تعليقة على معالم الاصول - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٤٤٣

فإنّ الكذب إنّما يلزم بإرادة الحقيقة حين إقامة الدلالة على المجاز ، ولا ركاكة في نوع المجاز بل فيه من الحسن والبلاغة في غالب موارده ما ليس في الحقيقة ، والإتيان به غير مقصور على العجز عن الحقيقة ، وخفاء القرينة بتقصير المكلّف عن المراعاة أو بواسطة العوارض الخارجة لا يوجب قبحا على الحكيم ، ووجود معنى المتجوّز فيه تعالى غير ممنوع ، وهو لا يوجب جواز إطلاق لفظه لوجود المانع أو فقد المقتضي ، لمكان توقيفيّة أسمائه تعالى ، وكلامه حقّ مستلزم للحقيقة بالمعنى المرادف للصدق لا المقابل للمجاز.

الرابعة : لا ريب في إمكان الواسطة فيما بين الحقيقة والمجاز ، بأن يكون هناك لفظ بالقياس إلى معنى ليس بحقيقة ولا مجاز ، فإنّ الحقيقة على ما تقدّم بالإضافة إلى ما يصير من جهته من المعاني حقيقة تتضمّن الوضع والاستعمال ، والمجاز بالإضافة إلى ما يصير من جهته من المعاني مجازا يتضمّن العلاقة والاستعمال ، فأمكن الخلف بين الوضع والاستعمال في الأوّل ، وبين العلاقة والاستعمال في الثاني ، وقضيّة ذلك تحقّق صور من اللفظ تخلّفت عن الحقيقة والمجاز :

إحداها : لفظ وضع ولم يستعمل في الموضوع له.

وثانيتها : لفظ لمعناه الموضوع له مناسب لم يستعمل فيه ، وهذا هو الّذي قد يعبّر عنه بالمجاز الشأني.

وثالثتها : لفظ مستعمل في غير مناسب لمعناه الموضوع له من غير وضع له بإزائه ، وهذا هو الّذي يعبّر عنه « بالغلط » لكنّ العلاّمة في النهاية (١) لم يتعرّض إلاّ للصورة الاولى ، مع تصريحه بأنّه يندر ، بل لا يوجد لانتفاء معظم فوائد الوضع.

وأمّا ما عن فخر الدين (٢) من أنّ دلالة اللفظ قد لا تكون حقيقة ولا مجازا ، فلعلّه ناظر إلى الصورة الأخيرة ، نظرا إلى أنّ الدلالة مسبوقة بالاستعمال ، ولا يعقل انتفاء الوصفين مع وقوع الاستعمال إلاّ بانتفاء لازميهما من الوضع والعلاقة ، لكنّه

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ٢٦ ( مخطوط ).

(٢) المحصول في علم الاصول ٣٤٣ : ١.

٣٠١

لا يلائمه احتجاجه المحكيّ باللفظ في حالة الوضع قبل الاستعمال ، ولذا اعترض عليه العلاّمة بقوله : ليس بجيّد (١) تعليلا بكون الدلالة مسبوقة بالوضع.

وممّا جعله العلاّمة من الواسطة بعد ما ذكر الصورة الاولى منها كما عرفت ، الأعلام مصرّحا بأنّها ليست حقيقة ولا مجازا ، وكان مراده على ما يظهر من تعليله عدم كونهما من الحقيقة والمجاز اللغويّين كما أشرنا إليه سابقا ، وهو بهذا التوجيه وإن كان جيّدا غير أنّه يشكل بقضائه بعدم كون الحقائق العرفيّة عامّة وخاصّة ـ خصوصا إذا كانت موضوعة بوضع التعيين ـ حقيقة ومجازا بهذا المعنى ، فلا وجه للاقتصار على الأعلام وإفرادها بنفي الحقيقة والمجاز.

لا يقال : إنّ الوضع في الحقائق العرفيّة إنّما يحصل من باب النقل ، الّذي لا يتأتّى إلاّ مع وجود المناسبة ، فهي لتضمّنها المناسبة بالقياس إلى الوضع اللغوي كانت مجازات لغويّة ، ويقوى ذلك فيما حصل وضعه بالاشتهار والغلبة.

لأنّا نقول : مع أنّ المناسبة المعتبرة في النقل لم يجب كونها مصحّحة للتجوّز ، بأن يكون من العلائق المعتبرة في المجاز ، أنّ المعتبر في المجاز استناد استعمالاته إلى العلاقة الموجودة ، والمأخوذ الموجود في النقل استناد الوضع إليها حتّى فيما طرء بالاشتهار والغلبة ، فإنّ اللفظ حيثما بلغ حدّ الحقيقة فاستعمالاته في تلك الحالة ليست مستندة إلى العلاقة بل مستندة إلى الوضع الطارئ ، فهو في هذه الحالة ليست بمجاز لغوي جزما ، وكونه مجازا قبلها في إحدى الصورتين لا يقضي بكونه كذلك بعدها.

ويقوى ذلك في المنقول بوضع التعيّن إذا لم يطرأه من أهل اللغة ولا غيرهم استعمال لأجل العلاقة الموجودة.

نعم هذا على ذلك التقدير مجازي شأني ، لكن قد عرفت كون المجازات الشأنيّة من جملة الوسائط ، وما قد يوجد في كلامهم من أنّ كلّ حقيقة عرفيّة

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : ٢٦ ( مخطوط ).

٣٠٢

أو شرعيّة مجاز لغوي ، وكلّ حقيقة لغويّة فهو مجاز عرفي أو شرعي ليس على إطلاقه ، وعلى تقدير إرادة الإطلاق فهو ليس بسديد ، إلاّ إذا اخذ في حدّي الحقيقة والمجاز « اصطلاح التخاطب » كما عليه جماعة ، لا الحيثيّة الراجعة إلى الاستعمال كما حقّقناه ، وهو مع ضعفه لا يخلو عن إشكال يظهر وجه بالتأمّل.

وتوضيحه : أنّ ظاهر الاستعمال في خلاف ما وضع له في اصطلاح التخاطب المأخوذ في حدّ المجاز ، يقضي بكون الاستعمال واقعا عليه على أنّه خلاف ما وضع له في ذلك الاصطلاح.

ولا ريب أنّه خرج حينئذ عن كونه حقيقة عرفيّة أيضا ، وإنّما يصير حقيقة عرفيّة إذا وقع الاستعمال عليه على أنّه ما وضع له بالوضع الطارئ ، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين كون المستعمل من أهل اللغة أو العرف أو الشرع.

