تعليقة على معالم الاصول - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٤٤٣

العلم تسمّى مطالب ، ومن حيث إنّها يقع عليها البحث تسمّى مباحث ، ومن حيث استخراجها عن الأدلّة تسمّى نتائج.

وفي جعله الامور اللاحقة الظاهرة في المحمولات عبارة عن المسائل ـ بناء على هذا الظهور ـ مسامحة ، يكشف عنها ما في ذيل كلامه من قوله : « ومسائله هي المطالب الجزئيّة المستدلّ عليها فيه » نظرا إلى أنّ المتّصف بالجزئيّة المستدلّ عليه في الفنّ ليس إلاّ النسبة الخبريّة ، وإلاّ فالمحمول لا بدّ وأن يكون بمفهومه أمرا كلّيّا ، مع أنّ استدلالات الفنّ لا تقع على نفس المحمول بل على انتسابه إلى الموضوع ، مع انّ الّذي يطلب في العلم وهو الّذي ينبغي أن يطلب ، هو حصول التصديق بالامور التي دوّن العلم لأجل بيانها ولغرض البحث عنها ، ولا يصلح له إلاّ النسب التامّة الخبريّة ، ضرورة أنّ غيرها من أجزاء القضيّة من الموضوعات والمحمولات لا يقع إلاّ موردا للتصوّر الّذي هو أمر اخر معتبر في التصديق.

فما في كلام بعض محقّقي الشرّاح (١) من تفسيرها بالنسب التامّة المستدلّ عليها ممّا لا محيص عنه.

وقد علم بما ذكرنا ، انّ ما في بعض التفاسير من انّها المحمولات المنسوبة إلى الموضوعات واضح الضعف ، واعتبار الحيثيّة كما في بعض التوجيهات غير مجد في تصحيحه ، إذ غاية ما فيها الدلالة على أنّ النسب غير خارجة عن المسائل وهذه ليس من الدلالة على انّها عينها في شيء كيف وأدلّة العلم لا تنهض إلاّ على نفس النسب.

وبذلك يظهر ضعف تفسيرها بالمحمولات المثبة بالدليل ، إذ لو اريد بإثبات المحمولات بالدليل إقامة الدليل على ثبوتها في نفس الأمر فهو ليس بما يطلب في العلم جزما ، وإن اريد به إقامته على ثبوتها لموضوعاتها فهو معنى كون المستدلّ عليه في الفنّ هو النسبة بناء على أنّها ليست عبارة إلاّ عن ثبوت

__________________

(١) هداية المسترشدين : ١٤ ( الطبعة الحجرية ).

٢٠١

المحمول من حيث إنّه ثبوته ، فلا مدخليّة لنفس المحمول فيه إلاّ من حيث إنّه أحد الطرفين ، وذلك لا يوجب كونه عينه ، ولا يجدي في إصلاحه إضمار النسب كما في بعض التوجيهات أيضا ، بأن يكون المعنى نسب المحمولات المثبتة بالدليل ، لما فيه من التكلّف الغير المرضيّ عند القائل ، وإلاّ لم يكن عدل إلى التفسير المذكور.

وأضعف من الجميع تفسيرها بالقضايا الّتي تطلب في العلم ، أو الّتي يقع فيها أبحاث العلم ، أو الّتي محمولاتها عوارض ذاتيّة لموضوع العلم أو لأنواعه أو لعوارضه الذاتيّة كما عرفته عن الشيخ في الشفاء ، فإنّه يستلزم اندراج الموضوعات في المسائل ، لتصريحهم بتثليث أجزاء القضيّة الّتي منها الموضوعات ، وهذا لا يلائمه اعتبارهم المسائل في طرف المقابل للموضوعات وتصريحهم بتثليث أجزاء العلوم الّتي منها الموضوعات ومنها المسائل.

[٣٣] قوله : ( وذلك الغير موضوعه ... الخ )

ربّما يتوهّم شمول العبارة بإطلاقها ما ليس بموضوع العلم ، نظرا إلى ما سبق ذكره من أنّ « الغير » الّذي يلحقه الامور المبحوث عنها في العلم قد يكون نوعا من موضوع العلم أو عرضا ذاتيّا له أو نوعا من عرضه الذاتي ، فإطلاق القول بكونه موضوعا للعلم يتناول المذكورات الّتي ليست بموضوع العلم بل هي موضوعات لمسائله.

ويندفع : أنّ المراد باللحوق في قوله : « عن امور لاحقة لغيرها » ما يعمّ اللحوق بالواسطة وبلا واسطة ، والامور اللاحقة للامور المذكورة يلحق الموضوع بواسطة هذه الامور. والإشكال إنّما يتوجّه إذا اعتبر لحوقها له بلا واسطة.

ثمّ الموضوع ـ على ما سبق ذكره واتّفق عليه كلمتهم ـ هو الّذي يبحث في العلم عن عوارضه الذاتيّة ، والمراد بعوارضه الذاتيّة ـ حسبما عرفت اثاره المطلوبة له وأحواله المختصّة به على وجه يشمل جميع أفراده ولا يشمل ما ليس منها ، وهذا هو معنى استنادها إلى ذات الموضوع ، فلا يراد منها ما يعرض ذات

٢٠٢

الموضوع من حيث هي ذاته ، ولا ما كان معلولا للذات ، ويقابلها العوارض الغربية وهي الّتي ليست من اثاره المطلوبة له المختصّة به ، الشاملة لجميع أفراده الغير الشاملة لغيرها ، وإنّما سمّيت « بالغريبة » لبعدها عن ذات المعروض.

واضطربت كلمتهم في تعريف العوارض الذاتيّة اضطرابا لا يكاد ينضبط ، ومن جملة ما ذكروه ما في الرسالة الشمسيّة (١) من تعريفها بالعوارض الّتي تلحق الشيء لما هو هو أي لذاته ، أو لما يساويه ، أو لجزئه.

ووافقه على ذلك شارحها إلاّ أنّه بين أمثلة الصور الثلاث ، فخصّ مثال الصورة الأخيرة بما كان عارضا بواسطة الجزء الأعمّ ، كالحركة اللاحقة للإنسان بواسطة أنّه حيوان ، ونحوه ما في شرح المطالع مع التصريح فيه بكون الجزء في الصورة الأخيرة أعمّ من كونه الأعمّ أو المساوي.

ثمّ اعترض عليهم في عدّهم ما يلحق الشيء بجزئه الأعمّ من العرض الذاتي في أثناء كلامه نافيا لكونه منه ، معلّلا بأنّ الأعراض الّتي تعمّ الموضوع خارجة عن أن تفيد أثرا من الاثار المطلوبة له ، إذ تلك الاثار إنّما توجد في الموضوع وهي خارجة منه.

