تعليقة على معالم الاصول - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٤٤٣

أمّا الأوّل : فلوضوح الفرق بين صدق الشيء على امور وبين تردّده بين امور ، فإنّ الصدق ـ على ما بيّناه ـ عبارة عن مطابقة النسبة المأخوذة في القضايا الّتي محمولها الكلّي وموضوعاتها الكثيرون للواقع ، ويلزم من صدقها في الجميع كون الحمل المأخوذ فيها متعارفيّا ، وهو يقتضي كون المحمول متحّد الوجود مع الكثيرين ، ومعناه أن يكون موجودا مع كلّ واحد حال وجوده مع الاخر ، والصدق بهذا المعنى منتف فيما بين الشبح والامور العديدة.

أمّا أوّلا : فلأنّ الشبح حيثما يؤخذ في القضيّة بالنسبة إلى هذه الامور ، فإنّما يعتبر موضوع القضيّة وهذه الامور محمولا فيها ، فيقال : هذا إمّا زيد أو عمرو مثلا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ صدق الشبح مع بعض هذه الامور في الواقع يوجب امتناع صدقه مع الاخر ، وإنّما الموجود فيه هو التردّد الّذي هو عبارة عن احتمال صدقه على هذا أو ذلك على البدل ، بل عن احتمال كون الشيء المردّد هذا بعينه أو ذاك بعينه على البدل ، مع امتناع كونه ذاك على تقدير كونه هذا بعينه ، وامتناع كونه هذا بعينه على تقدير كونه ذاك بعينه في الواقع ، وهذا بعينه معنى كونه جزئيّا ، وليس فيه شائبة من الصدق على الكثيرين ، وإنّما يحصل التردّد في الشبح ونحوه من جهة تبيّن كونه جزئيّا حقيقيّا لم يتبيّن خصوصيّة تعيّنه الّتي بها يمتاز عن جميع ما عداه ، ومن جهتها امتنع صدقه على غيره في نظر الرائي ، على معنى أنّه مع علمه بكونه جزئيّا حقيقيّا يردّده بين امور لعدم تبيّن خصوصيّة تعيّنه ، فالتردّد إنّما هو لاحتمال هذه الخصوصيّة المجهولة لخصوصيّات الامور المردّد فيها ، ولأجل ذلك لو صحّ الحمل مع بعض هذه الامور في الواقع كان ذاتيّا مقتضيا لكونه متّحد الذات مع هذا البعض ، ومعه يمتنع صدقه على البعض الاخر ، لرجوعه إلى فرض الصدق بين هذه الامور.

وبذلك يندفع توهّم الصدق على الامور في شبح الطفل ، مع توجّه المنع

٢٤١

إلى كونه من باب التردّد بين امور ، بعد المنع عن كونه من باب الصدق على الامور ، فإنّ الطفل من جهة قصور نظره ـ خصوصا في أوائل تولّده ـ عن إدراك ما يمتاز به امّه عمّا عداها من خصوصيّة التعيّن الّتي بها امتنع صدقها على غيرها ، لم يدرك من امّه إلاّ جثّة وقطرا ، فيحسب كلّ من يراه بهذين الأمرين أنّه بعينه امّه ، لا أنّ الامّ في نظره صادقة على كثيرين.

وهذا ليس من تردّد شيء بين امور ولا من صدقه على امور ، ولو سلّم فهو من صدق الكلّي عليها لا من صدق الجزئي ، لأنّ ما أدركه الطفل من امّه من الجثّة والقطر إنّما هو الجهة المشتركة بينها وبين سائر أشخاص النوع ، فصدق « الامّ » على الكثيرين إنّما هو باعتبار ما به الاشتراك الّذي هو الجهة الكلّية.

ولو سلّم ذلك أيضا لتوجّه المنع إلى نقض تعريف الكلّي ، نظرا إلى أنّ المأخوذ فيه إنّما هو « الفرض » بمعنى التجويز ، الّذي هو عبارة عن تجويز العقل ولا عقل للطفل. وبما قرّرناه جميعا يعلم أنّ ما في كلام غير واحد من إطلاق الكلّي على فرد مّا ليس على ما ينبغي ، إن أرادوا به الحقيقة ، فإنّه ليس إلاّ جزئيّا حقيقيّا طرأه الاحتمال البدلي لما طرأه من إلغاء الخصوصيّة.

وتوضيحه : انّ موضوع حكم القضيّة إخبارا كان أو إنشاء قد يكون في لحاظ الحاكم ماهيّة كلّية معرّاة عن ملاحظة الفرد ، فيؤدّيه بما يفيد أصل الماهيّة ، وقد يكون فردا من الماهيّة بشرط التعيين وخصوصيّة تعيّنه ، بأن يكون للخصوصيّة مدخليّة في الحكم ، وهي مع ذلك مقصودة له بالإفادة ، فيؤدّيه بما يفيد الفرديّة والخصوصيّة معا من اسمه الخاصّ به ، كالعلم أو ما بحكمه كاسم الإشارة ونحوه ، وقد يكون فردا منها لا بشرط التعيين ، بأن لا يكون للخصوصيّة مدخليّة في الحكم أصلا ، أولم تكن مقصودة له بالإفادة وإن كان لها مدخليّة في الحكم بحسب الخارج ، فيؤدّي ما يفيد الفرديّة المعرّاة عن الخصوصيّة.

وقضيّة ذلك : أن يطرأه تردّد واحتمال بدلي بين امور في نظر السامع أو من بحكمه ممّن يلاحظ الخطاب ، وهذا هو فرد مّا ، وهو المأخوذ في وضع النكرات

٢٤٢

وما بحكمها ، والموجود فيه إنّما هو التردّد بين امور المقتضي للاحتمال البدلي ، وكلّما كان كذلك فليس من الكلّي في شيء.

وبالجملة ، الكلّي من لوازمه صدقه على الكثيرين ، وفرد مّا شيء يلزمه التردّد والاحتمال البدلي بين كثيرين ، وهو ليس من الصدق على الكثيرين في شيء ، فالشيء المردّد أيضا ليس من الكلّي في شيء.

نعم إطلاق الكلّي عليه توسّعا لما فيه من الانتشار والشيوع البدلي ليس بضائر.

وأمّا الثاني : فلوضوح أنّ مجرّد انطباق شيء على شيء ومطابقته له ، ليس من باب صدقه عليه بالمعنى المقتضي للاتّحاد ذاتا أو وجودا فقط.

ألا ترى أنّ الأسد الخارجي منطبق على كلّ واحد من صوره المنطبعة على الجدار ، ومثله انطباق الجسم على صوره المنطبعة في المراة ، هذا إذا اعتبر المفهوم باعتبار وجوده الخارجي مقيسا إلى صوره الذهنيّة ، وأمّا إذا اعتبر باعتبار وجوده الذهني مقيسا إلى ما وجد منه في أذهان كثيرة ، فعدم تحقّق الصدق بينه وبينها على وجه اخذ بعضها موضوع القضيّة والبعض الاخر محمولها أوضح.

