرّاة عن الوصف.

فما حكاه بعض الأفاضل (١) من القول بكون معناه التركيبي مأخوذا في معناه الاصطلاحي ، بأن يكون قد خصّص معناه التركيبي ببعض مصاديقه وقد زيد تلك الخصوصيّة في معناه الإضافي بالوضع الطاري عليه من جهة التخصيص أو

__________________

(١) هداية المسترشدين : ١١.

١٦١

التخصّص ، كما قد يقال ذلك في لفظ « ابن عبّاس » وغيره فإنّ تعيين « ابن عبّاس » في « عبد الله » لا ينافي أن يكون كلّ من لفظي « ابن » و « عبّاس » وغيره مستعملا في معناه الحقيقي ، إذا كان التخصيص المذكور حاصلا من جهة غلبة إطلاق ذلك المركّب على خصوص ذلك الفرد ، وقد تعيّن ذلك اللفظ بملاحظة معناه التركيبي لخصوص ذلك الفرد ، ويجري ذلك في لفظ « الرحمن » بعد اختصاصه لله تعالى من جهة الوضع الطاري ، فإنّ معناه الوصفي ملحوظا فيه أيضا وليس اسما لنفس الذات ، فالقول بمثل ذلك في « اصول الفقه » غير بعيد أيضا ، وحينئذ فلا بدّ من ملاحظة معناه التركيبي في معناه العلمي أيضا ، ممّا لا يصغى إليه.

وبما ذكر يظهر ضعف ما ادّعى من كون لفظ « الاصول » حين إضافته إلى « الفقه » علما لهذا العلم على وجه يكون التقييد داخلا والقيد خارجا.

واستظهره بعض الأفاضل (١) من صاحب الوافية ، وجعله ممّا قد يشير إليه ظاهر الإطلاقات ، وعلّله بأنّه لا يبعد كون معنى « الفقه » مقصودا في استعمالات « اصول الفقه » فإنّ ذلك أيضا ممّا يكذّبه التبادر المقطوع به المتقدّم ذكره ، بل ظاهر الإطلاقات يأبى عن ملاحظة معنى « الفقه » حين الإطلاق ، كيف وهو مبنيّ على كون المعنى التركيبي الإضافي مأخوذا مع المسمّى العلمي ، وقد عرفت منعه.

وبالتأمّل في ذلك يظهر فائدة الفرق بين الوجهين الأخيرين ، فإنّ ثاني هذين الوجهين يستدعي كون المنقول هو مجموع هذا اللفظ المركّب المستلزم لعدم إرادة شيء من معنيي الجزئين عند الإطلاق كما هو كذلك حسبما بيّنّاه ، بخلاف أوّلهما فإنّ ذلك لا يستقيم إلاّ مع اختصاص النقل الطاري بالجزء الأوّل من المركّب مقيّدا مع خروج القيد ، المستلزم لبقائه على معناه الأصلي.

وبذلك يظهر الفرق بينهما من وجه اخر باعتبار المعنى ، وهو أنّ المنقول إليه على أوّل الوجهين ما هو من أفراد المبتنى عليه الكلّي ، باعتبار أنّه الذات الّتي يبتنى عليها غيرها.

__________________

(١) المصدر السابق.

١٦٢

وعلى ثانيهما ما هو من أفراد جزء هذا المعنى الكلّي ، وهو الذات المخصوصة المعرّاة عن وصف الابتناء عليه ، الّتي هي نفس المسائل أو التصديق بها أو ملكة التصديق بها كما هو واضح.

ثمّ ينبغي أن يعلم أنّه على أوّل الوجوه المذكورة وكذا على ثانيهما لا يجوز أخذ « الاصول » من هذا المركّب بمعنى الراجح ، ولا بمعنى الاستصحاب كما هو واضح ، ولا بمعنى الدليل لعدم كون هذا العلم عبارة عن ذات الأدلّة ، بل هو باحث عن أحوال الأدلّة وعوارضها الذاتيّة.

ومن البيّن عدم شمول « الاصول » بمعنى الأدلّة لأحوالها والمسائل المتعلّقة بها ، وأمّا القواعد فيمكن أخذه بمعناها ، على تقدير حمل « الفقه » على التصديق أو الملكة كما لا يخفى.

ومن الفضلاء (١) من جوّز ذلك تعليلا بأنّ مسائل هذا العلم قواعد للفقه ، بعد ما قال : بأنّه لم يقف على من يذكره ، لكنّك خبير بأنّ ذلك إنّما يستقيم إذا كان « اصول الفقه » باعتبار معناه العلمي اسما لنفس المسائل وهو خلاف التحقيق ، فمورد الإطلاق حينئذ لا بدّ وأن يؤخذ بمعنى ملكة التصديق بهذه المسائل ، وعليه فلا يمكن أخذ « الاصول » بمعنى القواعد في إطلاقه عليها بأحد الوجهين المذكورين ، من كونه من باب إطلاق الكلّي على الفرد ، أو من باب النقل إلى ما اعتبر معه المعنى التركيبي الإضافي.

فالمتعيّن حينئذ أخذ « الاصول » بمعناه اللغوي وهو المبتنى عليه بالخصوص ، دون غيره من المعاني المتقدّم ذكرها ، لما عرفت في مفتتح الباب.

فإنّ ملكة هذه المسائل أيضا ممّا يبتنى عليه الفقه ، كما إنّ المسائل بأنفسها والتصديق بها أيضا ممّا يبتنى عليه الفقه « فاصول الفقه » بعموم مفهومه حينئذ يشمل جميع مسائل هذا العلم ومبادئه اللغويّة والأحكاميّة وغيرها ، بل يشمل أدلّة الفقه الّتي هي موضوع هذا العلم.

__________________

(١) الفصول : ٦.

١٦٣

وأمّا مباحث الاجتهاد والتقليد فلا تندرج فيه بهذا المعنى ، لعدم ابتناء الفقه ولا الاستنباط على معرفة هذه المسائل كما سنقرّره في محلّه ، بل الّذي يتوقّفان عليه إنّما هو وجود نفس المستنبط واحتوائه للشرائط المقرّرة ، وهو غير معرفة الأحكام المتعلّقة بهما والمسائل الراجعة إليهما ، كما لا يخفى.

