تعليقة على معالم الاصول - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٤٤٣

ومنها : العموم والخصوص الاصوليّين ، فالأوّل كما في قوله تعالى : ( عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ )(١) أي كلّ نفس ، والثاني كالعلماء لغير زيد.

ومنها : اللزوم إمّا بكونه لازما ، كالنطق للدلالة في « نطقت الحال » أو ملزوما « كشدّ الإزار » لمعتزل النساء.

ومنها : الكون ، تسمية للشيء باسم ما كان ، كما في قوله تعالى : ( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ )(٢) ومنه إطلاق العبد على المعتق.

ومنها : الأول ، تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه.

ومنها : كونه محلاّ أو حالاّ ، فالأوّل كإطلاق الرحمة على الجنّة في قوله تعالى : ( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ )(٣) وفيه على هذا التقدير من سبك المجاز ما لا يخفى ، فإنّ « الرحمة » ما لم تعتبر مجازا في الفضل والنعمة لا يصلح مجازا في الجنّة كما هو واضح ، والثاني كإطلاق « اللسان » على الكلام و « الذكر » في قولهم : « لسان فصيح » وقوله تعالى : ( وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ )(٤) أي ذكرا حسنا وقد يعتبر ذلك من باب إطلاق الالة على ذيها.

ومنها : التضادّ ، كما في إطلاق « الأسد » على الجبان ، تنزيلا له منزلة أحد أفراد الشجاع ، أو تنزيلا لما فيه من الجبن منزلة الشجاعة قصدا إلى التمليح أو التهكّم ، ومنه إطلاق « الأبيض » على الأسود تنزيلا لسواده منزلة البياض في مقام التمليح وإطلاق « الجاهل » على العالم تنزيلا لعلمه منزلة الجهل من جهة عدم الاعتداد به.

وقد يعتبر من ذلك إطلاق « السيّئة » على مجازاتها في قوله تعالى : ( جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها )(٥) لمشابهتها لها من حيث إنّها تقع على صورة السيّئة وإن تجرّد عن وصفها.

__________________

(١) الإنفطار : ٥.

(٢) النساء : ٢.

(٣) ال عمران : ١٠٧.

(٤) الشعراء : ٨٤.

(٥) الشورى : ٤٠.

٣٢١

ومنها : التعلّق بإطلاق المتعلّق بالكسر على مفتوحه ، كتسمية المخلوق خلقا أو بالعكس ، كتسمية التصديق حكما.

ومنها : المجاورة كما في قوله تعالى : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ )(١) بإرادة « الأهل » ومنه إطلاق الرواية الموضوعة للبعير على القربة ، وإطلاق « النهر » على الماء وعكسه ، وقد يجعل ذلك من باب إطلاق الظرف على مظروفه وبالعكس ، وقد يجعل المجاورة بحيث يتناول أكثر الأنواع المذكورة ، كما صنعه العضدي والتفتازاني في إصلاح كلام الحاجبي الحاصر للعلاقة في الأربعة أو الخمسة الّتي منها المجاورة.

وعلّله التفتازاني : بأنّ مجاورة المعنى المستعمل فيه للمعنى الموضوع له ، يجوز أن يكون أحدهما في الاخر جزا منه أو عرضا حالاّ فيه أو مظروفا متمكّنا فيه ، فيشمل ستّة أقسام ، إطلاق الجزء على الكلّ وبالعكس ، الحالّ على المحلّ وبالعكس ، المظروف على الظرف وبالعكس ، ويجوز أن يكون بكونهما في محلّ واحد أو في محلّين متقاربين ، أو في حيّزين متقاربين فيشمل ثلاثة أقسام ، كالحياة للعلم وكلام السلطان لكلام الوزير ، والراوية للمزادة.

قال العضدي : بل يشمل إطلاق اسم السبب على المسبّب وعكسه ، إلى أن قال : ويشمل أيضا إطلاق اسم أحد الضدّين على الاخر ، ثمّ قال : ولو جعلنا الوجود أعمّ من اللفظي أيضا ليندرج فيه المشاكلة ، أعني التعبير عن الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته ، مثل قلت : « اطبخوا لي جبّة وقميصا » لم يبعد بل لا يبعد أن يجعل المجاورة والاتّصال شاملا للكلّ ، كما ذهب إليه بعض الاصوليّين من أنّ جميع العلاقات منحصرة في الاتّصال صورة أو معنى. انتهى.

وقد يذكر من أنواع العلاقات ما لو كان المستعمل فيه المجازي مشروطا ، كما في إطلاق « الإيمان » على الصلاة في قوله تعالى : ( وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ

__________________

(١) يوسف : ٨٢.

٣٢٢

إِيمانَكُمْ )(١) وهذه المناسبة بعينها موجودة في إطلاق « الحياة » على العلم. ووجه تفرقة بعض الفضلاء (٢) بينهما غير واضح.

والأولى جعلهما معا من باب إطلاق السبب بناء على إرادة مطلق المدخليّة من السببيّة ولو شرطيّة ، كما هو الحال في الأمثلة المتقدّمة على ما يظهر بالتأمّل ، وأولى منه تفسيرها بشدّة المدخليّة ليختصّ الحكم بما له مزيد دخل كالشرط ونحوه.

ثمّ إنّه قد سبق إلى بعض الأوهام أنّ الواضع قد اعتبر هذه الأنواع من حيث الخصوص ، وأنّ أهل اللغة قد نقلوها فليس لنا التعدّي عمّا نقلوه ، وفيه ما لا يخفى.

أمّا أوّلا : فلمنع تعرّض الواضع لاعتبار هذه الأنواع بعناوينها الخاصّة ، ومنع كونها ممّا تعرّض لنقلها أهل اللغة ، بل لا يسلّم من الواضع تصرّف سوى وضع الألفاظ لمعانيها الحقيقيّة ، المقتضي لاتصالها بمعانيها المجازيّة ، المتّصلة بمعانيها الحقيقيّة حسبما نقرّره.

ولو سلّم منه تصرّف ، فليس إلاّ تجويزه الإطلاق المجازي ، تعويلا على العلاقة المقتضية لاتّصال المعنيين حيثما وجدت ، سواء تحقّقت في ضمن أحد الأنواع المذكورة أو لا.