المطلب الثاني : قضيّة العبارات المتقدّمة وغيرها ، انعقاد اصطلاحهم الكلّي والجزئي في الألفاظ ، بعد ما أخذوا بالاصطلاح المنعقد عند أهل الميزان في المعاني أصلا وبالذات ، وهو الأنسب بمباحث الفنّ من حيث إنّ شغلهم وغرضهم إنّما هو النظر في الألفاظ باعتبار دلالاتها على المعاني ، فغلبوا هذين الاصطلاحين لمراعاة ذلك على الألفاظ ولذا شاع في تضاعيف عباراتهم إطلاقهما على اللفظ.

وإن شئت لاحظ تصريحهم بأنّ « الكلّي » قد اطلق أو استعمل في الفرد أو الجزئي ، وقولهم : « إطلاق الكلّي على الفرد حقيقة واستعماله فيه مجاز » وهذا هو الباعث على التزامهم بأخذ اللفظ مقسما في هذا التقسيم بخلاف أهل الميزان ، فإنّهم من حيث إنّهم أهل الميزان لا شغل لهم بالألفاظ ولا غرض لهم فيها ، بل

٢٤٣

غرضهم الأصلي في جميع أبواب فنّهم مقصور على المعاني ، ولذا لم يعهد منهم نظير الإطلاق المذكور ، وهو الباعث على اتّفاق تقسيماتهم في أخذ المفهوم أو المعنى مقسما.

لكن ينبغي أن يعلم أنّ الألفاظ في لحوق وصفي الكلّية والجزئيّة بها ليست ملحوظة أصلا وبالذات ، بل هي إنّما تتّصف بوصف المعنى تبعا له ، فإن كان الوصف الثابت فيه هو الكلّية تتّصف بها اللفظ باعتباره وإن اتّصف بالجزئيّة باعتبار اخر ، وإن كان الوصف الثابت فيه هو الجزئيّة اتّصف بها اللفظ بهذا الاعتبار ، وإن اتّصف بالكلّية باعتبار اخر.

وقد يتخيّل لحوقهما اللفظ بنفسه من دون ملاحظة المعنى ، بل ومع كونه مهملا ، فإنّ لفظة « زيد » و « ديز » مع قطع النظر عن صدورهما من احاد اللافظين والمستعملين كلّي ، يندرج تحته خصوص ما صدر عن هذا اللافظ وما صدر عن لافظ اخر وما صدر عن ثالث وهكذا ، فإنّ كلاّ من ذلك بقيد الخصوصيّة المذكورة جزئي لامتناع صدقه بهذا الاعتبار على كثيرين ، بخلاف ما لو اخذ مع التعرية عنها فإنّه حينئذ كلّي ، لصدقه على كثيرين على ما هو ضابط الكلّية ، فتوهّم اشتراط اتّصاف الألفاظ بهما بوجود مفاهيم في إزائها غلط.

وأصل هذا المطلب ـ حسبما زعمه هذا المتخيّل ـ حقّ لاسترة عليه ولا شبهة تعتريه ، فإنّ اللفظ مفهوما وإن كان عبارة عمّا يتلفّظ به الإنسان ، المعبّر عنه بالصوت المعتمد على مقطع الفم ، غير أنّ مصاديقه الخارجيّة عبارة عن الأصوات المختلفة على حسب اختلاف الكيفيّات الطارئة لها باعتبار الضمّ والتركيب وتلاحق الحركات والسكنات ، وهذا هو الوجه في اشتمال اللفظ عندهم على مادّة وهو أصل الصوت وجوهره ، وهيئة وهي الكيفيّة الطارئة له عمّا ذكر ، وظاهر أنّ الألفاظ بمعنى الأصوات المخصوصة قد طرأها الوضع مرّتين ، إحداهما : باعتبار وضعها لمعانيها ، واخراهما : باعتبار وضع الخطوط المعهودة الّتي هي عبارة عن الصور الكتبيّة المخصوصة لها ، فإنّها على ما يساعد عليه النظر امور تعتبر حواكي

٢٤٤

عن الألفاظ المخصوصة ، الّتي تعتبر حواكي عن معانيها المخصوصة ، فهي دالّة على المعاني بواسطة دلالتها على الألفاظ الدالّة عليها كما يدرك بالوجدان ، وكما إنّ الدلالة فيما بين الألفاظ والمعاني لا مستند لها إلاّ الوضع ، فكذلك الدلالة فيما بين الخطوط والألفاظ ، فصورة زيد من حيث إنّها هذا الخطّ موضوعة للفظه من حيث إنّه صوت مخصوص موضوع هو أيضا لمسمّاه ، ومعلوم ضرورة أنّ المأخوذ في وضع الخطوط ووضع الألفاظ معا هو الأصوات من حيث هي صالحة لأن تصدر من كثيرين ، وتصدق على الكثرة الصادرة عن احاد اللافظين ، وهي بهذا الاعتبار امور كلّية لاحظها واضع الخطوط فوضعها بإزائها ، وواضع الألفاظ فوضعها بإزاء معانيها ، وخصوص ما يصدر عن لافظ خاصّ عند التلفّظ بلفظة « زيد » صوت شخصي ، وهو جزئي حقيقي من جزئيّات نوع هذا الصوت الّذي لاحظه واضع الخطوط وواضع الألفاظ ، فالمعتبر في لحاظ هذين الواضعين نوع هذا الصوت الصادق على جزئيّاته الصادرة عن احاد اللافظين بهذا اللفظ ، وكذا الكلام فيها إذا كانت مهملة بالقياس إلى أحد الوضعين ، وهو وضع الخطوط « كديز » ونحوه ، فإنّ معنى كونه مهملا أنّه لم يوضع لمعنى ، لا أنّه لم يوضع له خطّ كما هو واضح.

وهذا هو معنى لحوق الكلّية والجزئيّة للألفاظ بأنفسها ولذواتها من غير نظر إلى معانيها ، غير أنّه بهذا الاعتبار ممّا لا تعلّق له بمقالة أهل الفنّ في وصف الألفاظ بهما ، فإنّ نظرهم في ذلك إلى اتّصافها بهما تبعا لمعانيها.

ولا يذهب عليك ، أنّ مقصود المتخيّل بإيراد هذا المطلب في المقام غير واضح ، فإن أراد به تخطئة من اسند إليهم أنّهم عقدوا اصطلاحهم في الكلّي والجزئي في الألفاظ باعتبار معانيها في أصل هذا الإسناد ، على معنى إنكار انعقادها عليها كذلك ، بل هي منعقدة عليها لذواتها.

