تعليقة على معالم الاصول - ج ١

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ١

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٤٤٣

المذكّر من المخاطب ، وكلّي المفرد المذكّر ممّن يتعيّن بالصلة ، وكلّي المفرد المذكّر من المشار إليه ، وكلّي الابتداء والانتهاء والاستعلاء ، وكلّي تقرير صفة لموصوف ، وكلّي نسبة الحدث إلى الفاعل ، وكلّي الذات المتّصفة بالمبدأ ، ثمّ وضع لفظة « هو » و « أنا » و « أنت » و « الّذي » و « ذا » و « من » و « إلى » و « على » و « كان » وهيئة « فعل » و « يفعل » و « فاعل » في كلّ من الكلّيات المذكورة للجزئيّات المندرجة تحته ، على وجه يقع كلّ جزئي بنفسه موضوعا له ، فيتعدّد الموضوع له على حسب تعدّد الجزئيّات ، وإن اتّحد الوضع فيكون استعمال اللفظ في كلّ واحد بإنفراده استعمالا له في تمام معناه الموضوع له.

والقدماء زعموا أنّ الوضع والموضوع له في الجميع عامّ ، وربّما قيل : إنّهم صاروا فريقين بعد إطباقهم على عدم اتّفاق استعمال اللفظ في المعنى العامّ المفروض كونه موضوعا له ، ففريق إلى أنّ الواضع بعد ما وضع اللفظ بإزاء المفهوم الكلّي شرط على تابعيه ألايستعملوه إلاّ في جزئيّات هذا المفهوم ، وفريق اخر إلى أنّ الواضع لم يشرط ذلك إلاّ أنّه اتّفق أنّه لم يستعمل إلاّ في الجزئيّات ، ويرد على الفريق الأوّل :

أوّلا : أنّ الالتزام بالشرط المذكور مصير إلى ضدّ المطلوب وكرّ على ما فرّ منه مع تضمّنه تجويز حزازة اللغو والعبث إلى الواضع الحكيم ، فإنّ إلزام الواضع على تابعيه بأن لا يستعملوا اللفظ إلاّ في الجزئيّات في معنى تعيينه له بإزاء الجزئيّات ، إذ لا يعني من الوضع بمعنى تعيين اللفظ ما يفيده خصوص لفظ « وضعت » أو « عيّنت » أو « جعلت » بل كلّ ما يؤدّي مؤدّاه صدق عليه الوضع ، فقوله : « شرطت استعما لهذا اللفظ في ذلك المعنى » بمنزلة أن يقول : « وضعته له » كما أنّ قوله : « وضعته له » بمنزلة قوله : « ألزمت استعماله فيه ».

ومن هنا ظهر الوجه في لزوم اللغو على تقدير الوضع للمفهوم الكلّي ، وستسمع زيادة توضيح له.

وثانيا : أنّ شرط الاستعمال في الجزئيّات إن كان بعنوان التعويل على العلاقة

٤٢١

بينها وبين الكلّي الموضوع له ، لزم أن يكون هذه الألفاظ على كثرتها مجازات بلا حقيقة ، بل يلزم أن يكون المجاز بلا حقيقة أكثر بمراتب شتّى من الحقيقة مطلقا فضلا عن الحقيقة بلا مجاز ، وهذا ضروري البطلان حتّى على القول بوقوع المجاز بلا حقيقة ، وإن كان لا على الوجه المذكور لزم عدم كونها حقائق ولا مجازات ، لفرض عدم التعويل في استعمالاتها على وضع ولا على علاقة.

أمّا الأوّل : فلانتفائه ، وأمّا الثاني : فبحكم الفرض ، واللازم بديهي البطلان لانتفاء الواسطة فيما بين الحقيقة والمجاز مع وقوع الاستعمال.

ويرد على الفريق الثاني : لزوم اللغو والعبث على الواضع الحكيم ، لفرض انتفاء الاستعمال الّذي هو الغرض المطلوب من الوضع ، والفائدة المقصودة منه.

وتوهّم أنّ المعتبر في صحّة الفعل من الحكيم كونه عن غرض ، ولأجل ترتّب فائدة عليه ، ولا يعتبر حصول الغرض وترتّب الفائدة عليه فعلا.

يدفعه : أنّ المعتبر في صحّة قصد الغاية وترتّب الفائدة احتمال الترتّب ، وكونها مرجوّ الحصول ، فلا يمكن مع العلم بالعدم ، كما هو الحال في المقام ، لمكان علم الواضع الحكيم باستهجان الاستعمال في المفهوم الكلّي.

وتوهّم أنّ الوضع قد يكون للتوصّل إلى صحّة التجوّز بالاستعمال في الجزئيّات مجازا.

يدفعه : أوّلا ما تقدّم من بطلان المجاز بلا حقيقة في هذه الألفاظ بأسرها.

وثانيا : أنّ الوضع للكلّيات لفائدة التوصّل إلى صحّة التجوّز في الجزئيّات ليس بأولى من الوضع للجزئيّات توصّلا إلى صحّة الاستعمال ، بل العكس أولى بالإذعان ، لأنّه أقرب بالاعتبار مع كون الأوّل من باب الأكل من القفاء ، فيندرج في اللغو أيضا ، بناء على أنّه ليس في التجوّز هنا من وجوه البلاغة ما لا يكون في الحقيقة ، وكيف كان فالمعتمد ما عليه المتأخّرون.

لنا عليه وجوه :

أحدها : التبادر ، فإنّ المتبادر من هذه الألفاظ المسموعة من وراء الجدار إنّما

٤٢٢

هو الأشخاص ، وإن طرأها الإبهام بواسطة تعدّدها ، ولا يقدح فيه كون التبادر أمرا عرفيّا فغاية ما يثبت به الوضع العرفي والمقصود إثبات الوضع لغة ، لأنّ ذلك أيضا يثبت بضميمة أصالة عدم النقل ، على معنى عدم تجدّد وضع اخر تعيينا أو تعيّنا فيها غير ما طرأها من الوضع اللغوي بالفرض.