وأمّا ثانيا : فلمنع انحصار ما اعتبره الواضع بالخصوص ، ونقله أهل اللغة كذلك فيها ، ليلزم منه عدم جواز التعدّي منها إلى غيرها ، كيف وكثير من المجازات بمثابة لا تبلغ الأوهام إلى إدراك وجوه علاقاتها ، ويعجز الأفهام عن معرفة عناوينها الخاصّة ، كما في مجازات الحروف الّتي منها ما تطرق إلى أدوات الاستفهام كالاستبطاء في قولهم : « كم دعوتك » والتعجّب في مثل [ قوله تعالى : ] ( ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ )(٣) والتنبيه على الضلال في مثل [ قوله تعالى : ] ( فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ )(٤).

__________________

(١) البقرة : ١٤٣.

(٢) الفصول : ١٨.

(٣) النمل : ٢٠.

(٤) التكوير : ٢٦.

٣٢٣

ومن هنا ترى أنّ التفتازاني في المطوّل عند شرح كلام الماتن المتضمّن للمذكورات ، قال : وتحقيق كيفيّة هذا المجاز وبيان أنّه أيّ نوع من أنواعه ممّا لم يحم أحد حوله ، فكما أنّ معرفة كيفيّة أنواع هذه المجازات ممّا لم يحم أحد حوله ، فكذا الالتزام بخلوّها عن العلاقة أيضا ممّا لم يحم أحد حوله ، فما تخيّل من كون ما ذكر من جملة ما خلت عن العلاقة بينها وبين معانيها الأصليّة ، تعليلا بأنّ المجاز قد يصحّ بدون العلاقة إذا نصّ الواضع بالرخصة في بعض الموارد بدونها ، ممّا لا ينبغي الالتفات إليه ، لوروده على خلاف التحقيق ، ومخالفته اتّفاق أهل النظر على انحصار مصحّح الاستعمال في الوضع والعلاقة.

وأنت إذا تأمّلت المجازات المتطرّقة إلى المشتقّات الفعليّة والاسميّة ، الّتي منها ما تقدّم ، ومنها إطلاق المشتقّ على ما انقضى عنه المبدأ ، وما اخذ فيه زمان خاصّ من الثلاث المعهودة وإطلاق الفعل معرّى عن الزمان ، وخصوص الماضي مقترنا بغير الماضي ، والمضارع مقترنا بغير المستقبل ، والخبر على الإنشاء ، وهو على الأخبار ، لوجدتها مشتملة على العلاقة الّتي لا يكاد يتبيّن نوعها ، وعليه فلا داعي في مجاز صحيح مشتمل على العلاقة ـ بمعنى الاتّصال المدرك بالوجدان ـ الخفيّ وجهها على الأنظار إلى ارتكاب تكلّفات بعيدة وتمحّلات باردة في استعلام وجهها ، كما اتّفق نظير ذلك في « اليد » للقوّة عمّن جعله من باب إطلاق السبب أو المسبّب الصوريّين ، وفي إطلاق « الطبخ » على الخياطة في قوله :

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخة

قلت اطبخوا لي جبّة وقميصا

حيث صارت الأنظار مضطربة فيه ، فمنهم من زعمه من المجاورة بعد ما جعلها أعمّ منها في الخارج ـ كما في إطلاق « السلطان » على الوزير ـ وفي الخيال كما في إطلاق أحد الضدّين على الاخر لكونهما كالمتلازمين في التصوّر ، وفي الذكر ويعبّر عنها حينئذ « بالمشاكلة » أيضا بالتفسير المتقدّم ، وهو التعبير عن الشيء بلفظ غيره لوقوعه في جنبه ، كما في إطلاق « الطبخ » على الخياطة.

ومنهم من جعله من باب المجاورة في الخيال ، لأنّ خياطة الجبّة والقميص

٣٢٤

لمّا كانت مطلوبة عنده ارتسم صورتها في خياله لكثرة ما ناجى به نفسه ، فإذا أورد صورة الطبخ في خياله جاز أن يعبّر به عنها.

ومن الفضلاء من زعمه لعلاقة الاشتراك في المطلوبيّة ، تعليلا بأنّ السامع ينزّل ما هو مطلوب عنده واقعا من الجبّة والقميص منزلة ما فرضه السائل مطلوبا له من الشيء المطعوم ، الّذي واعده على بذله بدليل نسبة الطبخ إليه ، فهو يدّعي اتّحادهما في الجنس قصدا إلى إلزام المخاطب على حسبما التزم به ، وعلى هذا فكلّ من الجبّة والقميص استعارة بالكناية لعلاقة الاشتراك في وصف المطلوبيّة ... الخ (١).

وفي هذه الوجوه من الضعف ـ بعد كون الجميع تكلّفا لا حاجة إلى ارتكابه ـ ما لا يخفى ، ولا سيّما الأخير فإنّ الاشتراك في المطلوبيّة لا يندرج في الوصف الظاهر ، فلو قيل : إنّه من باب إطلاق الأخصّ على الأعمّ ـ كما تقدّم في إطلاق المرسن على الأنف ـ كان ألصق وأوجه ، فإنّ الطبخ بحسب الأصل والمتعارف عبارة عن إرقاء المطعوم من المأكول والمشروب وغيره ممّا يتوقّف كماله على عمل من النار إلى مرتبة الكمال ، فإذا ألقى عنه الخصوصيّة كان عبارة عن إرقاء كلّ شيء إلى مرتبة الكمال ، بناء على أنّ كمال كلّ شيء بلوغه حدّا يترتّب عليه الغاية المقصودة والفائدة المطلوبة منه ، كصلاحيّة الأكل في المأكول والشرب في المشروب ، واللبس في الملبوس وهكذا ، فهو بهذا المعنى العامّ يطلق على خياطة الجبّة والقميص وغيرها.

وأنت إذا لاحظت المحاورة لوجدت هذا الإطلاق شائع التداول في غير الخياطة أيضا ، ولا جهة له ممّا قدّمناه إلاّ ما قرّرناه.

السابعة : اختلفوا في اشتراط المجاز بنقل احاده ـ المعبّر عنها بأعيان المجازات ـ عن الواضع وعدمه ، فالجمهور على الثاني ، وادّعى عليه الشهرة فيكتفي بنقل نوع العلاقة ولا حاجة معه إلى نقل الاحاد ، وشرذمة على الأوّل ،

__________________

(١) الفصول : ٢٥.