ففيه ما لا يخفى من قصور النظر وقلّة التدبّر في كتبهم وعباراتهم الواردة فيها ، فإنّها على ما سمعت نبذة منها بين صريحة وظاهرة في صدق الإسناد ، وإن أراد به

٢٤٥

تخطئتهم في جعل اصطلاحهم فيهما في الألفاظ بالاعتبار المذكور ، بدعوى : كون اللازم عليهم جعله فيها لذواتها بالتقريب المذكور ، ففيه : ما لا يخفى من نهوضه تخطئة لنفسه حيث غفل عمّا يناسب مباحث الفنّ ، فإنّ الاصوليّين لم يتعلّق غرضهم بالألفاظ في حدّ أنفسها ولذواتها ، بل غرضهم في جميع المباحث المتعلّقة بالألفاظ متعلّق بالألفاظ باعتبار دلالاتها على معانيها ، لما هو معلوم بالتتّبع أنّ جميع مقاصدهم في مباحث الألفاظ إنّما هو لغرض إحراز أصل الدلالة ، كما هو المبحوث عنه في مشتركات الكتاب والسنّة المعدودة من مسائل الفنّ ، الّتي موضوعها اللفظ باعتبار وصف الدليليّة ، أو إحراز ما يحرز به الدلالة ، كما هو المبحوث عنه في المبادئ اللغويّة الباحثة عن اللفظ لا باعتبار وصف الدليليّة ، وأيّاما كان فالمطلوب والبحث إنّما هو جهة الدلالة.

غاية الأمر أنّها في المشتركات تطلب بلا واسطة ، وفي غيرها مع الواسطة ، ومن هنا انحصر اصطلاحاتهم في سلسلة الألفاظ والمعاني في أقسام ثلاث :

أحدها : ما هو منعقد على الألفاظ باعتبار دلالاتها على المعاني ، كالمفرد والمركّب والحقيقة والمجاز والمشترك والمنقول والعامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن والنصّ والظاهر والمؤوّل والمحكم والمتشابه ، إلى غير ذلك.

وثانيها : ما هو منعقد على المعاني باعتبار مدلوليّتها للألفاظ ، كالمنطوق والمفهوم بأقسامه ، على ما سنقرّره من كونهما وصفين للمدلول.

وثالثها : ما هو منعقد على الدلالة ، الّتي هي النسبة فيما بين الألفاظ والمعاني ، كالمطابقة والتضمّن والالتزام والاقتضاء والتنبيه والإيماء والإشارة ، ولم يعهد عنهم اصطلاح في الألفاظ المجرّدة عن المعاني ولا المعاني المجرّدة عن الألفاظ ، ولو فرض وجود نحو هذا الاصطلاح لم يكن له تعلّق بمباحث فنّهم ، فليكن اصطلاحهم في الكلّي والجزئي أيضا جاريا هذا المجرى.

ثمّ إنّ قضيّة كون الألفاظ إنّما تتّصف بالكلّية والجزئيّة تبعا لمعانيها المتّصفة بهما ، صدق قضيّة قولنا : « كلّما اتّصف اللفظ بالكلّية والجزئيّة باعتبار المعنى فلا بدّ

٢٤٦

وأن يتّصف المعنى بهما » وينعكس بأنّه : « كلّما لم يتّصف المعنى بهما فلا بدّ وأن لا يتّصف بهما اللفظ ».

وأمّا قضيّة قولنا : « كلّما لم يتّصف اللفظ بهما فلا بدّ وألايتّصف المعنى » فلعلّها كعكس نقيضها ، وهو أنّه : كلّما اتّصف المعنى بهما فلا بدّ وأن يتّصف اللفظ بهما غير صادقة ، لكون الامور الاصطلاحيّة من الامور القابلة للتخصيص فجاز انعقاد اصطلاحهم من أهله في نوع من اللفظ دون غيره.

ومن هنا ربّما يشتبه الأمر في خصوص المقام ، بملاحظة أنّه لم يعهد منهم إطلاق الكلّي والجزئي على الحروف والأفعال باعتبار معانيها النسبيّة المستندة إلى هياتها ، كما اعترف به غير واحد ويظهر بالتتبّع ، وهل هذا من باب التخصيص في الألفاظ لنكتة فلا بدّ من بيان النكتة ، أو من جهة اندراجهما في عكس القضيّة الاولى ، على معنى أنّ عدم الاتّصاف فيهما لأجل عدم اتّصاف معانيها ، لكنّ المستفاد من كلام جماعة بناء الأمر على الوجه الثاني ، وعليه بعض الأعلام (١) حيث قال : وأمّا الفعل والحرف فلا يتّصفان بالكلّية والجزئيّة في الاصطلاح.

ولعلّ السر فيه أنّ نظرهم في التقسيم إلى المفاهيم المستقلّة الّتي يمكن تصوّرها ، والمعنى الحرفي غير مستقلّ بالمفهوميّة ، بل هو أمر نسبي رابطي والة لملاحظة حال الغير في الموارد المشخّصة المعيّنة ، ولا يتصوّر انفكاكها أبدا عن تلك الموارد فهي تابعة لمواردها ، وكذلك الفعل بالنسبة إلى الوضع النسبي.

وفي معناه كلام بعض الفضلاء (٢) حيث علّل عدم اتّصاف المعاني الحرفيّة ، بأنّها مفاهيم اليّة يمتنع ملاحظة العقل إيّاها بنفسها.

وملخّص مفاد العبارتين دعوى : استناد المنع عن اتّصاف اللفظ إلى امتناع اتّصاف المعنى ، لمكان انتفاء قابليّة الاتّصاف عنها من حيث إنّها ليست إلاّ نسبا مخصوصة متعيّنة ، مختلفة الجهات والحيثيّات على حسب اختلاف الموارد

__________________

(١) قوانين الاصول ١٠ : ١.

(٢) الفصول : ٩.