وبذلك يظهر أنّ قيد « اصطلاح التخاطب » المأخوذ في الحدّين لا يجدي في دفع النقض بالمنقول الوارد عليهما حسبما تقدّم ذكره مفصّلا ، بل الدافع للنقض ليس إلاّ قيد « الحيثيّة » وبعد اعتباره في الحدّين بطل توهّم كون الحقيقة العرفيّة أو الشرعيّة مجازا لغويّا وبالعكس.

وبالجملة ، فالمقام غير خال عن إشكال لما في كلماتهم من وصمة الإجمال.

نعم على القول بأنّ المراد « باللغة » في الحكم بعدم كون الأعلام من الحقيقة والمجاز اللغويّين ، ما يعمّ العرف والشرع لا ما يقابلهما يسقط ما تقدّم من النقض بالحقائق العرفيّة العامّة والخاصّة ، لكنّ الحكم في الأعلام إنّما يصحّ لو بني على خروجها عن العرفيّة بكلا قسميها ، وقد عرفت ما في ذلك أيضا من الإشكال.

الخامسة : الأقرب أنّه لا تلازم بين الحقيقة والمجاز ، فالحقيقة لا تلازم المجاز كما أنّ المجاز لا يلازمها ، أمّا الأوّل فهو المصرّح به في كلامهم المتّفق عليه فيما بينهم ، لجواز كون استعمال اللفظ بعد الوضع مقصورا على المعنى الموضوع له من غير اتّفاق إستعماله في خلافه المناسب له.

وأمّا الثاني : فاختلفوا فيه على قولين :

٣٠٣

أحدهما : ما صار إليه غير واحد من أساطين الاصول ، من أنّ المجاز أيضا لا يلازم الحقيقة ، وعزى إلى المعظم تارة والأكثر اخرى والمحقّقين ثالثة.

وثانيهما : أنّه يستلزمها ، ذهب إليه ـ على ما في النهاية ـ جماعة منهم فخر الدين الرازي.

حجّة القول الأوّل : أنّ المجاز هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة بينهما ، فهو بالضرورة مسبوق بالوضع ، لكنّ الوضع لا يجب معه الاستعمال ، فأمكن انفكاك المجاز عن الحقيقة من حيث إمكان انفكاك الاستعمال عن الوضع.

نعم يستحيل انفكاكه عن الوضع الأصلي ، لكونه تابعا فيستحيل وجوده بدون وجود متبوعه.

حجّة القول الاخر أمران :

أحدهما : أنّ المجاز هو اللفظ المستعمل في غير موضوعه الأصلي ، وهذا تصريح بوضعه في الأصل لمعنى اخر ، فاللفظ متى استعمل في ذلك الموضوع كان حقيقة.

وردّ : بأنّ الإلزام على الوضع الأصلي إلزام بما لا كلام فيه ، كما لا كلام في انعقاد الشرطيّة في الخارج بعد تحقّق شرطها وهو الاستعمال ، وإنّما الكلام في وجوب هذا الشرط من الوضع ، وهو الممنوع عندنا.

ولا ريب أنّ فرض التحقّق لا يصيّر المفروض متحقّقا ، ومع عدم التحقّق تحقّق المجاز من دون حقيقة ، والمفروض أنّ كون الموضوع له صالحا لأن يقع عليه الاستعمال لا يوجب وقوعه مستعملا فيه بحسب الحقيقة ، والحقيقة تستلزم الوضع والاستعمال الفعليّين ، وإذا انتفت الفعليّة عن أحدهما انتفت الحقيقة ألبتّة.

وثانيهما : أنّه لو لم يستلزم الحقيقة لعرى الوضع عن الفائدة ، إذ غايته الباعثة عليه إنّما هو الاستعمال فيما وضع له ، فإذا انتفى الاستعمال انتفت الفائدة.

٣٠٤

واجيب عنه : بأنّ الواجب في فعل الحكيم قصد الفائدة لا ترتّبها في الخارج ، فعدم ترتّبها لدواع خارجيّة لا يخلّ بالحكمة.

ونوقش بأنّ قصد ما لا يترتّب على الشيء راجع إلى الجهل بحاله ، فما ذكر إنّما يتمّ إذا ثبت أنّ الواضع ليس هو الله وأنّ الوضع ليس بإلهامه ، وإلاّ فالقصد المذكور غير ممكن ، وعلى تقدير إمكانه فهو مخلّ بالحكمة.

واجيب أيضا : بمنع الملازمة ، فإنّ صحّة التجوّز الّذي هو تابع للوضع ، فائدة تترتّب عليه.

ونوقش بأنّ فائدة الوضع للمعنى المجازي أكثر ، لاستغنائه عن مؤنة القرينة والخروج عن ظاهر الاستعمال ، فالعدول عنه إخلال بالحكمة.

ويمكن دفعها : بأنّ المعاني المجازيّة قد تتعدّد ، ومع الاتّحاد فالحكيم العالم بالحال قد يعلم بأنّ الوضع في لفظ خاصّ لا يستتبع الاستعمال فيما وضع له ، سواء فرض ذلك الوضع في المعنى المجازي ، أو فيما فرضه المجيب موضوعا له لفائدة التجوّز في غيره ، على معنى علمه بأنّ المتحاورين بذلك اللفظ إنّما يتعلّق غرضهم فيه بالاستعمال المجازي لحكمة دعتهم إليه ، بحيث لولاه لم يستعملوه أبدا ، فيجب في الحكمة أن يضعه لأحد المعنيين أو المعاني ، لفائدة التجوّز الّذي به يتعلّق غرض المتحاورين تسهيلا للأمر عليهم ، مع أنّ مراعاة ما في التجوّز من المزايا المعنويّة والجهات المحسّنة الراجعة إلى مقام البلاغة وحسن التأدية الّتي لا يستتبعها الاستعمال الحقيقي ، ربّما تصلح حكمة باعثة على إيثار الوضع لما يستتبع التجوّز على الوضع لما لا يستتبعه ، وهو المعنى المجازي المفروض.

ألا ترى : أنّك إذا قلت : « رأيت أسدا » مريدا به الرجل الشجاع ، يفيد المعنى على الوجه الأكمل الّذي لا يفيده قولك : « رأيت شجاعا » وفائدة الاستغناء عن مؤنة القرينة وإن كانت هي الحكمة الباعثة على فتح باب الوضع ، غير إنّها كثيرا مّا لا تقع مؤثّرة ، لعدم مقاومتها في كثير من الألفاظ والمعاني مزايا التجوّز ، وإلاّ كان فتح باب التجوّز في مظانّه عدولا عن ملازمة مقتضى الحكمة ، مع أنّه يمكن منع

٣٠٥

الملازمة أيضا ، بأنّ الاستعمال في المعنى الموضوع له ربّما يتّفق بعد التجوّز بالقياس إلى خلافه ، فهو قبل طروّ هذا الاستعمال كان مجازا بدون الحقيقة ، وهذا كاف في منع الاستلزام ، ولا يشترط في حصول فائدة الوضع سبقه على سائر استعمالات اللفظ.

