تعليقة على معالم الاصول - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٤٤٣

قلت : الفرق واضح بملاحظة ما سبق الإشارة إليه (١) فإنّ المسائل لكونها عبارة عن النسب الخبريّة الّتي يستدلّ عليها في الفنّ أخصّ مطلقا من النسب الخبريّة الشاملة للنسب العرفيّة الّتي لا يستدلّ عليها في الفنون ، فإذا أردنا من « الأحكام » النسب الخبريّة بهذا المعنى كانت مخرجة للنسب الّتي ليست بتلك المثابة ، فلا يكون القيد من جهته مستدركا ولا موجبا لاستدراك قيد اخر كما يظهر بالتأمّل ، ويعلم تفصيله فيما يأتي.

[١١] قوله : ( وخرج بالشرعيّة غيرها ، كالعقليّة المحضة ، واللغويّة ... الخ )

والمراد باللغويّة ما يعمّ النحويّة وغيرها من العلوم العرفيّة ، فإنّها وإن كانت أحكاما بمعنى المسائل غير أنّها ليست شرعيّة ، بناء على أنّ المراد بالشرعيّة ما ينتسب إلى الشارع من جهة الجعل أو الأخذ ، أو ما ينتسب إلى طريقتة المختصّة به على التفصيل المتقدّم (٢) لعدم كون هذه المسائل من مجعولات الشارع ، ولا مأخوذة منه ، ولا من شأنها أن تؤخذ منه ، ولا من الطريقة المختصّة به.

وقضيّة الوجهين الأخيرين بقاء الوضعيّات بأسرها مندرجة في قيد « الشرعيّة » كما أنّها مندرجة في قيد « الأحكام » فإنّها أيضا امور مأخوذة من الشارع لاستفادتها من خطاباته أو من القواعد المتلقّاة منه ، بناء على أنّ الأخذ في مفهوم الحكم الشرعي يعمّ جميع جهات الاستفادة ، من المطابقة والتضمّن والالتزام حتّى ما كان منها من باب الإشارة.

ولا ريب أنّ الأخذ بهذا المعنى موجود في الوضعيّات أيضا ، كما أنّها من الطريقة المختصّة بالشارع ، لأنّها على ما سنفصّله عبارة عن مجموع امور تثبت بجعل الشارع وإمضائه وكشفه عن الواقع ، والوضعيّات غير خالية عن بعض هذه الجهات.

ويمكن أن تكون عبارة عمّا يصدق على كلّ من الجهات المتحقّقة فيما بين

__________________

(١) تقدّم في التعليقة الرقم ٥ ، الصفحة : ٤٧.

(٢) تقدّم في التعليقة الرقم ٦.

١٠١

التكليفيّات وماهيّات العبادات والمعاملات صدق الكلّي على أفراده ، كما يظهر بأدنى تأمّل فيما بيّنّاه سابقا (١) وكذلك على الوجه الأوّل إن قلنا بكون الوضعيّات من مجعولات الشارع.

وأمّا على القول الاخر مع القول بكونها من الأحكام الشرعيّة ، فيشكل اعتبار هذا الوجه ويتعيّن إرادة أحد الوجهين الأخيرين.

وهل تخرج مسائل اصول الفقه بقيد « الشرعيّة » بعد ما كانت مندرجة في قيد « الأحكام » أو لا؟

تحقيقه مبنيّ على اندراجه في الحكم الشرعي بأحد المعنيين المذكورين وعدمه ، والظاهر أنّ ذلك يختلف باختلاف مسائل هذا العلم ، فمثل مباحث الأوامر والنواهي وغيرها من مشتركات الكتاب والسنّة خارجة عنه بكلا المعنيين ، إذ لا مدخل للشرع فيها ، بل هي أحكام لغويّة تؤخذ من العرف واللغة ، وكذلك من المسائل ما يعدّ من المبادئ اللغويّة كمباحث الحقيقة والمجاز والاشتراك والمشتقّ وتعارض الأحوال ونحوها ، كما أنّ مباحث الحجّية بأسرها كججيّة الكتاب وخبر الواحد والإجماع المنقول وغيرها داخلة فيه ، فلا تخرج بقيد « الشرعية » سواء اريد بالحجّية وجوب العمل بها أو كونها وسطا ، على معنى كونها طريقا إلى معرفة الحكم الشرعي ، فإنّ بيان كلّ ذلك من وظيفة الشارع ، كما أنّ الكلّ من جملة طريقته المختصّة به.

وليس من هذا الباب ما يضاف من الحجّية إلى العامّ المخصّص ، ومفهوم الشرط وغيره ممّا يندرج في المشتركات ، بناء على أنّ المراد بالحجّية هنا وجود مناط الحجّية وهو الظهور والدلالة.

ومع التنزّل عن ذلك فيراد بالحجّية هنا ما من شأنه أن يؤخذ من العرف ، وهو وجوب الالتزام بظواهر الألفاظ في المحاورات ، ومثل مباحث الحجّية المباحث المتعلّقة بالاصول الأربع المعروفة كأصل البراءة ونحوها.

__________________

(١) تقدّم في التعليقة الرقم ٦ ، الصفحة : ٥٠.

١٠٢

وأمّا ما كان من المسائل المدوّنة في علم اصول الفقه من قبيل المبادئ الأحكاميّة ، فمنه ما هو خارج منه كبحث أمر الامر مع العلم بانتفاء شرطه ، وبحث الإجزاء ، واجتماع الأمر والنهي ووجوب المقدّمة ونحوه ممّا هو مأخوذ من العقل الصرف ، ومنه ما يترجّح دخوله فيه كمباحث الواجب التخييري ، والواجب الكفائي ، والواجب الموسّع ونحوه ممّا يبحث فيه عن تعيين موضوع الحكم الشرعي ، بناء على أنّه عند الاشتباه من شأنه الأخذ من الشارع ، ومنه ما يترجّح خروجه كمبحث تبعيّة القضاء للأداء.

ونظير هذا الكلام يجري في مباحث الاجتهاد والتقليد ، فإنّ الحكم في جملة منها شرعي جزما ، وفي جملة اخرى عقلي ، ويظهر الحال في مباحث التعادل والترجيح بملاحظة ما ذكر ، فكلّ ما لم يخرج ممّا ذكر بقيد « الشرعيّة » لا بدّ من إخراجه بقيد اخر.

[١٢] قوله : ( وخرج بالفرعيّة الاصوليّة ... الخ )

المراد بالاصوليّة على ما في كلام غير واحد ، ما يعمّ الاعتقاديّة والعمليّة.