٢٤٧

والمقامات ، فهي كما أنّها تتبع الموارد في أصلها فكذلك تتبعها في وصفها ، فإن كان المورد له وصف الكلّية يتّصف بها النسب المخصوصة بالعرض ، وإن كان له وصف الجزئيّة يتّصف بها النسب أيضا كذلك ، ففي الحقيقة يكون اتّصاف المعنى الحرفي بهما من باب اتّصاف الشيء بوصف متعلّقه لا نفسه ، فينحلّ حاصل المعنى إلى دعويين :

إحداهما : أنّ معاني الحروف معان نسبيّة وامور رابطيّة تعتبر الة لملاحظة حال الغير ، وهذا هو الّذي يساعد عليه النظر الدقيق وصرّح به أهل التحقيق ، نظرا إلى أنّ ما عدا المعاني الحدثيّة والمعاني الغير الحدثيّة المستقلّة من المفاهيم نسب وارتباطات مخصوصة ، تختلف باختلاف الحيثيّات والاعتبارات ، ووضع لبعضها هيئات الأفعال كالارتباط الحاصل فيما بين الذات والحدث باعتبار صدوره عنها ونحوه ، ولأكثرها الحروف كالارتباط الحاصل فيما بينهما باعتبار تعلّقه بها كما في الحروف الجارّة الداخلة في المفاعيل ، أو باعتبار كونها مبدأ لصدوره أو منتهى ومحلاّ لانقطاعه ، أو كونها محلاّ لوقوعه فيها من زمان أو مكان كما في « من » الابتداء و « إلى » و « حتى » الانتهاء و « في » الظرفيّة ، والارتباط الحاصل فيما بين المعاني الحدثيّة بعضها مع بعض باعتبار كون أحدهما غاية للاخر أو علّة له ، كما في « كي » الغرض ولام التعليل ، والارتباط الحاصل فيما بين الذوات بعضها مع بعض باعتبار كون إحداهما متفوّقا على الاخرى أو ظرفا لهما ، كما في « على » الاستعلاء و « في » الظرفيّة وهكذا إلى اخر الحروف ومعانيها ، فإنّها غير خارجة عن الارتباطات المختلفة بالاعتبارات ، وليس في كلام أهل العربيّة وأئمّة اللغة ما ينافي ذلك سوى ما يوهمه قولهم : « من » للابتداء و « إلى » للانتهاء و « كي » للغرض وما أشبه ذلك ، من كون المأخوذ في وضعها هذه المفاهيم أو جزئيّاتها على أنّها هذه المفاهيم باعتبار ما لوحظ معها من وصف الاليّة الباعثة على خروجها عن استقلال المفهوميّة ، كما هو المستفاد من كثير من العبائر أيضا.

ولكن يدفعه : القطع بعدم كون مرادهم بذلك إفادة كون المأخوذ في الحروف

٢٤٨

هذه المفاهيم على الوجه الكلّي أو الجزئي ، كيف وهي بهذا الاعتبار معان مصدريّة اخذ منها المشتقّات.

ولا يذهب إلى وهم أحد كون المأخوذ في وضع الحروف معاني حدثيّة مصدريّة ، بل المراد بها النسب المخصوصة والارتباطات المذكورة ، وإنّما وقع التعبير عنها بتلك الألفاظ تسهيلا في التعبير واختصارا في التفسير ، أو تنبيها على وجوه هذه الارتباطات واعتباراتها حسبما فصّلناه.

واخراهما : كون هذه المعاني لعدم استقلالها إنّما تتّصف بالكلّية والجزئيّة بواسطة متعلّقاتها الّتي هي الموارد الخاصّة لا على الاستقلال ، فهي كما أنّها امور غير مستقلّة في المفهوميّة فكذا غير مستقلّة في الاتّصاف بالكلّية والجزئيّة.

لكن يشكل ذلك : بأنّ كون ما يتّصف به المعنى الحرفي تبعا لملاحظة الموارد الخاصّة هو الوصف الثابت فيها يعتبر ثبوته فيه على سبيل العرض والمجاز غير معلوم ، وإنّما يسلّم ذلك لو كانت الموارد الخاصّة بالإضافة إلى ما يلحقه من الوصفين ملحوظة من باب الوسائط في العروض ، على معنى كون الوصف العارض له هو الوصف الثابت فيها بعينه فيسند إليها إسنادا أوّليّا على سبيل الحقيقة وإليه إسنادا ثانويّا على سبيل المجاز ، فالعارض واحد والمعروض متعدّد بالاعتبار وهو خلاف التحقيق ، بل الأقوى في النظر كونها ملحوظة من باب الوسائط في الثبوت ، لما يدرك بالوجدان من تعدّد العارض كالمعروض عند حصول ملاحظته تبعا لملاحظتها.

ألا ترى : أنّه لو عبرّنا عن المعنى الحرفي للفظة « من » بالارتباط بين الشيئين ، باعتبار كون أحدهما مبدأ للاخر ، بعنوان أنّهما شيئان لا بعنوان السير والبصرة ، كان المدرك في نظر العقل نحوين من الشركة بين الكثرة ، على ما هو مناط الكلّية :

أحدهما : شركة الشيئين بين مصاديقهما ، الّتي منها السير والبصرة.

وثانيهما : شركة الارتباط الّذي هو النسبة الملحوظة بينهما بين مصاديقه ، الّتي منها الارتباط الحاصل بين السير والبصرة.

٢٤٩

ولو عبّرنا عنه بالارتباط بين السير والبصرة على الوجه المذكور مع فرض كلّ من السير والبصرة بالمعنى النوعي ، كان المدرك في نظر العقل نحوين من منع الشركة بالقياس إلى ما فوقهما ، ونحوين من الشركة بالقياس إلى ما تحتهما ، بناء على أنّهما بهذا الاعتبار من باب الجزئيّات الإضافيّة.

ولو عبّرنا عنه بالارتباط بين السير والبصرة بالمعنى الشخصي فيهما ، كان المدرك نحوين من عدم الشركة ، بالمعنى الّذي هو مناط الجزئيّة الحقيقيّة ، أحدهما : عدمها في السير والبصرة ، وثانيهما : عدمها في الارتباط الحاصل بينهما.

ومن هنا يقال : إنّ الواضع في وضع الحرف تصوّر أمرا كلّيا فوضع الحرف له ـ كما عليه القدماء ـ أو لجزئيّاته ـ كما عليه المتأخّرون ـ فإنّ الأمر الكلّي الّذي لاحظه الواضع إنّما ينطبق على العنوان المأخوذ في التعبير الأوّل ، وجزئيّاته تنطبق على العنوان المأخوذ في التعبيرين الأخيرين.

فقضيّة ما قرّرناه ، كون اتّصاف معاني الحروف بالكلّية والجزئيّة من باب اتّصاف الشيء بوصف نفسه ، فلا جرم يكون عدم جريان الاصطلاح في الكلّي والجزئي عندهم على الحروف مستندا إلى نحو من التخصيص في الأمر الاصطلاحي.

ولعلّ النكتة في ذلك أنّه لا غرض لهم في هذا الاصطلاح إلاّ تشخيص موردي الحقيقة والمجاز ، اللاحقين للألفاظ الموضوعة للمفاهيم الكلّية والجزئيّة باعتبار كلّية تلك المفاهيم أو جزئيّتها.

ومن المعلوم كفاية جعل الاصطلاح في الألفاظ الّتي يدرك كلّية أو جزئيّة معانيها بدون تكلّف ملاحظة الغير ، على أنّه واسطة في الثبوت أو العروض في حصول هذا الغرض.