فما في كلام بعض الأعلام (١) من أنّ الأولى هنا إرادة اللغويّة ليشمل أدلّة الفقه إجمالا وغيرها من عوارضها ومباحث الاجتهاد والتقليد وغيرها ، تبعا لغير واحد كالعلاّمة وغيره في النهاية (٢) والمنية (٣) وغيرهما في إدراج المباحث المشار إليها في مفهوم « اصول الفقه » ليس على ما ينبغي.

وقد يتكلّف في إدراجها فيه باعتبار إرجاع البحث فيها إلى كونه عن حال الدليل ، نظرا إلى أنّ البحث هناك عن حال المستدلّ ، وهو يرجع أيضا إلى أنّ دلالة تلك الأدلّة على ثبوت الأحكام الشرعيّة إنّما هي بالنسبة إلى من جمع الشرائط المخصوصة ، فهو أيضا بحسب الحقيقة بحث عن حال الأدلّة.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ أقصى ما يقتضيه ذلك ـ لو سلّم ـ اندراج ما ذكر في المباحث المتعلّقة بحال الدليل ويتّجه المنع إلى كون هذا النحو من البحث عن حال الدليل ممّا يبتنى عليه الفقه لما عرفت من عدم ابتنائه على معرفة هذا البحث.

وكيف كان ، فوجه عدم جواز أخذ « الاصول » هنا بأحد المعاني الأربع الاصطلاحيّة على الوجهين المذكورين ، إنّ المعنى العلمي الاصطلاحي الّذي هو « العلم بالقواعد الممهّدة ... الخ » ليس فردا من استصحابات الفقه ولا ظواهر الفقه ولا قواعد الفقه ولا أدلّة الفقه ، ليكون بناء الاصطلاح بالقياس إليه على إطلاق الكلّي على الفرد ، أو النقل من الكلّي إلى الفرد ، وكما لا يصحّ أخذه بأحد هذه المعاني الأربع على هذين الوجهين ، كذلك لا يصحّ على الوجه الأخير المتقدّم

__________________

(١) قوانين الاصول ٥ : ١.

(٢) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ١ ( مخطوط ).

(٣) منية اللبيب في شرح التهذيب ( مخطوط ) : الورقة ...

١٦٤

وهو النقل من المعنى الإضافي اللغوي إلى العلمي المعرّى عن وصف المعنى الإضافي ، لفقد المناسبة المعتبرة في النقل بين العلم بالقواعد وهذه المعاني إلاّ بتكلّفات بعيدة لا ينبغي الالتفات إليها كما يظهر بالتأمّل.

وهذا هو الوجه في أولويّة وتعيّن أخذه بمعنى المبتنى عليه ، حتّى في مقابلة أخذه بمعنى الأدلّة ، وإن كان المستفاد من جماعة من العامّة والخاصّة من الاصوليّين أخذه بمعناها.

ومن الأعلام (١) من علّل الأولوية بأن لا يلزم النقل المرجوح ، قائلا : بأن ليس المراد بالنقل المرجوح نقل لفظ « اصول الفقه » عن معناه الإضافي إلى العلمي إذ هو ممّا لا مناص عنه في المقام ، بل المراد لزوم النقل في مدخول العلم ، وملخّص مراده بالنقل المرجوح إنّما هو النقل الاخر الزائد على القدر المعتبر في المعنى العلمي ، فإنّ المعنى العلمي عبارة عن العلم بالقواعد ، فاعتبر فيه العلم بمعنى الإدراك أو ملكة الإدراك وتعلّقه بالقواعد ، فالعلم المأخوذ فيه تقتضي نقلا وهو النقل الّذي لا مناص عنه هنا ومتعلّقه يقتضي نقلا اخر لأنّا قد عدلنا أوّلا عن أدلّة الفقه إلى العلم بالأدلّة بمعنى الإدراك أو ملكته ، ثمّ عن العلم بالأدلّة إلى العلم بالقواعد لأنّه لولا هذا النقل الثاني لوجب أن يقال في تعريف المعنى العلمي العلم بأدلّة الفقه ، والمفروض أنّهم عرّفوه بالعلم بالقواعد ، فقد عدلنا حينئذ فيما اضيف إليه العلم وهو القواعد عمّا جعلناه متعلّق العلم أوّلا وهو الأدلّة ، وهذا هو النقل الحاصل في مدخول العلم الزائد على النقل الحاصل في نفس العلم.

هذا حاصل ما أفاده بملاحظة مجموع عبارته من البداية إلى النهاية.

ويرد عليه أوّلا : النقض بالمعنى اللغوي ، فإنّ اعتبار النقل من أدلّة الفقه لو استلزم تعدّد النقل للزم ذلك لو اعتبر النقل من المبتنى عليه بعين البيان المذكور.

وثانيا : الحلّ بمنع الملازمة ، فإنّ « اصول الفقه » نقل من المعنى المركّب

__________________

(١) وهو المحقّق القمّي رحمه‌الله في حاشية القوانين ، في ذيل قوله : والأولى هنا إرادة اللغوي ... الخ فراجع قوانين الاصول : ٥.

١٦٥

الإضافي إلى معنى مفرد بسيط نقلا واحدا ، وإن فرض المنقول منه « أدلّة الفقه » فالوجه في الأولويّة هو ما ذكرنا.

وفي كلام غير واحد أنّ إضافة اسم المعنى تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه ، كما عن فخر الدين في المحصول ، قائلا : بإفادتها الاختصاص في المعنى الّذي عيّنت له لفظة المضاف (١) وتبعه على هذه الدعوى بهذا التعبير العلاّمة في النهاية (٢) والسيّد في المنية (٣) وعلّله في المنية : بأنّا إذا قلنا مكتوب زيد لم يكن المكتوب مختصّا بزيد إلاّ في كونه مكتوبا له فقط ، لا في كونه ملموسا ولا منظورا إليه ولا غير ذلك ممّا يظهر مشاركة غيره له فيه ، وفي معناه عبارة العضدي (٤) قائلا : وإضافة اسم المعنى تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه باعتبار ما دلّ عليه لفظ المضاف تقول : « مكتوب زيد » والمراد اختصاصه به لمكتوبيّته له ، بخلاف إضافة اسم العين فإنّها تفيد الاختصاص مطلقا.

ويستفاد القول بذلك من التفتازاني والمحقّق الشريف أيضا ، لكن لا يخفى عليك أنّ تقييد الاسم بالمعنى في عنوان هذه القاعدة شيء وقع في كلام هؤلاء المذكورين وغيرهم ، عدا ما في المحكيّ عن المحصول من ورود ذكر الاسم فيه بقول مطلق المقتضي لجريان القاعدة في اسم العين أيضا.