٣٢٥

فلا يكتفي إلاّ بما نقل شخصه عن الواضع فيجب الاقتصار عليه ، ولا يقاس عليه غيره ممّا لم ينقل بعينه.

وقد يوجّه مقالة الفريقين بأن ليس مرادهم بنقل النوع ونقل الاحاد انتهاء اعتبار أنواع العلاقة أو احاد المجاز إلى تنصيص الواضع ، أو استعماله بطريق النقل المصطلح ، ولا إلى تنصيص أهل اللسان ، لئلاّ ينسدّ باب المجاز رأسا ، لعدم تحقّق شيء من ذلك في شيء من المجازات.

وكيف يجامع التزامه ـ الّذي لا قائل به ـ بلوغ المجازات حدّا من الكثرة حتّى ادّعى كونها في اللغة أغلب بالنظر إلى الحقائق ، بل المراد به استناد التجوّز في نوع اللفظ بالقياس إلى نوع المعنى ، أو في خصوصيّات الألفاظ المتطرّق إليها التجوّز إلى ترخيص الواضع في مراعاة نوع العلاقة والاكتفاء به ، أو في استعمال ما تطرّق إليه التجوّز في خلاف وضعه الأصلي ، المعلوم ثبوته باستقراء أو استعمالات العرب وتتبّع مجازاتهم.

قال التفتازاني في شرح كلام العضدي : إنّ الواضع عيّن اللفظ بإزاء المعنى المجازي تعيينا كلّيّا ، بمعنى أنّه جوّز إطلاقه على كلّ ما يكون بينه وبين المعنى الحقيقي نوع من العلاقات المعدودة ، وقد علم ذلك باستقراء اللغة واستعمالات العرب ، وإن لم يوجد التصريح به في كلّ من الاحاد ، كما في رفع الفاعل ونصب المفعول ، بل سائر ما يدلّ بحسب الهيئة كالمبنيّ للمفعول ، والأمر والمثنّى والمجموع والمصغّر والمنسوب وغير ذلك ، ممّا لم يصرّح الواضع باحادها ، بل علم بالاستقراء تعيين هياتها للدلالة على معانيها ، إلاّ أنّ تعيين الهيات للدلالة بنفسها ـ أي من غير اشتراط قرينة خارجة عن اللفظ ـ فصارت كالأوضاع الشخصيّة ودخلت في مطلق الوضع فكانت من قسم الحقيقة ، وتعيين المجازات للدلالة بمعونة القرائن المانعة عن إرادة المعاني الأصليّة فخرجت عن قسم الحقيقة ، وعن أن يتناولها الوضع المطلق لكونه اسما للقسم الأوّل من التعيين. انتهى.

٣٢٦

وذهب جماعة ، منهم بعض الأعلام (١) إلى عدم اشتراط نقل الاحاد ، ولا الاكتفاء بنوع العلاقة على إطلاقه ، بل يقتصر على ما ثبت فيه ترخيص الواضع من أفراد النوع ، أو أفراد صنف من النوع ، فيتعدّى عمّا سمع إلى ما لم يسمع من أفراد النوع ، أو الصنف ، ولا يقاس عليها أفراد نوع أو صنف اخر ممّا لم يوجد في أفراده الاعتبار والاستعمال لأجله.

ويمكن تنزيل مقالة المطلقين بكفاية النوع على إرادة هذا المعنى ، بناء على رجوع النزاع إلى تعيين مورد الإذن في التجوّز بعد الاتّفاق على اعتباره ، فالقائلون باشتراط نقل الاحاد زعموا أنّه لم يثبت إلاّ في احاد من المجاز ، والاخرون زعموه ثابتا في نوع العلاقة ، ولو باعتبار تحقّق هذا النوع في ضمن بعض أصنافه ، وعليه فلم يعقل منهم القول بكفاية النوع ولو مع عدم ثبوت الإذن فيه.

وعن بعضهم اختيار التفصيل بين الحروف والظروف والأفعال الناقصة فيشترط فيها نقل الاحاد ، وبين غيرها فيكفي فيه نقل النوع.

وفي معناه ما عزي إلى بعض الأفاضل من التفصيل بين الألفاظ الّتي ضبطوا معانيها المجازيّة كالحروف وصيغ الأمر والنهي وبين غيرها.

فعلى الأوّل يقتصر على القدر المنقول دون الثاني ، وكأنّ وجهه أنّ ضبطهم المعاني المجازيّة في الصورة الاولى اية عدم وجود معنى اخر يكون بينه وبين المعاني الحقيقيّة علاقة معتبرة ، وبهذا التوجيه أمكن الفرق بين التفصيلين ، بدعوى : ابتناء التفصيل الأوّل على ما نبّهنا عليه سابقا من أنّ المجاز كثيرا مّا يثبت فيما لا طريق إلى معرفة نوع علاقته ، والمجازات المتطرّقة إلى الحروف والظروف والأفعال الناقصة من جملة هذا الباب كما قدّمنا الإشارة إليه.

ويحتمل تنزيل التفصيل الثاني أيضا على إرادة هذا المعنى ، ويمكن ابتنائهما

__________________

(١) قوانين الاصول ٢٦ : ١ ( الطبعة الحجرية ).

٣٢٧

معا على ما تقدّم من القول بأنّ المجاز قد يصحّ بدون العلاقة إذا نصّ الواضع بالرخصة في بعض الموارد بدونها.

ومن الفضلاء (١) من صار إلى أنّ المعتبر في العلاقة المصحّحة للتجوّز هي المناسبة الّتي يقبلها الطبع ، سواء وجدت في ضمن إحدى الأنواع المضبوطة أو في غيرها ، بل هذه الأنواع إنّما تعتبر إذا تضمّنت هذه المناسبة ، ويستفاد منه جواز رجوع مقالة الأكثر إليه أيضا ، حيث قال : واعلم ، أنّ الأكثر لم يبالغوا في حصر أنواع العلاقة وضبطها كما يشهد به تصفّح كتبهم ، وكأنّ ذلك تنبيه منهم على أنّ المعتبر في العلاقة إنّما هو تحقّق المناسبة الّتي يقبل الطبع إطلاق اللفظ الموضوع لأحدهما على الاخر ، وأنّ الوجوه المذكورة من مظانّها. وهذا هو التحقيق الّذي ينبغي تنزيل كلماتهم عليه ... الخ.