ويمكن أن يقال أيضا : إنّ هذا الغرض الّذي هو أثر ذلك الاصطلاح إنّما يحصل في الألفاظ الّتي يجتمع فيها الحقيقة والمجاز ، على معنى كونها بحيث طرأها كلّ من الوصفين فعلا في استعمالات العرف باعتبار كلّية معانيها أو

٢٥٠

جزئيّتها ، وليست الحروف والأفعال لمعانيها النسبيّة من هذا القبيل ، لاتّفاق الفريقين من القدماء والمتأخّرين على عدم اتّفاق استعمالهما في المفاهيم الكلّية الّتي وضعت لها على رأي الأوّلين ، أو لوحظت الة للملاحظة على رأي الاخرين ، فهي بالقياس إلى الجزئيّات المستعمل فيها إمّا حقائق لا مجاز لها ، أو مجازات لا حقيقة لها ، فالوصفان غير مجتمعين فيها باتّفاق الفريقين.

ولا يخفى إنّ الوجه الثاني لو تمّ وصلح نكتة لجرى في أسماء الإشارة والضمائر والموصولات وغيرها ممّا يشارك الحروف في الوضع لأمر عامّ ، لكون الكلّ من واد واحد ، وقضيّة ذلك عدم جريان الاصطلاح المذكور في المذكورات أيضا.

وهذا وإن التزمه بعض الأعلام (١) على رأي المتأخّرين ، تعليلا بكونها حينئذ تشبه الحرف لمناسبتها إيّاه في الوضع ، بل المتّصف بهما حينئذ هو الموارد الخاصّة بخلافه على رأى القدماء ، فإنّها حينئذ تدخل في الكلّي ، لكن يأباه ما يوجد في تضاعيف عباراتهم من إطلاق الجزئي عليها ، كما يقف عليه المتتبّع ، بل هو ممّا ورد التصريح به في عبارة شارح المنهاج المتقدّم ذكرها ، فإنّ التمثيل « بهذا الإنسان » في تلك العبارة للجزئي تنصيص على أنّ الجزئي يطلق عندهم على اسم الإشارة ، والظاهر من طريقتهم عدم الفرق بينه وبين المضمر والموصول ، لكون الكلّ من باب واحد.

وعليه فما عرفته عن بعض الأعلام يشبه بكونه اجتهادا في مقابلة النصّ ، مع كون تعليله بنفسه عليلا لقصور مجرّد الشباهة في الوضع عن منع الإتّصاف.

نعم إنّما يظهر أثر تلك الشباهة في الأحكام الراجعة إلى أصل اللغة كالإعراب والبناء ، لمكان إنّها لمّا وردت مبنيّة في أصل اللغة إلتزمنا بكونه لعلّة الشباهة المذكورة لمبنى الأصل ، وأمّا كونها مؤثّرة في الامور الإصطلاحيّة أيضا فغير ثابت بل الثابت خلافه على ما عرفت.

__________________

(١) قوانين الاصول ١٠ : ١ ( الطبعة الحجرية ).

٢٥١

المطلب الثالث : قد عرفت بما تقدّم من عباراتهم أنّ الكلّي ينقسم عندهم بالمتواطي والمشكّك على حذو ما صنعه أهل الميزان ، ويوجّه التسمية بالأخير بأنّ السامع بملاحظة تفاوت الأفراد يقع في الشكّ في أنّ اللفظ أهو متواط أو مشترك ، وقد حدث تقسيم اخر هنا في خصوص التشكيك ، وهو تقسيمه إلى البدوي والمضرّ الإجمالي والمبيّن العدم ، بملاحظة أنّ الفرد النادر قد يبلغ في الخفاء مرتبة يقطع السامع بالتأمّل في إطلاقات اللفظ بدخوله في مدلول اللفظ فيزول شكّه ، وقد يبلغ مرتبة يستقرّ شكّه في كونه داخلا أو خارجا ولو بعد التأمّل ، فيضرّ هذا التشكيك في إطلاق اللفظ ويصيّره مجملا بالنسبة إلى الفرد ، وقد يبلغ مرتبة يقطع بخروجه عن المدلول فيتبيّن عنده عدم الدخول.

وقضيّة ما سبق من كون المراد بالكلّي والجزئي ما يجري في اللفظ باعتبار ما يعرض معناه من الوصفين كون المتواطي والمشكّك أيضا جاريين على اللفظ باعتبار جريانهما على المعنى ، وهو صريح العبارة المتقدّمة من المصنّف بملاحظة إضافة المعنى إلى ضمير الكلّي الّذي هو عبارة عن اللفظ ، بل المصرّح به في عبائر الجماعة المتقدّمة ، بل كلّ من تصدّى لهذا التقسيم ، كما هو المناسب لوضع الفنّ وطريقة الاصوليّين. ويشهد له أيضا ما عرفته من شيوع إطلاق هذين العنوانين على المطلقات في غير هذا الموضع.

لكن ربّما يشكل انطباق هذا الإطلاق على مقتضى التقسيم في هذا المقام ، بعد ملاحظة ما يجعلونه معيارا للتواطي والتشكيك ، فإنّ كلماتهم هنا مطبقة على إناطة الأمرين بتساوي الأفراد وتفاوتها في صدق المعنى عليها ، من حيث الأوّليّة والأولويّة والأشديّة وأضدادها ، ممثّلين للمشكّك في الجميع بالوجود بالقياس إلى قسميه الواجب والممكن ، ولا يلائمه التواطي والتشكيك الواردان في باب المطلقات بحسب بادئ النظر ، لكونهما ثمّة منوطين بتساوي الأفراد وتفاوتها في صدق اللفظ ودلالته عليها ظهورا وخفاء ، مع كون التفاوت على تقديره ناشئا عن غلبة إطلاق اللفظ على بعضها ، أو غلبة وجود هذا البعض في الخارج ، وهذا

٢٥٢

المعيار كما ترى ليس بعين المعيار الأوّل ، ولا لازما أو ملزوما له ، كيف وإنّ النسبة بينهما بحسب المورد عموم من وجه.

ولا ريب أنّ المعيار الأوّل أنسب بما تقدّم من أنّ التواطي والتشكيك من الصفات اللاحقة بالألفاظ باعتبار لحوقهما المعاني ، وهما على المعيار الثاني ليسا ممّا يلحق المعاني ، فتكون الألفاظ في لحوقهما لها على الاستقلال ، وبذلك أيضا يحصل الفرق بين المعيارين.

وبالجملة فالمقام في كلام القوم غير منقّح ، وكلماتهم بالنسبة إلى مقام التقسيم وباب المطلقات مضطربة ، وهذا هو منشأ الإشكال.

ولكن يمكن دفعه ـ جمعا بين كلماتهم ـ بالتزام تعدّد اصطلاحهم في خصوص هذين العنوانين :

أحدهما : اعتبار لحوقهما الألفاظ تبعا لمعانيها لا على الاستقلال ، فلا بدّ حينئذ من إناطة الأمر بالمعيار الأوّل.