والمناقشة فيه باحتمال كونه إطلاقيّا مستندا إلى القرائن الخارجة من الألفاظ لا إلى حاقّ الألفاظ.

يدفعها : القطع بكونه من حاقّ الألفاظ بحكم الفرض من انتفاء القرائن ، كما هو قضيّة فرض كونها مسموعة من وراء الجدار.

ومن هنا اندفع ما عساه يقال عليه : من أنّ فهم الخصوصيّة لعلّه يستند إلى القرائن اللازمة لهذه الألفاظ في الاستعمالات ، من تقدّم الذكر والحضور والحكاية عن النفس والإشارة والصلة وغيرها ممّا يناسب كلّ نوع منها ، وهذا لا ينافي فهم المفاهيم الكلّية من نفس اللفظ ، فيكون مع ما معه من القرينة من باب دالّين لمدلولين ، لقضاء الوجدان بأنّ فهم الخصوصيّة ليس إلاّ من حاقّ اللفظ ، مع القطع بانتفاء الالتفات إلى شيء من المفاهيم الكلّية من المستعملين والمخاطبين ، كيف وفهمهما فرع على وقوع الاستعمال فيها ، والمفروض انتفاؤه باتّفاق الفريقين ، وما لزمها من القرائن المعبّر عنها « بالقيود اللفظيّة والمعنويّة » إنّما يعتبر للتعيين ورفع الإبهام ، كما في قرينة المشترك الّتي تعتبر لتعيين المدلول عليه بالإجمال لا لأصل الدلالة.

وثانيها : أنّ الأحكام العرفيّة المتداولة في المحاورات والمخاطبات ـ خبريّة وإنشائيّة ـ بأسرها ترد على الأشخاص ، ولم يتعلّق بالمفاهيم الكلّيّة حكم في العرف بواسطة هذه الألفاظ ، فتكون الأشخاص هي الّتي تحتاج إلى التعبير عنها بألفاظ ، فالحكمة الباعثة على فتح اللغات ووضع الألفاظ تدعوا إلى وضع هذه الألفاظ للأشخاص لا غير.

وثالثها : الاستعمال المنحصر في الأشخاص في جميع هذه الألفاظ ، مقيسا

٤٢٣

إلى غلبة الاستعمال فيما يستعمل في معنيين مع غلبته في أحدهما ، فإنّها ـ على ما ستعرف في مباحث أمارات الوضع ـ تدلّ على الحقيقة فيما غلب استعماله فيه والمجاز فيما ندر ، فإذا دلّ الاستعمال مع الغلبة على الوضع فلئن يدلّ مع الانحصار عليه طريق للأولويّة.

ورابعها : تنصيص أهل العربيّة وأئمّة اللغة في جملة من هذه الألفاظ بل كلّها بأنّه حقيقة في كذا ومجاز في كذا ، كلفظة « في » مثلا في الظرفيّة والسببيّة ، ولفظة « ذا » في القريب والبعيد إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على الخبير البصير.

بتقريب : أنّ الحقيقة والمجاز يستلزمان الوضع والاستعمال مع اتّحاد مورديهما في الحقيقة ، والمفروض أنّ استعمال هذه الألفاظ في صورتي الحقيقة والمجاز لا يقع إلاّ على الأشخاص ، فوضعها أيضا لم يقع إلاّ على الأشخاص.

واستدلّ على القول المختار أيضا بوجوه اخر :

منها : أنّه لو لا الوضع للجزئيّات بل للمفاهيم الكلّية لصحّ استعمالها فيها ، لوجود أقوى سببي صحّة الاستعمال وهو الوضع ، والتالي باطل بشهادة استهجان العرف واستنكار الوجدان.

ويزيّفه : أنّ الملازمة مشترك الورود بين القولين ، إذ لو كانت موضوعة للجزئيّات لصحّ استعمالها في المفاهيم الكلّية لوجود أحد سببي صحّة الاستعمال وهو العلاقة ، أعني علاقة الخصوص والعموم ، وكون الوضع أقوى السببين لا ينفي سببيّة العلاقة والتالي باطل ، لمكان الاستهجان والاستنكار المذكورين ، فدلّ ذلك على أنّ عدم صحّة الاستعمال فيها ليس لفقد المقتضي بل لوجود المانع ، وهو ما ذكر من الاستهجان ، فمجرّد بطلان اللازم لذلك لا يقضي بالوضع للجزئيّات.

وأمّا ما قيل في دفع ما ذكرناه من المعارضة من أنّ العلاقة كثيرا مّا تتخلّف عن صحّة الاستعمال ، ولذا ترى إنّ « النخلة » لا يصحّ استعمالها في الحائط والجبل الطويلين مع وجود علاقة المشابهة ، و « الصيد » لا يصحّ استعماله في الشبكة ، ولا « الشبكة » في الصيد ، ولا أن يقال : « اسئل الإبريق » مع وجود علاقة المجاورة في

٤٢٤

الجميع ، ولا يصحّ استعمال « الأب » في الابن ، ولا « الابن » في الأب مع وجود علاقة السبّبيّة والمسببيّة ، بخلاف الوضع فإنّه لا يتخلّف عن صحّة الاستعمال أصلا.

ففيه أوّلا : النقض « بالرحمن » و « الفاضل » فإنّ الوضع اللغوي الاشتقاقي في الأوّل يقتضي جواز استعماله في غيره تعالى ، وفي الثاني يقتضي جواز استعماله فيه تعالى ، مع عدم جوازه فيهما.

وتوهّم دفعه : بأنّه لوجود المانع وهو المنع الشرعي الّذي لولاه لصحّ الاستعمال بخلاف الأمثلة المذكورة ، فإنّ أصل الاستعمال فيهما غير صحيح.

يندفع : بأنّه معارض بمثله في الألفاظ المتنازع فيها ، لما عرفت من أنّ عدم صحّة الاستعمال فيها من جهة وجود المانع ، لا لانتفاء الوضع.