ثمّ قال : فالأولى أن يقال : العرض الذاتي ما يلحق الشيء لما هو هو ، أو بواسطة أمر يساويه كالفصل والعرض الأوّلي ، أو يقال : ما يختصّ بذلك الشيء ويشمل أفراده إمّا على الإطلاق ، كما للمثلّث من تساوي الزوايا الثلاث لقائمتين ، أو على سبيل التقابل كما للخطّ من الاستقامة والانحناء. انتهى.

وإطلاق كلامه يقتضي أن يقال : ـ في شرح العرض الذاتي ـ إنّه ما يلحق على الانفراد أو الانضمام للشيء لذاته ، أو لما يساويه في الوجود داخليّا كان أو خارجيّا ، ساواه في الحمل أو باينه كما يساعد عليه النظر ، ومرجع الجميع إلى قسمين ينبغي التعرّض لبعض ما يتعلّق بهما :

__________________

(١) شرح الشمسيّة : ١٨.

٢٠٣

أحدهما : ما يلحق الشيء لذاته ، ويعبّر عنه « بالعرض الأوّلي » والمراد به على ما صرّحوا به عرض يلحق معروضه بلا واسطة في عروضه.

وعن الشيخ في الشفاء في الفرق بين المقدّمة الأوّلية ومقدّمة محمولها أوّلى : إنّ الاولى هي الّتي لا حاجة لها إلى واسطة في التصديق كقولنا : « الكلّ أعظم من الجزء » وإنّ الثانية هي الّتي لحوق محمولها لموضوعها لا بتوسّط لحوقه لشيء اخر ، بمعنى كونه عارضا له لا لشيء اخر ، ولو كان عارضا لشيء اخر فكان بتوسّط كونه عارضا له ، فهو له أوّلا وبالذات وللشي الاخر ثانيا وبالواسطة.

وملخّص ذلك : إنّ المعتبر في العرض الأوّلي إنتفاء الواسطة في العروض ، لا إنتفاء الواسطة في التصديق ، وبذلك يندفع ما اعترض عليهم في قولهم : « بأنّ العوارض اللاحقة للأشياء لذواتها هي التي لحقها بلا توسّط شيء اخر » من أنّه يستلزم كون تلك اللواحق بيّنة الثبوت لتلك الأشياء ، فتخرج عن كونها من مسائل العلم ، لأنّ مسائل العلم تحتاج في ثبوتها لموضوعاتها إلى دليل وبرهان ، والامور البيّنة الثبوت لا حاجة لها في ثبوتها إلى برهان ، فإنّ انتفاء الواسطة في العروض لا ينافي الاحتياج إلى الواسطة في التصديق ، وكما لا يعتبر في العرض الأوّلي انتفاء هذه الواسطة فكذلك لا يعتبر انتفاء الواسطة في الثبوت بالمعنى المقابل للواسطة في العروض ، كما نصّ عليه بعض الفضلاء (١) قائلا : والمراد بالعرض الذاتي ما يعرض الشيء لذاته ، أي لا بواسطة في العروض سواء احتاج إلى واسطة في الثبوت ولو إلى مبائن أعمّ أو لا.

أمّا الأوّل ، فكالأحوال الإعرابيّة الطارئة على الكلمة والكلام بواسطة الوضع ، وهو أمر مبائن للّفظ وإن كان له نوع تعلّق به ، أعمّ بحسب الوجود لتحقّقه في النقوش وغيرها أيضا ، وكالأحكام الشرعيّة الطارئة على أفعال المكلّفين باعتبار وعلى الأدلّة باعتبار بواسطة جعل الشارع وخطابه ، وهو أمر مبائن للأفعال والأدلّة وإن كان له تعلّق بها ، وأعمّ من كلّ منهما لتحقّقه في الاخرى.

__________________

(١) الفصول : ٨.

٢٠٤

وأمّا الثاني ، فكالحاجة اللاحقة للممكن المبحوث عنه في فنّ المعقول ، فإنّه يتّصف بها من حيث الذات على ما هو التحقيق وكالأحوال الطارئة على الأشكال ، كمعادلة الزوايا الثلاث القائمتين المبحوث عنها في علم الهندسة ، فإنّ لحوق تلك الأحوال لموضوعاتها مستندة إلى ذواتها ، وكذلك الأحوال اللاحقة للعدد المبحوث عنها في علم الحساب. انتهى.

وقد سبقه إلى هذا التحقيق جماعة منهم المحقّق الشريف في حواشيه لشرح المطالع قائلا بأنّ المعتبر في العرض الأوّلي هو انتفاء الواسطة في العروض ، وهي التي تكون معروضة لذلك العارض ، دون الواسطة في الثبوت التي هي أعمّ.

وله كلام اخر في حواشيه لشرح الرسالة الشمسيّة ربّما توهم كونه مناقضا لذلك ، حيث قال : واعلم انّ العوارض التي تلحق الأشياء لذواتها لا يكون بينها وبين تلك الأشياء واسطة في ثبوتها لها بحسب نفس الأمر ، وأمّا العلم بثبوتها لها فربّما يحتاج إلى برهان.

ويدفعه : أنّ غرضه بذلك إنّما هو الرد على الاعتراض المتقدّم إليه وإلى دفعه الإشارة ، من أنّ العرض الّذي يلحق الشيء لذاته ـ أي بلا واسطة ـ يكون بيّن الثبوت له فكيف يصلح مسألة للعلم ، فيكون المراد بثبوتها ـ المدّعي انتفاء الواسطة بالقياس إليه ـ ثبوتها لموضوعاتها في لحاظ الحمل الّذي مفاده إتّحادهما باعتبار الوجود ، على معنى عدم احتياجها في لحاظ الحمل إلى واسطة يثبت لها أوّلا وبالذّات ولموضوعاتها المبحوث عنها ثانيا وبالواسطة ، وهو بهذا المعنى يرادفه نفي الواسطة في العروض ، فلا ينافيه إحتياجها في ثبوتها لتلك الموضوعات في لحاظ الخارج إلى واسطة تكون علّة لتحقّقها فيه كما لا يخفى ، ولعلّه إلى ما وجّهناه يشير ما قيل في بعض حواشي عبارته المذكورة من امكان التوفيق بين كلاميه ، بأن يحمل كلامه هنا على نفي الواسطة في الثبوت في ضمن الواسطة في العروض لا مطلقا.