قال التفتازاني : واعلم أنّه قال الإمام في المحصول : أمّا « اصول الفقه » فاعلم :أنّ إضافة الاسم إلى شيء تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه في المعنى الّذي عيّنت له لفظة المضاف ، يقال : « هذا مكتوب زيد » والمراد ما ذكرنا ، ولمّا لم يكن هذا موجودا في مثل دار زيد وفرسه خصّه الشارح باسم المعنى ، وهو ما يدلّ على معنى زائد على الذات بخلاف اسم المعنى وهو ما يدلّ على نفس الذات ، فإنّه لا دلالة في إضافته إلى الشيء على خصوصيّة الاختصاص. انتهى.

__________________

(١) المحصول في علم اصول الفقه ـ للرازي ـ ١٨٠ : ١.

(٢) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ١ ( مخطوط ).

(٣) منية اللبيب في شرح التهذيب : ـ الورقة ٢ ـ ( مخطوط ).

(٤) شرح العضدي على مختصر الحاجبي : ٥.

١٦٦

والتأمّل في هذه الكلمات يعطي كون المراد بالاختصاص الّذي يفيده الإضافة في اسم المعنى هو جهة الاختصاص ، الّتي عبّر عنها التفتازاني بالخصوصيّة ، وهي الّتي اخذت في مدلول اسم المعنى من الوصف الزائد على الذات القائم بها ، كالمكتوبيّة في المثال المتقدّم ، بخلاف اسم العين حسبما زعموه فإنّ إضافته وإن أفادت الاختصاص إلاّ أنّها يفيد أصل الاختصاص لا جهته بالمعنى المذكور ، لوضوح أنّ إضافة « الدار » إلى « زيد » لا تفيد اختصاص « الدار » بزيد لوصف خاصّ غير متناول غيره كالمسكونيّة والمملوكيّة وغيرها ممّا يضاف إليها من الصفات اللائقة بها ، بل تفيد الاختصاص المطلق المردّد بالنظر إلى صفات المحلّ بين امور ، لا تعرف إرادة الخصوصيّة منها إلاّ باعتبار الخارج.

وغرضهم ببيان هذه القاعدة في هذا المقام إمّا التنبيه على أنّ مجرّد الإضافة في « اصول الفقه » ممّا يكفي في اعتبار حصول النقل فيه بالقياس إلى معناه العلمي ، وهو العلم المخصوص ، ولا حاجة معه إلى التزام طروّ الوضع الجديد له تعيينا الّذي منشؤه تصدّي الواضع بإنشاء الجعل قصدا ، أو تعيّنا الّذي منشؤه غلبة الإطلاق ولو بعنوان الحقيقة.

ويزيّفه : ما تقدّم من عدم ملحوظيّة المعنى الوصفي التركيبي في شيء من موارد إطلاق هذا اللفظ ، والوجه المذكور لا يتمّ إلاّ مع كون هذا المعنى مأخوذا في المسمّى العلمي ومرادا ولو بعنوانه الخاصّ من اللفظ في إطلاقاته ، أو التنبيه على كفاية الإضافة المفيدة للاختصاص في تعريف « اصول الفقه » باعتبار معناه العلمي ، ولا حاجة معه إلى تكلّف تعريفه : « بالعلم بالقواعد الممهّدة » وغيره ممّا ذكروه في المقام ، من تعريفه بعبائر مختلفة ، بدعوى : أنّه كما يمكن تعريفه بعنوان العلم بالقواعد وغيره فكذلك يمكن تعريفه بعنوان « اصول الفقه » بمعنى المبتنى عليه الفقه.

ويزيّفه أوّلا : منع اختصاص وصف الابتناء على هذا العلم بالفقه ، بل والّذي يختصّ به من هذا العلم إنّما هو الغرض من تدوينه حيث لم يدوّن إلاّ لغرض الفقه واستنباط مسائله عن الأدلّة.

١٦٧

ومن البيّن أنّ الغرض من تدوين الشيء خارج عن مفهومه ، فهو ليس بداخل في مدلول « اصول الفقه » بهذا المفهوم ، وهو من حيث هو هذا المفهوم لا اختصاص له بالفقه لعدم انحصار الابتناء على هذا العلم بحسب الواقع فيه ، لجواز ابتناء أشياء اخر عليه أيضا ، كالمطالب الكلاميّة ـ مثلا ـ إذا بنى على استفادتها من الكتاب والسنّة وغيرها من الأدلّة التي وجه الابتناء على هذا العلم إفادته فهمها ومعرفة كيفيّة الإستنباط منها ، وحينئذ فكما أنّ « الفقه » يبتنى على هذا العلم فكذلك يبتنى عليه علم الكلام أيضا على التقدير المذكور.

ويقوى هذا الكلام بعد ملاحظة أنّ العبرة في صدق المفهوم والكلّي المعتبرين في مقام التعريف بقابليّة الصدق على الكثرة ، وقضيّة ذلك عدم صدق التعريف بهذا اللفظ بناء على الأخذ بالاختصاص المستفاد من الإضافة على هذا العلم رأسا ، إذ يصير المعنى حينئذ المبتنى عليه « الفقه » ابتناء مختصّا به ولا يتعدّاه إلى غيره ، وهذا كما ترى ممّا لا مصداق له وعلى تقدير تحقّق مصداق له فهذا العلم ليس منه كما عرفت.

وثانيا : منع اختصاص الجهة المختصّة المستفاد اختصاصها من الإضافة ، وهو وصف الابتناء عليه بهذا العلم ، لمشاركة غيره له في هذا الوصف ولو مع ملاحظة الاختصاص ، كعلم الرجال بل هو أشدّ اختصاصا بعلم « الفقه » من هذا العلم كما يظهر بالتأمّل فيما ذكرناه ومعه لا طرد للتعريف.

ولك أن تقول : بانتفاء الطرد أيضا بالقياس إلى ما ليس من مسائل هذا العلم من مبادئه اللغويّة والأحكاميّة ، ضرورة أنّ ليس الغرض من جمعها وضبطها في هذا العلم إلاّ التوصّل إلى الفقه والاستنباط ، بل لا طرد أيضا بالقياس إلى « أدلّة الفقه » فإنّها أيضا من حيث وصف الدليليّة مختصّة « بالفقه » مع كونها ممّا يبتنى عليه « الفقه » بل اختصاص المسائل الاصوليّة الباحثة عن أحوال الأدلّة ليس بأشدّ من اختصاص نفس الأدلّة به الّتي هي موضوعات هذه المسائل كما لا يخفى.