وثانيا : منع وجود العلاقة في الأمثلة المذكورة ، بناء على ما حقّقناه في تفسيرها من أنّها اتّصال وارتباط بين المعنيين الموضوع له والمستعمل فيه ، يقبله الطبع السليم والذوق المستقيم ، ولا ريب في انتفاء هذا المعنى في الأمثلة المذكورة.

لا يقال : هذا بعينه يرد في الألفاظ المتنازع فيها على تقدير الوضع للجزئيّات ، إذ الاستهجان يكشف عن انتفاء العلاقة بالمعنى المذكور بينها وبين المفاهيم الكلّية ، لأنّ الكلّي والجزئي ممّا لا ريب في اتّصال كلّ منهما بالاخر على وجه يدركه الطبع ، والاستهجان العرفي أمر لا يرجع إليهما ، بل إلى اللفظ ونفس المفهوم الكلّي ولا يكون إلاّ لأجل المنافرة بين اللفظ والمعنى ، وهي لا تلازم المنافرة بين المعنيين.

ومنها : أنّه لو لا الوضع للجزئيّات لزم كونها مجازات بلا حقيقة ، واللازم باطل وكذا المقدّم ، والملازمة بيّنة ، وهذا هو الّذي أوردناه على القدماء ، ولكنّ الأولى في تقريره أن يقال : إنّها لو كانت موضوعة للمفاهيم الكلّية لكان استعمالاتها في الجزئيّات إمّا على وجه التعويل على العلاقة أو لا على هذا الوجه ، واللازم

٤٢٥

بكلا قسميه باطل ، لبطلان المجاز بلا حقيقة في هذه الألفاظ على جميع الأقوال في المجاز بلا حقيقة ، وبطلان الواسطة بين الحقيقة والمجاز هنا ، فكذا الملزوم.

ومنها : لزوم خروج معاني الحروف الّتي اتّفق النحاة على كونها غير مستقلّة إلى المعاني الاسميّة الّتي اتّفقوا على كونها مستقلّة ، لو كانت الحروف موضوعة للمفاهيم الكلّية ، كمفهوم الابتداء والانتهاء والاستعلاء ، دون الجزئيّات لوضوح استقلال تلك المفاهيم ، ولزوم عدم انقسام الكلمة إلى الثلاثة الّذي يدور مع استقلال معانيها وعدم استقلالها ، لأنّ الوضع للمفاهيم الكلّية يوجب الاستقلال في الجميع ، وهذا خلاف ما اتّفق عليه النحاة.

ويزيّفهما : أنّ مناط الفرق بين المعاني الأسميّة والمعاني الحرفيّة وإن كان هو الاستقلال وعدم الاستقلال ، إلاّ أنّ المدار في الاستقلال وعدمه ليس على كلّية المعنى وجزئيّته ، ضرورة أنّ الكلّية لا تلازم الاستقلال والجزئيّة لا تلازم عدم الاستقلال ، كيف وكما أنّ « الابتداء » الكلّي مثلا أمر مستقلّ فكذلك « الابتداء » الجزئي أيضا أمر مستقلّ.

غاية الأمر أنّ الأوّل عبارة عن الماهيّة الملحوظة من حيث هي ، والثاني عن الماهيّة الملحوظة من حيث الوجود والتشخّص.

ولا ريب أنّ انضمام الوجود والتشخّص إلى الماهيّة لا يخرجها عن الاستقلال ، ولا يجدي في خروج الجزئي عن الاستقلال أن يؤخذ معه قيد حيثيّة كونه الة ومراة لملاحظة حال الغير ، لأنّ « الابتداء » بنفسه وطبيعته حالة في غيره سواء اعتبر كلّيا أو جزئيّا ، لأنّه عبارة عن كون شيء ـ كالبصرة ـ محلاّ للابتداء بشيء اخر كالسير ، ومن المستحيل كون شيء حيثيّة في نفسه ، مع أنّه لو قضي ذلك في الجزئي بعدم الاستقلال لقضى به في الكلّي أيضا ، لأنّ المفروض اعتبار الكلّي في الوضع عنوانا لملاحظة الجزئيّات ، فلا يدخل فيها قيد حيثيّة الاليّة والمراتيّة إلاّ باعتبار لحوقه بالكلّي الملحوظ عنوانا لملاحظتها ، فلا بدّ أن يقال : إنّ الواضع تصوّر « الابتداء » الكلّي من حيث إنّه الة لملاحظة حال الغير ، ثمّ وضع اللفظ

٤٢٦

للجزئيّات المندرجة تحت الكلّي الملحوظ بهذه الحيثيّة ، فوجب الالتزام بعدم الاستقلال في الكلّي أيضا ، وهذا مع بطلانه في نفسه ممّا لا يقول به المستدلّ.

وتوهّم أنّ عدم استقلال الابتداء الجزئي باعتبار أنّه لا يتصوّر إلاّ بتصوّر متعلّقه كالسير والبصرة ، كما هو الشأن في كلّ أمر نسبي ، ضرورة أنّ الابتداء المضاف إليهما لا يحصل تصوّره إلاّ بتصوّرهما.

يدفعه : أنّه من اشتباه استلزام تصوّر « الابتداء » الجزئي لتصوّر متعلّقة ، بتوقّف تصوّره على تصوّر متعلّقه ، والمعتبر في الأمر النسبي الغير المستقلّ هو الثاني والموجود فيما نحن فيه هو الأوّل ، لوضوح أنّ الجزئي عبارة عن الماهيّة مع التشخّص ، ومتعلّق « الابتداء » الجزئي مشخّص ، ومن حكم الماهيّة المتشخّصة أنّه يلزم من تصوّرها بوصف التشخّص تصوّر مشخّصاتها ، على حدّ ما هو الحال في لازم الشيء باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، فمدار عدم استقلال المعاني الحرفيّة ليس على كونها جزئيّات للمفاهيم الكلّية المستقلّة ، بل على كونها نسبا مخصوصة بين شيئين ملحوظة بوجه من وجوهها ، و « الابتداء » كلّيا أو جزئيّا من قبيل الوجوه على ما سنحقّقه.