وقضيّة كلامه على التوجيه المذكور ، ورود إطلاق الواسطة في الثبوت في

٢٠٥

كلامهم لمعنيين ، فتارة لما يرادف الواسطة في العروض ، واخرى لما يقابلها والواسطة في التصديق ، فإنّ ثبوت شيء لشيء أعمّ من كونه كذلك في لحاظ الحمل أو في لحاظ الخارج ، والعروض أخصّ منه ، كما يشير إليه ما في ذيل الحاشية المتقدّمة من قوله : « دون الواسطة في الثبوت الّتي هي أعمّ » بإرادة كونها أعمّ من الواسطة في العروض كما هو الظاهر من سياق العبارة.

ومن البيّن أنّ نفي الأعمّ قد يراد منه نفيه في ضمن الأخصّ فلا ينافيه ثبوته في ضمن الأخصّ الاخر ، خصوصا إذا كان النفي واردا في موضع التنبيه على شبهة من اشتبه المقدّمة الّتي محمولها أوّليّ بالمقدّمة الأوّلية ، فإنّ ذلك قرينة واضحة على أنّ المراد بالواسطة المنفيّة واسطة يوجب انتفاءها كون محمول المقدّمة أوّليّا ، الغير المنافي لعدم كونها من المقدّمات الأوّليّة كما يومئ إليه أيضا قوله : « وأمّا العلم بثبوتها لها فربّما يحتاج إلى برهان ».

ثمّ إنّ العرض الأوّلي بالمعنى المتقدّم أعمّ من العرض الّذي يشمل جميع أفراد معروضه بانفراده ، والّذي يشمل الجميع منضمّا إلى مقابلاته إذا اخذ في لحاظ الحمل على وجه الترديد ، لكن يشترط في أوّليّته في صورة الانضمام بعدم احتياجه في عروضه له إلى أن يصير نوعا معيّنا ، كالمتحرّك والساكن العارضين للجسم على نحو الترديد ، حيث إنّهما في عروضهما له لا يحتاجان إلى أن يصير إنسانا أو حيوانا ، وكالزوج والفرد العارضين للعدد الغير المحتاجين إلى أن يصير أربعة وثلاثة ، وأمّا ما يحتاج في عروضه له إلى أن يصير نوعا معيّنا كالضاحك والصاهل العارضين للحيوان المحتاجين إلى صيرورته إنسانا وفرسا ، لوضوح أنّ الحيوان ضاحك بواسطة أنّه إنسان لا لذاته ، فليس من الأعراض الأوّليّة ، وإن كان إذا اخذ مع مقابلاته العارضة لسائر الأنواع على وجه الترديد أيضا بحيث يكون مرجعه إلى اعتبار كون محمول القضيّة هو الأمر المردّد بين الجميع من الأعراض الذاتيّة ، لوضوح كون هذا الأمر المردّد إذا اخذ على هذا الوجه من لوازم الموضوع واثاره المطلوبة وخصائصه الغير الشاملة لغيره العامّة لجميع جزئيّاته ، ووجود

٢٠٦

هذا القسم من الأعراض كسابقه كثير شائع في العلوم ، ولم يقل أحد بكون وروده فيها من باب الأعراض الغريبة.

ألا ترى أنّ الإعراب والبناء يبحث عنهما في النحو ، الّذي موضوعه « الكلمة » وهما لا يعرضانها إلاّ بواسطة أنواعها من الاسم وأخويه ، فيقال : « الأصل في الاسم الإعراب في الفعل والحرف البناء » فالضاحك في المثال المتقدّم إذا اخذ منفردا وإن كان من اثار نوع الجسم المطلوبة له ، فيكون بهذا الاعتبار بالقياس إلى الجسم من الأعراض الغريبة ، غير إنّه إذا أخذ مع مقابلاته على وجه يكون المأخوذ محمولا هو الأمر المردّد ، كان من اثار الجسم المطلوبة له ، فيكون بهذا الاعتبار من الأعراض الذاتيّة ، ولا منافاة بين الاعتبارين وقد سبق بعض ما يتعلّق بهذا المقام.

وثانيهما : ما يلحق الشيء لأمر يساويه ، على معنى مساواته في الوجود ، والمساوي بهذا المعنى إمّا داخل في الشيء كالجزء ، أو خارج عنه مساو له في الحمل أيضا مطلقا ، أو إذا اخذ على التقابل ، أو غير مساو له ، فإنّ الكلّ بالقياس إلى الموضوع يندرج في الأعراض الذاتيّة بالمعنى المتقدّم.

أمّا الأوّل : كالعارض له بواسطة فصله كالمتعجّب العارض له بواسطة الناطق ، فلأنّه وإن كان أوّلا وبالذات يعرض الفصل غير أنّه لاختصاص الفصل به يصحّ عدّه من اثاره المطلوبة له ولوازمه المختصّة به ، فيصحّ بذلك إدراجه في مباحث العلم الّذي هو موضوعه ، بخلاف ما لو عرضه العارض بتوسّط جزئه الأعمّ ، وهو الجنس ، كالتحرّك للإنسان بواسطة الحيوان ، فإنّه ليس من الأحوال المختصّة بالإنسان فلا يطلب من العلم الّذي موضوعه الإنسان.

وأمّا الثاني : كالضاحك بالقوّة العارض له بواسطة المتعجّب ، فلأنّ الواسطة لكونها من مختصّاته فيختصّ به ما يختصّ بها ، فيصحّ عدّه من الاثار المطلوبة له.

وأمّا الثالث : كمحمولات أنواع الموضوع العارضة له على الوجه المتقدّم ، فلما تبيّن وجهه.

٢٠٧

وأمّا الرابع : كالأبيض العارض للجسم بواسطة السطح المبائن له ، فلأنّ الواسطة ـ على ما هو المفروض ـ لا توجد في الخارج إلاّ والمعروض موجود معها غير منفكّ عنها ، ولا هي متناولة غيره فتكون من خصائصه وإن امتنع حمله عليه ، فيختصّ به ما يختصّ بها فما يقال : من أنّ ما يعرض الموضوع بواسطة الخارج ولو مساويا له ليس في الحقيقة من عوارض الموضوع ، بل من عوارض ما يساويه ، فاللازم أن يبحث عنه في علم يكون موضوعه ذلك المساوي ، ممّا لا يلتفت إليه.

وأمّا الأعراض الغريبة : فالمعروف بينهم أنّها ما يعرض الشيء بواسطة أمر خارج أعمّ أو أخصّ ، فيصير أقسام العرض بضميمة هذين القسمين إلى ما تقدّم من أقسام العرض الذاتي ـ عدا ما يعرض بواسطة أمر مبائن خمسة ، حصره المتأخّرون فيها ، وبيّنوا وجهه بأنّ العرض إمّا يعرض الشيء أوّلا وبالذات أو بواسطة ، والواسطة إمّا داخل فيه أو خارج عنه ، والخارج إمّا أعمّ منه أو أخصّ أو مساو له.