وقد يعرّف « الاصوليّة » بهذا المعنى بما لا يتعلّق بالعمل بلا واسطة ، قبالا لتعريف « الفرعيّة » بما يتعلّق بالعمل بلا واسطة ، والظاهر بناء على ما يساعد عليه الذوق السليم أنّ قيد « التعلّق » لإخراج الاصوليّة العمليّة إذ لا تعلّق لها بالعمل أصلا ، والقيد الاخر لإخراج الاصوليّة الاعتقاديّة كوجوب الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الاخر وغيره من المعارف ، فإنّ له تعلّق بالعمل كالصلاة وغيرها من الفروع تعلّقا بعيدا بواسطة كون الإيمان شرطا لصحّته ، نظير ما يعرض الشيء بواسطة غريبة كحركة السفينة بالقياس إلى جالس السفينة ، فلك أن تقول : بأنّ قولنا : « يجب الإيمان بالله » ـ مثلا ـ يؤول بملاحظة أنّ الإيمان شرط في صحّة الصلاة إلى أن يقال : « يجب الصلاة متلبّسة بالإيمان » فقد تعلّق الحكم الاصولي بالعمل بعد ما تعلّق بالاعتقاد ، على معنى أنّه عرض العمل بواسطة عروضه الاعتقاد بنفس ذلك العروض ، على وجه كان العروض واحدا والمعروض متعدّدا بالاعتبار ، على ما هو الضابط فيما يعرض الشيء بواسطة غريبة لضرب من المجاز.

١٠٣

ولكن قد يعكس الأمر ، ويقال : بناء على تعريف « الفرعيّة » بما ذكر ، باستناد خروج الاصوليّة الاعتقاديّة إلى قيد « التعلّق » لعدم تعلّق لها بالعمل أصلا ، وخروج الاصوليّة العمليّة بالقيد الأخير ، فيرجع الكلام في الفرق بين الأحكام الفرعيّة والاصوليّة الاعتقاديّة والاصوليّة العمليّة إلى أن يقال : أنّ الاصوليّة الاعتقاديّة لا تعلّق لها بالعمل أصلا ، والفرعيّة تتعلّق به بلا واسطة ، والاصوليّة العمليّة تتعلّق به مع الواسطة.

والظاهر أنّ المراد بالواسطة المعبّر انتفاؤها في الحكم الفرعي ووجودها في الأصلي العملي إنّما هي الواسطة في العروض ، فالأصلي العملي على هذا البيان وإن كان يعرض عمل المكلّف ولكنّه بواسطة في العروض ، فحينئذ لا بدّ في مفهوم الحكم الفرعي من اعتبار انتفاء الواسطة في العروض ليخرج به الأصلي العملي.

وينبغي النظر أوّلا ، في صحّة دعوى عروض الأصلي العملي بالعمل مع الواسطة وسقمها ، ثمّ النظر ـ على تقدير صحّة هذه الدعوى ـ إلى أنّه هل يحتاج إلى اعتبار قيد « عدم الواسطة » في الفرعيّة ، بحيث لولاه لأدّى إلى خروج الحدّ غير مطّرد أو لا يحتاج إليه ، ليكون القيد المأخوذ فيه لمجرّد التوضيح لا الاحتراز.

فنقول : أنّ الاصوليّة العمليّة لكونها في كلام القائل باعتبار القيد غير معلوم المراد تحتمل وجهين :

أحدهما : ما يجري في لسان القوم قبالا للاصول الاجتهاديّة ، الّتي هي عبارة عن القواعد المعمولة في مقام الاجتهاد الّذي يقصد منه العلم بانكشاف الواقع ولو ظنّا والعمل بعده ، كالاصول اللفظيّة وغيرها من مسائل اصول الفقه وغيرها من مبادئها لغويّة وأحكاميّة.

فيراد بالعمليّة الاصول الأربع المعمولة في مقام الفقاهة ، الّتي يقصد منها مجرّد العمل ، على معنى أنّ الاصوليّة بهذا المعنى ما يتعلّق الحكم فيها بعمل المكلّف بواسطة في العروض ، كأصل البراءة مثلا حيث إنّه أصل مقرّر لعنوان ما لم يعلم حكمه بالخصوص ، وحكمه نفي الوجوب أو الحرمة ، ويتعدّى هذا الحكم عن هذا

١٠٤

العنوان الكلّي إلى أنواعه المندرجة تحته الّتي منها قراءة الدعاء عند رؤية الهلال فينتظم قياس هكذا : قراءة الدعاء ما لم يعلم حكمه بالخصوص ، وكلّما هو كذلك فهو ليس بواجب ، فقراءة الدعاء ليست بواجبة ، وهكذا يقال في أصل الإباحة عند نفي الحرمة.

وثانيهما : القواعد الّتي يستعلم منها أحوال العمل ، سواء كانت من الاصول العمليّة بالمعنى الأوّل أو غيرها ممّا يذكر في اصول الفقه من مسائل أصل الفنّ أو مبادئها لغويّة أو أحكاميّة ، بدعوى : أنّ منها ما يتعلّق حكمه بالعمل مع الواسطة سواء كانت من المسائل أو المبادئ مثلا قولنا : « صيغة إفعل حقيقة في الوجوب » مسألة اصوليّة مع تعلّق حكمها بالعمل بواسطة ، وكذلك مقدّمة الواجب واجبة ، فإنّها إمّا مسألة اصوليّة على ما سبق إلى بعض الأوهام ، أو من مبادئها الأحكاميّة ـ على التحقيق ـ مع تعلّق حكمها بالعمل كذلك ، وضابطه الكلّي أن يكون لتلك المسألة ونظائرها موضوع لو قسته إلى موضوعات المسائل الفرعيّة كان بمنزلة الجنس بالقياس إلى الأنواع المندرجة تحته ، فإنّ قولنا : « صيغة إفعل حقيقة في الوجوب » في قوّة قولنا : « ما تعلّق به صيغة إفعل مجرّدة عن القرينة فهو واجب » وموضوع هذه القضيّة كما ترى عنوان كلّي نسبته إلى الصلاة الّتي هي من موضوع المسألة الفرعيّة كنسبة الجنس إلى النوع ، ولذا يتعدّى حكم الوجوب المتعلّق به إلى الصلاة ، فيقال ـ بملاحظة قوله : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) ـ : إنّ الصلاة ما تعلّق بها صيغة « إفعل » مجرّدة عن القرائن ، وكلّما هو كذلك فهو واجب ، وكذلك الكلام في عنوان « المقدّمة » المأخوذة في المسألة الاصوليّة ، فإنّها بالقياس إلى طيّ المسافة وغيره جنس ، فيتعدّى حكم الوجوب عنها إليه بواسطة ما ينتظم بتلك الصورة ، طيّ مسافة الحجّ مقدّمة الواجب ، وكلّما هو كذلك فهو واجب ، وهكذا يقال في أكثر المسائل.