قال العلاّمة في النهاية (١) : ومن أغرب الأشياء اعتراف فخر الدين قبل ذلك بقليل باستلزام المجاز الوضع ، وكونه جائز الخلوّ عن الحقيقة والمجاز انتهى. وهذا كما ترى اعتراف بفساد الدليل.

ثمّ إنّ أصحاب القول بإمكان المجاز بلا حقيقة اختلفوا في وقوعه ، مع اعتراف القائلين بالوقوع بندرته.

واحتجّوا على الوقوع بوجوه لا يخلو شيء منها عن شيء.

منها : لفظ « الرحمن » فإنّه موضوع في الأصل لرقيق القلب ولم يستعمل فيه ، بل استعمل فيه تعالى مجازا ، وعلى فرض كونه موضوعا في الأصل لذي الرحمة والإحسان والفضل والامتنان ثبت المطلوب أيضا ، لعدم استعماله فيه على الوجه الّذي اخذ في الوضع ، بل استعمل فيه تعالى باعتبار الخصوصيّة مجازا ، وأيّا ما كان فيتحقّق المجاز بدون الحقيقة.

ومنها : الأفعال المنسلخة عن الزمان ، « كعسى » و « نعم » و « بئس » و « ليس » فإنّها في الأصل كانت موضوعة للاقتران بالزمان على حدّ سائر الأفعال الماضية ، ولم تستعمل إلاّ مجرّدة عن الزمان كما هو قضيّة التعبير عنها بالأفعال المنسلخة.

ومنها : نحو « قامت الحرب على ساق » و « شابت لمة الليل » من المركّبات فإنّها مستعملة في هذه المعاني مجازا ، فتكون من المجاز بلا حقيقة لفقد ما يصلح حقيقة لها.

وقد يحتجّ بهذه المذكورات على بطلان القول باستلزام المجاز للحقيقة ، فيقرّر

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ٢٦ ( مخطوط ).

٣٠٦

الاحتجاج بالوجه الأخير ، بأنّه لو استلزمها لكان نحو المركّبات المذكورة حقائق وبطلانه معلوم بالضرورة.

ويمكن الجواب عن الأوّل أوّلا : بمنع كونه فيه تعالى مجازا لجواز طروّ النقل فيه بالقياس إليه تعالى ، ولا يلزمه سبق التجوّز ، لعدم انحصاره في المسبوق به إلى أن يغلب فبلغ حدّ الحقيقة ، بل قد يكون بالتعيين من دون سبق استعمال فيه عليه ، وقد يكون بالتعيّن من دون سبق تجوّز في الاستعمال ، بأن يكثر إطلاقه عليه تعالى من باب إطلاق الكلّي على الفرد إلى أن يغلب فيه ويتعيّن له.

ولا يذهب عليك أنّ ثاني الوجهين مخدوش عندنا ، لتنافي فرض الإطلاق المبنيّ على إلغاء الخصوصيّة وحصول التعيّن من جهته المبنيّ على اعتبار الخصوصيّة ، فإنّ التعيّن إنّما ينشأ من غلبة استعمالات اللفظ إلى أن يستغني عن القرينة ، فلا بدّ وأن يكون محلّه معروض تلك الاستعمالات ، فإذا كان التقدير تقدير تعرية معروض الاستعمالات عن الخصوصيّة استحال طروّ التعيّن لها ، وإذا كان فرض التعيّن محقّقا في الخارج وهو يقتضي اعتبار الخصوصيّة استحال تعرية الاستعمالات عنها.

وثانيا : بمنع قضاء عدم الاطّلاع على عدم الوقوع.

واعترض عليه العضدي والتفتازاني : بأنّا لا نعني بعدم الاستعمال إلاّ عدم الاطّلاع بعد الاستقراء التامّ.

وثالثا : بمنع عدم اتّفاق استعماله في موضوعه الأصلي ، كيف وإنّهم أطلقوا « رحمن اليمامة » على مسيلمة الكذّاب ، حتّى أنّه قال بعضهم في شأنه : « وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا ».

واعترض عليه تارة : بأنّ الإطلاق المذكور على تقدير صحّته متأخّر عن استعماله فيه تعالى ، فهو قبل طروّ هذا الإطلاق ممّا يصدق عليه المجاز من دون حقيقة وهذا كاف.

واخرى : بأنّ هذا الإطلاق وقع منهم تعنّتا في كفرهم فلا يعبأ به.

٣٠٧

وزاد التفتازاني : هذا كما إذا أطلق كافر لفظ « الله » على مخلوق ، فلا يكون استعمالا صحيحا.

وفيه : أنّ ذلك إنّما يتمّ إذا كان مبنى الاحتجاج على دعوى عدم وقوع الاستعمال في المعنى الأصلي على الوجه الشرعي ، بناء على ما ادّعي من قيام المنع الشرعي من استعماله في غيره تعالى.

وهذا واضح الفساد ، إذ المقصود إقامة الحجّة على عدم اتّفاق استعما لهذا اللفظ فيما وضع له ، لا إقامة الدليل على قيام المنع الشرعي من الاستعمال ، فوقوعه منهم تعنّتا يكشف عن عدم اعتنائهم بالشرع ، وهو لا ينافي صحّته باعتبار اللغة ، مع أنّ النزاع إثباتا ونفيا ليس في صحّة الإطلاق لغة وعدمها ، بل الصحّة على فرض وقوعه من مسلّمات الفريقين.

وإنّما النزاع في وقوع أصل الاستعمال ، لئلاّ يكون المثال من المجاز بلا حقيقة ، وعدم وقوعه ليكون منه ، فالحكم عليه بعدم الصحّة ممّا لا تعلّق له بالمقام ، ولم يدّعه أحد ، وعلى فرض التنزّل فقياس الإطلاق المذكور على ما لو أطلق كافر لفظ الجلالة على المخلوق فاسد ، لوضوح الفارق في وجود مقتضي الصحّة في لفظ « الرحمن » وهو وضعه النوعي للمعنى الكلّي الوصفي ، وعدم وجوده في لفظ الجلالة ، من حيث إنّه على الأصحّ لم يوضع إلاّ علما للذات الواجب الوجود ، فإطلاقه على غيره تعالى غلط جزما.