وما يتكلّف في دفع النقض باعتبار علم الرجال من اعتبار العهد في الإضافة

١٦٨

مضافا إلى اعتبار الاختصاص ليس بشيء في المقام ، لأنّ غاية هذا الاعتبار كون المراد من اللفظ حيثما يؤخذ في مقام التعريف ، المبتنى عليه المعهود المعيّن بالخصوص وهو العلم المخصوص ، وهو كما ترى لا يوجب قصر اللفظ على المعنى المراد ما لم يقترنه قيد أو قرينة إذا كان في حدّ ذاته شاملا له ولغيره.

ومن المقرّر ـ المتقدّم ذكره مرارا ـ أنّ الإيراد لا يندفع بخصوص المراد لتوجّهه إلى ظاهر عبارة التعريف.

وأضعف منه ما قيل في دفع النقض « بالأدلّة » من أنّ قيد « الإجمال » ملحوظ في « الاصول » فيخرج عنها تلك الأدلّة لكونها تفصيليّة ، مستندا فيه بعضهم إلى أنّ التفصيل مأخوذ في حدّ المضاف إليه ، وليس مستند التفصيل إلاّ الأدلّة الإجماليّة ، فإنّ ذلك ممّا لا يفهم معناه إذ « الاصول » عبارة عن الامور الواقعة مبتنى عليها.

وهذا المعنى كما أنّه صادق على مسائل هذا العلم فكذلك صادق على تفاصيل الأدلّة الّتي هي موضوعات هذه المسائل. وكون المأخوذ في حدّ الفقه المضاف إليه العلم التفصيلي الحاصل عن الأدلّة التفصيليّة ممّا لا يرفع هذا الصدق ، كما لا يصلح قرينة على اعتبار الإجمال في مفهوم « الاصول » من حيث شمولاه « للأدلّة » بل هو مفهوم أخذ لا بشرط الإجمال والتفصيل ، فيشمل بهذا الاعتبار كلاّ من الأدلّة الإجماليّة والأدلّة التفصيليّة ، سواء اريد بالإجمال والتفصيل ما تقدّم ذكره في الفرق بين دليل المقلّد وأدلّة المجتهد ، أو ما تقدّم أيضا في الفرق بين ما يفيد العلم الإجمالي والعلم التفصيلي ، إن كان فيما بين الأدلّة الإجماليّة بكلا المعنيين ما يستند إليه « الفقه » المأخوذ فيه العلم التفصيلي ، وإلاّ فيتّجه المنع إلى دعوى أنّه ليس مستند التفصيل إلاّ الأدلّة الإجماليّة ، خصوصا إذا اعتبر الأدلّة الإجماليّة بالمعنى المتقدّم ذكره للمقلّد ، كيف ولو صحّ ذلك لقضى بعدم ارتباط الظرف في « عن أدلّتها » المأخوذ في حدّ « الفقه » بالعلم المأخوذ فيه جنسا ،

١٦٩

ضرورة اقتضائه استناد العلم إلى الأدلّة التفصيليّة دون الإجماليّة ، مع أنّ العلم في وصفي الإجمال والتفصيل يتبع دليله ، فكيف يعقل استناد التفصيل إلى الأدلّة الإجماليّة لو اريد بها ما هو بالمعنى الثاني.

وثالثا : أنّ هذا العلم له اعتبارات ثلاث ، حسبما عرفت :

أحدها : نفس المسائل.

وثانيها : التصديق بها.

وثالثها : ملكة التصديق بها.

والكلّ ممّا يتوقّف عليه « الفقه » كما لا يخفى ، وحينئذ فإن اعتبر المعنى العلمي المأخوذ معرّفا بالنسبة إلى هذا العلم نفس المسائل ـ بناء على كون ألفاظ العلوم لنفس مسائلها ـ انتقض الطرد بالاعتبارين الأخيرين ، لأنّهما أيضا ممّا يبتنى عليه « الفقه » وليس من المعرّف.

وإن اعتبر التصديق بالمسائل انتقض الطرد بالاعتبار الأوّل والثالث ، وإن اعتبر ملكة التصديق بها انتقض بالاعتبار الأوّلين والوجه ما ذكر.

وأمّا ما قد يتعسّف ـ كما عن شيخنا البهائي في حواشي الزبدة (١) ـ من تقدير مضاف قبل « الاصول » ليكون المعرّف هو علم « اصول الفقه ».

ففيه : ما لا يخفى ، إذ المقصود أخذ « اصول الفقه » بمعناه الإضافي تعريفا لمعناه العلمي ، والمضاف المقدّر ليس بداخل في المعنى الإضافي على وجه يكون ملحوظا معه بطريق القيديّة ، مع أنّ اللفظ إذا قصر عن إفادة المضمر فاعتباره بحسب الواقع لا يجدي في دفع الإشكال ، كما أنّه لا يجدي في دفعه ما أفاده بعض الفضلاء (٢) من أنّ هذا الاسم كأسامي سائر العلوم موضوع تارة بإزاء نفس المسائل ، واخرى بإزاء العلم ، على ما يرشد إليه تتبّع موارد استعماله ، فمعناه الإضافي منطبق على معناه العلمي بالاعتبار الأوّل ، ومعه لا حاجة إلى التقدير

__________________

(١) زبدة الاصول : ٦.

(٢) الفصول : ٧.

١٧٠

المذكور ، إذ قد عرفت أنّ كلاّ من الاعتبارات الثلاث ممّا يبتنى عليه « الفقه » فأخذ أحدها أو الاثنين منهما في المسمّى العلمي لا يرفع النقض بالقياس إلى الباقي وإن كان واحدا.

وكيف كان : فالقول بكون « اصول الفقه » باعتبار معناه الإضافي تعريفا له باعتبار معناه العلمي ساقط جدّا.

ويبقى الكلام في أمرين يشكل الحال فيهما ، ولا بأس بالتعرّض لهما وإن خرج عن مقصود المقام ، مراعاة لمناسبة التعرّض للإشارة إليه هنا :

أحدهما : أنّ اسم المعنى في موضوع هذه القاعدة إن اريد به ما لم يكن لمسمّاه حيثيّة سواء اخذ معه بعض صفاته كالصادق والكاذب ، أولم يؤخذ كالعلم والجهل حسبما فسّره السيّد في المنية (١) قبالا لاسم العين الّذي فسّره بما كان لمسمّاه حيثيّة اخذ معه بعض صفاته كالقائم والراكب أولم يؤخذ كالرجل والفرس ، انتقض عكس القاعدة بمثل القائم والراكب من المشتقّات الداخلة تحتها عندهم ، وطردها بالمصادر الّتي لا تفيد الاختصاص بالمعنى الّذى ذكروه كما يشهد به الوجدان.