وقضيّة كلامه عدم الاحتياج في استعلام اعتبار العلاقة ومعرفة صحّة التجوّز معها إلى مراعاة الاستقراء ، ولا مراجعة مجازات اللغة ، ولا التوقّف عند التجوّز لعلاقة موجودة إلى انكشاف كون هذه العلاقة بخصوصها من جملة العلاقات المتداولة في المحاورة.

والظاهر أنّ ما اختاره قدس‌سره متين ، بل في غاية المتانة ، بل هو الحقّ الّذي لا محيص عنه ولا طريق إلى ما سواه.

وبيانه : أنّ العلاقة المصحّحة للتجوّز حسبما يساعد عليه المجازات المتحقّقة في لغة العرب ، ويرشد إليه الأمثلة المنقولة عنهم في كلام أهل الأدب عبارة عن شدّة اتّصال وارتباط بين المعنيين الموضوع له والمستعمل فيه ، أوجب في نظر العقل ولحاظ الاعتبار كونهما كالمتّحدين بحسب الذات ، والحكم على أحدهما بكونه من صاحبه بمثابة كأنّه هو بعينه ، وإن كان قد يتوقّف حصول هذا الاعتبار على انضمام بعض الخصوصيّات الخارجة عن ذات المعنيين إليهما ، من القصد

__________________

(١) الفصول : ٢٥.

٣٢٨

إلى تمليح أو تهكّم كما في الأسد والأبيض للجبان والأسود ، أو تعظيم كما في الشمس للشريف ، أو تحقير كما في الكلب للخسيس ، والحمار للبليد أو نحو ذلك.

ولا ريب أنّها بهذا المعنى ممّا يدرك بالوجدان السليم والطبع المستقيم ، بل هي لكمال اتّضاحها لكلّ ذي مسكة وفطرة إنسانيّة حتّى الصبيّ والصبيّة كادت تلحق بالفطريّات ، وهي بهذا المعنى ممّا انتزع عنها الأنواع المتقدّمة المعبّر عنها بأسامي خاصّة ، فلا حاجة في معرفتها إلى تنصيص من الواضع ولا أهل اللسان ولا غيرهم ، ولا إلى استقراء استعمالاتهم أو ملاحظة مجازاتهم ، وإن كان كثيرا مّا يعسر العلم بحقيقة عنوانها ، بل قد يعجز البيان عن أدائها بعبارة خاصّة ، وعليها يبتنى المجازات الحادثة شرعيّة وغيرها ، ممّا كان يتعاطيها الفصحاء والبلغاء من كلّ لسان ولغة من سلفهم إلى خلفهم ، في نظمهم ونثرهم ، مع قضاء ضرورة الوجدان بأنّه لم يسبقهم إليها غيرهم ، ولا أنّهم أخذوها عن سلفهم ، أو استعلموا مراعاة علاقاتها الملحوظة عمّن سبقهم ، أو استقراء المجازات الصادرة من أهل لسانهم ممّن هو مثلهم أو دونهم أو فوقهم ، أو توقّفوا في التعويل على ما أدركوه بوجدانهم من اتّصال المعنيين إلى أن يتبيّن اندراجه بشخصه أو نوعه في العلاقات المتداولة فعلا بأشخاصها أو أنواعها ، ولم ينكر ذلك عليهم ، ولا أنّ أحدا من أهل المعرفة غلّطهم ، بل لا يزال كلامهم يحكم عليه لأجل ذلك بالفصاحة وأعلى مرتبة البلاغة ، مع أنّ مرتبة الفصاحة والبلاغة متأخّرة عن مرتبة الصحّة ، فالحكم بهما مع انتفائها غير معقول.

وقد أشار إلى بعض ما ذكرناه العضدي ، بل صرّح به التفتازاني بقوله : ومن تتبّع أحوالهم وتفاصيل نظمهم ونثرهم علم أنّهم لا يتوقّفون ، بل يعدّون اختراع احاد المجازات من كمال البلاغة ... الخ.

وبالجملة ، المعلوم من المحاورات عدم مراعاة المتجوّزين من جميع اللغات في تجوّزاتهم ورود أصل الاستعمال ، ولا سبق اعتبار العلاقة الموجودة في البين ، ومع ذلك يتلقّى المجازات الصادرة منهم صحيحة بالغة حدّ البلاغة ، خالية عن

٣٢٩

شوائب الغرابة ، وليس ذلك إلاّ لأنّ المتجوّز بحسب فطرته المستقيمة يجد اتّصال المعنيين على الوجه المذكور ، فيجد من جهة اتّصال اللفظ بالمعنى المجازي شبه اتّصاله بالمعنى الحقيقي ، مع علمه باختصاص وضعه التحقيقي بالمعنى الحقيقي ، وليس ذلك إلاّ لأن وضع لفظ لمعنى كما أنّه يوجب اتّصال هذا اللفظ بذاك المعنى فكذا يوجب اتّصاله بكلّ ما اتّصل بمعناه الموضوع له ، فهذا الاتّصال المستند إلى الوضع هو المسوّغ لاستعماله فيما لم يوضع له على التحقيق ، وإن لم يتحقّق أصل الاستعمال من الواضع ولا أهل اللسان ، بل ولم يكن الاتّصال الموجود بين المعنيين ممّا التفت إليه العرف ، أو لاحظه الواضع بعنوانه الخاصّ ، ولا يلزم على هذا التقدير كون الاستعمال المحدث غلطا واردا على خلاف قانون اللغة ، لفرض استناده إلى الاتّصال المستند إلى الوضع ، فيكون في الحقيقة مستندا إلى الوضع بواسطة اتّصال المعنيين وإن لم يكن المستعمل فيه موضوعا له على التحقيق ، فالواضع بوضعه إيّاه بإزاء معناه الموضوع له كأنّه وضعه لكلّ ما اتّصل من المعاني بهذا المعنى ، فيكون ذلك بالقياس إليها وضعا تأويليّا.

وهذا هو الّذي ينبغي أن يراد بالوضع النوعي المتّفق على ثبوته في المجازات ، وعليه ينطبق ما عزى إلى الجمهور من كونهم على أنّ المجاز موضوع بالوضع التأويلي التعييني النوعي ، ولا حاجة معه إلى استقراء ، ولا استفادة إذن الواضع ، أو ترخيص أهل اللغة في مراعاة العلاقة الموجودة بالخصوص ، لأنّ المقصود من وضع الواضع في الحقائق وترخيصه في المجازات ، صون الاستعمال عن الغرابة ومخالفة اللغة ، وهو حاصل بمجرّد تحقّق الاتّصال المذكور.