حجّة أهل القول بالوضع للمفاهيم وجوه ضعيفة :

أوّلها : تنصيص أهل اللغة بأنّ « هذا » للمشار إليه ، و « أنا » للمتكلّم ، و « أنت » للمخاطب ، و « من » للابتداء ، و « إلى » للانتهاء ، و « في » للظرفيّة ، و « كي » للغرض إلى غير ذلك ممّا لا يحصى ، ولا ريب أنّ تلك المعاني مفهومات كلّية.

وفيه : أنّ هذه التفاسير ـ على ما سنقرّره ـ من باب تعريف اللفظ بوجه المعنى لا بأصل المعنى ، فلا تنافي جزئيّة المعنى.

وقد يجاب أيضا : بالحمل على إرادة المصداق دون المفهوم ، على معنى أنّهم أرادوا بيان أنّ هذا للشخص المعيّن المشار إليه لا للمفهوم ، ومثل هذا غير عزيز في كلامهم.

٤٢٧

قال سيّد الأفاضل (١) : ويؤيّده أنّ الغرض الأصلي من بيان معاني الألفاظ تصحيح الاستعمال وتمييز الصحيح من الفاسد ، وهذا إنّما يحصل على تقدير إرادة المصداق لأنّ اللفظ إنّما يستعمل فيه ، وأمّا المفهوم فلا يصحّ الاستعمال فيه بالاتّفاق.

وثانيها : أنّها لو كانت موضوعة للمعاني الجزئيّة لكانت متكثّر المعنى ،والتالي باطل لحصرهم المتكثّر المعنى في المشترك ، والحقيقة والمجاز ، والمنقول والمرتجل ، وهذه خارجة من الأقسام الأربعة ، أمّا عن غير المشترك فظاهر ، وأمّا عنه فلأنّ المشترك لا يكون إلاّ بأوضاع متعدّدة ، والوضع فيها واحد.

وفيه أوّلا : أنّ ذلك مشترك الورود ، بناء على كون المراد بالمعنى في عنوان تقسيم اللفظ والمعنى المستعمل فيه مطلقا لا الموضوع له بالخصوص ، لئلاّ يبطل إدراج الحقيقة والمجاز في المتكثّر المعنى ، ولا ريب أنّ المستعمل فيه في هذه الألفاظ متكثّر ، وإن اتّحد الموضوع له على قولهم ، فيلزم كونها من متكثّر المعنى.

وثانيا : منع الملازمة ، وسنده ما تقدّم تحقيقه في بحث تقسيم اللفظ والمعنى ، من كون هذه الألفاظ باعتبار واحدة الوضع فيها من متّحد المعنى على القولين.

وقد اجيب عنه بما لا يكاد يستقيم ، من منع انحصار المتكثّر في الأقسام الأربع ، والتقسيمات المذكورة مبتنية على طريقة القدماء ، ولقد عرفت أنّهم يقولون بهذا القسم ، وأمّا المتأخّرون القائلون بهذا القسم فيلزمهم الزيادة عليها ، إلاّ أنّهم راعوا في التقسيم ما فعله القدماء ، محافظة على ما استقرّ عليه اصطلاح القوم في مبادئ العلم ، وإنّما أشاروا إلى ما هو الحقّ عندهم في طيّ المطالب ، وفيه ما فيه.

وثالثها : أنّها لو كانت موضوعة للجزئيّات لوجب استحضار ما لا يتناهى دفعة حين الوضع ، لتوقّف الوضع للمعنى على تصوّره ، والتالي باطل جزما لتعذّر استحضار ما لا يتناهى ، أو تعسّره أو لزومه اللغو.

__________________

(١) هو السيّد مهدي بحر العلوم رحمه‌الله.

٤٢٨

وفيه : منع الملازمة إن اريد التصوّر التفصيلي ، ومنع بطلان اللازم إن اريد التصوّر الإجمالي.

ورابعها : أنّها لو كانت موضوعة لتلك المعاني لكان « هذا » و « أنا » ونحوه مشتركة بين معاني غير محصورة وهو باطل اتّفاقا ، واجيب بمنع الملازمة ، لتعدّد الوضع في المشترك وواحدته هنا.

وخامسها : أنّها قد استعملت في الجزئيّات المندرجة تحت مفهوم كلّي ، فيجب أن تكون حقيقة فيه ، ولعلّ مراد المستدلّ الاستناد إلى قاعدة اشتهرت عندهم وهي : « أنّ كلّ لفظ إذا استعمل في معنيين أو أكثر ، بينهما قدر مشترك وجهة جامعة » فالأصل أن يكون موضوعا للقدر المشترك وحقيقة فيه.

ويزيّفه أوّلا : أنّ هذه القاعدة ممّا لا أصل له عندنا ، كما سنقرّره في مباحث الاستعمال.

وثانيا : على تقدير صحّة القاعدة ، إنّما تسلّم إذا استعمل اللفظ المفروض في القدر المشترك استعمالا بالغا حدّ الكثرة والغلبة ، ولقد عرفت مرارا أنّ الألفاظ في محلّ الكلام غير مستعملة في المفاهيم الكلّية أصلا ، فضلا عن بلوغه حدّ الكثرة.

وسادسها : أنّ أكثر الألفاظ الغير العلميّة موضوعة للمفاهيم الكلّية فيجب إلحاق محلّ البحث بها ، فإنّ المشكوك فيه يلحق بالغالب.

وفيه : أنّ الغلبة على تقدير تسليمها إنّما تعتبر حيث أفادت ظنّ اللحوق ، وهي هنا بعد ملاحظة أدلّة المتأخّرين غير مفيدة له ، مع أنّ الغالب في مورد الغالب إنّما هو استعمال الموضوعات في المفاهيم الكلّية ، بل لم يوجد فيها لفظ وضع لمفهوم كلّي ولم يستعمل فيه ، وليس في هذه الألفاظ ما استعمل في المفهوم الكلّي ، فكيف يظنّ لحوقه بالغالب.