وعن صاحب القسطاس انّه أضاف إليها سادسا ، وهو أن يكون الواسطة أمرا مبائنا للمعروض بزعم كونه من الأعراض الغريبة.

واستصوبه في شرح المطالع ووافقهما غير واحد وهو الأصحّ ، وعليه فأقسام العرض الغريب ثلاث ، ثالثها ما يعرض الشيء بواسطة أمر خارج مبائن له ، لكن يجب تقييد ما يعرض بواسطة أمر خارج أخصّ بما لو اخذ العرض في لحاظ الحمل بوصف الإنفراد ، لما عرفت من انّه لو اخذ بوصف الإنضمام على وجه الترديد كان من جملة الأعراض الذاتيّة ، لا لأنّه على هذا الاعتبار ممّا يعرض بواسطة أمر أخصّ ومعه يكون عرضا ذاتيّا ، بل لإنقلاب الفرض حينئذ إلى كونه ممّا يعرض بواسطة أمر مساو حسبما وجّهناه ، كما انّه يجب تقييد ما يعرض بواسطة الخارج المبائن بكونه مبائنا في الحمل والوجود معا ، إذ العارض لأمر مبائن في الحمل مساو في الوجود من الأعراض الذاتيّة ، حسبما عرفت وجهه.

٢٠٨

وبالجملة : عدّ ما يعرض لأمر مبائن عرضا غريبا بقول مطلق ـ كما هو ظاهر الجماعة ـ ليس بصواب ، بل هو مقيّد بعدم مساواة الواسطة في الوجود أيضا.

وممّن سبقنا على هذا التحقيق المحقّق الشريف في حواشي شرح المطالع ، عند اعتراضه على من جعل الأبيض المحمول على الجسم بتوسّط حمله على السطح المبائن له من أمثلة العرض الغريب ، لمبائنة الواسطة قائلا :

ويرد عليه : انّه قد بحث عن الألوان في العلم الّذي موضوعه الجسم الطبيعي ، مع كونها عارضة له بواسطة مبائنة كما حقّقناه ، فكيف يعدّ العارض بتوسّط المبائن عرضا غريبا ، وإنّما المثال المطابق له عروض الحركة الغير الإراديّة لجالس السفينة بواسطة حركة السفينة ، لوضوح انّ السفينة تبائن جالسها في الوجود كما تبائنه في الحمل ، فيكون الحركة العارضة بتوسّطها عرضا [ غريبا ] (١) ، دون البياض العارض للجسم بتوسّط السطح فإنّه من الأعراض الذاتيّة كما تقدّم ، لتساوى السطح للجسم في الوجود وإن بائنه في الحمل.

وبما إعتبره من وصف الحركة بكونها غير إراديّة لا مجال للقول بأنّ الحركة إن اريد بها الخروج من حيّز إلى اخر فهي عارضة لذات الجالس فيكون ممّا يلحق الشيء بواسطة الجزء الأعمّ ، لوضوح انّ ما هو من لوازم الذات إنّما هو الحركة بالإرادة ، والحركة المفروضة غير إراديّة بل غير اختياريّة ، ولا تكون إلاّ أنّ معروضها الأوّلي هي السفينة المبائنة للجالس حملا ووجودا ، فهي حركة واحدة تنسب إليها أوّلا وبالذات وإليه ثانيا وبالواسطة ، لا أنّ هناك حركتين ممتازتين قائم إحداهما بها والاخرى به كما في حركتي اليد والمفتاح ، فلو فرض حينئذ للجالس حركة اخرى غير ما هي قائمة بالسفينة مسبّبة عنها ، كانت من قبيل حركة المفتاح الناشئة عن حركة اليد ، فتخرج السفينة بالقياس إليها حينئذ عن ضابطة الواسطة في العروض ، وتندرج في عنوان الواسطة في الثبوت بالمعنى المقابل للواسطة في العروض ، وهي ليست من معقد البحث هنا.

وبذلك يعلم انّ التمثيل لما يعرض للواسطة المبائنة بالحرارة العارضة للماء

__________________

(١) أضفناه لاستقامة العبارة.

٢٠٩

بواسطة النار ليس بسديد ، لما قيل ـ ونعم ما قيل ـ من عدم كون النار ولا مماسّتها واسطة في عروض الحرارة للماء وإن كانت واسطة في ثبوتها له ، لأنّ الواسطة في العروض ما يكون العارض عارضا له في الحقيقة ولا يكون عارضا لغيره كذلك ، بل لو عرض الغير كان ذلك بتوسّطة عروضه الواسطة ، لا بمعنى أنّ هناك عروضين بل عروض واحد منسوب إلى الواسطة أوّلا وبالذات وإلى الغير ثانيا وبالعرض ، ومعلوم أنّ الحرارة العارضة للماء عارضة للنار بعروض غير عروضها للماء ، وهما عروضان متمايزان ، فليس العارض في المثال المذكور مندرجا في الأعراض المعتبر معها الواسطة في العروض.

وربّما ينكر وفاقا للمتأخّرين المسقطين للواسطة المبائنة عن البين رأسا ، وجود هذا القسم من الواسطة ، بدعوى : عدم جواز كون الواسطة أمرا مبائنا وعلّة ، (١) تارة بأن يقال ـ في وجه الحصر المتقدّم ـ : إنّ العرض إمّا أن يلحق الشيء لا بتوسّط لحوق شيء اخر له أو بتوسّطه ، والواسطة إمّا داخلة أو خارجة إلى اخر الأقسام ، فعلى هذا لا يمكن أن يكون الواسطة مبائنة ، لأنّ المبائن لا يلحق الشيء.

واخرى : بأنّ الوسط ـ على ما عرّفه الشيخ (٢) ـ ما يقترن بلام الغاية التعليليّة حين يقال : « لأنّه كذا » فلا بدّ من اعتبار الحمل ، والمبائن لا يحمل.

ويندفع الأوّل : تارة بمنع أخذ العرض في المقسم بالمعنى المذكور ، القاضي بلزوم كون الواسطة أيضا ممّا يلحق المعروض ، بل الواجب أن يقال : إنّ العرض إمّا أن يلحق الشيء لا بواسطة لحوقه لغيره أو يلحقه بواسطة لحوقه للغير ، إلى اخر الأقسام.