وعليه فما احتجّ به أهل القول بكفاية نوع العلاقة ، من أنّه لولاها لتوقّف أهل اللسان في محاوراتهم على ثبوت النقل ، ولما احتاج المتجوّز إلى النظر في العلاقة لكفاية النقل عنه ، ولكان الاستعمال في المعاني المحدثة الشرعيّة وغيرها غلطا ، لعدم وقوف أهل اللغة على تلك المعاني ، هذا مع أنّهم لم يبالغوا في تدوين المجازات مبالغتهم في تدوين الحقائق ، ولم يتعرّض أحد بجمعها وضبطها مع

٣٣٠

عموم البلوى بها ، وإنّما تعرّضوا لضبط أنواع العلائق وبالغوا في جمعها حسبما عرفت. وهذا كلّه اية كون أمر التجوّز منوطا بنوع العلاقة ، إن أرادوا به إثبات ما يرجع إلى المعنى الّذي قرّرناه فهو جيّد ، وإن أرادوا به إثبات تجويز الواضع في كلّ نوع بالخصوص ، على وجه يستلزم كون كلّ نوع بالخصوص ملحوظا عنده بعنوانه الخاصّ ، مصرّحا بالتجوّز من جهته ، كما تقتضيه ما عن بعضهم من : أنّ الواضع قد اعتبر هذه العلاقات بخصوصها ، ونسبه إليهم مدّعيا عليه الوفاق ، فليس بجيّد ، لعدم قضاء شيء ممّا ذكر بالتعرّض للإذن ، أو ملاحظة أنواع العلاقات بالخصوص ، بل لا قضاء في بعضها ـ حسبما قرّرناه ـ إلاّ بما نبهّنا عليه ، فلاحظ وتأمل كي يتّضح لك صحّة ما قلناه.

وأمّا أهل القول باشتراط نقل الاحاد فلهم وجوه :

أحدها : أنّه لولا النقل لكان التجوّز قياسا أو اختراعا ، أمّا الملازمة : فلأنّ المجاز الّذي لم ينقل بعينه من الواضع فاستعماله في خلاف معناه إمّا لعلّة مشتركة بينه وبين ما نقل عنه أو لا ، والأوّل قياس والثاني اختراع ، وأيّاما كان فهو واضح البطلان.

ودفع : بأنّ ثبوت الرخصة في اعتبار نوع العلاقة ممّا يخرجه عن الاختراع ، وليس الاستعمال معها لعلّة مشتركة ، لعدم استناده في الحقيقة إليها وإنّما يستند إلى الوضع المفروض انتفاؤه هنا.

وأمّا على ما قرّرناه ، فيدفعه : أنّ الاختراع إن اريد به ابتداء الاستعمال فبطلان اللازم بإطلاقه غير مسلّم ، لما عرفت من أنّه يعدّ عندهم إذا استند إلى العلاقة بالمعنى المتقدّم من البلاغة ، وليس ذلك من القياس في شيء ، لكون علّة الجواز في الحقائق اتّصال اللفظ بما وضع له الناشئ من الوضع ، وفي المجاز اتّصاله بخلافه الناشئ من اتّصال المعنيين بواسطة الوضع.

وإن اريد مخالفة الاستعمال لقانون اللغة ، على وجه يعدّ الاستعمال من جهته من الغرائب والأغلاط ، فالملازمة غير مسلّمة كما بيّنّاه مفصّلا.

٣٣١

وثانيها : أنّه لولاه لجاز استعمال « النخلة » في غير الإنسان ، كالحائط والجبل الطويلين لعلاقة المشابهة ، و « الصيد » في الشبكة وبالعكس لعلاقة المجاورة ، و « الابن » في الأب وعكسه لعلاقة السببيّة والمسببيّة.

ودفع تارة : بأنّ انتفاء الصحّة لا ينافي وجود المقتضي ، إذا استند إلى وجود المانع ، فإنّ عدم المانع ليس جزء من المقتضي ، وحينئذ فيجوز مصادفة المانع له وإن لم يعلم بالخصوص.

واخرى : بأنّ ذلك لفقد المقتضي ، فإنّ اللغات لكونها توقيفيّة ، فالأصل فيها عدم جواز الاستعمال إلاّ ما ثبت فيه الرخصة ، ولم تثبت إلاّ في العلاقة الظاهرة والمناسبة الواضحة ، فالمعتبر من المشابهة ما إذا كان وجه الشبه من أظهر خواصّ المشبّه به بل المشبّه أيضا ، ومن المجاورة ما إذا كانت ملحوظة في الأنظار مع مؤانسة تامّة بين المتجاورين ، بأن لم يكن أحدهما متنفرّا عن الاخر ، ومن السببيّة والمسبّبية ما لم يكن خفيّا ، بحيث لم ينتقل إليه الذهن ، وعلاقات الأمثلة المذكورة ليست بتلك المثابة ، أمّا الجدار والجبل فلنقصان مشابهتهما النخلة ، من حيث إنّها إنّما تتمّ إذا تحقّقت في الطول مع تقارب القطر والحجم ، وأمّا الصيد والشبكة فلكمال المنافرة بينهما ، وأمّا في الأب والابن فلخفاء السببيّة والمسببيّة فيهما ، وعدم كونهما من أظهر خواصّهما في نظر العرف وفي كلّ من الوجهين نظر.

أمّا الأوّل : فلأنّ المانع المحتمل وجوده إن اريد به ما يرجع إلى الواضع فلا يتصوّر له معنى محصّل ، سوى أنّه لم يرخّص في الاكتفاء بالنوع الموجود في الأمثلة المذكورة ونظائرها ، وهذا إعتراف بموجب الاحتجاج ، وإن اريد به ما يرجع إلى غيره فتأثيره في المنع غير معقول ، فإنّ الجواز اللغوي لا ينافيه المنع الغير اللغوي على فرض تسليم قيامه ، كيف وقيامه غير مسلّم.