وينبغي التنبيه على امور :

الأمر الأوّل : في أنّه ينبغي أن يعلم أنّ الضمائر وأسماء الإشارة والموصولات وغيرها من الأسماء وإن كانت تشابه الحروف في الوضع ، باعتبار كون الجميع

٤٢٩

موضوعا بوضع عامّ لمعنى خاصّ ، إلاّ أنّها تغائرها في أصل المعاني وحقائقها ليحصل الفرق بينهما بالاسميّة والحرفيّة ، فإنّ الحروف موضوعة لنسب مخصوصة تضاف إليها وجوه واعتبارات كثيرة ، وجهات وحيثيّات شتّى يعبّر عنها « بالابتداء » و « الانتهاء » و « الاستعلاء » و « الظرفيّة » و « الغرض » و « التعليل » و « الإخراج » و « النداء » وغيرها ، فالواضع في وضع « من » و « إلى » و « على » و « في » و « كي » و « اللام » و « إلاّ » و « يا » وغيرها من الحروف تصوّر النسبة بين شيئين على الوجه الكلّي ، من حيث كون أحدهما مبتدأ للاخر أو منتهى إليه بالقياس إلى الاخر ، أو مستعليا عليه ، أو ظرفا له ، أو غرضا منه ، أو علّة له ، أو مخرجا منه ، أو منادى له ، فوضع الحروف المذكورة للنسب الملحوظة بالحيثيّات المذكورة على الوجه الكلّي عند القدماء ، أو لجزئيّاتها المندرجة تحتها على رأي المتأخّرين ، فتفسير الحروف المذكورة في كلام أهل العربيّة وأئمّة اللغة بالابتداء والانتهاء وغيرهما من المفاهيم المذكورة ، من باب تعريف اللفظ بوجه من وجوه معناه ، لا من باب تعريفه بنفس المعنى وحقيقته.

وبالجملة : فالمعنى الحرفي هو النسبة الملحوظة بين شيئين بإحدى الوجوه المذكورة ، المأخوذة في الوضع على الوجه الكلّي أو الجزئي على الخلاف المتقدّم ، لا نفس الابتداء والانتهاء وغيرهما كلّيا ولا جزئيّا.

وعليه ينبغي أن ينزّل كلام من يوهم عبارته عند بيان معاني الحروف خلاف ذلك ، وما لم يقبل هذا الحمل والتنزيل فمبناه على الغافلة وقصور النظر ، فلا ينبغي الإلتفات إليه ، بخلاف الضمائر وأسماء الإشارة وغيرها ، فإنّها موضوعة للذوات المتعيّنة بالتعيّنات الخارجيّة الملحوظة مقيّدة بإحدى وجوهها وحيثيّاتها ، فإنّ الذوات المتعيّنة الخارجيّة أيضا تلحقها وجوه وحيثيّات شتّى ، كالغيبة والخطاب والحكاية عن النفس والإشارة ، وما ينساق من الصلة من فاعليّة أو مفعوليّة فإن اخذت في الوضع مطلقة غير مقيّدة بإحدى تلك الحيثيّات كان اللفظ الموضوع علما ، وإن اخذت مقيّدة بالغيبة كان اللفظ الموضوع ضمير غائب ، أو بالخطاب

٤٣٠

كان ضمير مخاطب ، أو بالحكاية عن النفس كان ضمير متكلّم ، أو بالإشارة إليه كان اسم إشارة ، أو بالصلة كان اسم موصول ، ولأجل ذلك تكون كالعلم من قبيل الأسماء لاستقلال معانيها ، فالضمائر وأخواتها تشارك الأعلام في كون معاني الجميع ذوات متعيّنة وجزئيّات حقيقيّة معيّنة ، وتفارقها في إطلاق الذات المأخوذة في الوضع وتقييدها بإحدى الحيثيّات المذكورة.

وممّا قرّرناه يظهر بالتأمّل أنّ الجهات المذكورة كالجهات الملحوظة في وضع الحروف ، كلّها من قبيل الحيثيّات الملحوظة في الوضع مع الموضوع له ، لا من الامور المأخوذة معه شطرا أو شرطا ، مع احتمال كونها في غير الحروف من قبيل القيود الخارجة عن الموضوع له وإن دخل التقيّد بها ، فالموضوع له فيها ليس هو المجموع من الذات والوصف ، كما يوهمه ظاهر أكثر عباراتهم.

ويظهر بالتأمّل أيضا ضعف ما قرّره بعض الفضلاء في هذا المقام بكلا احتماليه ، حيث قال ـ بعد ذكر الحروف وأسماء الإشارة والضمائر والموصولات وغيرها ممّا يتضمّن معاني الحروف ـ : إنّ التحقيق أنّ الواضع لاحظ في وضعها معانيها الكلّية ووضعها بإزائها ، باعتبار كونها الة ومراة لملاحظة حال متعلّقاتها الخاصّة ، فلاحظ في وضع « من » مثلا مفهوم الابتداء المطلق ووضعها بإزائه ، باعتبار كونه الة ومراة لملاحظة حال متعلّقاتها الخاصّة من السير والبصرة مثلا ، فتكون مداليلها خاصّة لا محالة ، لوضوح أنّ الماهيّة إذا اخذت مع تشخّص لاحق لها كانت جزئيّة ، مع احتمال أن يكون قد لاحظ في وضع الحروف معانيها الكلّية ووضعها بإزاء كلّ جزئي جزئي من جزئيّاتها المأخوذة ، الة ومراة لتعرّف حال تلك الذوات وعلى هذا القياس.

والفرق بين الاعتبارين أنّ الخصوصيّة مأخوذة في أحدهما باعتبارين ، وفي الاخر باعتبار واحد ، وهو الأقرب لسلامته عن الاعتبار الزائد. انتهى (١).

وأنت خبير بما في كلا الاعتبارين من الوهن المخرج للمطلب من السداد.

__________________

(١) الفصول : ١٦ ( الطبعة الحجرية ).