فإن كان المراد بالاصول العمليّة المخرجة بالقيد المأخوذ في الفرعيّة أوّل المعنيين ، فيرد عليه :

١٠٥

أنّ الاصول العمليّة بهذا المعنى بحكم الحصر العقلي منحصر في الأربع المشار إليها ، الاستصحاب وأصل البراءة بالمعنى المتناول لأصل الإباحة وأصل الاحتياط الّذي يعبّر عنه في بعض أقسامه بأصل الاشتغال وأصل التخيير ، وأنت إذا تأمّلت بدقيق النظر لوجدت الحكم في بعض هذه الاصول غير شرعي فيخرج بقيد « الشرعيّة » وهو في البعض الاخر وإن كان شرعيّا لكن ليس ممّا يتعلّق بالعمل ، بل هو نظير الاصول الاعتقاديّة فيخرج بقيد « التعلّق » كما أنّه في البعض الثالث وإن كان شرعيّا متعلّقا بالعمل لكنّه لا حاجة في إخراجه إلى اعتبار قيد اخر سوى ظهور التعلّق بنفسه في الحقيقي الملازم لانتفاء الواسطة ، فإنّ أصل الاشتغال الّذي يجري عند اليقين بالتكليف مع الشكّ في المكلّف به ووجود القدر المتيقّن ، ممّا يحصل به الامتثال المعلوم بعدم دوران الأمر بين المحذورين كما في موارد التخيير ، يتضمّن في مورد جريانه كالصلاة مثلا عند الشكّ في مدخليّة شيء فيها جزا أو شرطا مع ثبوت التكليف بها مقدّمات عديدة ، يكشف عنها قولنا : الصلاة ما اشتغلت الذمّة بها يقينا ، وقولنا : اليقين بالاشتغال ممّا يستدعي اليقين بالبراءة والامتثال ، وقولنا : اليقين بالبراءة عنها يتوقّف على الصلاة مع ما شكّ في مدخليّته.

ونتيجة هذه المقدّمات كما ترى أنّ الصلاة مع الشيء المشكوك فيه واجبة ، وحيث إنّ الاستدلال بذلك يرجع إلى التمسّك بقاعدة المقدّميّة ، فالمقدّمات المذكورة في إنتاج ما ذكر من النتيجة ينحلّ إلى قياسين ، يحرز بأحدهما وجوب ذي المقدّمة وهو اليقين بالبراءة ، وبالاخر وجوب المقدّمة الّذي هو المطلوب بالنتيجة.

فيقال في نظم أوّلهما : الصلاة ما اشتغلت الذمّة بها يقينا ، وكلّما هو كذلك يجب البراءة عنها يقينا ، أي يجب اليقين بالبراءة عنها ، فالصلاة ما يجب اليقين بالبراءة عنها ، وفي نظم ثانيهما : إنّ الصلاة مع المشكوك في مدخليّته ما يتوقّف عليه اليقين بالبراءة ، وكلّما هو كذلك فهو واجب ، فالصلاة مع ما ذكر واجبة.

١٠٦

فإن اريد بالحكم المأخوذ في هذا الأصل المدّعى تعلّقه بالعمل بواسطة ، الحكم المأخوذ في كبرى القياس الأوّل فهو ليس حكما شرعيّا ، بل هو حكم عقليّ صرف ، حيث إن المستفاد من الخطاب بالصلاة إنّما هو وجوب البراءة الواقعيّة ، ولمّا كان الواقع لا طريق إليه إلاّ العلم ، فالعقل يلزم المكلّف على تحصيل العلم بالبراءة الواقعيّة ، تحذيرا له عن الوقوع في مخالفة الواقع الموجبة لاستحقاق العقوبة ، فوجوبه ليس مستفادا من الشرع ولا أنّ بيانه من شأن الشارع ، حتّى أنّه لو فرض صدور خطاب أصلي به كان مؤكّدا لحكم العقل.

ولو سلّم أنّه مأخوذ به بلسان العقل فيكون حكما شرعيّا بأحد المعان الثلاث المتقدّمة (١) لا نسلّم استناد خروجه إلى اعتبار انتفاء الواسطة ، بل هو مستند إلى اعتبار التعلّق بالعمل كسائر الاصول الاعتقاديّة ، لكونه متعلّقا باعتقاد المكلّف.

وإن اريد به ما هو مأخوذ في كبرى القياس الثاني ، فالكلام فيه يتّضح عند دفع الشبهة في الحكم الاصولي المأخوذ في مسألة قولنا : مقدّمة الواجب واجبة ، الداخلة في عنوان المعنى الثاني حسبما بيّناه (٢) لأنّ قولنا : « ما يتوقّف عليه اليقين بالبراءة واجب » من جزئيّات تلك المسألة كما لا يخفى.

ومعنى حجّية الاستصحاب الّذي حقيقة معناه إبقاء ما كان ، وجوب إبقاء ما كان ، على معنى الحكم ببقائه ، والحكم عبارة هنا عن الإذعان ، وحيث إنّ الإذعان بالبقاء مع فرض الشكّ فيه ممّا لا يتعقّل ، فلا جرم يكون المراد منه الإذعان بأنّ ما كان هو الّذي يتديّن به في تلك الحال كما كان كذلك في الحال السابق ، فيترتّب عليه حينئذ جميع اثاره ولوازمه الشرعيّة ، فإن كان وجوبا أو حرمة فاثارهما ، وإن كان إباحة فاثارها ، وإن كان طهارة أو نجاسة فاثارهما أيضا ، فيرجع الوجوب المذكور إلى كونه متعلّقا بما هو من مقولة الاعتقاد.

وأصل البراءة وإن كان حكما مستفادا من الشرع متعلّقا بالعمل مع الواسطة ،

__________________

(١) تقدّم في التعليقة الرقم ٦ ، الصفحة : ٤٩.

(٢) تقدّم في نفس التعليقة ، الصفحة : ٩١.

١٠٧

لكن يكفي في إخراجه ظهور التعلّق في الحقيقي ، وكذلك أصل الاحتياط في محلّ مفارقته أصل الاشتغال على القول بوجوبه ، وكذلك أصالة التخيير عند دوران الأمر بين المحذورين ، فإنّ الكلّ من واد واحد فخروجها أيضا يستند إلى ظهور « التعلّق » في كونه بلا واسطة.

وإن كان المراد بها ثاني المعنيين الّذي مرجعه إلى المسائل المدوّنة في اصول الفقه ، فيرد عليه : أنّها على ما سبق بيانه على أقسام :

فما كان منها من قبيل الاصول الأربع المتقدّمة فقد اتّضح حالها.

وما كان منها من قبيل المشتركات فقد عرفت سابقا أنّها غير داخلة في الشرعيّة حتّى يحتاج في إخراجها إلى قيد اخر ، حتّى أنّ بحث صيغة « إفعل » أيضا غير داخلة فيها وإن أوّلناها إلى ما تقدّم من العبارة الموهمة لتعلّق حكمها بفعل المكلّف بواسطة ، فإنّ الحكم المأخوذ في تلك المسألة وجوب عرفي ينبغي أن يؤخذ من العرف لا من الشارع ، ولذا يستند في الملازمة المدّعاة فيها إلى القواعد العرفيّة ، وأيضا فإنّ الوجوب المأخوذ فيها ملحوظ على الوجه الأعمّ من غير نظر إلى كونه من الشارع أو غيره.