نعم ربّما أمكن كون المانع المدّعى قيامه مرادا به ما يوجب سقوط إطلاق النوع المرخّص فيه عن الاعتبار ، بدعوى : نهوض ما كشف عن أنّ رخصة الواضع إنّما حصلت في الاكتفاء بالنوع في الجملة ، ولو باعتبار تحقّقه في ضمن بعض

٣٣٢

أصنافه ، ولو بالقياس إلى بعض أنواع العلاقات لا أجمعها ، لكن يشكل هذا التعبير بأنّ مقتضاه رجوع هذا الوجه إلى الوجه الثاني بل كونه عينه ، فلا وجه لجعله مغايرا له ، كما هو ظاهر من عدل عنه إلى اختياره كبعض الأعلام (١).

وأمّا الثاني : فلما قرّرناه من أنّ الالتزام بصدور الرخصة من الواضع في خصوص النوع أيضا غير لازم ، بعد وجود العلاقة بالمعنى المتقدّم ، وهو الارتباط والاتّصال بين المعنيين على وجه يقبله الطبع ، ويوجب الاتّحاد بينهما في نظر الاعتبار.

فالمناسب لهذه الطريقة أن يقرّر الجواب ـ بعد بناء عدم الجواز في الموارد المذكورة على فقد المقتضى ـ بأنّ العلاقة بمعنى الارتباط والاتّصال غير موجود فيها ، فإنّ الارتباط لا بدّ له من رابط ، كما أنّ الاتّصال لا بدّ له من موجب ، وهو غير متحقّق في الموارد المذكورة ونظائرها.

وتوضيحه : أنّ المشابهة فيما بين أنواع العلاقات إنّما تصلح رابطة وموجبة لاتّصال المستعمل فيه بالموضوع له ، إذا كان وجه الشبه من أظهر ما يختصّ بالمشبّه به ، من صورة نوعيّة ـ ولو متقوّمة بأحد أجزاء نوع المشبّه به ـ أو صفة معنويّة يمتاز بها عمّا عداه ككونها فصلا أو خاصّة له ، والموجود في الجبل والجدار الطويلين ليس بهذه المثابة ، ضرورة أنّ الصورة النوعيّة المختصّة بالنخلة ليست لمجرّد الطول ، لوجوده في المنارة وجملة كثيرة من الأشجار وغيرها ، بل هو مع الحجم والقطر على الوجه المخصوص المتحقّق لبعض احاد الإنسان ، المفقود عن الجبل والجدار ، كما يرشد إليه سلامة الطبع ، وليس المعتبر في المجاورة مجرّد الاتّصال الخارجي الحاصل بين المعنيين كيفما اتّفق ولو أحيانا ، بل الاتّصال الدائمي أو الغالبي المتحقّق بينهما بمقتضي طبعهما ونوعهما ، نظير اتّصال الظرف بمظروفه ، والحالّ بمحلّه ، والمتمكّن بمكانه ، وهذا هو الباعث على صحّة التجوّز في القرية والبستان بإرادة الأهل دون الإبريق والغراب.

__________________

(١) قوانين الاصول ٢٦ : ١.

٣٣٣

ولا ريب أنّ الاتّصال فيما بين الصيد والشبكة اتّفاقي غير ناش عن مقتضى طبعهما ، ولذا يجد فيهما الطبع السليم من الانفصال المعنوي ما لا يجده عمّا بين القرية وأهلها.

وأمّا مسألة الأب والابن ، فيدفعها : النقض بالأب حيثما يطلق على الجدّ ، والابن حيثما يطلق على ابن الابن ، فإنّه على ما هو المعلوم من العرف والمصرّح في كلام أهل اللغة مجازا ، ولا علاقة له ظاهرا سوى المسبّبية في الأوّل والسببيّة في الثاني ، مع أنّ علاقة السببيّة واختها في جميع مواردهما لا بدّ وأن يتحقّقا بين مفهومي اللفظين على الوجه الّذي اخذا في لحاظ الوضع.

ولا ريب أنّ التجوّز في الأب والابن حسبما هو مفروض الاحتجاج إنّما يتأتّى إذا اريد بالأوّل من له البنوّة وبالثاني من له الابوّة ، لأنّهما مفهومان قد اخذا في وضع اللفظين ، غير أنّهما كما ترى عنوانان لا سببيّة بينهما بكون أحدهما من حيث إنّه مأخوذ في وضع لفظه سببا لصاحبه الّذي هو أيضا من هذه الحيثيّة يكون مسببّا عنه ، بل هما أمران متلازمان تلازم التضائف لمكان اللزوم بينهما خارجا فلذا لا يتحقّق أحدهما بدون تحقّق الاخر ، وذهنا فلذا لا يتعقّل أحدهما بدون تعقّل الاخر ، وهما معا بهذا الاعتبار مسبّبان عن سبب ثالث خارج عنهما ، وهو الزواج وما استتبعه من الشروط والمعدّات ، وهذا ممّا لا دخل له بمفهوم الأب كما لا يخفى.

هذا إذا اريد بالسبب ما يرادف العلّة أو ما يقرب منها ، وإلاّ فمن جملة شروط تحقّق العنوانين وانعقادهما في الخارج إذا اريد به ما يعمّ الشرط أيضا ، إنّما هو الذات المعرّاة عن وصفي الابوّة والبنوّة ، وهو الّذي سيصير أبا بالتوالد ، وظاهر أنّه بهذا الاعتبار عنوان لم يوضع له لفظ فضلا عن لفظي « الأب » و « الابن » هذا إذا اعتبرنا تلك الذات بعنوان كلّي ، وإن كان النظر إلى شخص هذا العنوان فلا محصّل له إلاّ المعنى العلمي الشخصي ، فيكون لفظه الموضوع له هو العلم والسببيّة حاصلة بينه وبين المجموع من معنيي الأب والابن ، لا بين نفس المعنيين هذا واغتنم.

٣٣٤

وأمّا ما عساه يتخيّل في دفع الاحتجاج بمسألة الأب والابن من منع بطلان اللازم ، بدعوى : صحّة إطلاق « الابن » على الأب بعلاقة الكون عليه ، وإطلاق « الأب » على الابن بعلاقة الأول إليه ، فالصحّة حاصلة مستندة إلى هذين النوعين من العلاقة ، ولا يلزم منه استنادها إلى النوع الاخر المجامع لهما وهو السببيّة واختها.