٤٣١

الأمر الثاني : أنّ الحيثيّات المذكورة الملحوظة مع الذوات المتعيّنة في الخارج في وضع الأسماء المذكورة لا مدخليّة لها في تعيّناتها الخارجيّة ، لوضوح أنّ التعيّن عبارة عن التشخّص اللاحق بالماهيّة بواسطة المشخّصات ، وهذه الحيثيّات اعتبارات زائدة عليه ، وحيث إنّ هذه الأسماء كالأعلام من المعارف فالحيثيّات المذكورة لا مدخليّة لها أيضا في معرفة الذوات المأخوذة في وضعها ، الّتي مناطها المعهوديّة والحضور الذهني زيادة على التعيّن والتشخّص الخارجي ، ضرورة أنّ المعرفة والمعهوديّة تلحق الذوات بأسباب اخر ، كتقدّم الذكر في ضمير الغائب ، والحضور الخارجي في كلّ من ضميري المتكلّم والمخاطب ، لحضور كلّ منهما لصاحبه ويوجب ذلك معرفته ومعهوديّته ، والحضور الخارجي أيضا في اسم الإشارة ، والخصوصيّات الخارجيّة الّتي منها الحضور أيضا في الموصول.

ولا ريب أنّ الغيبة والخطاب بمعنى توجيه الكلام والتكلّم بمعنى الحكاية عن النفس ، والإشارة والصلة بمعنى الفاعليّة أو المفعوليّة المستفادة ، كلّها اعتبارات زائدة على معرفة الذات ومعهوديّتها ، لوضوح سبق لحوق المعرفة والمعهوديّة على لحوقها ، كما يرشد إليه أيضا أنّها والأعلام متشاركة في المعرفة والدلالة بالوضع على شيء بعينه على معنى المعيّن عند المتكلّم والمخاطب ، ومتمايزة في الإطلاق بالقياس إلى الحيثيّات المذكورة وعدم ملاحظتها مع الذوات المعيّنة والتقييد بها أو ملاحظتها معها ، فالواضع في وضعها تصوّر الذوات المعيّنة المعهودة على الوجه الكلّي من حيث الغيبة أو الخطاب أو التكلّم أو الإشارة أو الفاعليّة أو المفعوليّة المنساقة من الصلة ، فوضع كلاّ منها لجزئيّات كلّ من هذه المفاهيم الملحوظة على الوجه الكلّي من الحيثيّة المذكورة.

الأمر الثالث : قد عرفت أنّ الحروف موضوعة للنسب المخصوصة ، وبذلك صار المعنى الحرفي غير مستقلّ بالمفهوميّة ، ويشاركها في ذلك عند جماعة هيئات الأفعال ، لكونها موضوعة للنسب المخصوصة أيضا.

غاية الأمر أنّ النسبة هنا ملحوظة بين الحدث والذات من حيث كونها فاعلا

٤٣٢

له ، وقضيّة ذلك كون المعنى الفعلي كالمعنى الحرفي غير مستقلّ بالمفهوميّة ، ويشكل ذلك بمنافاته لما أخذه النحاة في حدّ الفعل من الدلالة على معنى مستقلّ بالمفهوميّة مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ، قبالا في الأوّل للحرف لدلالته على معنى غير مستقلّ ، وفي الثاني للاسم لدلالته على معنى مستقلّ غير مقترن ، فبطل بذلك الفرق بين الفعل والحرف.

ويمكن الذبّ عن الإشكال على مذاق النحويين ، بأنّهم لا يعتبرون في الفعل هيئة ومادة بحيث كانت كلّ منهما منفردة بالوضع ، بل يجعلون المجموع كلمة واحدة بملاحظة أنّ الكلمة عندهم عبارة عن مجموع الهيئة والمادة ، ثمّ يجعلون الفعل بهذا الاعتبار دالاّ على الحدث والزمان والنسبة إلى فاعل مّا ، وعليه فالفعل باعتبار دخول الحدث والزمان في مدلوله صحّ تعريفه بالدلالة على معنى مستقلّ مقترن بالزمان ، وإن دخل معه النسبة إلى فاعل مّا أيضا ، فإنّه لا ينافي دلالته على معنى مستقلّ بخلاف الحرف ، فإنّه لا دلالة فيه على معنى مستقلّ أصلا وهذا هو وجه الفرق بينهما.

وأمّا على مذاق الاصوليّين فالوجه في دفعه : هو منع دخول النسبة إلى فاعل مّا في وضع هيئات الأفعال ، ولا في وضع موادّها ، بل هي باعتبار موادّها تفيد الحدث وباعتبار هيئاتها تفيد الزمان ، ويلزم من الجمع بينهما اقتران الحدث بالزمان.

نعم لمّا كان وقوع الحدث في الزمان لا بدّ له من فاعل يوقعه فيه ، فالدلالة على النسبة إلى فاعل مّا تحصل فيه بهذا الاعتبار التزاما باللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ ، وهذا هو المستفاد من كلام أكثر الاصوليّين ، ولم يظهر من النحاة خلاف ذلك أيضا ، بل كلماتهم بين ظاهرة وصريحة فيه ، ومن الصريحة كلام الأزهري في التصريح عند تعريفه لاسم الفاعل : « بالدلالة على الحدث وحدوثه وفاعله » واحترز بالقيد الأخير عن الفعل ، تعليلا بأنّ الفعل إنّما يدلّ على الحدث والزمان بالوضع ، لا على الفاعل وإن دلّ عليه بالالتزام. انتهى.

٤٣٣

لا يقال : منع دلالة الفعل بالوضع على النسبة الفاعليّة لا يجدي في حسم مادّة الإشكال بحذافيره ، لكفاية دلالته على النسبة الزمانيّة وهي النسبة بين الحدث والزمان من حيث وقوعه فيه في ورود نحوه ، لمنع كون الدلالة على هذه النسبة أيضا وضعيّة ، على معنى كون المأخوذ في وضع هيئة الفعل هو النسبة الزمانيّة بل القدر المسلّم ممّا اخذ في وضعها هو نفس الزمان ، ويلزم من الجمع بينه وبين الحدث المدلول بالمادّة الدلالة على اقتران الحدث بالزمان ، ويرجع ذلك إلى النسبة الزمانيّة على الوجه المذكور ، فالنسبة ليست بشيء من وجوهها داخلة في وضع الأفعال لينشأ منه الإشكال ، وانتظر لتتمّة الكلام في تحقيق هذا المقام ، فإنّه يأتي في مباحث المشتقّ إن شاء الله.