وثالثة : بما في كلام التفتازاني زيادة على ما مرّ ، من أنّك إذا تأمّلت علمت أنّ هذا الإطلاق ليس حقيقيّا ، لأنّهم لم يريدوا به رقّة القلب ، وملخّصه : أنّه في هذا الإطلاق أيضا مجاز ، بل أرادوا به الفضل والإحسان كما يشهد به قوله : « غيث الورى » ويقتضيه أيضا إضافته إلى اليمامة الّتي هي مدينة من اليمن على مرحلتين من الطائف ، وصاحبها مسيلمة الكذّاب.

ولا ريب أنّ رقّة القلب لا تلائمه ، فالإطلاق هنا وفيه تعالى على معنى ، كما هو من مقتضى كفرهم أيضا ، وتوهّم كونه بحسب الأصل لذي الفضل والإحسان

٣٠٨

فاسد ، وعلى فرض الصحّة فالخصوصيّة الباعثة على التجوّز قائمة هنا أيضا ، حسبما ذكر فيه تعالى.

ورابعا (١) : بمنع كون إطلاقه في الله تعالى إطلاقا له في غير وضعه الأصلي ، فإنّ له باعتبار نوعي الهيئة والمادّة وضعين نوعيّين ، كما هو قضيّة كونه من المشتقّات ، وهو باعتبار الهيئة بالقياس إليه تعالى مستعمل في المعنى الفاعلي كما هو قضيّة وضعه النوعي المتعلّق بنوع هذه الهيئة ، وليس هذا إلاّ استعمالا فيما يقتضيه الوضع الأصلي.

نعم إنّما حصل فيه التجوّز باعتبار المادّة من حيث إنّ الرحمة في ضمن هذه الهيئة لم يرد منها الرقّة ، غير أنّه ليس بهذا الاعتبار تجوّزا منفكّا عن الحقيقة ، لضرورة كون هذه المادّة في ضمن سائر هيئاتها وباقي تصاريفها مستعملة في وضعها الأصلي.

ولا ريب أنّ انتفاء المقيّد لا يستلزم انتفاء المطلق ، غاية ما هنالك عدم استعمالها مقيّدة بتلك الهيئة في وضعها الأصلي ، والمفروض إنّها بهذا الاعتبار ليس لها وضع على حدّة ، واستعمالها مقيّدة بسائر الهيئات عمل فيه بمقتضى وضع النوع ، وهذا كاف في انعقاد الحقيقة بالنسبة إلى هذه المادّة الموضوعة مجرّدة عن الهيئات المخصوصة ، فيكون استعمالها في ضمن هيئة « رحمن » بالقياس إليه تعالى بعد انضمام مستعملاتها الاخر المتحقّقة في ضمن سائر الهيئات ، مجازا مع الحقيقة.

وبالجملة الاحتجاج بلفظ « الرحمن » المستعمل فيه تعالى لإثبات كونه مجازا من دون الحقيقة ، إن رجع إليه باعتبار هيئته فهو غلط ، لأنّ الهيئة هنا مستعملة في مقتضى وضعها الأصلي وهو المعنى الفاعلي ، وإن رجع إليه باعتبار مادّته فهو غير مجد ، لأنّ مستعملات هذه المادّة ليست مقصورة على هذه الهيئة ،

__________________

(١) هذا جواب رابع عن الاستدلال ( منه ).

٣٠٩

بل هي في ضمن سائر الهيئات أيضا مستعملة بالبديهة ، وليس هذا إلاّ استعمالا لها في مقتضى وضعها الأصلي ، وهذا كاف في كونها في ضمن هذه الهيئة مجازا مع الحقيقة ، لأنّ الحقيقة والمجاز إنّما يلاحظان في اللفظ باعتبار ما ثبت فيه من الوضع ، وهو هنا نوعي ، فالاستعمال في ضمن هذه الهيئة عدول عن مقتضى هذا الوضع ، وفي ضمن غيرها اخذ بمقتضاه ، فيصدق على المادّة أنّها مستعملة في كلّ من معناها الموضوع له وخلافه.

وبهذا الطريق يمكن الجواب عن الاحتجاج الثاني بالنسبة إلى بعض الأفعال المتقدّمة « كعسى » فإنّ وضعه على فرض كونه فعلا نوعي باعتبار الهيئة.

ولا ريب في كون هذه الهيئة في ضمن غير هذه المادّة مستعملة في مقتضى وضعها الأصلي النوعي ، وهذا كاف في كونها في ضمن هذه المادّة مجازا مع الحقيقة.

وقد يجاب عن الاحتجاج بالجميع : بأنّه لا نسلّم أنّ هذه الألفاظ مجازات ، بل لم توضع إلاّ لمعانيها الّتي استعملت فيها ، ومحصّله : منع كونها أفعالا ، فلم لا يجوز كونها موضوعة لمعانيها المستعمل فيها ابتداء كسائر كلمات الإنشاء وأدوات النفي ، والنزاع في فعليّة ليس معروف كما لا يخفى على من تتبّع كتب الصرف.

ولو سلّم ، فلا نسلّم عدم الاستعمال ، غاية الأمر عدم الوجدان وهو لا يدلّ على عدم الوجود.

ودفعه التفتازاني بقوله : الكلام مع من اعترف بكونها أفعالا ، مع الإطباق على أنّ كلّ فعل موضوع لحدث وزمان معيّن من الأزمنة الثلاثة ، ولا نعني بعدم الاستعمال إلاّ عدم الوجدان بعد الاستقراء ، على أنّ عدم جواز استعمال هذه الأفعال في المعاني الزمانيّة معلوم من اللغة. انتهى.

واجيب عن الثالث بوجوه :

منها : النقض بأنّه مشترك الورود ، فإنّ المجاز يستلزم الوضع لمعنى بالضرورة ، فإذا لم يكن هناك معنى ليستعمل فيه لم يكن معنى ليوضع له ، إذ الوضع

٣١٠

يستدعي معنى يكون موضوعا له ، كما أنّ الاستعمال يستدعي معنى يكون مستعملا فيه وقد فرضتم انتفاءه.