ولا ريب أنّ كون الغير ممّا يلحقه العرض أعمّ من كونه بنفسه ممّا يلحق المعروض وعدمه ، فيندرج فيه ما يلحق بواسطة المبائن.

__________________

(١) هكذا في الأصل.

(٢) وفي الأصل « الشيء » والصواب ما أثبتناه ، بقرينة ما سيأتي منه في اندفاع هذا الوجه ، بقوله : « بأنّ الوسط الّذي عرّفه الشيخ ... الخ ».

٢١٠

واخرى : بأنّ العرض الّذي يلحق الشيء لا بتوسّط لحوق شيء اخر لا ينحصر في العرض الأوّلي الّذي يلحق الشيء لما هو هو ، فإنّ انتفاء لحوق شيء اخر قد يكون بانتفاء ذلك الشيء الّذي هو ذات اللاحق ، كما في العرض الأوّلي.

وقد يكون بانتفاء لحوقه الّذي هو وصف اللاحق ، كما في العرض اللاحق لما يبائنه ، كما يندفع الثاني بأنّ الوسط الّذي عرّفه الشيخ إنّما هو الواسطة في التصديق. ومحلّ الكلام هو الواسطة في العروض ، ولا يعتبر فيها كونها ممّا يصلح للحمل كما عرفت.

ومن هنا أورد على الاستدلال به ، بأنّه لو كان المراد « بالوسط » هناك ما ذكره لم يكن إثبات الأعراض الأوّلية من المطالب العلميّة ، لوضوح أنّ العارض بلا وسط بهذا المعنى يكون بيّن الثبوت لمعروضة.

والشبهة إنّما نشأت عن عدم التفرقة بين الوسط في التصديق والوسط في الثبوت ، نظرا إلى أنّ ما عرّفه الشيخ هو الوسط في التصديق. وكلامنا هناك في الوسط في الثبوت والفرق بينهما واضح.

ولا يذهب [ عليك ] أنّ جعل الكلام هنا في الوسط في الثبوت مع أنّ محلّ البحث ـ على ما عرفت ـ هو الوسط في العروض مبنيّ على ما قرّرناه سابقا في توجيه عبارة المحقّق الشريف.

وتوضيحه : ـ زيادة على ما مرّ ـ أنّ الواسطة في الثبوت قد تطلق على ما يقابل الواسطة في التصديق ، فيراد بها ما يكون علّة لثبوت المحمول للموضوع في الواقع ، سواء كانت معروضة لذلك المحمول الّذي هو من عوارض الموضوع فتكون واسطة في العروض أيضا أو لا ، فتكون واسطة في الثبوت المقابلة للواسطة في العروض ، وقد تطلق على ما يقابل الواسطة في العروض فيراد بها ما لم يكن معروضا بل كان علّة للعروض ، فبين المعنيين عموم مطلق ، يجتمعان في المبدأ الفيّاض المتوسّط لعروض الألوان للسطوح ، ويفترق الأوّل في التعجّب المتوسّط لعروض الضحك للإنسان.

٢١١

وأمّا الواسطة في التصديق ، فما كان علّة لثبوت المحمول للموضوع في الذهن ، فإن كان مع ذلك علّة لثبوته له في الواقع أيضا يسمّى « بالبرهان اللم » وإلاّ « فببرهان الإنّ ».

ومن الأفاضل (١) من اختار القول بمنع وجود الواسطة المبائنة في العروض أيضا ، قائلا : وأمّا ما ذكر من صحّة كون الواسطة في العروض مبائنا للمعروض فغير واضح ، بل الظاهر فساده.

بيان ذلك : انّه إن جعل الواسطة فيما يفتقر إلى واسطة فيه ، الأعراض القائمة بمحالّها المبائنة لمعروضاتها كما هو الشأن في العروض ، كان الحمل في جميع ما يفتقر إلى الواسطة الخارجيّة بتوسّط الأمر المبائن ، ولا يتحقّق هناك واسطة خارجيّة لا تكون مبائنة للمعروض بحسب الصدق ، ضرورة تبائن كلّ عرض لمعروضه ، فلا يتجّه الحكم بكون بعض الوسائط مبائنا في الصدق دون البعض ، وإن جعل الواسطة فيه العرضيّات والمشتقّات المحمولة على المعروضات لم يتحقّق هناك مبائنة بالنسبة إلى شيء منها ، ضرورة صحّة حملها على الذات من غير فرق في ذلك بين خصوصيّات الأعراض ، فما ادّعى من الفرق بيّن الفساد (٢).

وفيه : أنّ الواسطة فيما أمكن فيه الإشتقاق اللغوي هي المشتقّات دون مبادئها التي هي الاعراض القائمة بمحالّها ، لا لمجرّد امتناع حملها على الموضوع ، بل له ولامتناع حمل الغير عليها ، وهو العرض المبحوث عنه المعتبر عروضه للواسطة ، وفيما لا يمكن فيه الاشتقاق اللغوي كالإنسان والحيوان والسفينة والسطح والنار ـ على فرض صحّة التمثيل بها ـ فالواسطة هي نفس الذات.

ولا ريب أنّ بعض هذه الذوات ممّا يصحّ حملها وبعضها ممّا لا يصحّ ـ مع صحّة حمل الغير عليه ـ وهذا هو الواسطة المبائنة كالسفينة والنار بل السطح وإن نوقش في كونه مبائنا بأنّ الواسطة هنا هو المسطّح ، وذكر السطح مسامحة في

__________________

(١) هداية المسترشدين : ١٥ ( الطبعة الحجرية ).

(٢) هداية المسترشدين : ١٥ ( الطبعة الحجرية ).

٢١٢

التمثيل ، فالمثال غير منطبق على الممثّل ، لوضوح إنّ المسطّح لا يبائن الجسم ، فإنّ حمل الأبيض على الجسم بواسطة حمله على السطح الّذي ليس من المبادئ المصدريّة صحيح ، غير مفتقر صحّته إلى كون الواسطة أيضا ممّا يصحّ حمله عليه ، فليس في التمثيل به بعد ما يصحّ الحمل عليه مسامحة ، بل المسامحة إنّما هي في التمثيل بالمسطّح من حيث إنّ الإشتقاق الجعلي المأخوذ فيه لا يعطيه عنوان المساواة في الحمل بالقياس إلى الجسم ، بعد ملاحظة أنّ مبدأ الإشتقاق فيه بنفسه مستقلّ في موضوعيّته للأبيض ، إذ من البيّن إنّ الاعتبار والتقدير لا يرفعان حكم الواقع ونفس الأمر ، ومن المحسوس بالوجدان أنّ العروض الواحد الّذي لو اخذ بالقياس إلى الواسطة كان حاصلا أوّلا وبالذات ولو اخذ بالقياس إلى أصل الموضوع كان حاصلا ثانيا وبالعرض ، ما يتحقّق للأبيض فيما بين السطح والجسم ، وإن عبّر عنه بالمسطّح.