وثانيهما : اعتبار لحوقهما الألفاظ على الاستقلال ، فلا بدّ حينئذ من الإناطة بالمعيار الثاني.

ويمكن القول ، أيضا ببناء الاصطلاح على الأوّل ، وكون الثاني توسّعا في الاستعمال واردا على خلاف المصطلح عليه ، ليظهر فائدته في باب المطلق ، وفي كلّ من الوجهين ما لا يخفى.

بل الدافع للإشكال والحاسم لمادّته ، الجامع بين كلماتهم على جهة الجزم والاطمئنان ، هو المنع عن تغاير المعيارين وتبائنهما ، بل منع حصول معيار اخر لهم عدا المعيار الأوّل ، ومنع وجود ما يقضي في كلماتهم باعتبار المعيار الثاني ، وذلك لأنّ الاصوليّين تكلّموا في التواطي والتشكيك في مقامين :

أحدهما : مقام التقسيم. وثانيهما : باب المطلق.

لكن غرضهم في المقام الأوّل ، إنّما هو تشخيص موضوع التواطي والتشكيك والتمييز بينهما ، من باب المبادئ اللغويّة التصوريّة طلبا لإحراز ما يكون موضوعا

٢٥٣

لمسألة اصوليّة ، فهم في هذا المقام وإن خالفوا أهل الميزان في جعلهم المتواطئ والمشكّك اصطلاحين في الألفاظ تبعا لملاحظة معانيها ، وكلّ لفظ يكون معناه متواطئا عند أهل الميزان سمّوه متواطئا ، وكلّ لفظ يكون معناه مشكّكا عند أهل الميزان سمّوه مشكّكا ، إلاّ أنّهم وافقوهم في معيارهما بجعل العبرة فيهما بتساوي وتفاوت أفراد المعنى في صدقه عليها بحسب الأوّلية وغيرها ممّا تقدّم ، غير أنّه ينبغي أن يعلم أنّهم كأهل الميزان وإن ذكروا في أسباب التشكيك والجهات المقتضية له هذه الامور الثلاث ، لكن مقصودهم ليس إفادة حصر أسبابه ومقتضياته فيها خاصّة ، بل له عندهم جهات اخر ، منها : غلبة وجود المعنى في بعض الأفراد في لحاظ الخارج ، ومنها : غلبة اعتبار وجوده في بعضها في لحاظ الإستعمال وإن لم يكن غالب الوجود في ذلك بحسب الخارج ، وإنّما خصّوا الامور المذكورة بالذكر هنا لكون ذكرها من باب المثال ، أو لنكتة اخرى ، وأشاروا إلى غيرها كالأمرين المذكورين في باب المطلق ، والضابط الّذي يندرج فيه الأسباب كلّها والجهات المقتضية للتشكيك بأسرها ، اختلاف الأفراد في الكمال وعدمه ، الموجب لتفاوت صدق المعنى عليها.

وظاهر أنّ كمال الفرد قد يتأتّى بأوّليّة صدق الكلّي عليه ، وقد يتأتّى بأولويّته ، وقد يتأتّى بأشدّيته ، وقد يتأتّى بغلبة وجوده بلحاظ الخارج ، وقد يتأتّى بغلبة اعتبار وجوده في ضمن البعض بلحاظ الاستعمال ، كأن يغلب استعماله في المعنى باعتبار غلبة وجوده في ضمن بعض معيّن من الأفراد.

وأمّا كلامهم في المقام الثاني ، فهو راجع إلى البحث عن حال الدليل باعتبار الدلالة ، لشبهة عرضت لها عن التشكيك بالمعنى المذكور المحرز في المقام الأوّل موضوعا لهذا البحث ، الّذي هو بحث في المسألة الاصوليّة.

وتحريرها : أنّ التشكيك اللاحق للمطلق باعتبار اختلاف أفراد معناه وتفاوتها في الكمال وعدمه ، هل توجب تفاوتا في دلالته ، فينصرف إلى الفرد الكامل مطلقا ، أو إذا كان الكمال باعتبار الغلبة في الوجود ، أو الإطلاق ، أو في

٢٥٤

الوجود فقط دون غيره أو لا يوجبه مطلقا ، بل هو في دلالته على أفراد معناه متساوي الصدق والدلالة على الجميع ، وإن تفاوتت الأفراد في الكمال وعدمه.

وهذه أقوال أربع مستفادة من كلماتهم وإن لم تذكر مجموعة في موضع ، وكلّها واردة في المشكّك بالمعنى المصطلح عليه ، وكلّها كما ترى حاصلة بينهم بعد الاتّفاق على أنّ المتواطي من حكمه تساوي دلالته على أفراد معناه ، فيكون هذا كلاما في أنّ المشكّك أيضا من حكمه تساوي دلالته على أفراد معناه المختلفة في الكمال وعدمه ، أو تفاوت دلالته عليها مطلقا ، أو يفصّل بإحدى الوجهين ، وهذا كما ترى ليس من القول بكون المتواطي والمشكّك يلحقان اللفظ باعتبار تساوي وتفاوت دلالته على أفراد معناه.

وإن شئت قلت : إنّ تساوي الدلالة وتفاوتها حكم من أحكام المتواطي والمشكّك ، فالتكلّم فيهما تكلّم في الحكم ، لا أنّهما جزء من الموضوع ، فالقول بأنّ المتواطي والمشكّك عند الاصوليّين باعتبار تفاوت الأفراد في الظهور والخفاء ، بالنسبة إلى فهمها من اللفظ ودلالته عليها ، فما تساوى أفراده ظهورا فمتواط وإلاّ فمشكّك ، ليس على ما ينبغي.

المطلب الرابع : أنّ الكلّي قد ينقسم إلى الطبيعي والمنطقي والعقلي ، قالوا مفهوم الكلّي ـ أعني ما لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين ـ كلّي منطقي ، ومعروضه كلّي طبيعي ، والمجموع من العارض والمعروض كلّي عقلي ، والظاهر أنّ المراد بالمعروض والعارض ما يقع موضوعا ومحمولا في قضيّة قولنا : « الحيوان كلّي » كما هو المصطلح الجاري فيهما عند أهل المعقول.