والأولى أن يقال ـ في تقرير هذا الجواب ـ : إنّ المراد بفقد ما يكون حقيقة إن كان فقد معنى اخر يكون معنى حقيقيّا غير المعنى الّذي استعمل فيه هذان المركّبان فهو اعتراف بفقد معنى اخر يكون موضوعا له ، ولازمه كون المستعمل فيه المفروض هو الموضوع له ، لاستحالة المجاز بدون الموضوع له باتّفاق الفريقين ، فبطل به دعوى مجازيّة هذا الاستعمال ، فيكون المثالان على هذا التقدير من الحقيقة بدون المجاز لا العكس ، كما هو المقصود بالاستدلال ، وإن كان فقد ما به يصير ذلك المعنى الاخر حقيقة وهو الاستعمال كما هو محلّ الكلام ، فغايته عدم الوجدان الغير المستلزم لعدم الوجود ، مع أنّ المركّبات على تقدير الوضع فيها وضعها نوعي متعلّق بالهيئة التركيبيّة.

ولا ريب أنّ الهيئة التركيبيّة الموجودة في هذين المركّبين مستعملة في ضمن غير هذه المفردات في وضعها الأصلي ، وهذا يكفي في تحقّق الحقيقة بالنسبة إلى هذا المجاز ، مع أنّه يجوز أن يكون الأصل المستعمل في الموضوع له في « قامت الحرب على ساق » قامت رجال الحرب على ساق ، فحذف المضاف واقيم المضاف إليه مقامه ، واسند القيام على ساق إليها لعلاقة المسببيّة ، نظرا إلى أنّ الرجال سبب فاعلي لها.

ومن هنا ينقدح احتمال اخر في هذا المركّب ، وهو كون المجاز فيه من باب مجاز الحذف والإضمار ، لا المجاز في المركّب ولا الكلمة.

ومنها : الحلّ ، بأنّ الوضع والاستعمال لا يستدعيان تحقّق المعنى في الواقع لتحقّقهما بالنسبة إلى الممتنعات ، فإنّ قولنا : « الواحد ضعف الاثنين » و « الجزء أعظم من الكلّ » و « النقيضان يجتمعان أو يرتفعان » إلى غير ذلك من الأخبار الكاذبة موضوع للإسناد ، وإلاّ لما صدق على القائل به أنّه مخبر كاذب ، مع أنّ المعنى لا تحقّق له إلاّ بحسب الفرض ، فإن اريد بالمعنى الحقيقي المحكوم بفقده ما يتناول المتحقّق بحسب الفرض ، منعنا فقده في المثالين.

٣١١

ويزيّفه : مع ابتنائه على كون الوجه في دعوى فقد الحقيقة فقد أصل المعنى ، ولعلّه ليس بمراد المستدلّ ، أنّ عدم الاستعمال في غير المستعمل فيه المجازي ممّا أخذه المستدلّ مفروغا عنه ، والتعليل بفقد أصل المعنى تنبيه على أنّ هذه السالبة من جهة انتفاء موضوع القضيّة.

ومن المعلوم أنّ فرض تحقّق المعنى لا يحقّق الاستعمال الّذي هو مناط الحقيقيّة ، وفرض الاستعمال أيضا متحقّقا كفرض المعنى لا يجدي نفعا في انعقاد الحقيقيّة ، وإلاّ لأمكن بذلك التوصّل إلى حقيقيّة كلّ لفظ في معان متكثّرة.

ومنها : أنّ المركّبات لا وضع لها ، وإنّما الوضع لمفرداتها ، والتجوّز من توابع الوضع فلا مجاز إلاّ في المفردات ، فالمجاز في الفرض المذكور إمّا في المسند أو المسند إليه.

ولا ريب في ثبوت الحقيقة فيهما ، أمّا الإسناد فليس له إلاّ جهة واحدة في الكلّ لا يخطر بالبال غيرها عند الاستعمال ، فلا يتطرّق إليه التجوّز.

واعترض عليه : بأنّ البيان المذكور إنّما يتّجه في مثل « شابت لمّة الليل » فإنّ التحقيق فيه أنّ « اللمّة مجاز عن سواد الليل » و « الشيب » مجاز عن حدوث البياض فيه ، وأمّا نحو « قامت الحرب على ساق » ونظائره فلا يتّجه فيه ذلك إذ لا تجوّز في شيء من مفرداته ، بل في المركّب حيث شبّه حال الحرب بحال من يقوم ولا يقعد ، فيكون استعارة تمثيليّة ، على حدّ قولهم للمتردّد : أراك تقدّم رجلا وتؤخّر اخرى.

ويدفعه أوّلا : أنّ حاصل معنى « شابت لمّة الليل » بناء على التوجيه المذكور يرجع إلى قضيّة أن يقال : بيض سواد الليل ، وهذا ممّا لا يقبله الطبع السليم ، إلاّ بأن يعتبر مع ما ذكر من التجوّز في اللفظين ضربا من المجاز في الإسناد كما لا يخفى ، وهو خلاف مطلب المجيب ، بل هذا التوجيه ألصق برجوعه إلى الاستعارة التمثيليّة الّتي هي مجاز في المركّب لا في مفرداته ، بأن يقال : بناء على قراءة اللمّة بكسر اللام وتشديد الميم بمعنى الشعر المتدلّي الّذي يجاوز شحم الاذنين ، شبّه صورة

٣١٢

منتزعة عن متعدّد هي حالة ظهور بياض الصبح في اخر الليل ، بصورة منتزعة عن متعدّد اخر هي حالة ظهور الشيب في الشعر ، ثمّ أطلق اللفظ الدالّ على المشبّه به بالمطابقة على المشبّه.

وإن كان يشكل ذلك أيضا من حيث إنّ « اللمّة » في هذا المركّب باعتبار إضافتها إلى الليل ليست من ألفاظ المتعدّد الملحوظ في جانب المشبّه به كما لا يخفى ، ومعه يخرج عن ضابط الاستعارة التمثيليّة.

نعم يجري احتمال المجاز في المفردين المسند والمسند إليه من دون مجاز في الإسناد ، بناء على قراءة « اللمّة » بضمّ اللام وتخفيف الميم ، بمعنى الجماعة في عدد غير محصور بأن يكون « لمة الليل » مجازا عن معظمه و « الشيب » مجازا عن الانقضاء ، ليكون المعنى : انقضى معظم الليل ، ويقصد به التنبيه على قرب الصبح ، أو يكون « اللمة » بناء على القراءة الاولى مجازا عن ظلمة الليل ، و « الشيب » مجازا عن الزوال والارتفاع ، ليكون المعنى : زال ظلمة الليل وارتفعت ، ويقصد بها التنبيه على طلوع الفجر ، وكأنّ مراد المجيب من دعوى كون المجاز في المسند أو المسند إليه بالنسبة إلى هذا المركّب أحد هذين الوجهين ، إن ساعدنا عليه قضيّة كلامه بحملها على المنفصلة المانعة الخلوّ ، لما عرفت من لزوم المجاز في المسند والمسند إليه كليهما لا في أحدهما ، نعم لزومه في أحدهما لا بعينه إنّما يتّجه في المركّب الاخر حسبما نوجّهه عن قريب.