وصرّح به بعضهم كالمحقّق الشريف ـ على ما حكى عنه (٢) ـ كما تعرفه ، وإن اريد به المعنى المصطلح عليه عند النحاة وهو : « ما دلّ على معنى قائم بغيره » أخذ معه ذكر « الغير » أو لا انتقض الطرد بما ذكر ، ولذا صار المحقّق المتقدّم ذكره (٣) إلى أنّ المراد به ما دلّ على شيء باعتبار معنى وحاصله المشتقّ وما في معناه ، رادّا على من فسّره بالمعنى المذكور بأنّه متناول للمصدر ، ولا يدلّ إضافته على الاختصاص باعتبار المعنى الّذي عنى بالمضاف بل باعتبار معنى اخر ، فإنّ إضافة « الدّق » ـ مثلا ـ إلى « الثوب » لا يفيد الاختصاص باعتبار الدّق بل باعتبار التعلّق وهو خارج عن مدلوله ، بخلاف إضافة « الكاتب » إلى « القاضي » فإنّها تفيد الاختصاص باعتبار الكاتبيّة وهو ممّا دل عليه المضاف.

__________________

(١) منية اللبيب في شرح التهذيب ( مخطوط ) : الورقة ٢.

(٢) الفصول : ٧.

(٣) نفس المصدر.

١٧١

فتقرّر بما ذكر ، أنّ الّذي ينبغي أن يراد باسم المعنى هنا المشتقّ وما في معناه ، كالأصل مثلا ، فإنّه بمعنى الدليل أو المبنيّ عليه أو المستند إليه أو غير ذلك وإن كان خروجا عن الاصطلاح.

وثانيهما : أنّ اختصاص الإضافة إن اريد به اقتضاء الإضافة كون ما اريد من المضاف مختصّا بالمضاف إليه ، ولا يتعدّاه بهذا الاعتبار إلى غيره.

وبعبارة اخرى : اختصاص شخص من أشخاص مدلول المضاف يعيّنه الإضافة فهو حقّ ، لكن يتوجّه إلى ما ذكروه أمران :

الأوّل : أنّه لا يلائم ما تقدّم في كلام جماعة من تفسير ما اختصّ بالمضاف إليه بحكم الإضافة بما عيّنت له لفظة المضاف ، ولا ما تقدّم في عبارة العضدي من التعبير عنه بما دلّ عليه لفظ المضاف ، ضرورة أنّ ما عيّن له لفظ المضاف المدلول عليه بنفس اللفظ ليس خصوص الشخص الّذي عيّنته الإضافة وأفادت اختصاصه بالمضاف ، بل هو الماهيّة الكلّية الصادقة عليه وعلى غيره من أشخاصه الموجودة أو الممكن وجودها أو المفروض كونها موجودة ولو امتنع وجودها.

الثاني : منع اختصاص اقتضاء الاختصاص بهذا المعنى بإضافة اسم المعنى ، بل هو حاصل في كلّ من الإضافتين وعامّ لكلا القبيلتين ، كما يرشد إليه إطلاق ما تقدّم عن المحصول ، فإنّ حصول الاختصاص بهذا المعنى من ضروريّات إضافة العامّ إلى الخاصّ المقتضية للتخصيص ، الّذي هو عبارة عن تقليل الشركاء كما هي شرط صحّة الإضافة على ما تقدّم (١) من امتناعها في المساوي والأخصّ ، وكما أنّ المكتوب وغيره من المشتقّات وأسماء المعاني إذا اعتبر معرّى عن الإضافة كان معناه المأخوذ في وضعه ، الذات المتّصفة بالمكتوبيّة الّتي هي وصف عامّ قابل لإضافات متكثّرة باعتبار تكثّر أفراد ما اضيف هو إليه من زيد وعمرو وبكر ونحوهم ، وإذا اخذ مضافا إلى زيد أفاد قلّة شركائه وأخرجه عن قابليّة

__________________

(١) تقدّم في نفس التعليقة الصفحة : ١٤٦.

١٧٢

الكثرة وخصّه عمّا بين إضافاته المتكثّرة بما هو مختصّ بزيد ، فكذلك الدار وغيرها من أسماء الأعيان الّتي في حكمها المصادر هنا وإن كانت من أسماء المعاني بمصطلح النحاة ، فإنّها إذا اخذت معرّاة عن الإضافة كان معناه الثابت لها باعتبار الوضع الماهيّة الكلّية ، الّتي هي أمر عامّ قابل لإضافات متكثّرة باعتبار تكثّر أشخاص ما يضاف هي إليه من زيد وعمرو وبكر وغيرهم ، فإذا أخذ مضافا إلى زيد أفاد بالقياس إلى هذا الأمر العامّ قلّة شركائه وخصّه عمّا بين إضافاته المتكثّرة بما هو مختصّ بزيد.

وكون جهة الاختصاص في الأوّل هو وصف المكتوبيّة دون الأوصاف الاخر الّذي هو غير حاصل في الثاني غير قادح في دعوى عدم الفرق ، لأنّ كون الجهة في الأوّل هو الوصف المخصوص دون الأوصاف الاخر ليس من مقتضيات الإضافة بل هو من مقتضيات وضع المضاف ، لأنّ المشتقّ وما في معناه قد وضع للذات باعتبار الوصف فعدم تناول الإضافة هنا لسائر الصفات كالملموسيّة والمنظوريّة ونحوها إنّما هو لخروج هذه الصفات عن مدلول المضاف لا من جهة أنّه من اثار اختصاص الإضافة كما يوهمه عبارة المنية المتقدّمة (١) وتبعه في هذا البيان غيره ، وهذا هو الوجه في عدم كون جهة الاختصاص في إضافة اسم العين هو الوصف الزائد على الذات ، فإنّه ليس من جهة أنّ الإضافة هاهنا لا تفيد الاختصاص ، بل لأنّ وضع اسم العين إنّما ثبت للماهيّة معرّاة عن جميع صفاتها ، فكلّ باعتبار ما اخذ في وضعه مفيد للاختصاص ، الحاصل بالنظر إلى الشخص المراد منه في لحاظ الإضافة ، الراجع إفادتها إلى نهوض المضاف [ إليه ] (٢) لمكان أنّه أخصّ قرينة كاشفة عن أنّ المراد منه من حصص ماهيّة معناه الموضوع له ، ما هو في الخصوصيّة بقدر خصوصيّة المضاف إليه.