ومحصّل التقسيم أنّ موضوع هذه القضيّة المعبّر عنه بالجسم النامي الحسّاس المتحرّك بالإرادة ، إن اعتبرناه مع قطع النظر عن محمولها العارض له ، كما لو اعتبرنا زيدا في قضيّة قولنا : « زيد عالم » مع قطع النظر عن وصف العالم كلّي طبيعي ، لكونه من الطبائع وقد يعبّر عنه بالماهيّة من حيث هي هي الّتي ليست إلاّ هي ، ولا يلتفت إلى مقارنتها بشيء في نفس الأمر وجودا وعدما ، ومحمولها الّذي

٢٥٥

يعبّر عنه بما تقدّم إن اعتبرناه مع قطع النظر عن موضوعها ، كما لو اعتبرنا « العالم » في القضيّة المذكورة مع قطع النظر عن زيد كلّي منطقي ، لأنّه الموضوع المبحوث عنه في المباحث المنطقيّة ، والمجموع من هذا الموضوع وذاك المحمول إن اعتبرنا كلاّ منهما مع انضمام الاخر إليه ، على معنى اعتبار الموضوع موصوفا بوصف المحمول كالحيوان الكلّي ، كما لو اعتبرنا زيدا بوصف العالميّة وقلنا : « زيد العالم » كلّي عقلي ، إذ لا تحقّق له إلاّ عند العقل.

ومن هنا بعد التأمّل يظهر ، أنّ هذا التقسيم لفظي إذ ليس فيما بين الأقسام المذكورة قدر جامع يكون مسمّى اللفظ بعنوان الحقيقة ، كما لا يخفى.

فلا بدّ من أن يراد بالمقسم ما يسمّى بالكلّي ، أو ما يطلق عليه الكلّي أو نحو ذلك وإن شئت قلت : إنّه من باب تقسيم المشترك اللفظي إلى معانيه.

وعليه فما في كلمات بعض الأعلام (١) عند الفرق بين الجنس والكلّي الطبيعي من توهّم أنّ الكلّي الطبيعي أخصّ من الجنس الّذي هو مرادف الكلّي الّذي هو أعمّ من الكلّي الطبيعي ، لانقسامه إليه وإلى غيره من القسمين الأخيرين ، ليس بسديد ، إذ ليس في التقسيمات اللفظيّة ما يكون أعمّ ليكون كلّ قسم أخصّ منه بعنوان الحقيقة ، مع أنّ الجنس إن فسّرناه بالماهيّة لا بشرط شيء كما هو مصطلحهم والمصرّح به في غير موضوع من كلامه ، لا ينطبق على الكلّي بالمعنى الّذي يقع عليه اسمه في قضيّة التقسيم ، بل إنّما ينطبق عليه الكلّي الطبيعي بالمعنى المشار إليه ، أعني الماهيّة من حيث هي هي الّتي ليست إلاّ هي ، فهما مترادفان لفظا ومتّحدان معنى.

ثمّ الكلّي الطبيعي إذا اضيف إليه الوجود فإمّا أن يضاف إليه في الذهن فلا إشكال ولا خلاف في وجوده ، سواء اخذ بنفسه أو باعتبار أفراده ، أو يضاف إليه

__________________

(١) قوانين الاصول ٢٠٣ : ١ ، حيث قال : « ... وليس كلّ جنس يكون كلّيا طبيعيّا ، فالجنس أعمّ ، فإنّ الكلّي الطبيعي معروض لمفهوم الكلّي ونفس الكلّي جنس ، فالجنس أعمّ مطلقا ... ».

٢٥٦

في الخارج بنفسه ، على معنى اعتبار وجوده فيه مع قطع النظر عن أفراده ، حتّى يكون على تقدير الوجود موجودا فيه وإن لم يكن له فرد موجود ، ويكون في الطرف المقابل من فرده إن كان له فرد موجود ، ولا إشكال كما لا خلاف في عدم وجوده بل امتناع وجوده على هذا الوجه ، أو يضاف إليه في الخارج أيضا ولكن باعتبار أفراده ، على معنى كونه إن اخذ مع أفراده موجودا إمّا بطريق العينيّة ـ بأن يكون عين فرده الموجود ـ أو بطريق الضمنيّة ـ بأن يكون جزا من فرده الموجود ـ ففي وجوده بهذا الاعتبار على أحد الوجهين وعدم وجوده مطلقا خلاف.

ومحصّل الخلاف أنّ الطبيعة الّتي يعرضها الكلّية بطريق الحمل أو الوصف النحوي ، هل لها مع قطع النظر عن وجودها الذهني وجود وتحصّل خارجي ، بحيث لو وقعت عليها الإشارة مع قطع النظر عن الخصوصيّات المكتنفة بها والشروط المضافة إليها لوقعت على أمر حسّي وشيء متأصّل في الخارج ، فتكون موجودة في الأعيان بطريق العينيّة أو الضمنيّة ، أو لا وجود له في الخارج أصلا ، بل ليس له من الوجود إلاّ ما في الأذهان.

فالقول بالعينيّة لجماعة ويستفاد من المصنّف على ما ستعرفه ، ومن التفتازاني شارح الشرح حيث قال : والحقّ وجودها في الأعيان ، لكن لا من حيث كونها جزء من الجزئيّات المحقّقة على ما هو رأي الأكثرين ، بل من حيث إنّه يوجد شيء يصدق هي عليه وقد تكون عينه بحسب الخارج وإن تغاير بحسب المفهوم.

والقول بالضمنيّة منسوب إلى المحقّقين. ويستفاد من كلام محكيّ عن الشيخ في الشفاء ، وهي على ما في حواشي الزبدة من مؤلّفها :

والحيوان بشرط ألايكون معه شيء اخر لا وجود له في الخارج ، وأمّا الحيوان لا بشرط فله وجود في الأعيان ، فإنّه في حقيقته بلا شرط وإن كان معه ألف شرط يقارنه من الخارج ، فالحيوان بمجرّد الحيوانيّة موجود في الأعيان ، وليس ذلك يوجب عليه أن يكون مفارقا ، بل الّذي هو في نفسه خال عن الشرائط

٢٥٧

اللاحقة موجود في الأعيان وقد اكتنفه من خارج شرائط وأحوال ، فهو في حدّ واحدته الّتي هو بها واحد من تلك الجهة هو حيوان مجرّد بلا شرط شيء اخر. انتهى ، فتأمّل.

والقول بعدم الوجود معروف ، وعليه شارح المطالع ويستفاد من الحاجبي في المختصر ، وربّما عزى إلى المصنّف أيضا وليس كما عزّى ، بل المستفاد منه في غير موضع من الكتاب هو القول الأوّل ، وإن شئت لاحظ كلامه في بحث اجتماع الأمر والنهي ، فإنّه عند دفع ثاني حجّتي القول بجواز الاجتماع ، قال : ضرورة أنّ الأحكام إنّما تتعلّق بالكلّيات باعتبار وجودها ، فالفرد الّذي يتحقّق به الكلّي هو الّذي يتعلّق به الحكم حقيقة ، وهكذا يقال في جهة الصلاة ، فإنّ الكون المأمور به فيها وإن كان كلّيا ، لكنّه إنّما يراد باعتبار الوجود ، فمتعلّق الأمر في الحقيقة إنّما هو الفرد الّذي يوجد منه ولو باعتبار الحصّة الّتي في ضمنه من الحقيقة الكلّية على أبعد الرأيين في وجود الكلّي الطبيعي. انتهى (١).