الأمر الرابع : هل الوضع في هيئات الأفعال للأزمنة الثلاثة من قبيل وضع الحروف والمبهمات أو لا؟وجهان :

توضيحه : أنّ ضرورة المحاورة قاضيّة بأنّ المستعمل في مثل « ضرب زيد » إنّما هو الهيئة الشخصيّة الموجودة فيه ، الّتي هي من جزئيّات نوع هذه الهيئة ، وإنّما يستعمل هذا الشخص من الهيئة في زمان خاصّ معيّن ، هو جزئي حقيقي مندرج تحت كلّي الزمان الماضي ، فهذا ممّا لا ينبغي الاسترابة فيه ، وحينئذ فيمكن أن يقال : إنّ الواضع تصوّر كلّي « الهيئة » وكلّي « الزمان » فوضع الأوّل للثاني ، ثمّ يتشخّص الأوّل في الاستعمال بخصوص المادّة ، والثاني بخصوص الحدث الواقع فيه ، فاستعمل الشخص الأوّل في الشخص الثاني ، أو أنّه تصوّر كلاّ من الكلّيين الة لملاحظة جزئيّاتهما اكتفاء بتصوّرها الإجمالي ، ثمّ وضع جزئيّات الأوّل لجزئيّات الثاني ، فيكون الوضع عامّا والموضوع له خاصّا ، كما أنّهما على الأوّل عامّان ، وكلّ من الوجهين وإن كان بحسب الاعتبار العقلي ممكنا إلاّ أنّه يمكن ترجيح ثانيهما بملاحظة ما ذكرناه من قضاء ضرورة المحاورة في « ضرب زيد » ونحوه ، بكون المستعمل شخص الهيئة وقد استعمل في شخص الزمان ، مع انضمام ظهور كلام أهل اللغة في إطباقهم على كون الاستعمال المفروض حقيقة بتقريب : أنّ الحقيقة

٤٣٤

لفظ مستعمل فيما وضع له ، وهذا يقتضي اعتبار الوضع والاستعمال واتّحاد مورديهما في الحقيقة.

وقد عرفت أنّ مورد الاستعمال بالنسبة إلى كلّ من المستعمل والمستعمل فيه هو الشخص ، فوجب أن يكون مورد الوضع أيضا هو الشخص ، وهو المطلوب.

نعم ربّما يمكن أن يقال : إنّ الغرض إنّ كان هو الوضع للجزئيّات فلا حاجة فيه إلى ملاحظة الزمان الكلّي الة لملاحظة جزئيّاته ، ثمّ وضع جزئيّات الهيئة لها ، لحصول ذلك الغرض بدون ذلك أيضا ، إمّا بأن يلاحظ الواضع كلّي الهيئة وكلّي الزمان الماضي مثلا ثمّ يضع الأوّل للثاني ، قصدا إلى أن يوضع جزئيّات الأوّل لجزئيّات الثاني ، أو أن يلاحظ الهيئة والزمان الماضي على وجه العموم الاصولي ويقول : « وضعت كلّما كان على زنة « فعل » مثلا لكلّ زمان ماض » ولزم منه على التقديرين كون الهيئة الشخصيّة المتحقّقة في كلّ من « ضرب » و « نصر » و « علم » و « قتل » وهكذا ، وضعا لجميع جزئيّات الزمان الماضي.

اللهمّ إلاّ أن يدفع : بأنّ ذلك على التقديرين يؤول إلى الوضع العامّ للمعنى الخاصّ على حدة ، [ و ] لأنّ وضع الكلّي للكلّي قصد منه كونه تبعا لوضع الجزئيّات للجزئيّات ، والمقصود بالأصالة هو الثاني فرجع الوضع بالقياس إلى الكلّيين إلى مجرّد تصوّر كلّ منهما الة لملاحظة جزئيّاته ، وتصوّر الجزئيّات على الإجمال المعتبر في هذا الوضع أعمّ من تصوّرها بعنوان العامّ المنطقي ، أو بعنوان العموم الاصولي. فليتأمّل.

الأمر الخامس : في وضع المشتقّات الاسميّة هل هو من قبيل وضع الحروف والمبهمات ، كما عليه جمع من متأخّري الاصوليّين ، أو من قبيل وضع أسماء الأجناس ، كما عليه بعض الأعلام قولان ، يمكن ترجيح ثانيهما بأنّ غاية ما يمكن أن يقال في تصويره : إنّ الواضع تصوّر ما كان على زنة « فاعل » مثلا على الوجه الكلّي ومن قام به المبدأ كذلك الة لملاحظة جزئيّاتهما ثمّ وضع جزئيّات الأوّل لجزئيّات الثاني ، ولزم منه وضع « ضارب » لمن قام به الضرب ، و « ناصر » لمن قام

٤٣٥

به النصر ، و « عالم » لمن قام به العلم ، وهكذا ، ولا يعني من الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ إلاّ هذا ، غاية الأمر كون الجزئيّات هنا إضافيّة.

ويدفعه : أنّ الوضع للجزئيّات كما هو المقصود ربّما يحصل بدون الحاجة إلى هذا الاعتبار ، إمّا بأن يضع ما كان على زنة « فاعل » لمن قام به المبدأ كلّيين ، قصدا إلى وضع الجزئيّات المندرجة تحتهما بعضها لبعض ، أو بأن يضع كلّما كان على زنة « فاعل » لكلّ من قام به المبدأ موزّعا ، ولا حاجة مع ذلك إلى ملاحظة الكلّي في جانبي اللفظ والمعنى ، ثمّ العدول منه إلى الجزئيّات ووضع بعضها لبعض.