[٣٤] قوله : ( ولا بدّ له من مقدّمات يتوقّف الاستدلال عليها ، ومن تصوّرات الموضوع وأجزائه وجزئيّاته ، ويسمّى مجموع ذلك بالمبادئ ... الخ )

قد تقرّر عندهم إنّ أجزاء العلوم ثلاثة ، ثالثها المبادئ وهي على ما بيّنوه عبارة : عمّا يتوقّف عليه التصديق بالمسائل ، إمّا لكونها حدودا تفيد تصوّرات تتعلّق بموضوع العلم ، أو أجزائه أو جزئيّاته أو أعراضه الذاتيّة المأخوذة في موضوعات المسائل حسبما تقدّم بيانه (١) فتسمّى بالمبادئ التصوّرية ، أو مقدّمات تفيد تصديقات لا يتمّ الإستدلال على المسائل إلاّ بها فتسمّى بالمبادئ التصديقيّة ، فالتمثيل لها حسبما في عبارة المصنّف بالكتاب والسنّة والإجماع غير خال عن المسامحة ، لوضوح كون هذه الامور موضوعات المبادئ وعلى أيّ حال فهي إمّا مسائل من علم اخر أو علمين فصاعدا ، كمسائل النحو والمنطق والكلام واصول

__________________

(١) تقدّم في التعليقة رقم ٣١.

٢١٣

الفقه ، أو قضايا معلومة بالضرورة كقولنا : « النقيضان لا يجتمعان » و « الكلّ أعظم من الجزء » وما أشبه ذلك بالقياس إلى علم الفقه.

والوجه في كون مسائل ما عدا اصول الفقه من العلوم المذكورة من مبادئ الفقه ، ما تقدّم في عبارة المصنّف المتعرّضة لبيان وجه تأخيره عن العلوم المذكورة بالثالث من الاعتبارات الثلاث المتقدّم ذكرها.

وأمّا مسائل « اصول الفقه » فلأنّها باحثة عن الأحوال الراجعة إلى أدلّة الفقه أو أجزائها أو جزئيّاتها ، فلا يتمّ الاستدلال بها على المسائل الفقهيّة إلاّ بإحراز تلك المسائل ، وبما ذكر ظهر أنّ المقدّمات المأخوذة في تفسير المبادئ أعمّ من البعيدة والقريبة كما نصّ عليه أيضا بعضهم.

ويستفاد من إطباقهم على عدّ العلوم المذكورة وغيرها من مقدّمات الاجتهاد على ما سيأتي في بابه.

[٣٥] قوله : ( ولمّا كان البحث في علم الفقه عن الأحكام الخمسة ، أعني الوجوب ... الخ )

وكأنّ في تخصيص الخمس التكليفيّة بالذكر ، تنبيها على خروج غيرها من الوضعيّات عن مسائل الفقه ، وهو كذلك كما تقدّم إليه الإشارة ـ وسنفصّله أيضا ـ إذ لولا أفعال المكلّفين معروضة للتكليفيّات الموجبة لاستحقاق الثواب والعقاب الاخرويّين ، لما كان للفقيه تعرّض لتدوين هذا العلم جزما ، حيث لا غرض له بالذات سوى النظر فيها ، ولا ينافيه ما يكثر صدوره عنه من النظر في الوضعيّات أيضا كطهارة شيء ونجاسته ونحوهما ، لكونه ممّا يقصده بالعرض طلبا لما يستلزمه ممّا هو مقصود له بالذات ، ضرورة أنّ البحث عن نجاسة الكلب مثلا لا فائدة فيه إلاّ ترتيب ما يترتّب عليها من التكاليف ، فيكون البحث عنها ونظائرها ممّا ليس بتكليفي استطرادا بحتا.

٢١٤

[٣٦] قوله : ( وعن الصحّة والبطلان ... الخ )

وظاهر السياق يقضي بكون المراد بهما ما يضاف إلى موارد التكليف ، كما أنّ قضيّة ورودهما في عداد الخمس التكليفيّة كون البحث عنهما من مسائل الفنّ ، لكن يردّه أنّ البحث عنهما وإن شاع وقوعه فيه ، غير انّه ليس لغرض أصلي ، بل لترتيب ما يترتّب عليهما من التكاليف الّتي منها وجوب الإعادة والقضاء وعدمهما ، بل هما لعدم كونهما من جملة الأحكام الشرعيّة أولى بعدم كونهما من المسائل الفرعيّة بالقياس إلى سائر الوضعيّات الّتي تقدّم بيان كونها من الأحكام الشرعيّة وإن لم تكن من مجعولات الشارع.

[٣٧] قوله : ( فلا جرم يكون موضوعه هو أفعال المكلّفين من حيث الاقتضاء والتخيير ... الخ )

وفي الحيثيّة إشارة إلى أنواع الخمس التكليفيّة ، فإنّ الاقتضاء هو الطلب ، ومتعلّقة إمّا فعل شيء أو تركه مع المنع من النقيض ولا معه فيندرج فيه أربع منها ، ويبقى الباقي وهو « الإباحة » مرادا من التخيير ، لأنّه عبارة عن التسوية بين شيئين فصاعدا ، والإباحة يلزمها التسوية بين طرفي الفعل والترك ، ومن يرى الوضعيّات داخلة في مسائل « الفقه » يعتبر بعد ذلك قيد « الوضع » أيضا ، ويراد به ما لم يكن ممّا طلبه الشارع ولا سوّى فيه بين الفعل والترك ، بل عيّنه سببا أو شرطا أو مانعا أو غير ذلك ، ممّا لا يعدّ ولا يحصى.

وضابط الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي : أنّ الأوّل عبارة عن كلّ صفة في الشيء منوط ثبوتها فيه بالأربع المعروفة في شروط التكليف العامّة ، وهي محصورة عندهم في الخمس المذكورة ، يسمّى كلّ منها باسم ، وتسمية الجميع بالحكم التكليفي تغليب غير ملحوظ معه مناسبة المعنى اللغوي ، فإنّ الملحوظ فيه تلك المناسبة ليس إلاّ الوجوب والتحريم ، من حيث إنّ التكليف « تفعيل » من

٢١٥

الكلفة بمعنى « المشقّة » الحاصلة فيهما باعتبار المعنى ، لما فيهما من المنع الّذي هو في معنى تضييق الأمر على المكلّف ، على معنى حمله على الضيق المعنوي الّذي في تحمّله مشقّة على النفس ، وهذا المعنى كما ترى ليس بموجود في الثلاث الباقية لخلوّها عن جهة المنع ، غير انّه بعد ما سمّي الأوّلان بهذا الاسم مراعاة للمناسبة المذكورة غلّبا على الثلاث الباقية ، لمشاركتها لهما في الإناطة بالشروط الأربع.