ولا ريب أنّ الوجوب وغيره من الأحكام إذا لوحظ على هذا الوجه لا يؤخذ من الشارع ولا من شأنه أن يؤخذ منه ، وأيضا إنّما يلاحظ في تلك المسألة مفهوم الوجوب وغيره من غير نظر إلى مصاديقه. والّذي يؤخذ من الشارع بعض مصاديق هذا المفهوم.

وما كان منها من قبيل المبادئ اللغويّة فأوضح خروجا عن الشرعيّة.

وما كان منها من قبيل المبادئ الأحكاميّة ، فمنه ما هو خارج أيضا بقيد « الشرعيّة » ومن هذه الجملة وجوب المقدّمة بناء على جعله من المبادئ وإن قرّرناه سابقا بحيث اوهم تعلّقه بالعمل بواسطة ، لرجوع البحث فيه إلى الملازمة العقليّة بين وجوب شيء ووجوب مقدّماته ، فإنّ الملازمة على فرض ثبوتها حكم عقلي صرف ، وعلى فرض كونها حكما شرعيّا ليست متعلّقة بالعمل وإنّما هي أمر

١٠٨

نسبي بين الوجوبين ، وأيضا فإنّ الوجوب المأخوذ فيه ملحوظ على الوجه الأعمّ فلا يرتبط بما يؤخذ من الشارع.

ومع الغضّ عنه ، فالملحوظ فيه مفهوم الوجوب والمأخوذ من الشارع بعض مصاديق هذا المفهوم ، ومع التنزّل فخروج هذا الحكم مستند إلى ظهور « التعلّق » في الحقيقي. وكذا الكلام في بحث الأمر بالشيء المقتضي للنهي عن ضدّه ، بناء على إرجاعه إلى المبادئ بدعوى : رجوع البحث فيها إلى بيان الملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضدّه. وأمّا لو قلنا إنّه مع بحث المقدّمة من مسائل اصول الفقه ، بناء على رجوع البحث إلى دلالة الأمر بالشيء على وجوب مقدّماته أو حرمة أضداده فخروجه عن « الشرعيّة » أوضح. ونظيرهما على هذا التقدير مسألة كون القضاء بالأمر الأوّل بناء على إرجاعها إلى دلالة الأمر بالمقيّد على تكليفين : أحدهما التكليف بالمطلق ، والاخر به مع القيد ، فإذا ارتفع الثاني بفوات قيده بقي الأوّل على حاله. وأمّا لو أرجعناها إلى وجوب القضاء عند فوات الأداء بدليل اخر ، فإن لم نقل بكونها مسألة فرعيّة وإن ذكرها الاصوليّة لما فيها من جهة الكلّية ، فخروجها مستند إلى ظهور التعلّق في الحقيقي.

وأمّا مباحث الواجب المخيّر والكفائي والموسّع ، فالبحث فيها يرجع إلى نفس الحكم الشرعي ، وهو الوجوب أو موضوعه الّذي ليس بعمل المكلّف كما يظهر بالتأمّل.

وما كان منها من مباحث الحجّية فالحكم فيها لا تعلّق له بالعمل أصلا ، سواء اريد بالحجّية كون الشيء وسطا أو وجوب العمل.

أمّا الأوّل : فلأنّه شيء يعرض ذات الدليل ، وأمّا الثاني : فلأنّه شيء يعرض اعتقاد المكلّف.

وما كان منها من مباحث الاجتهاد والتقليد ، كوجوب الاجتهاد عينا أم كفاية ، وجواز عمل المجتهد برأيه ووجوب التقليد على العامي ، ووجوب تقليد الأعلم أو الحي وجواز تقليد الميّت ونحوه ، فالحكم في بعضها فرعي يجب دخوله ، وفي

١٠٩

بعضها اعتقادي يخرج باعتبار التعلّق بالعمل ، فإنّ المجتهد يعتبر في حقّه عناوين ثلاث :

أحدها : السعي في تحصيل الاعتقاد بالحكم الشرعي ، الّذي هو عبارة عن امور ملتئمة عن حركات اختياريّة ، ويعبّر عنه بالاجتهاد المعرّف باستفراغ الوسع.

وثانيها : الاعتقاد بالحكم الشرعي علما أو ظنّا.

وثالثها : التديّن بمؤدّى اجتهاده ، على معنى الإذعان بكون مؤديّات الاجتهاد هو الّذي يجب اتّباعه والعمل على طبقه ، على ما هو مفاد أدلّة حجّية الظنّ أو غيره من الطرق المقرّرة ، ووجوب العمل بالاجتهاد.

وهذه العناوين كلّها مورد للحكم الشرعي ، غير أنّ الأوّل منها مورد لحكم فرعي وإن كان ذلك الحكم مقدّميّا ، لتوقّف الاعتقاد بالحكم الشرعي على هذه الجهة ، وهذا ممّا يجب دخوله في الحكم الفرعي ولا واسطة له في العروض ، نعم له واسطة في الثبوت وهو وجوب ذي المقدّمة ، ولا يعتبر في الحكم الفرعي انتفاء الواسطة في الثبوت كما عرفت.

وتعرّض الاصوليّين لذكر هذا الحكم استطراد لما فيه من الجهة الكلّية ، وإليه يجب تنزيل كلام من أطلق القول بأنّ مباحث الاجتهاد والتقليد من المسائل الفرعيّة.

والثاني منها كالثالث من مقولة الاصول الاعتقاديّة ، وكون الاعتقاد غير اختياري لذاته لا يمنع تعلّق التكليف به كما في الاصول الاعتقاديّة ، لأنّ القدرة الّتي من شرائط التكليف أعمّ منها بالواسطة ، كما في الأفعال التوليديّة بناء على التحقيق من تعلّق التكليف بها لا بمبادئها. وبالجملة ، يشترط في مورد التكليف كونه بنفسه أو بمبادئه مقدورا. ومن أطلق القول بأنّ مسائل الاجتهاد والتقليد من الاصول الكلاميّة لا بدّ وأن ينزّل كلامه إلى هذين الوجهين.

وهذه العناوين الثلاث كما هي جارية في حقّ المجتهد ، كذلك جارية في حقّ المقلّد بالقياس إلى فتوى المجتهد ، والكلام فيها هو الكلام المتقدّم.

وما كان منها من مباحث التعادل والتراجيح فخروجها عن « الفرعيّة » وعدم

١١٠

تعلّقها بالعمل واضح ، لكون البحث فيها راجعا إلى حال الدليل وإن قلنا بكون الحكم المأخوذ فيها شرعيّا في الجملة كما لا يخفي.