وإن اريد به اقتضائها كون تمام مدلول المضاف مختصّا بالمضاف إليه

__________________

(١) منية اللبيب في شرح التهذيب ( مخطوط ) : الورقة ٢.

(٢) زيادة تقتضيها السياق.

١٧٣

ولا يتعدّاه بهذا الاعتبار إلى غيره ، وبعبارة اخرى : اختصاص نوع مدلوله ، المستلزم لاختصاصه به بجميع أفراده الّتي كان يشملها بالوضع ، فالاختصاص بهذا المعنى كما أنّه غير حاصل في إضافة اسم العين فكذلك لا يحصل في إضافة اسم المعنى ، ضرورة أنّ « مكتوب زيد » لا يفيد اختصاص المكتوبيّة بجميع إضافاته بزيد ، والّذي يفيده الإضافة المأخوذة في القضيّة إنّما هو شخص الإضافة لا نوعها ، وفرد من أفراد المكتوبيّة لا جميع أفرادها الّتي يشملها بمفهومها العامّ حيثما اخذت معرّاة عن الإضافة.

فخلاصة الكلام : أنّ اختصاص الإضافة لا يمكن أن يراد منه إلاّ أوّل المعنيين ، وعليه فلا يتفاوت الحال بين قسمي الاسم ، ويجري القاعدة في اسم العين جريها في اسم المعنى ، فلا وجه للتفصيل ولا سبيل إلى التخصيص ، وعليه فإطلاق عبارة المحصول هو الّذي لا محيص من الأخذ الالتزام به.

وأظهر منه في الدلالة عليه ، ما عن الحاجبي في شرح كافيته من أنّ وضع الإضافة المعنويّة على أن تفيد أنّ بين المضاف والمضاف إليه خصوصيّة ليست لغيره ، ممّا دلّ عليه لفظ المضاف.

المقام الثاني : واعلم أنّ لهم في رسم « اصول الفقه » باعتبار معناه العلمي عبارات مختلفة أسلمها جمعا ومنعا ما في كلام جماعة من المتأخّرين ، من أنّه « العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ».

« فالعلم » على المختار محمول على الملكة الناشئة عن الممارسة ، فيخرج به علم الله وعلوم الملائكة والأنبياء وغيرهم بالأحكام الاصوليّة.

وعلى القول الاخر لا بدّ وأن يحمل على « الاعتقاد » بالمعنى الأعمّ ليشمل الظنّ أيضا نظرا إلى كون كثير من مسائل هذا العلم ظنّيّة ، وحيث إنّ القواعد عبارة عندهم عن القضايا الكلّية فخرج بها غيرها من القضايا الشخصيّة ، الّتي منها المطالب الرجاليّة اللاحقة بأحوال احاد الرواة ، فإنّها قضايا موضوعاتها الأشخاص ، وتوهّم خروج الجزئيّات ولو تصوّريّة بهذا القيد واضح الفساد ، لعدم

١٧٤

دخول التصوّر في الجنس ، وحيث إنّ « القواعد » جمع معرّف ظاهر في العموم فيسلم العكس من جهته ، على ما نبّهنا عليه من حمل « العلم » على الملكة ، فلا يقدح فيه حينئذ ما يكثر من عدم العلم فعلا ببعض المسائل النادرة ، فإنّ الجهل بالبعض لا ينافي ملكة الكلّ.

وأمّا على القول الاخر قد يشكل الحال إلاّ بصرف عموم « القواعد » إلى العرفي كما صنعه بعض الفضلاء (١).

وخرج « بالممهّدة » غيرها كالقواعد العرفيّة والعقليّة المتداولة في العادات وامور المعاش وغيرها و « بالاستنباط » ما مهّد لا لغرض الاستنباط كأكثر المسائل الكلاميّة وغيرها من العلوم العقليّة و « بالأحكام » ما مهّد لغرض استنباط الموضوعات ـ شرعيّة وعرفيّة ولغويّة ـ كمباحث المشتقّ والحقيقة الشرعيّة وأمارات الحقيقة والمجاز وغيرها من المبادئ اللغويّة المأخوذة في هذا العلم و « بالشرعيّة » العربيّة والمنطق وغيرها ممّا يستنبط منه الأحكام العقليّة ومنه مبادئ هذا العلم أحكاميّة ولغويّة ، و « بالفرعيّة » ما مهّد لغرض استنباط الأحكام الشرعيّة الاصوليّة ، اعتقاديّة وغيرها.

ومن الفضلاء (٢) من زاد على ما ذكر قيد « عن أدلّتها التفصيليّة » لإخراج الأحكام الشرعيّة المستنبطة عن الأدلّة الإجماليّة ، كما في حقّ المقلّد ، فلو ترك القيد لدخل فيه مباحث التقليد المصرّح بخروجها عنه وورودها فيه استطرادا ، ولا بأس به على تقدير صدق الاستنباط في حقّه.

وربّما نقض الطرد بالقواعد الكلّية المقرّرة في الفقه الّتي يستنبط منها فروع كثيرة ، كقولهم : « كلّما أمكن أن يكون حيضا فهو حيض » و « ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده » و « كلّ ما يصحّ إعارته يصحّ إجارته » و « من ملك شيئا ملك الإقرار به » وما أشبه ذلك ممّا لا يعدّ ولا يحصى ، مع خروجها عن المعرّف. ويندفع بالغاية

__________________

(١) الفصول : ٧.

(٢) الفصول : ٧.

١٧٥

المستفادة من لفظة « اللام » واستنباط الفروع عن القواعد المشار إليها إنّما يترتّب عليها من باب الفائدة الّتي هي أعمّ من الغاية ، ضرورة أنّ تقرير هذه القواعد في الكتب الفقهيّة ليس لغرض الاستنباط وإن كان يترتّب عليه الاستنباط من باب الفائدة الغير المقصودة ، بل لغرض بيان نفس الحكم الثابت لموضوعه العامّ ، كما أنّه يندفع بمثل ذلك ما توهّم من انتقاض الطرد أيضا بمثل العربيّة والمنطق.