فيزيّفه : ما تقدّم الإشارة إليه من أنّ التجوّز هاهنا لا بدّ وأن يتأتّى في لفظي من له الابوّة ومن له البنوّة ، بأن يراد الأوّل من لفظ « الابن » والثاني من لفظ « الأب » والمفروض ليس من هذا الباب ، لكون المراد من « الابن » على الأوّل الذات المعرّاة عن وصف البنوّة لعلاقة كونها على هذا الوصف ، ومن « الأب » على الثاني الذات المعرّاة عن وصف الابوّة بعلاقة أنّه سيوصف به ، فلم يرد من الأوّل من له الابوّة ولا من الثاني من له البنوّة ، مع أنّ إطلاق « الابن » على من صار أبا إذا كان باعتبار الإضافة الأوليّة ليس على المجاز ، بل هو على الحقيقة حين مذ تحقّق له هذا العنوان إلى ما لقى وجه الله الرحمن ، ضرورة أنّ ابن عمرو حينما صار ابنا لعمرو لا يزول عنه هذا العنوان أبدا ولو صار أبا لألف عمرو.

وثالثها : أنّه لولاه لخرج القران عن كونه عربيّا واللازم يبطله قوله تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا )(١) فيبطل معه الملزوم ، أمّا الملازمة : فلأنّ ما لم ينقل عن العرب ليس بعربي ، والقران لاشتماله على مجازات كثيرة مشتمل على غير العربي ، فيكون من باب المركّب من العربي وغيره ، والمركّب منهما ليس بعربي.

وجوابه ـ بعد النقض بالصلاة والصوم وغيرهما ممّا لم يكن معهودا عند العرب من المعاني المحدثة الشرعيّة ـ منع الملازمة ، بمنع انحصار العربيّة فيما نقل عن العرب بشخصه بل نوعه أيضا ، بل يكفي فيها اتّصال اللفظ بالمعنى المستعمل فيه الناشئ عن الوضع العربي ، بواسطة اتّصاله بالمعنى الموضوع له المتّصل بالمستعمل فيه على الوجه المتقدّم.

__________________

(١) يوسف : ٢.

٣٣٥

وقد يقرّر ذلك ، بأنّه إنّما يلزم ذلك مع انتفاء النقل رأسا ، وأمّا مع وجوده في النوع فلا ، وقد عرفت أنّ الالتزام بالنقل غير لازم.

واجيب أيضا مضافا إلى ما ذكر ـ : بأنّ المراد كونه عربي الاسلوب فلا ينافيه عدم عربيّة بعض كلماته ، وإلاّ ينقضه اشتماله على ما لا شبهة في عدم كونه عربيّا من الهندي والرومي والمعرّب كالمشكاة والقسطاس والسجّيل ، مع أنّه لو سلّمت الملازمة وبطلان اللازم معا فأقصاه كون مجازات القران منقولة من العرب دون غيرها.

وبالجملة ، قضيّة الدليل بعد تسليم مقدّماته تحقّق النقل في مجازات القران ، لا اشتراط المجاز كائنا ما كان بنقل الاحاد ، مضافا إلى توجّه المنع إلى بطلان اللازم ، لابتنائه على عود ضمير ( أَنْزَلْناهُ ) إلى القران بجملته ، وهو محلّ منع ، لجواز عوده إلى البعض المعهود منه من سورة أو اية ، ولا ينافيه تذكير الضمير بعد إمكان تطرّق التأويل إليهما بالمنزل أو المذكور أو نحو ذلك ، ولا وقوع البعض ممّا اطلق عليه القران بعد ملاحظة أنّه مشترك بين الكلّ والبعض على رأي ، أو موضوع للقدر المشترك بين الكلّ وكلّ بعض على رأي اخر ، وأجود الأجوبة ما قرّرناه.

وممّن وافقنا على هذا الجواب بعض الفضلاء المتقدّم ذكره ، قائلا : والتحقيق عندي أنّه لا حاجة في المجاز إلى الوضع والرخصة ، بل جوازه طبعي مبنيّ على المسامحة والتأويل في الوضع الأصلي ، حيثما يتحقّق بين المعنيين علاقة معتبرة عند الطبع ـ إلى أن قال ـ : ولا يلزم من ذلك خروج المجازات عن كونها عربيّة ، إذ يكفي في النسبة توقّفها على أوضاع عربيّة وابتنائها عليها ، وكذلك نسبة المجاز إلى سائر اللغات والاصطلاحات. انتهى (١).

تتمّة : قضيّة ما قرّرناه في تحقيق العلاقة وكون صحّة المجاز في مواقعه مبتنية

__________________

(١) الفصول : ٢٥.

٣٣٦

على اتّصال اللفظ بالمعنى المجازي المستند إلى الوضع واتّصال المعنيين على الوجه المتقدّم جواز سبك المجاز من المجاز.

ولا يقدح فيه انتفاء العلاقات المعهودة المتقدّمة عمّا بين الموضوع له والمستعمل فيه ، لمكان كفاية الاتّصال الحاصل بينهما بواسطة الاتّصال الحاصل بين الموضوع له والمعنى المجازي الاخر ، المتّصل بالمستعمل فيه بوجود أحد أنواع العلاقات المعهودة ، ويلزم من ذلك اتّصال اللفظ بذلك المعنى المستعمل فيه.

نعم على القول باعتبار الرخصة في نوع العلاقة ، والاقتصار على الأنواع المعهودة فالمتّجه عدم صحّة التجوّز ، إلاّ إذا وجدت العلاقة بين الموضوع له ونفس المستعمل فيه ، فلا يكفي وجودها بين الموضوع له ومجازي اخر بينه وبين المستعمل فيه علاقة أيضا ، ووجهه واضح.

٣٣٧

ـ تعليقة ـ

الوضع المعتبر في الحقيقة والمجاز لا بدّ وأن يكون المراد به ما عرّفه به شارح المختصر في بيانه ، من : « أنّه اختصاص شيء بشيء ، بحيث لو اطلق الشيء الأوّل فهم منه الشيء الثاني » ليشمل كلاّ من الموضوعات التعيينيّة والتعيّنيّة.

وإن شئت بدّل الشيئين باللفظ والمعنى ، فإنّ الوضع على ما يستفاد من تضاعيف كلماتهم مقول بالاشتراك عندهم على ما يكون من صفات الواضع وهو الجعل والتعيين ، وما يكون من صفات الموضوع ، وهو كونه موضوعا للمعنى وتعيّنه له ، سواء نشأ ذلك من الوضع بالمعنى الأوّل ، أو من شيوع الاستعمال مجازا ، والمتعيّن في باب الحقيقة والمجاز إنّما هو اعتبار المعنى الثاني ، كما يفصح عنه كونهما عندهم للأعمّ من اللغويّين والعرفيّين عامّا وخاصّا ، والشرعيّين كما لا يخفى.