ولا يخفى أنّ قوله : « ضرورة إنّ الأحكام إنّما يتعلّق بالكلّيات باعتبار وجودها » وكذلك قوله : « فالفرد الّذي يتحقّق به الكلّي هو الّذي يتعلّق به الحكم » صريح في خلاف القول بعدم الوجود ، وبمثل ذلك صرّح في بحث المفرد المعرّف باللاّم ، بقوله : « إذ الأحكام الشرعيّة إنّما تجري على الكلّيات باعتبار وجودها ».

فدعوى : أنّ قوله : ـ في اخر كلامه المذكور ـ « على أبعد الرأيين في وجود الكلّي الطبيعي » يدلّ على أنّ مذهبه عدم وجوده في الخارج بل أفراده موجودة ، واردة على خلاف التدبّر في عمق العبارة ، بل ما ذكر بصراحته يدلّ على اختياره القول بالعينيّة ، حيث جعل القول بوجود الحقيقة الكلّية باعتبار الحصّة الموجودة منها في ضمن الفرد أبعد الرأيين في وجود الكلّي الطبيعي ، فإنّ من البيّن أنّ الرأيين في الوجود :

أحدهما : كونه في ضمن الفرد الموجود منه.

__________________

(١) معالم الاصول : ٩٩.

٢٥٨

وثانيهما : كونه عينه ، فإذا كان الأوّل عنده أبعد يتعيّن كون الثاني هو الأقرب ، ويشهد له قوله : « فمتعلّق الأمر في الحقيقة إنّما هو الفرد الّذي يوجد منه ولو باعتبار الحصّة الّتي في ضمنه من الحقيقة الكلّية » فإنّ لفظة « لو » إذا كانت للوصل فإنّما هي للترقّي عن الفرد الظاهر القويّ إلى الفرد النادر الخفيّ على ما هو الغالب فيها ، فإذا كان القول بوجود الحصّة خفيّا في نظره بقي كون القول بالعينيّة قويّا ، لأنّ القول بعدم الوجود بالمرّة ينفيه الكلمات السابقة.

وأظهر من الجميع في إفادة هذا المعنى كلام محكيّ عنه في الحاشية المعلّقة على حكمه بكون الاستعمال في اللفظ الموضوع للمعنى الكلّي في خصوص الفرد مجازا ، عند من يزعم كون صيغة « إفعل » للقدر المشترك بين الوجوب والندب ، فقال : هذا الحكم واضح عند من لا يقول بأنّ الكلّي الطبيعي موجود بعين وجود أفراده وأمّا على هذا القول ـ وهو الأظهر ـ فوجه المجازيّة ... الخ (١).

وستقف على تمام هذه العبارة في بحث الصيغة.

وكيف كان ، فالّذي نراه حقّا على الوجه الّذي لا محيص عنه إنّما هو الوجود ، لكن لا لما يستدلّ به من أنّه جزء من هذا الحيوان الموجود وجزء الموجود موجود ، فإنّه غير خال عن المصادرة ، والّذي ينكر وجوده بالمرّة ينبغي أن ينكر جزئيّته أيضا لئلاّ يتدافع بعض كلامه بعضا ، بل لأنّ الفطن العارف إذا جانب الاعتساف ولاحظ بعين الإنصاف جميع أجزاء العالم من جواهرها وأعراضها لا يرى منها شيئا إلاّ وهو كلّي طبيعي تلبّس بلباس الوجود وماهيّة متأصّلة تحلّت بحلية التحصّل ، بل هو من الامور الحسيّة الّتي قد يلتبس أمرها على الوهم ، ويشتبه حالها على النظر السفسطي فيذهب إليه عدم كونه إلاّ أمرا اعتباريّا لا تحصل له إلاّ في الذهن ، وشيئا منتزعا ينتزعه العقل عن الأفراد الّذي لو لا انتزاعه

__________________

(١) المعالم : ٤٥ في ذيل قوله : « ... على أنّ المجاز لازم بتقدير وضعه للقدر المشترك أيضا ... ـ إلى أن قال ـ : فالمجاز لازم في غير صورة الاشتراك ... ».

٢٥٩

لم يكن شيئا بحسب الخارج أصلا ، غفلة عن أنّ الأفراد لا تقوّم لها إلاّ به ، ولا أصل لها إلاّ هو ، ولا تتحصّل إلاّ بتحصّله ، ولنا في إثباته طريقان :

أحدهما : طريق الحسّ والوجدان.

والاخر : طريق الحدس والبرهان.

أمّا الأوّل : فلأنّا نجد بالحسّ والعيان وندرك بالضرورة والوجدان عن كلّ شخص خارجي لو قطع النظر عن جميع مميّزاته وجرّد عن كافّة عوارضه المشخّصة ، ما يكون منطبقا على الماهيّة الكلّية الصادقة على الكثيرين ، انطباقا يوجب صحّة حملها عليه ، فإنّا كما نجد منه بالحسّ ونحسّ عنه بالعيان أعراضا مخصوصة مكتنفة به مميّزة له عمّا سواه ، كذلك نجد ونحسّ منه أمرا زائدا عليها جامعا بينه وبين سائر مشاركاته.

وبالجملة ، كما ندرك من الأفراد الخارجيّة ما به امتيازها بالحسّ والعيان فكذا ندرك ما به اشتراكها بالحسّ والوجدان ، بحيث لو أخذه العقل لا بشرط شيء من مشخّصاته واعتبره معرّى عن جميع قيوده كان بعينه هو الماهيّة الكلّية الّتي يجوّز العقل صدقها على الكثيرين ، ومن أنكر ذلك فقد كذّب حسّه وكابر وجدانه فلا يلتفت إليه.

وأمّا الثاني : فلأنّ فرد الماهيّة هو الشيء الّذي طرأه الوجود في الخارج ، وظاهر أنّ الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد ، كما أنّه ما لم يوجد لم يتشخّص ، لا بمعنى أنّ الوجود والتشخّص متّحدان ذهنا وخارجا ، بل بمعنى أنّهما متغايران ذهنا متلازمان خارجا ، ولذا كان الوجود عبارة عمّا يقابله ما يناقضه وهو العدم ، والتشخّص عبارة عمّا يقابله ما يضادّه كتشخّص فرد اخر.

ومن المعلوم أنّ التشخّص أمر نسبي لا بدّ له من مشخّص ، كما أنّه لا بدّ له من متشخّص ، فهو لا يتحقّق ولا يتعقّل إلاّ بتحقّق وتعقّل منتسبيه ، المشخّص والمتشخّص ، والمشخّص للشيء مع كونه مشخّصا له قد يكون متشخّصا به ، بأن يكون كلّ منهما مشخّصا لصاحبه ومتشخّصا بصاحبه أيضا ، كما لو كانت الماهيّة

٢٦٠