ولا يشكل الحال بجملة من المطالب النحويّة المعنونة في كثير من كتب هذا العلم ، نظرا إلى أنّه لا غرض لعنوانها فيها إلاّ جهة الاستنباط لظهور « التمهيد » في ابتداء التدوين ، وهذا ليس منه بل نقل لما هو من مدوّنات كتب النحو في كتب هذا العلم لما فيها من مزيد دخل في الاستنباط.

وبذلك يندفع ما قيل في نقض الطرد أيضا ، من أنّ المراد « بالممهّدة » إن كان الممهّدة مطلقا في السابق واللاحق ، لزم أنّه لو مهّد شخص نبذة من المسائل اللغويّة وغيرها لاستنباط الأحكام الشرعيّة لكان داخلا في هذا العلم وهو باطل ، وإن كان المراد الممهّدة سابقا لا غير ، فإن كان المراد ما مهّده كلّ العلماء أو ما مهّده السابقون الّذين كانوا في صدر بناء هذا العلم ، لزم خروج أكثر المسائل الاصوليّة ، وإن كان المراد ما مهّده البعض مطلقا ، لزم أنّه لو مهّد مسألة في زماننا السابق بقليل يكون داخلا وما سيمهّد بعد ذلك بقليل يكون خارجا ، وهو بعيد جدّا.

فإنّ المراد « بالممهّد » جنسه الصادق على ما مهّده الكلّ وما مهّده البعض سابقا وما يمهّد كذلك لا حقا ، ودعوى : انتقاض الطرد بالمسائل اللغويّة وغيرها ، متّضح الدفع : بأنّ المسائل اللغويّة إن اريد بها ما هو من مدوّنات كتب اللغة من النحو والصرف وغيرها فقد عرفت أنّ إيرادها في كتب اصول الفقه ليس بمندرج في التمهيد ، وإنّما هو نقل لما مهّد لغير استنباط الأحكام الشرعيّة.

وإن اريد بها ما لم يتعرّض أحد لذكره في سائر العلوم العربيّة وكان إيراده في كتب هذا العلم ابتداء تدوين له ، كما هو الحال في أكثر مسائل هذا العلم المعبّر عنها بمشتركات الكتاب والسنّة ، فبطلان دخوله في حيّز المنع.

١٧٦

ولو اريد من المسائل اللغويّة ما هو من قبيل المبادئ اللغويّة المقرّرة في كتب هذا العلم ، فتخرج بما يخرج به تلك المبادئ من قيد « الأحكام » إذ قد عرفت أنّها مهّدت لاستنباط موضوعات الأحكام لا نفسها ، ولك أن تقول : إنّها مهّدت لاستنباط المسائل الاصوليّة كما يفصح عنه التعبير عنها بالمبادئ ، فتخرج بقيد « الفرعيّة » ولا ينافي شيئا ممّا ذكر ما لو اتّفق من استنباط بعض الأحكام أيضا من هذه المسائل ، لأنّ ذلك حينئذ من باب الفوائد المترتّبة على الشيء الخارجة عن عنوان الغايات ، فليتدبّر.

ولأجل بعض ما ذكر قد يعدل عن التعريف المذكور ، فيعرّف « بالعلم بأحوال أدلّة الأحكام الشرعيّة الفرعيّة من حيث إنّها أدلّتها » فخرج « بأحوال الأدلّة » أحوال غيرها من النحو وغيره ، و « بالأحكام » أحوال أدلّة غير الأحكام و « بالشرعيّة » أحوال أدلّة غير الأحكام الشرعيّة و « بالفرعيّة » أحوال أدلّة الأحكام الغير الفرعيّة ، وبالحيثيّة أحوال أدلّة الأحكام الشرعيّة اللاحقة لها لغير جهة الدليليّة ، ككون الكتاب منجّما ، أو منزّلا على وجه الإعجاز ، أو كونه على سبعة أحرف أو غير ذلك.

تتمّة في بعض ما يتعلّق بموضوع هذا العلم.

واعلم أنّ شرح موضوع العلم بعنوانه المطلق لعلّنا نتعرّض له عند شرح عبارة المصنّف الاتية ، والغرض الأصلي في هذا المقام بيان موضوع هذا العلم فنقول :

إنّ المعروف بينهم جعله الأدلّة الأربعة الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، وقد يضاف إليها الاجتهاد والتعادل والترجيح فيجعل الموضوع أقساما ثلاث ، نظرا إلى أنّه كما يبحث في هذا العلم عن الأدلّة الأربعة كذلك يبحث عن الاجتهاد وهو القسم الثاني ، وعن التعادل والترجيح وهو القسم الثالث ، وعن بعضهم إدراج الثالث في الأوّل ، نظرا إلى أنّ البحث عن التعادل والتراجيح راجع في الحقيقة إلى البحث عن دلالة الأدلّة وتعيين ما هو الحجّة منها عند التعارض.

١٧٧

وعن بعض المحقّقين (١) أنّه ذهب إلى أنّ موضوعه الأدلّة الأربعة. وأنّ سائر المباحث راجعة إلى بيان أحوالها ، نظرا إلى أنّ البحث عن الأدلّة إمّا من حيث دلالتها في نفسها وهو الأمر الأوّل ، أو من حيث دلالتها باعتبار التعارض وهو الأمر الثالث ، أو من حيث الاستنباط وهو الأمر الثاني.

والأولى ترك تقييد الأدلّة بالأربعة ، لئلاّ يحتاج في إدراج بعض ما ليس منها كالاستصحاب فيها إلى تكلّف القول بأنّه إن اخذ من الأخبار فيدخل في السنّة ، وإلاّ فيدخل في العقل كما في كلام بعض الأعلام (٢).

والحقّ : أنّ جهة البحث عن الدليل ليست منحصرة في الدلالة حتّى أنّ البحث عن جواز تخصيص الكتاب ، أو نسخه بخبر الواحد أو بالإجماع ، وجواز نسخ الإجماع به أو بالكتاب ، وجواز نقل الحديث بالمعنى ونحو ذلك بحث عن حال الدليل ، فلا وجه لإرجاع البحث عن التعادل والتراجيح إلى دلالة الدليل ، كيف والشبهة في مقام التعادل ـ كما أنّ عمدة الشبهة في مقام الترجيح ـ إنّما تحصل من جهة السند من غير تعلّق لها بالدّلالة.