وثانيا : منع انطباق ما ذكر في « قامت الحرب على ساق » على الاستعارة التمثيليّة ، ومنع عدم جواز تطرّق المجاز إلى مفرداته ، بل هذا بعد صرفه عن المجاز في الإسناد هو المتعيّن ، بأن يكون المجاز فيه إمّا في المسند بكون « القيام بالساق » مجازا عن الاستقرار و « الحرب » مرادا بها معناها الأصلي ، أو في المسند إليه بكون « الحرب » مجازا عن رجالها بعلاقة المسبّبيّة حسبما أشرنا إليه سابقا ، و « القيام » مرادا به معناه الأصلي.

وقد يقرّر ذلك ، بأن شبّه الحرب برجل ذي ساق في النفس ليكون استعارة

٣١٣

بالكناية ، ثمّ اثبتت له ما هو من خواصّ المشبّه به وهو « القيام » ليكون استعارة تخييليّة ولا يخلو عن ضعف ، لأنّه في الحقيقة مجاز في الإسناد لا في المسند إليه على وجه يكون مجازا في الكلمة ، وأمّا توهّم الاستعارة التمثيليّة فيه بالبيان المتقدّم ، أو بأن يقال : شبّه اشتداد الحرب الّذي هو حالة منتزعة عن متعدّد باستقرار قيام الرجل المبنيّ على أعمال الساق الّذي هو حالة منتزعة عن متعدّد اخر ، ثمّ أطلق اللفظ الدالّ على المشبّه به بالمطابقة على المشبّه فغير سديد ، لوضوح انّ الحرب من ألفاظ المتعدّد في جانب المشبّه لا من ألفاظ المتعدّد في جانب المشبّه به ، وقاعدة الاستعارة التمثيليّة يقتضي كون مفردات المركّب بأجمعها من ألفاظ المشبّه به ، كما في « أراك تقدّم رجلا وتؤخّر اخرى » حيث يرد مجازا عن المتردّد.

وبالجملة ، هذا المركّب كالمركّب السابق ـ حسبما تقدّم الإشارة إليه ـ خارج عن ضابط الاستعارة التمثيليّة ، غير أنّه لو صحّحنا هذه الاستعارة فيهما وثبت أنّ العرب في إطلاقاتهم لهما كانوا يقصدون بهما هذا النحو من الاستعارة ، لكان الاستدلال بهما في محلّه ، فيثبت بهما غرض القائل بوقوع المجاز بلا حقيقة ، إذ لم يعقل استعمالهما في معنييهما الحقيقيّين على وجه لم يتطرّق تجوّز إليهما ولا إلى مفرداتهما ، وكان ذلك هو وجه الاستدلال لا ما يوهّم من ابتناء الاستدلال على جعل الإسناد فيهما مجازيّا ، حتّى يتوجّه إليه تارة : أنّ المركّبات الدالّة على الإسناد لا وضع لها ، والمجاز يتبع الوضع وحيث لا وضع فلا مجاز.

واخرى : منع كون الإسناد ممّا يتطرّق إليه المجاز ، ولو قلنا بوضع الهيئة التركيبيّة له ، لأنّه على جهة واحدة ويقع في جميع موارده على وجه الحقيقة ، وإن كان قد يتطرّق التصرّف إلى متعلّقه المعبّر عنه بالفاعل ، بأن يقيم غير الفاعل مقام الفاعل الحقيقي ويعطي حكمه حتّى يصحّ إسناد الفعل إليه على وجه الحقيقة ، وتطلق عليه التجوّز ، غير أنّه تجوّز بالمجاز العقلي المقابل للمجاز اللغوي ، ولا كلام فيه لعدم استلزامه تجوّزا في اللفظ كما هو محلّ الكلام ، وإنّما هو أمر عقلي

٣١٤

يراد به إسناد الفعل أو شبهه إلى غير من هو له لعلاقة بينهما ، وانتسابه إلى العقل لأنّه الحاكم بكونه إسنادا إلى غير من هو له لاطّلاعه على من هو له في الواقع ، بمعونة الحسّ والعيان كما في « سيل مفعم » و « جرى الميزاب » أو بملاحظة البيّنة والبرهان كما في « أنبت الربيع البقل » لكن قد تبيّن أنّ كلاّ من المقدّمتين موضع منع ، ففسد الاستدلال وبطل المدّعى.

ثمّ على تقدير كون مبنى الاستدلال على كون المجاز في نظائر هذين المثالين مجازا في الإسناد على وجه يكون مجازا لغويّا ، بدعوى : أنّ نوع هذه الهيئة موضوع للإسناد إلى الفاعل الحقيقي ، ولم يستعمل هنا فيه بل استعمل في الإسناد إلى الفاعل المجازي ، فيكون مجازا لغويّا بلا حقيقة.

يرد عليه أوّلا : ما أشرنا إليه سابقا من أنّ الموضوعات بالنوع يكفي في تحقّق الحقيقة بالقياس إليها استعمالها بعد الوضع في ضمن بعض موادّها ، فلو استعملت حينئذ في ضمن مادّة اخرى فيما يغاير معانيها الموضوع لها كانت من المجاز مع الحقيقة.

وثانيا : منع دعوى اختصاص الوضع بالإسناد إلى الفاعل الحقيقي ، لعدم الفرق فيه بحكم أمارات الوضع بينه وبين الإسناد إلى الفاعل الادّعائي ، كيف والطبع السليم والذوق المستقيم يحكم بعدم الفرق بين ما في قول القائل : « سرّتني رؤيتك » وما في قوله : « مات زيد » بحسب المعنى ، مع أنّ من المصرّح به في كلامهم كون الأوّل من المجاز في الإسناد دون الثاني ، فالإسناد فيهما يقع على نمط واحد ، والاختلاف يتأتّى بالقياس إلى المسند إليه ، من حيث إنّ « الرؤية » في الأوّل فاعل ادّعائي ، و « زيد » في الثاني فاعل حقيقي.

وأمّا ما قيل في دفعه أيضا : من أنّ الهيئة لو كانت موضوعة للإسناد إلى الفاعل الحقيقي خاصّة لزم ألايكون لها في الأخبار الكاذبة معنى ، فوجب كونها للإسناد إلى مطلق الفاعل ، ولو كانت فاعليّته ادّعائيّة ، إذ لا يعقل من الإسناد إلاّ معنى واحد وهو جار في جميع الموارد.