والثاني : عبارة عن كلّ صفة في الشيء لم يكن ثبوتها فيه منوطا بتلك الشروط ، وله أيضا أنواع يسمّى كلّ نوع باسم خاصّ ، وإنّما سمّي المجموع حكما وضعيّا لكون الصفة المفروضة ممّا وضعه الشارع في الشيء وعيّنه له ، وخصّصه عمّا بين الأشياء به ، لمراعاة ما فيه من الحكمة الكامنة.

فالقوم بعد اتّفاقهم على كون الأحكام التكليفيّة بأسرها مجعولات للشارع لما طرأها منه من الجعل بواسطة الطلب أو التسوية اختلفوا في مجعوليّة الأحكام الوضعيّة وعدمها.

والقول بالعدم هو المشهور المحكيّ عليه الشهرة في كلام الفاضل الجواد المحكوم عليه بكونه ما استقرّ عليه مذهب المحقّقين في كلام السيّد شارح الوافية ، المصرّح به في كلام جماعة من الفحول ، وعليه بعض مشايخنا دام ظلّه العالي (١).

وربّما يستظهر من كلّ من أسقط قيد « الوضع » عن تعريف الحكم الشرعي ، كما صنعه كثير ـ منهم شيخنا البهائي (٢) ـ ويظهر من المصنّف أيضا ، وهو الموافق للأصل حيث إنّ الجعل بالمعنى المتنازع فيه هنا المتّفق عليه في الحكم التكليفي

__________________

(١) فرائد الاصول للشيخ الأنصاري : ٢٢٩ ، حيث قال : ـ في باب الاستصحاب ـ : المشهور كما في شرح الزبدة ، بل الّذي استقرّ عليه رأي المحقّقين كما في شرح الوافية للسيّد صدر الدين ، إنّ الخطاب الوضعي مرجعه إلى الخطاب الشرعي ...

(٢) زبدة الاصول : ٢٩ ، حيث قال : الحكم الشرعي طلب الشارع من المكلّف الفعل أو تركه مع استحقاق الذمّ بمخالفته وبدونه ، أو تسويته بينهما لوصف مقتض لذلك.

٢١٦

أمر حادث يدفع عند الشكّ في حدوثه بأصل العدم ، لأنّه عبارة عن كون الصفة الموجودة في الشيء بحيث أوجدها موجد ، بأن لاحظ ذلك الشيء بعنوانه الخاصّ على انّه ذلك الشيء فأوجد فيه تلك الصفة ، بحيث لولا إيجاده لما كانت موجودة فيه ، وهو الحقّ.

والّذي يمكن الإحتجاج به على عدم الجعل بهذا المعنى ـ مضافا إلى الأصل ـ قضاء الوجدان الضروري بعدم الحاجة فيها إلى الجعل وكونها ممّا ينتزعها العقل ، فإنّ من أراد الإلزام على إيجاد ماهيّة يلاحظها أوّلا مكيّفة بكيفيّات مخصوصة تحصل عن انضمام امور بعضها إلى بعض ، واقترانها بامور اخر من حالة كذا أو جهة كذا وزمان كذا ومكان كذا ثمّ يطلبها أو يأمر لها على هذا الوجه ، وحينئذ فإذا وقف عليها العقل بتلك الكيفيّة يحلّلها إلى الامور المأخوذة معها ، المحصلّة للكيفيّة المذكورة ، فيجدها أقساما.

منها : ما له مدخليّة في أصل رجحانها ، فيحصل له عنوان السببيّة.

ومنها : ما له مدخليّة داخليّة فيها ، فيحصل له عنوان الجزئيّة.

ومنها : ما لوجوده مدخليّة خارجيّة ، فيحصل له عنوان الشرطيّة.

ومنها : ما لعدمه مدخليّة خارجيّة فيحصل له عنوان المانعية ، وهكذا.

فكلّ هذه المفاهيم صفات يدركها العقل بعد التحليل ، ويكفي في حصولها لموصوفاتها مجرّد تعلّق ملاحظة الشارع بالعبادة على الكيفيّة التي لا تحصل إلاّ بالامور الملحوظة معها ، ومعه لا حاجة لها إلى ملاحظة اخرى ولا اعتبار مؤنة زائدة على ما في أصل العبادة من الملاحظة والجعل بالطلب ، وهذا معنى كون الأحكام الوضعيّة من منتزعات العقل.

وأنت إذا لا حظت الأمثلة العرفيّة يتّضح لك حقيقة ما ذكرناه غاية اتّضاح.

ألا ترى انّه لو قال السيّد لعبده : « إذا جاءك زيد فأضفه ، وأحضر له إداما فيه كذا وكذا ، في انية كذا ، في وقت كذا ومكان كذا » فينتقل العبد بعد التحليل إلى كون مجيء زيد سببا ، وما يشتمل عليه الإدام جزا ، وكلّ من الانية والوقت والمكان

٢١٧

شرطا ، من غير أن يصرّح له السيّد بتلك المفاهيم ، ولا يتعرّض إلى إيجادها في محالّها بحيث لو لا تعرّضه لم تكن موجودة ، وقس على ذلك كلّما ورد من هذا القبيل في خطابات الشارع ، كقوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )(١) وقوله أيضا : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ )(٢) وقوله عليه‌السلام : « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة » (٣) وقوله عليه‌السلام : « دعي الصلاة أيّام أقرائك » (٤) فيستفاد في حكم العقل من الأوّل شرطيّة الوضوء للصلاة وجزئيّة الغسل والمسح له ، ومن الثاني والثالث سببيّة الدلوك ودخول الوقت لوجوب الصلاة ، ومن الرابع مانعيّة القرء عنها ، وهذا هو معنى الانتزاع.

لكن يمكن المناقشة في هذا البيان ، بأنّ حكم العقل في الفروض المذكورة ليس إلاّ من باب إدراك الوصف الثابت ، فثبوت العناوين المذكورة ليس من حكمه بل هو مورد لإدراكه ، وإلاّ فلا إشكال في أنّ من يلاحظ الماهيّة مكيّفة بكيفيّات مخصوصة عند إرادة طلبها يلاحظ الامور المحصّلة لتلك الكيفيّات لا محالة ملاحظة تفصيليّة ، وعليه فلم لا يجوز أن يلاحظ بعض هذه الامور على أنّ للاشتمال عليها مدخليّة في المطلوب.