فالوجه حينئذ أن يقال : إنّ البحث في التعادل راجع إلى أنّ الخبرين المتعادلين هل يخيّر بينهما في العمل ، أو يتوقّف فيهما ، أو يطرح كلاهما فيعمل على الأصل في الصورتين ، وهذا كما ترى بحث عن حال الدليل من غير مدخل للدلالة فيه ، كما أنّ البحث في الترجيح راجع إلى أنّ الخبرين الغير المتعادلين يجب تقديم ذي المزيّة المنصوصة منهما على غيره ، وهل يجب تقديم ذي المزيّة الغير المنصوصة على الخالي منها أو لا؟ وهل يجب تقديم ما وافق منهما الأصل على ما خالفه أو لا؟ إلى غير ذلك من المباحث المعنونة في العنوان المذكور ، وهذا أيضا بحث عن حال الدليل من غير جهة الدلالة.

__________________

(١) والمراد منه هو سلطان العلماء في حاشيته على المعالم.

(٢) قوانين الاصول ٩ : ١.

١٧٨

وعلى هذا القياس بحثهم فيما لو أمكن الجمع بين المتعارضين من حيث أولويّة الجمع وعدمها ، فإنّ هذا كلّه بحث عن حال الدليل ، ولا حاجة معه إلى جعل التعادل والترجيح قسما اخر من موضوع الفنّ قبالا للأدلّة.

وأمّا المباحث المتعلّقة بالاجتهاد فقد تقدّم الإشارة (١) إلى أنّها ليست من مسائل الفنّ ، بل هي كمباحث التقليد ترد في الفنّ استطردا ، لعدم مدخل لها في الاستنباط ، ولا كونها ممّا يبتنى عليها الاجتهاد ، وسيأتي زيادة بيان لذلك في باب الاجتهاد ، ومعه لا حاجة إلى النظر في أنّه بنفسه قسم اخر من موضوع الفنّ أو أنّ البحث عنه راجع إلى حال الدليل ، مع ما في الإرجاع إليه باعتبار الاستنباط من التعسّف ما لا يخفى ، لوضوح كون الاستنباط من أحوال المستنبط ، وهو ليس من الدليل في شيء.

ثمّ ، في المقام إشكالات ينبغي الإشارة إليها والتعرّض لدفعها :

أحدها : أنّ أكثر مسائل هذا العلم مفروضة على الوجه الأعمّ ، كمباحث الأمر والنهي ، والمنطوق والمفهوم ، والعامّ والخاصّ ، والمطلق والمقيّد ، وغير ذلك ممّا يلحق أنواع اللفظ بقول مطلق ، شامل لغير ما هو في الكتاب والسنّة بل غير ما هو من الشارع ، فإنّ الأمر وتواليه بقول مطلق ليس بدليل ، بل الدليل خصوص ما ورد منه في الكتاب أو السنّة مع أنّ كلاّ من تلك مأخوذ في المباحث المذكورة على الوجه الأعمّ ، ضرورة أنّ غرض الاصولي من حقيقيّة الأمر مثلا في الوجوب ليس حقيقيّة خصوص ما ورد في الكتاب أو السنّة ، كيف وهو ينافي تصريحاتهم الموجودة في مطاوي كلماتهم ، ولا يلائمه تعبيراتهم عن العنوانات بكونها كذلك في العرف أو اللغة.

وبالجملة ، موضوع الفنّ أخصّ من موضوعات مسائله لأنّ وصف الدليليّة قائم بالأمر الكتابي ونحوه ، والأحكام المأخوذة في المسائل ترد على ما هو أعمّ منه ، كما لا يخفى.

__________________

(١) تقدّم في التعليقة الرقم ٢٩ ، الصفحة ، ١٥٠.

١٧٩

وستعرف ـ كما هو المقرّر عندهم ـ أنّ ما يعرض الشيء لأمر أعمّ ولو جزا له لا يطلب في العلم الّذي موضوعه ذلك الشيء ، بل في العلم الّذي أخذ موضوعه الأمر الأعمّ ، فالأحكام المذكورة المأخوذة على الوجه الأعمّ لا تندرج عندهم في الأعراض الذاتيّة بالقياس إلى الموضوع ، لكون المراد بها على ما ذكروه الاثار المطلوبة للموضوع المختصّة به باعتبار أنّه موضوع ، وهذه الأحكام اثار مطلوبة لما هو أعمّ من الدليل ، غير مختصّة بالدليل.

وما يتوهّم في دفع ذلك من أنّ بحثهم عن هذه الامور في الفنّ يجوز أن يكون بحثا عن مطلقها ولا يلزم إشكال من ذلك ، لأنّ مطلقها جزء من الكتاب والسنّة ، كما أنّ المقيّد منها جزء منهما ، أو لأنّ المطلق جزء من المقيّد والمقيّد جزء من الموضوع ، فيكون المطلق أيضا جزء منه لأنّ جزء الجزء جزء ، ومن المقرّر أنّ موضوع مسائل الفنّ قد يكون بعض أجزاء الموضوع ، واضح المنع.

أمّا أوّلا : فلمنع كون المطلق جزء من المقيّد ، بل هو نفسه وإنّما غايره بالاعتبار ، فإنّ الماهيّة إنّما تصير مطلقة إذا اخذت لا بشرط القيد فتصير مقيّدة إذا اخذت باعتبار تقيّدها بالقيد. ومن البيّن أنّ أخذ القيد وعدمه معها أمران اعتباريّان.

وأمّا ثانيا : فلمنع كون المقيّد جزء من الكتاب والسنّة ، إذا اعتبر الأوّل الكلام المنزّل على وجه الإعجاز ، والثاني قول المعصوم وما يقوم مقامه ، فإنّ المقيّدات حينئذ جزئيّات لهما كما جزم به بعض الفضلاء (١) وإنّما يصحّ كونها أجزاء إذا جعل الأوّل عبارة عن مجموع الألفاظ المأخوذة فيما بين الدفّتين ، والثاني عبارة عن مجموع الأقوال الواردة في الأخبار.

وأمّا ثالثا : فلأنّ المطلق على فرض كونه جزا من المقيّد جزء عقلي ، والّذي قد يؤخذ في مسائل الفنّ من بعض أجزاء الموضوع لا بدّ وأن يكون من الأجزاء الخارجيّة ، كالبحث عن الفاتحة والركوع والسجود مثلا الّتي هي من أجزاء الصلاة

__________________

(١) الفصول : ٩.

١٨٠