٣١٥

ففيه : ضعف واضح ، لعدم ابتناء الأخبار الكاذبة على الإسناد الحقيقي ، بل الإسناد المقصود بها صوري.

فإنّ الإسناد حقيقي وصوري ، والحقيقي قد يكون إسنادا إلى فاعل حقيقي وقد يكون إسنادا إلى فاعل ادّعائي ، والهيئة الخبريّة ليست موضوعة إلاّ للإسناد الحقيقي ، والأخبار الكاذبة متضمّنة للإسناد الصوري ، وهو معنى مجازي على التحقيق.

ولذا يقال في وصف الخبر بالصدق والكذب : أنّه لا يحتمل إلاّ الصدق والكذب ، احتمال عقلي فبذلك بطلت الملازمة المدّعاة.

ومن هنا أيضا يظهر ما في دعوى : أنّ الإسناد لا يعقل منه إلاّ معنى واحد ، فإنّ الإسناد الصوري أيضا معنى للإسناد معقول في حدّ ذاته.

وإن شئت قلت : إنّه إسناد جعلي ، على معنى أنّه ممّا لا واقعيّة له ، لكن يحصل في الكلام بجعل المتكلّم ، لأنّه الّذي ينزّل ما ليس بواقع منزلة الواقع ، فيعبّر عنه باللفظ الموضوع للواقع.

فتقرّر بجميع ما ذكر ما هو الحقّ في المسألة ، من أنّ المجاز بلا حقيقة في حدّ ذاته أمر ممكن وليس فيه شائبة امتناع ذاتي ولا عرضي ، وأمّا وقوعه في الخارج فغير ثابت ، لأنّ أدلّة وقوعه مدخولة حسبما تبيّن ، لكن على تقدير الوقوع فلا إشكال بل لا خلاف في كونه في كمال الندرة كما صرّح به جماعة من أساطين الطائفة ، ولذا ترى أنّ قائله لم يأت لإثبات دعواه إلاّ ببعض الأمثلة الشاذّة الّتي في كلّ واحد ألف كلام.

وإن شئت ـ بعد ما بيّنّاه لك ـ قلت : إنّ العلماء المختلفين في تلك المسألة بجميع فرقهم الثلاث ، مطبقون على ندرته على فرض وقوعه بعد إمكانه ، وإلاّ فمنهم من أنكر إمكانه ومنهم من أنكر وقوعه.

ومن متفرّعات المسألة ، بطلان مقالة القدماء في المبهمات وغيرها ، ممّا ادّعوا فيها كون الوضع والموضوع له عامّا ، مع اعترافهم بعدم اتّفاق استعمالها في

٣١٦

الموضوع له العامّ قطّ ، إذ على مقالتهم يلزم كون المجاز بلا حقيقة الواقع في اللغة في غاية الكثرة ، وهو ممّا أطبق العلماء على خلافه.

السادسة : اللفظ والمعنى ما لم يكن بينهما علقة ـ وهي اتّصال مّا حصل بينهما لذاتهما أو للعارض ـ استحال كون الانتقال إلى اللفظ بمجرّد سماعه أو تخييله موجبا للانتقال إلى المعنى ، ولمّا كانت العلقة الذاتيّة المبنيّة على المناسبات الطبعيّة فيما بينهما واضح الفساد ـ على ما سنقرّره ـ فالمتعيّن كونها حيثما حصلت عارضيّة ، وهي بحكم الاستقراء التامّ مقصورة على الوضع كما في الحقائق ، والعلاقة كما في المجازات ، فإنّها وإن كانت تعتبر بين المعنيين المستعمل فيه والموضوع له ، إلاّ أنّ حصولها بينهما يقضي بحصولها بين اللفظ والمستعمل فيه ، ضرورة انّ الوضع إذا أوجب علاقة بين اللفظ والموضوع له أوجبها بينه وبين كلّ خلاف الموضوع له الّذي بينه وبين الموضوع له علاقة بحسب المعنى ، ولذا عدّ المجاز من توابع الوضع ، وقضيّة ذلك كون الانتقال من اللفظ إلى الموضوع له أوّليّا ، وإلى خلافه ثانويّا لحصوله بواسطة الأوّل ، لكن لا يلزم منه التعدّي عن الموضوع له إليه بإثبات الوضع له أيضا لمجرّد العلاقة المذكورة ، ولا اعتبار كون اللفظ حقيقة فيه أيضا.

فبذلك اندفع ما توهّم من لزوم القياس في اللغة ، من قولهم : لا بدّ في المجاز من وجود العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي وإلاّ كان اختراعا.

واختلفت كلمتهم في ضبط أنواع العلاقة من حيث العدد ، حيث إنّ بعضهم ردّها إلى اثنين ، المشابهة وغيرها كما في بعض كتب البيان.

وفي مختصر الحاجبي عدّ منها أربعة : المشابهة في الشكل أو في الوصف الظاهر ، والكون ، والأول ، والمجاورة.

وعن الامدي (١) أنّها تتصوّر من وجوه خمسة ، وفي شرح المنهاج عدّ منها تسعة.

__________________

(١) الإحكام في اصول الأحكام ٢٨ : ١.

٣١٧

ومن أجلّة المعاصرين من عدّ منها عشرة ، وفي تهذيب العلاّمة (١) أحد عشر وفي نهايته (٢) كما عن الفخر والبيضاوي اثنى عشر ، وفي زبدة شيخنا البهائي (٣) أنّها محصورة في خمسة وعشرين ، ناسبا له إلى القدماء.

وعزى أيضا إلى المشهور كما عن شرحها للفاضل وعن بعضهم أنّها ستّة وعشرون كما نقله في المفاتيح (٤) وعن الصفي الهندي (٥) : الّذي يحضرنا من أنواعها أحد وثلاثون ، وفي المفاتيح عن استاده أنّها غير محصورة ناقلا كلامه القائل : بأنّ التحقيق أنّ العلاقة غير متوقّفة على السماع ، ولا محصورة فيما ذكروه من الأنواع ، فإنّهم عرّفوا العلاقة بأنّه اتّصال مّا للمعنى المستعمل فيه بالمعنى الموضوع له وهو غير محصور ، ولذا ترى أنّ الاصوليّين وأرباب البيان لم يقفوا على حدّ مضبوط ولا عدد معلوم ، فإنّ اللاحق منهم يزيد على الأوّل بحسب استقرائه وتتبّعه. انتهى (٦).