فخلاصة الكلام أنّ اعتبار انتفاء الواسطة في الحكم الفرعي ، لا نجد فيه فائدة إلاّ إخراج الاصول الاعتقاديّة حسبما أشرنا إليه ، ولو لا ذلك لكان لمجرّد التوضيح.

[١٣] قوله : ( وبقولنا : عن أدلّتها علم الله سبحانه ، وعلم الملائكة ، والأنبياء ... الخ )

والوجه في خروج هذه العلوم بقيد « الأدلّة » أنّ قضيّة كون العلم حاصلا عن الدليل تنحلّ إلى كونه مسبّبا عن سبب ، وكون ذلك السبب ممّا يصدق عليه عنوان الدليليّة في الاصطلاح. فالمعتبر في مفهوم « الفقه » أمران :

أحدهما : كونه مسبّبا ، فيخرج به علم الله تعالى لعدم كونه بقدمه مسبّبا عن سبب ، على القول بأنّ معنى ذاتيّة علمه تعالى كونه عين الذات.

وثانيهما : كون السبب دليلا ، فيخرج به علوم الباقين ، لاستنادها إلى أسباب ضروريّة من الثبت في اللوح المحفوظ والوحي والإلهام وغير ذلك ، ممّا ورد في الروايات على اختلافها بالقياس إلى علوم الأئمّة عليهم‌السلام ، وعلى فرض استنادها إلى الكتاب أو سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فكذلك أيضا ، لعدم ابتنائها على النظر والاستدلال على الطريق المعهود ، ويخرج به أيضا علم الله تعالى على القول الاخر ، وهو كون معنى ذاتيّة علمه أنّه يعلم الأشياء بذاته ، على معنى كون علمه بطريق الانكشاف المستند إلى ذاته لا إلى الامور الخارجة عن الذات ، هذا بناء على إرجاع الظرف إلى العلم.

وأمّا على الوجه الاخر فقد يستشكل في خروج هذه العلوم بذلك القيد ، تعليلا بأنّها أيضا علم بالأحكام الحاصلة عن الأدلّة.

غاية الأمر ، تحقّق الحصول عن الدليل بالقياس إلى غير المذكورين وهو الفقيه ، كما في كلام بعض المحقّقين (١).

__________________

(١) والمراد منه هو سلطان العلماء في حاشيته على المعالم : ٥ ( الطبعة الحجرية ).

١١١

وفيه : أنّه لو قلنا بشمول جنس الحدّ لهذه العلوم ، فلا يفترق الحال في استناد خروجها إلى هذا القيد بين احتمالي رجوعه إلى العلم أو إلى الحكم.

أمّا أوّلا : فلأنّ المنساق من لفظ « الحدّ » اتّحاد محلّي الحصول والعلم ، فإنّهما عرضان ، وإن كان الأوّل عرضا اعتباريّا والثاني عرضا محقّقا ، غير أنّ المعتبر في « الفقه » كون محلّهما واحدا بمقتضى ظاهر الحدّ ، فلا يتناول علما يغائر محلّه لمحلّ الحصول عن الدليل.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الحيثيّة معتبرة في نظائر المقام ، فالفقه عبارة عن العلم بالأحكام الحاصلة عن الدليل من حيث إنّها حاصلة عن الدليل ، ولا ريب أنّ الحيثيّة منتفية بالقياس إلى العلوم المذكورة.

ودعوى : أنّ الحيثيّة غير مجدية في ذلك ، لعدم تعيّن ارتباطها بالعلم بل ظهور ارتباطها بالحكم ، فيصدق على العلوم المذكورة أنّها علم بالأحكام الحاصلة عن الأدلّة من حيث إنّها حاصلة عن الأدلّة ، كما في كلام بعض الأفاضل (١).

يدفعها : أنّ الحيثيّة إن اخذت تعليليّة بملاحظة أنّ التعليق على الوصف ممّا يشعر بالعلّيّة ، بأن يكون حصول الحكم عن الدليل علّة فارتباطها بالحكم غير معقول ، ضرورة أنّ هذا الحصول ليس عبارة عن الحصول الخارجي ، وإلاّ لزم كون الأدلّة الشرعيّة بالقياس إلى الأحكام الشرعيّة وسائط في الثبوت وهو بديهي البطلان ، بل هو عبارة عن الحصول الذهني الاعتقادي ، فيجب أن تكون مرتبطة بالعلم ، على معنى كون العلم معلولا عن الاعتقاد اللاحق بذوات الأحكام الحاصل عن الأدلّة على ما فصّلناه سابقا (٢) من أنّ العلم بالنتيجة لا يغائر بالذات للعلم المأخوذ في المقدّمتين ، فإذا كان العلم المأخوذ في الصغرى ـ وهو العلم بذوات الأحكام على أنّها مظنونات أو معتقدات ـ مستندا إلى الأدلّة ، كان العلم المأخوذ في النتيجة ـ وهو العلم بتلك المظنونات أو المعتقدات على أنّها أحكام فعليّة ـ

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٤ ( الطبعة الحجرية ).

(٢) تقدّم في التعليقة الرقم ٤ ، الصفحة ٤٥.

١١٢

مستندا لها على معنى أنّ الدليل علّة للحصول الاعتقادي اللاحق بذات الحكم ، وهو علّة أو ملزوم للعلم المأخوذ في الصغرى ، وهو لا يغائر بالذات للعلم المأخوذ في النتيجة ، فيكون هذا العلم معلولا عن الحصول الاعتقادي أو ملزوما له ، وعلى التقديرين يكون بالاخرة معلولا عن الدليل. ولا ريب أنّ العلوم المذكورة ليست بهذه المثابة ، فتكون خارجة بالقيد بعد اعتبار الحيثيّة المذكورة.

وإن اخذت تقييديّة على معنى كون حيثيّة الحصول عن الدليل قيدا للحكم ، فهي أوّلا وبالذات وإن كانت مرتبطة بالحكم ، إلاّ أنّها بالاخرة أيضا ترتبط بالعلم ، لأنّ الحكم المقيّد بها بنفسه قيد له.

ولا ريب أنّ قيد القيد قيد للمقيّد بالقيد ، كما في رأيت رجلا عالما بغداديّا ، حيث إنّ « البغداديّة » ترجع بالاخرة إلى الرجل المقيّد بالعالميّة فتخصّصه ، فيكون العلم مقيّدا بتلك الحيثيّة ، ومعنى تقيّده بها انتفاؤه عند انتفائها ، على معنى أنّه لو لم تكن الحيثيّة متحقّقة لم يكن العلم حاصلا ، لامتناع العرض بدون الموضوع ، والعلم بدون المتعلّق. ولا ريب أنّ علومهم بالأحكام ليست بتلك المثابة ، فتكون خارجة أيضا بالقيد المذكور بعد اعتبار الحيثيّة.