وبعضها الاخر على أنّ للتلبّس بوجودها مدخليّة فيه ، وبعضها الثالث على أنّ للتلبّس بعدمها مدخليّة فيه.

ولا ريب انّ ملاحظة الجهات المذكورة من المدخليّة تصلح اعتبارا للمدخليّة بنحو الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة ، بحيث لولا هذا الاعتبار لما كانت المدخليّة ثابتة بشيء من عناوينها ولا يعنى من الجعل إلاّ هذا ، ولعلّه إلى ذلك يشير ما قيل

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) الإسراء : ٧٨.

(٣) التهذيب ٢ : ١٤٠ ح ٥٤٦ ، الوسائل ١ : ٣٧٢ أبواب الوضوء ب ٤ ح ١.

(٤) الكافي ٣ : ٨٣ ح ١ ، التهذيب ١ : ٣٨١ ح ١١٨٣ ، سنن الدار قطني ١ : ٢١٢ ، السنن الكبرى ١ : ٣٣٢.

٢١٨

من أنّ مفهوم الصيغة إنّما يرد على المادّة بعد اعتبار قيودها وحيثيّاتها ، إذ لا يراد من اعتبار القيود والحيثيّات إلاّ تقييد مدلول المادّة بها ، ولا معنى محصّلا للتقييد إلاّ جعل المدخليّة وإيجادها بالمعنى المقصود من جعل الحكم الوضعي.

وتحقيق المقام : يستدعي بناء المسألة على النظر في حقيقة معنى تشريع الماهيّة واختراعها المنسوب إلى الشارع ، هل يراد منه إبداع ما لم يكن أو الكشف عمّا كان في الواقع ، على معنى كونها مقرّرة في نفس الأمر على ما هي عليه وبجميع الامور المعتبرة معها ، فالشارع تعالى لإحاطته التامّة بجميع الكلّيات والجزئيّات الّتي منها تلك الماهيّة وكونها بتلك المثابة ، كشف عنها لعباده عملا بلطفه العميم وفضله الجسيم ، ويختلف طريق الكلام في ذلك على حسب إختلاف الماهيّات في كونها من العبادات أو المعاملات ، فما كان منها من قبيل العبادات فمقتضى القاعدة المتّفق عليها عند العدليّة من تبعيّة الأحكام للصفات الكامنة في الأشياء والمصالح والمفاسد النفس الأمريّين ، كون مشروعيّتها من باب الكشف عن الواقع ، على قياس ما هو الحال في الأدوية ومعاجين الأطبّاء الملتئمتين عن امور متبائنة المشتملتين في الواقع على اثار وخواصّ ، فاطّلع عليها الأطبّاء بقواعدهم الطبيّة فكشفوا عنها وأرشدوا إليها إيصالا إلى ما فيها من الاثار والخواصّ.

ولذا استقرّ مذهب المحقّقين في اعتبار جهة الإرشاد مضافة إلى جهة المولويّة في أوامر الشارع ونواهيه.

وقضيّة ذلك كون جهات المدخليّة ثابتة في الامور المعتبرة مع العبادة بحسب الواقع من دون مدخليّة فيها لاعتبار معتبر ولا جعل جاعل ، فإذا كشف الشارع عنها وعن الامور المعتبرة معها بواسطة خطاب تكليفي أو وضعي بالبيانات الخارجيّة المفصّلة ، انكشف جهات المدخليّة بأجمعها في نظر العقل ، وحصل له الانتقال إلى ثبوتها بملاحظة الخطاب ولو من باب دلالة الإشارة ، وهذا هو معنى انتزاع العقل.

٢١٩

ومن حكم بكونها منتزعة عن التكليف إن أراد به هذا المعنى ففي محلّه. وإن أراد إنّها ليست إلاّ امورا اعتباريّة ومفاهيم صرفة تثبت بمجرّد الإعتبار من غير أن يكون لها واقعيّة ، نظير الكلّيات الفرضيّة فهو غير مستقيم ، لضرورة كونها امورا واقعيّة ثابتة في نفس الأمر وإن لم تكن مسبوقة بالجعل والوضع بالمعنى المتقدّم.

وما كان منها من قبيل المعاملات ، فهي عبارة عن الأسباب المعهودة المقرّرة في الشريعة من العقود والإيقاعات وغيرها ممّا يختلف في مظانّها بحسب اختلاف مسبّباتها ، من إنتقال عين أو منفعة أو بضع أو زوال زوجيّة أو رقيّة أو إشتغال ذمّة أو ضمان أو نحو ذلك ، ومعلوم إنّ السبب بالقياس إلى مسبّبه لا بدّ فيما بينهما من ملازمة وعلقة سببيّة ، وهي فيما بينهما ـ على ما قرّر في محلّه ويأتي تفصيله في موضعه ـ تتصوّر على وجوه ثلاث :

أحدها : كونها عرفيّة على معنى كون ثبوتها منوطا بنظر أهل العرف ، بكون السبب ممّا يتداولوه ويتعاطوه ترتيبا لمسبّبه المقرّر عندهم ، فأمضاه الشارع وقرّرهم على تعارفهم ورخّص لتابعيه في استعماله واتّخاذه توصّلا إلى مسبّبه المتداول لدا أهل العرف.

وثانيها : كونها واقعيّة مستورة على أهل العرف ، ثابتة فيما بينهما بحسب نفس الأمر ، فاطّلع عليها الشارع وكشف عنها بترخيصه لتابعيه ، إيصالا لهم إلى المسبّب الواقعي.

وثالثها : كونها جعليّة منوطا ثبوتها باعتبار المعتبر ، بحيث لو لا اعتباره لكان السبب مع مسبّبه ـ لعراهما بالذات عن العلقة التي هي ربط بينهما ـ أجنبيّين ، على قياس ما هو الحال في الارتباطات الجعليّة الثابتة في التعليقات ، كما في قولك : « إن جاءك زيد فأكرمه » حيث إنّ الربط فيما بين مجيء زيد ووجوب إكرامه أمر جعلي صرف ، منوط بالاعتبار الّذي لولاه لم يكن هذا سببا ولا ذاك مسبّبا.

ووجود هذا القسم في الشرعيّات وإن لم يقم على امتناعه برهان من العقل والشرع ، غير إنّه لم ينهض أيضا دليل على ثبوته ، لكنّه لو ثبت كان قاضيا بمجعوليّة

٢٢٠