وإلى ذلك ينظر ما عن بعضهم من حصر العلاقة في الاتّصال صورة أو معنى ، وهذا هو الحقّ الّذي لا محيص عنه ، فإنّ العلاقة ـ حسبما نفصّله ـ ليست إلاّ الاتّصال بين المعنيين ، الّذي يدركه الطباع السليمة والأفهام المستقيمة ، وخصوصيّاته النوعيّة ممّا لا يكاد ينضبط ، ولا يندرج في عنوان كلّي يعبّر عنه باسم خاصّ ، ممّا هو يطلق عندهم على الأنواع المعهودة المعدودة لديهم ، ولا بأس بالتعرّض لذكر كثير من هذه الأنواع.

فمنها : المشابهة المخصوصة بموارد الاستعارة ، المنقسمة عندهم إلى كونها تارة في الصورة كالفرس وغيره للصورة المنقوشة ، واخرى في الصفة كأسد للشجاع ، وقيّده في المختصر وغيره « بالظهور » احترازا عن الأبخر المشابه للأسد في صفة البخر الّتي لا توجب بمجرّدها صحّة الاستعمال.

__________________

(١) تهذيب الوصول إلى علم الاصول : ١١.

(٢) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ... ( مخطوط ).

(٣) زبدة الاصول : ٢٣.

(٤) مفاتيح الاصول : ٥٣.

(٥) حكى عنه في مفاتيح الاصول : ٥٣.

(٦) مفاتيح الاصول : ٥٣.

٣١٨

وضابطه الكلّي بل ضابط المشابهة بنوعها ، كون وجه الشبه من خصائص المستعار منه الّتي يمتاز بها عمّا عداه ، كالصورة النوعيّة في كلّ نوع المسوّغة لإطلاق لفظه على ما طرأته هذه الصورة كائنا ما كان ، والصفة المعنويّة الّتي هي من هذا النوع خاصّة أو بمنزلة الخاصّة.

وقد يعدّ من المشابهة المشاركة في مبدأ الاشتقاق ، كما في إطلاق المصدر على الفاعل في « زيد عدل » والمفعول في « خلق الله » وإطلاق اسم الفاعل في « قمت قائما » واسم المفعول في قوله تعالى : ( بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ )(١) عليه ، وإطلاق كلّ من اسم الفاعل واسم المفعول على صاحبه ، كما في قوله تعالى : ( مِنْ ماءٍ دافِقٍ )(٢) و ( لا عاصِمَ الْيَوْمَ )(٣) و ( حِجاباً مَسْتُوراً )(٤) و ( كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا )(٥) لكنّه وهم يفسده أنّ العلاقة لا بدّ وإن تعتبر بين المعنيين ، والمشاركة في مبدأ الاشتقاق أمر لفظي لا يلحقه حكم العلاقات المعتبرة هنا.

ومنها : كون المعنى المجازي سببا أو مسبّبا ، كالنبات للمطر ، والغيث للنبات ، وقد ينوّع ذلك أربعة أنواع ، باعتبار انقسام العلّة إلى الماديّة والصوريّة والفاعليّة والغائيّة.

الأوّل : إطلاق السبب المادّي المفسّر بالمحلّ القابل ، كالوادي في قولهم : « سال الوادي » فإنّه محلّ قابل لسيلان الماء فيه.

والثاني : إطلاق السبب الصوري كالقدرة ، فإنّها صورة اليد ، وقد يقرّر في جعل اليد في قوله تعالى : ( يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ )(٦) مجاز في القدرة ، بأنّها تشبه الصورة من حيث إنّ الأثر الصادر من اليد لا يكون إلاّ بتوسّط القدرة ، فكانت كالجسم الّذي لا يؤثر إلاّ بتوسّط صورته ، ولحلول القدرة فيها كحلول الصورة في المادّة.

والثالث : إطلاق السبب الفاعلي كالسحاب ، في قولهم : « ينزّل السحاب » فإنّه

__________________

(١) القلم : ٦.

(٢) الطارق : ٦.

(٣) هود : ٤٣.

(٤) الإسراء : ٤٥.

(٥) مريم : ٦١.

(٦) الفتح : ١٠.

٣١٩

فاعل لنزول المطر منه ، وقد يمثّل له بقولهم : « كثرت أيادي فلان عندي » بإرادة النعمة من اليد ، فإنّها تصدر غالبا منها.

والرابع : إطلاق السبب الغائي ، كالخمر إذا اطلق على العنب ، فإنّ الغاية المطلوبة منه الخمر.

وقيل : إنّ إطلاق السبب على المسبّب أولى من عكسه ، كما أنّ إطلاق السبب الغائي عمّا بين الأسباب أولى من غيره.

أمّا الأوّل : فلأن السبب المعيّن يستدعي مسبّبا معيّنا ، بخلاف المسبّب المعيّن فإنّه لا يستدعي إلاّ سببا مّا.

وأمّا الثاني : السبب الغائي يتضمّن اعتبارين : كونه علّة ، وكونه معلولا ، فإنّ كلّ غاية لتقدّمها ذهنا سبب ، وتأخّرها خارجا مسبّب.

ومنها : كونه جزء أو عكسه بشرط كون الجزء في الثاني من مقوّمات الكلّ ، كالأصابع للأنامل ، والرقبة للإنسان ، والعين للربيئة ، فإنّه من حيث كونه ربيئة يصحّ إطلاق العين عليه لا من حيث كونه إنسانا.

هذا على ما قيل. ويستفاد من كلماتهم أيضا ومقتضاه عدم كون المستعمل فيه المجازي ذات الإنسان ، بل الذات المتّصفة بوصف الربيئيّة ، وهو لا يستقيم إلاّ إذا عمّم الكلّ بحيث يشمل الكلّ الذهني الاعتباري أيضا وهو مشكل ، ولو اخذ الوصف والحيثيّة قيّدا تعليليّا انقلب الفرض وخرج الإطلاق عن كونه لعلاقة الكلّية.

وربّما يشكل الأمر في الرقبة أيضا ، من حيث إنّه لا يطلق إلاّ على الذات المملوكة من الإنسان ، فإمّا أن يعمّم المقام ليشمل الكلّ الذهني الاعتباري ، أو يجعل الوصف للتعليل لينقلب الفرض ، والكلّ مشكل.

ومنها : كونه كلّيا كالمرسن للأنف ، أو جزئيّا كالأنف للمرسن ، بناء على أنّ المرسن اسم بحسب الأصل لأنف الفرس ، وإلاّ فعلى ما في كلام بعض أهل اللغة من كونه في الأصل لموضع الرسن من أنفه يشكل الفرض ، بل يبتنى أصل الصحّة في الأوّل على سبك المجاز.

٣٢٠