والظاهر أنّ المعنى المشهور في تعريفه من : « أنّه تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه » ينظر إليه بالمعنى الأوّل دون ما يعمّه وغيره ، لأنّه الأصل في باب الوضع من حيث إنّ الوضع في الموضوعات التعيّنية إنّما يحصل تبعا له ، ولأنّه الثابت فيما هو الأصل في الحقائق وهي الحقائق اللغويّة ، لأنّها حقائق أصليّة بخلاف غيرها من العرفيّة والشرعيّة ، فإنّها طارويّة ، ولأنّه المبحوث عنه في كثير من مباحث هذا الفنّ كما في البحث الاتي ، من كون دلالات الألفاظ بالوضع أو بالمناسبات الذاتيّة ، وفي كون الوضع من فعل الله سبحانه أو فعل البشر.

٣٣٨

وكيف كان : « فالتعيين » في هذا التعريف عبارة عن الجعل الّذي مرجعه إلى تخصيص اللفظ بالمعنى ، الّذي يقلّ معه الشركاء من حيث إنّ اللفظ قبل ماطرأه الجعل كان متساوي النسبة إلى جميع المعاني ، فكأنّه كان صالحا لها جمع ، فأوجب الوضع الطارئ نفي تلك الصلاحيّة ، وخرج به المجازات بأسرها بالقياس إلى ما يثبت فيها من الرخصة في النوع ، لعدم صدق التعيين عليها بعنوان الحقيقة ، أو عدم انصراف إطلاقه عليها ، وإطلاق الوضع عليها في مقابلة الوضع الثابت في الحقائق مجاز من باب الاستعارة ، لمشاركة الرخصة النوعيّة في التجوّز له في إفادة صحّة الاستعمال.

وإضافته إلى اللفظ ما يخرج به تعيين غيره ، وكونه للدلالة يخرج به تعيينه لغير الدلالة ، كالوضع والتركيب وغيرهما وكون هذه الدلالة دلالة على المعنى يخرج به ما عيّن للدلالة على غيره ، كوجود اللافظ واللفظ في الألفاظ الموضوعة للألفاظ ، والمعروف في القيد الأخير كونه لإخراج المجاز الّذي دلالته على المعنى ليس بنفسه بل بمعونة الغير.

ويشكل بأنّ المجاز على فرض اندراجه في الجنس ، يخرج بظهور الدلالة على المعنى في الاستقلال ، ومن هنا قد يستغنى عن هذا القيد ، فإنّ مفاد ما تجرّد عن هذا القيد هو بعينه مفاد ما اشتمل عليه من غير تفاوت بينهما ، إلاّ في الظهور والنصوصيّة بالنسبة إلى إفادة اعتبار إسناد الدلالة إلى مجرّد اللفظ ، فما سبق إلى بعض الأوهام من أنّ مفهوم التعريف بدون هذا القيد أعمّ من مفهومه معه لتناوله المجازات ، ليس على ما ينبغي ، هذا مع ما سمعته من المناقشة في صدق التعيين على ما في المجازات من الرخصة النوعيّة ، إلاّ أن يراد بتعيينه استعمال المتجوّز ، فإنّه حينئذ بالقياس إلى المعنى المجازي تعيين له للدلالة على المعنى بمعونة القرينة ، وكيف كان فاعترض على التعريف المذكور بوجوه :

أحدها : انتقاض عكسه بالموضوعات التعيّنية ، فإنّها ألفاظ موضوعة ولا تعيين فيها.

٣٣٩

ويدفعه : أنّ هذا التعريف في لحاظ معرّفه ناظر إلى الوضع بمعنى الصفة الراجعة إلى الواضع ، فما في الموضوعات التعيّنية ليس بداخل في المعرّف ليجب دخوله في التعريف.

غاية الأمر ، أنّه يبقى في المقام سؤال عن وجه إفراد الوضع بهذا المعنى بالتعريف دونه بالمعنى الأعمّ ، فأمكن له الجواب بالوجوه الثلاث المتقدّمة.

ويمكن دفع الاعتراض أيضا ، بحمل « التعيين » على التعيّن من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم الأعمّ ، فإنّ تعيّن اللفظ للمعنى قد يتسبّب عن التعيين بمعنى الجعل ، وقد يتسبّب عن شيوع الاستعمال مجازا.

لكن يضعّفه : أنّ أخذ المجاز في التعريف بدون قرينة موضحة للمراد فيه يخلّ بما هو المقصود منه ، من انكشاف حال المعرّف فيخرج التعريف معه معيبا ، ولا يعقل كون العلم بحقيقة المعرّف وتفصيله بحسب الخارج قرينة ، بعد ملاحظة أنّ المعرّف إنّما ينهض معرّفا للجاهل بالمعرّف ، وفائدة التعريف إنّما تظهر له سواء اريد بالعلم المذكور علم الجاهل أو علم غيره ممّن رتّب هذا التعريف ، فإنّ الأوّل مفض إلى الدور ، والثاني غير معقول ، وإلاّ للزم الاستغناء عن قرينة المجاز في جميع المجازات بعلم المتجوّز بإرادته المعنى المجازي ، هذا مع أنّ هذا الحمل يأباه « لام » الغاية الداخلة في الدلالة ، فإنّ مفادها كون ما بعدها مقصود لترتّب على ما قبلها فلا بدّ من قاصد ، ووضع التعيّن ما ينشأ من شيوع الاستعمالات المجازيّة ، ولا يعقل منها قصد الدلالة ، وكون « اللام » للعاقبة خلاف الظاهر.

لا يقال : إنّ الاستعمالات المجازيّة أفعال للمستعملين والقصد يتأتّى منهم ، لأنّ هذه الاستعمالات لكونها مجازيّة حصلت منهم بقصد الدلالة على المعنى بالقرينة ولو كانت شهرة ، فعلى فرض دخول الموضوعات التعيّنية في الجنس بالتأويل المذكور ، لزم خروجها بقيد « الدلالة على المعنى بنفسه ».

وبذلك يظهر ضعف ما أفاده بعض الأجلّة (١) في دفع الاعتراض : « من أنّهم

__________________

(١) هو السيّد مهدي بحر العلوم في شرحه على الوافية.

٣٤٠