وربّما يورد على القول بكون هذا القيد مخرجا للعلوم المذكورة بما يرجع محصّله : إلى أنّ علم الله سبحانه ذاتي فلا يشمله العلم العرضي ، وعلوم غيره من المذكورين ضروريّة فلا يشملها العلم النظري ، والفقه عبارة عمّا جامع الوصفين فهي غير داخلة في جنس الحدّ ليعتبر خروجها بالقيد.

وهذا كما ترى أضعف من الإشكال المتقدّم ، إذ لو اريد بعدم دخولها في الجنس أنّ لفظ « العلم » بحسب مفهومه العرفي اللغوي لا يشملها فهو بديهي البطلان ، ولو اريد به أنّه بالمعنى المراد منه هنا لا يشملها ، ففيه : منع كون المراد منه هنا ما يغائر المعنى العرفي العامّ للجميع.

ولو سلّم ، فالإيراد إنّما يتوجّه إلى ظاهر لفظ الحدّ ، والمراد مع عدم اقتران اللفظ بما يوضحه ، لا يدفعه ، وإلاّ لم ينتقض شيء من الحدود في جمع ولا منع.

١١٣

نعم لو كان الإيراد على القول المذكور ممّا لا بدّ منه ، فينبغي أن يقال : بمنع شمول الجنس لهذه العلوم من جهة اخرى ، وهي كون العلم محمولا على الملكة ، بقرينة ما تقدّم (١) من كون ألفاظ العلوم أسامي لملكات التصديق بمسائلها ، أو بقرينة ما سيأتي من بناء دفع أوّل الإيرادين المعروفين الاتي بيانهما عليه ، بملاحظة الجمع المعرّف باللام الصالح للقرينيّة هنا.

ولا ريب أنّ اللفظ المحمول على معناه المجازي بقرينة موضحة لا يتناول المعنى الحقيقي ولا ما هو من أفراده.

ويرد هذا الإشكال أيضا بناء على حمله على الظنّ ـ كما عليه جماعة ـ دفعا لثاني الإيرادين الاتيين ، فقضيّة ذلك خروج القيد توضيحيّا ، إلاّ أن يقال : بمنع انحصار فائدته في إخراج العلوم المذكورة ليلزم خروجه بلا فائدة على تقدير عدم دخولها في الجنس ، بل من جملة فوائده خروج الضروريّات ، فإنّ العلم بها ليس من الفقه كما في صريح كلام بعض الأعاظم (٢) واحتمله بعض الأعلام (٣) وعليه جماعة منهم بعض الأفاضل (٤) في صريح كلامه ، غير أنّه خالف غيره في وجه خروجها بهذا القيد ، فإنّ غيره علّله بأنّ الفقه علم يعتبر حصوله بطريق النظر والاستدلال وهذا هو مفاد القيد الراجع إلى العلم ، وهو في الضروريّات ليس مستحصلا عن الدليل بطريق النظر والاستدلال ، بل هو مستفاد من سبب ضروري وهو الضرورة والبداهة ، وهو علّله بأنّ الفقه علم مستحصل عن الأدلّة الفقهيّة وهي المتداولة في لسان الفقهاء ، فيراد بأدلّتها هذه الأدلّة المعهودة ، فيخرج بها الضروريّات لأنّها مستحصلة عن الأدلّة الكلاميّة ، وهي الّتي تدلّ على صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكون شريعته الّتي أتى بها ثابتة في الواقع ، لأنّ ضرورة الدين لا توجب إلاّ العلم بكون الحكم الضروريّ ثابتا من النبيّ ، ولا يلزم من ذلك كونه ثابتا في الواقع ليصير حكما واجبا اتّباعه إلاّ بعد ثبوت صدق النبيّ وحقّيّة شريعته ، والأدلّة

__________________

(١) تقدّم في التعليقة الرقم ١ ، الصفحة ٢٠.

(٢) إشارات الاصول : ٣.

(٣) قوانين الاصول : ٦.

(٤) هداية المسترشدين : ٥ ( الطبعة الحجرية ).

١١٤

المعمولة في إثبات ذلك أدلّة كلاميّة ، فيكون الحكم المستفاد منها خارجا بإرادة العهد من الإضافة. انتهى محصّلا.

وإخراج الضروريّات بهذا القيد لازم كلّ من يصرّح بخروج الضروريّات عن الفقه ، كما في كلام كثير منهم ، فينبغي النظر أوّلا في أنّها هل هي من المسائل الفقهيّة ، أو من المسائل الخارجة عن الفقه ليجب خروجها عن حدّه ، ثمّ النظر في استناد خروجها إلى القيد المذكور وكيفيّة خروجها به وعدمه ، فالكلام في مقامين :

أمّا المقام الأوّل : فكلماتهم فيه مختلفة ، فمنهم من أخرجها عن « الفقه » وعمّم بالقياس إلى ضروريّات الدين والمذهب معا كبعض الأعاظم (١) حيث صرّح بخروج القسمين معا بالقيد المذكور.

ومنهم من منع خروجها عنه وعمّم ، نسبه الفاضل المتقدّم ذكره (٢) إلى بعض الأفاضل تبعا لبعض الأخباريّين ، بل يستفاد من العبارة الّتي حكاها عن بعض الأخباريّين الاتّفاق على كون ضروريّات المذهب من الفقه ، حيث احتجّ على عدم خروج ضروريّات الدين عن الفقه : بأنّه لو كان ضروريّات الدين خارجة عنه لخرج عنه ضروريّات المذهب أيضا.

وقضيّة ذلك ، كون عدم خروج ضروريّات المذهب متسالما عند الفريقين ، وإلاّ بطل التقريب كما هو واضح.

ومنهم : من فصّل فأخرج ضروريّات الدين دون المذهب ، ومنهم من صرّح بخروج الضروريّات وأطلق.

وتحقيق القول في ذلك : أنّ مسائل كلّ علم على ما مرّ مرارا ، عبارة عن النسب الخبريّة الّتي يستدلّ عليها في ذلك العلم ، وهي القضايا الّتي تطلب من الاستدلالات المأخوذة فيه ، المعبّرة عنها بالنتائج الحاصلة عن تلك الاستدلالات المطلوبة من إعمال النظر فيها ، فالمسألة حينئذ هي النتيجة ، ويعتبر فيها إعمال النظر في العلم نفسه.

__________________

(١) إشارات الاصول : ٣.

(٢) هداية المسترشدين : ٥ ( الطبعة الحجرية ).

١١٥

وطريقه : أن يحرز فيه كلا مقدّمتي الدليل أو إحداهما ، صغرى كانت إن اخذت كبراه محرزة من الخارج ، أو كبرى إن اخذت صغراه محرزة من الخارج ، فكلّ نتيجة إذا كانت كلّ من مقدّمتيها بيّنة بنفسها كالقضايا الّتي قياساتها معها لم يعقل أخذها مسألة لعلم ، كما أنّها لو كانت كلّ من مقدّمتيها متبيّنة في علم اخر لم يعقل أخذها مسألة لعلم اخر غير العلم المذكور ، بل لو فرض أنّ إحدى مقدّمتيها متبيّنة في علم والمقدّمة الاخرى متبيّنة في علم اخر لم يعقل كونها مسألة لعلم ثالث خارج عن العالمين ، بل هي إمّا من مسائل هذا العلم أو ذاك العلم أو كليهما ، ومتى اخذت مسألة لأحدهما كانت المقدّمة المحرزة في العلم الاخر مأخوذة هنا من باب الأخذ بالمسلّمات ، وكذا لو فرض أنّ إحدى مقدّمتي النتيجة بيّنة بنفسها والاخرى متبيّنة في علم لم يعقل كون النتيجة مسألة لعلم اخر غير ذلك العلم ، فالواجب في مسألة العلم المعدودة من نتائج استدلالاته ، حصول البحث عنها بإحراز ما يكون صغرى وكبرى معا ، أو صغرى واحدها ، أو كبرى كذلك ، ولازمه كون الأخذ بالمقدّمة الاخرى حاصلا من الخارج من باب أخذ المسلّمات من المقدّمات البيّنة بأنفسها أو المتبيّنة في علوم اخر.

وكثير من العلوم المدوّنة المتداولة ما كان كيفيّة البحث فيها إحراز الصغريات ، تنضمّ إليها كبرى أو كبريات مسلّمة مأخوذة من الخارج ، كالعلوم العربيّة في غالب مسائلها ، فإنّ كبرى الاستدلالات المأخوذة فيها مقدّمة كلّية بيّنة أو متبيّنة في الخارج ، وهي أنّه كلّما ثبت جوازه عند أهل اللسان أو استقرّ بناؤهم عليه في الألفاظ الجارية على ذلك اللسان ـ ممّا يتعلّق بالمادّة فقط ، أو الهيئة الإفراديّة أو التركيبيّة واحدها ، أو المجموع المركّب من المادّة والهيئة ـ فهو ممّا ثبت جوازه أو لزومه من رئسيهم وواضع ألفاظهم ، فالصرفي في قلب حرف العلّة « ألفا » عند تحرّكها وانفتاح ما قبلها على نحو اللزوم مثلا ، لا يطالب منه إلاّ ما يكون صغرى لتلك الكلّية ، وهي كون ذلك القلب ممّا استقرّ عليه بناء أهل اللسان المعلوم بالتتبّع واستقراء موارد استعمالاتهم ، ولذا ترى لا يستدلّ على مطلبه إلاّ بموارد من

١١٦

الاستعمالات الواردة في الأشعار والقصائد ونحوها ، وكذا النحوي في رفع الفاعل لزوما وحذفه جوازا أو لزوما ، واللغوي في إثبات معاني مفردات الألفاظ ومركّباتها ، وأهل المعاني والبيان في إثبات ما يرجع إلى البلاغة.

ومن هذا الباب علم الفقه الّذي يبحث فيه الفقيه ، فإنّه لا يأخذ في استدلالاته إلاّ ما يكون صغرى مستنبطة عن الأدلّة من الكتاب والسنّة والإجماع الكاشف عن السنّة والعقل الكاشف عنها أيضا ، وله كبرى واحدة مسلّمة مأخوذة من المسائل الكلاميّة ، وهي كون شريعة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ودينه حقّا ، والأحكام المندرجة فيه ثابتة من الله سبحانه متوجّهة إلينا فعلا ، كما هي متوجّهة إلى أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ ذلك كما ترى من فروع صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وثبوت نبوّته الثابتين في الكلام.

فالفقيه بالاستدلال بالكتاب أو السنّة أو الإجماع أو العقل أو غيره لا يقصد إلاّ إحراز صغريات لهذه الكبرى ، وهي كون مؤدّيات تلك الأدلّة من شريعة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله الّتي أتى بها من الله سبحانه ، فإذا انضمّ إليها الكبرى المذكورة يحصل النتائج الّتي هي مسائل الفقه ، كوجوب الشيء الفلاني المستفاد من الكتاب ، وحرمة الشيء الاخر المستفاد من السنّة ، واستحباب الشيء الثالث المستفاد من الإجماع ، وكراهة أو إباحة الشيء الرابع المستفاد من العقل أو غيره.

وبذلك يندفع ما اعترضه الفاضل المعلّل (١) في خروج الضروريّات بما تقدّم على من علّله بأنّ الفقه ما يحصل بطريق النظر والضروريّات غير حاصلة عن الدليل بالنظر ، من منع خروجها بهذا الوجه ما لم يقدّر الإضافة للعهد ، لأنّ الضرورة لا تقتضي إلاّ ثبوت الأحكام الضروريّة عن صاحب الشريعة ، وأمّا ثبوتها في الواقع فيحتاج إلى صدق صاحب الشريعة وحقّيّة شرعه ودينه ، المتوقّف على الاستدلال بالأدلّة الكلاميّة ، فالضروريّات أيضا معلومة بالنظر والاستدلال ، والعلم الحاصل فيها حاصل عن الدليل ، فيجب في إخراجها عن « الفقه » إرادة العهد من الإضافة ، الموجبة لحمل « الأدلّة » على الأدلّة المعهودة.

__________________

(١) والمراد منه هو صاحب هداية المسترشدين رحمه‌الله.

١١٧

ووجه الاندفاع : أنّه لو صحّ القول بعدم خروج الضروريّات إلاّ بحمل الإضافة على العهد ، فخروجها حينئذ لكونها ثابتة بالأدلّة الكلاميّة دون الأدلّة المعهودة ، لزم منه خروج المسائل الفقهيّة بأسرها بهذا القيد ، إذ لا فرق بين الضرورة وغيرها من الأدلّة المعهودة الفقهيّة في كون الجميع ما يحرز به صغرى ـ وهي كون الأحكام المستفادة منها ثابتة من صاحب الشريعة ـ لكبرى كلاميّة ، فالأدلّة الكلاميّة معمولة في الجميع لإحراز الكبرى المذكورة لصغرى محرزة تارة بالضرورة ، واخرى بالأدلّة المعهودة ، فلو صلحت الأدلّة المحمولة على الأدلّة المعهودة مخرجة للضروريّات لمجرّد كون كبراها ممّا يثبت بالأدلّة الكلاميّة ، لكانت مخرجة لغيرها أيضا من نظريّات الفقه ، لكون كبراها ممّا يثبت بالأدلّة الكلاميّة وهو كما ترى.

فالتحقيق : بناء على ما قرّرناه إنّ المسألة ما يعتبر فيها النظر ، ومرجع النظر المعتبر في المسائل الفقهيّة إلى إحراز ما يكون صغرى منتجة لها بضميمة الكبرى المأخوذة من المسائل الكلاميّة ، فكلّ مسألة مذكورة في الفقه أو غير مذكورة فيه إذا لم يستلزم النظر في إحراز صغراها لم يكن من المسائل الفقهيّة.

ومن هذا الباب الضروريّات ، لأنّ المحرز للصغرى فيها على ما بيّنّاه نفس الضرورة ، وهو وضوح الحكم لا النظر.

وإن كانت هنا من باب الضروريّات الثانوية ، وهي المقدّمات الّتي يتوقّف ثبوت محمولاتها لموضوعاتها على وسائط لا تسمّى وسطا في الاصطلاح ، كالحسّ والحدس والتجربة ونحوها ، لا الضروريّات الأوّليّة وهي المقدّمات الغير المتوقّف ثبوت محمولاتها لموضوعاتها على واسطة أصلا.

وهل يفرّق في الضروريّات الخارجة عن المسائل الفقهيّة بين ضروريّات الدين ، وهي الّتي يكون وضوح الأمر فيها عند قاطبة أهل ملّة الإسلام ، وضروريّات المذهب ، وهي الّتي يكون وضوح الأمر فيها عند قاطبة الشيعة الإثنى عشريّة ، وضروريّات العلماء وهي الّتي يكون وضوح الأمر فيها عند قاطبة أهل العلم ، أو لا؟

١١٨

تحقيقه : إنّ الضرورة إن اعتبرت ذاتيّة لا يخرج القسمان الأخيران ، بل لا يخرج القسم الأوّل ، إذ ما من ضروري الدين إلاّ وهو مسبوق بالنظر كما يظهر بالتأمّل. فهذا ليس بمراد من الضروريّات هنا ، وإن اعتبرت عرضيّة كما في الجميع ، سواء كان عروض الضروريّة قبل تدوين العلم أو بعده فيلزم خروج الجميع.

وإن اعتبرت عرضيّة مع عروض الضرورة بعد التدوين ، كان الخارج ضروريّات الدين فقط ، لكون كلّ من الباقيتين مسبوقا بالنظر ، وإنّما طرءت الضرورة بسبب كثرة التسامع وغلبة التظافر وعموم البلوى ودوام الحاجة والابتلاء ، فالمسألة في كلّ واحد منها دوّنت وهي نظريّة ، لحصول تدوين الفنّ في زمان كانت اثار مذهب الشيعة مستورة وخصائصهم مهجورة ، وهذا النحو من النظريّة كاف في عدّها من المسائل الفقهيّة.

ولا يقدح فيه طروّ الضرورة في الأزمنة المتأخّرة عن التدوين ، وبذلك يندفع ما تقدّم (١) من نقض الأخباريّين ، لوضوح منع الملازمة بما قرّرناه من الفرق ، فإنّ ضروريّات الدين قد وصلت حدّ الضرورة قبل تدوين العلم بكثير ـ بل قبل انقطاع الوحي ـ بخلاف ضروريّات المذهب ، فقد دوّن العلم وضروريّات الدين غير صالحة لأن تكون من مسائله ، وضروريّات المذهب صالحة له ، وبملاحظة جميع ما ذكر تبيّن الكلام في المقام الثاني أيضا.

فإنّ الضروريّات حيثما وجب إخراجها عن الحدّ ، كان خروجها مستندا إلى القيد المذكور بالتقريب المتقدّم عن بعض الأعاظم (٢) لا بالتقريب المتقدّم عن بعض الأفاضل (٣) لكن يشكل الحال في طرد الحدّ وعكسه بالقياس إلى الأقسام الثلاث لو بنى على التفصيل المذكور ، من خروج ضروريّات الدين عن المسائل الفقهيّة دون ضروريّات المذهب والعلماء.

__________________

(١) تقدّم في نفس التعليقة الصفحة : ١٠١.

(٢) إشارات الاصول : ٣.

(٣) هداية المسترشدين : ٥ ( الطبعة الحجرية ).

١١٩

فإنّ الواجب على هذا الفرض خروج الاولى عن الحدّ ليسلم الطرد ، ودخول الأخيرتين ليسلم العكس ، والقيد غير صالح لإفادة كلّ من هذين الأمرين ، إذ حصول العلم المستند إلى الأدلّة إن اريد به الحصول الشأني ، بأن يكون الحكم بحيث من شأنه أن يكون حاصلا بطريق النظر والاستدلال وإن لم يتوقّف عليهما بالفعل في بعض الموارد بواسطة طروّ الضروريّة ليدخل ضروريّات المذهب وضروريّات العلماء ، انتقض الطرد بدخول ضروريّات الدين أيضا لما تقدّم إليه الإشارة من سبق كونها نظريّة على صيرورتها ضروريّة ، وإن اريد به الحصول الفعليّ ليخرج ضروريّات الدين ، انتقض العكس بخروج ضروريّات المذهب والعلماء أيضا ، لعدم حصول العلم بها فعلا بطريق النظر والاستدلال ، فلا بدّ في التفصّي عن الإشكال من التزام أحد الأمرين صونا للحدّ عن الانتقاضين.

إمّا القول بخروج الضروريّات بأقسامها الثلاث عن الفقه مع إرادة الحصول الفعلي ، أو القول بدخولها أجمع فيه مع إرادة الحصول الشأني ، إلاّ أن يلتزم بمراعاة الإضافة والاعتبار مع إرادة الحصول الفعلي ، بدعوى : أنّ النظريّة والضروريّة أمران اعتباريّان إضافيّان ، فقد يكون الشيء نظريّا في زمان وفي حقّ شخص وضروريّا في زمان اخر ولشخص اخر ، وضروريّات المذهب وغيرها لطروّ الضروريّة فيها بعد التدوين في الأزمنة المتأخّرة كانت نظريّة في الصدر الأوّل بالقياس إلى أهله ، ثمّ صارت ضروريّة في الأزمنة المتأخّرة بالقياس إلى اللاحقين.

ومن الجائز أن تكون داخلة في مسائل الفقه بالقياس إلى السابقين ، لكون علمهم بها حاصلا بطريق النظر والاستدلال ، وخارجة عنها بالقياس إلى اللاحقين ـ وإن كانت مذكورة في الفقه ـ لعدم حصول علمهم بها بطريق النظر والاستدلال ، فلو اعتبر الحصول ما يكون فعليّا كان شاملا لعلم السابقين ، فتدخل في الحدّ لكونه من أفراد المحدود ، وغير شامل لعلم اللاحقين فيخرج عن الحدّ ، لعدم كونه من أفراد المحدود ، هذا غاية ما يمكن في توجيه المقام ، ولم نقف على من تعرّض له من الأعلام ، وبعد فيه نوع تأمّل.

١٢٠