لا يقال : هذا بعينه يرد في وضع هذا وغيره من المبهمات ، لأنّ اللفظ هنا واحد شخصي وقد تعلّق غرض الواضع بوضع لفظ واحد بوضع واحد لجزئيّات كثيرة غير محصورة ، وحيث إنّ الوضع مسبوق بتصوّر الموضوع له وتصوّر الجزئيّات على التفصيل متعذّرا أو متعسّرا ومستلزم للعبث ، فلا جرم اكتفى فيها بتصوّرها على الإجمال الّذي يتأتّى بتصوّر المعنى الكلّي الة للملاحظة ، فالحاجة ماسّة إلى ملاحظة المعنى الكلّي في الوضع للجزئيّات بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ الجزئيّات في جانب المعنى هنا وإن كانت متكثّرة إلاّ أنّ الجزئيّات في جانب اللفظ أيضا متكثّرة ، والغرض متعلّق بوضع الجزئيّات للجزئيّات.

ومحصّله : أنّ المقصود هنا وضع ألفاظ متكثّرة لمعان متكثّرة ، لا وضع لفظ واحد لمعان متكثّرة بواسطة أمر مشترك بينها ، ويتأتّى ذلك بأحد الوجهين المتقدّمين ، بدون الحاجة إلى توسيط ملاحظة الأمر المشترك الة للملاحظة لا للوضع لنفسه.

وأيضا فإنّ المقام لا يندرج في الضابط المتقدّم للألفاظ الموضوعة بالوضع العامّ للموضوع الخاصّ ، وهو كلّ مستعمل في غير منحصر لأمر مشترك لم يستعمل فيه ، وهذا يقتضي واحدة اللفظ وكثرة المستعمل فيه ، بل عدم انحصاره مع كون اللفظ بواحدته موضوعا لغير المنحصر على وجه يتعدّد الموضوع له وإن اتّحد الوضع واللفظ ، وهاهنا كلّ من اللفظ والمستعمل فيه متكثّر.

٤٣٦

وأيضا فإنّ الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ بمفهومه لا يتحقّق في المشتقّات الاسميّة أصلا ، وإن فرض صدور وضعها من الواضع بالكيفيّة الّتي توهّموا كونها كوضع الحروف والمبهمات ، لأنّه عبارة عن أن يوضع لفظ واحد بوضع واحد عامّ لعموم الة الملاحظة للخصوصيّات المندرجة تحت الة الملاحظة على وجه يتكثّر الموضوع له على حسب تكثّر الخصوصيّات مع واحدة اللفظ والوضع.

وغاية ما يلزم من ملاحظة ما كان على زنة « فاعل » ومن قام به المبدأ على الوجه الكلّي فيهما ثمّ وضع جزئيّات كلّي اللفظ لجزئيّات كلّي المعنى ـ كما زعموه ـ أن يوضع « ضارب » لمن قام به الضرب ، و « ناصر » لمن قام به النصر ، وعالم لمن قام به العلم وهكذا ، وهذا لا يجدي نفعا في كون ذلك بالنسبة إلى « ضارب » و « ناصر » و « عالم » وغيره من الوضع للموضوع الخاصّ بالمعنى المذكور ، لكون كلّ من اللفظ والمعنى واحدا مع كونه عامّا بالقياس إلى ما تحته ، لوضوح أنّ من قام به الضرب وقع موضوعا له للفظ « ضارب » على الوجه ، فهذا أشبه بالوضع العامّ والموضوع له العامّ ، بل هو من أفراده ضرورة أنّ « ضاربا » في من قام به الضرب ليس إلاّ « كإنسان » في الحيوان الناطق ، وغيره من أسماء الأجناس.

غاية الأمر أنّ اللفظ والمعنى في الأوّل لوحظا على وجه الإجمال ، وفي الثاني على وجه التفصيل.

نعم إنّما يصير « ضارب » مع فرض وضعه على الوجه المذكور من الموضوع بوضع الحروف والمبهمات ، لو فرض وقوع وضعه بمقتضى الوجه المذكور لمن قام به الضرب ، ومن قام به النصر ، ومن قام به العلم وهكذا إلى اخر الجزئيّات الإضافيّة المندرجة تحت كلّي من قام به المبدأ ، وهذا باطل بضرورة من العرف واللغة إذ لم يقل أحد بكون « ضارب » موضوعا لغير من قام به الضرب ، ولا أنّه يستعمل في غيره على وجه الحقيقة.

لا يقال : هذا كلّه يرد على الأفعال الّتي بنيت فيها على الوضع العامّ والموضوع

٤٣٧

له الخاصّ ، لأنّ خصوصيّات الزمان الماضي ـ مثلا ـ جزئيّات حقيقيّة غير محصورة ، فإذا وضع كلّما كان على زنة « فعل » لجزئيّات الزمان الماضي الملحوظة إجمالا لزم منه وضع « ضرب » لتلك الجزئيّات ، فيكون استعماله في كلّ زمان ماض حقيقة ، لكونه استعمالا في نفس الموضوع له ، بخلاف « ضارب » فإنّه لم يوضع بواسطة وضع جزئيّات ما كان على زنة « فاعل » لجزئيّات من قام به المبدأ ، إلاّ لمن قام به الضرب وهو كلّي واستعماله فيه على الوجه الكلّي حقيقة ، وفي كلّ فرد منه بقيد الخصوصيّة مجاز « فضرب » لفظ واحد مستعمل في غير منحصر لأمر مشترك لم يستعمل فيه ، ووضعه لغير المنحصر مسبوق بتصوّره وهو على التفصيل متعذّر أو متعسّر ، أو خال عن الفائدة ، وعلى الإجمال يتأتّى بملاحظة الكلّي فيكون وضعه لها على هذا الوجه عامّا والموضوع له خاصّا ، بالمعنى المتقدّم وهكذا في « نصر » وغيره.

إلى هنا انتهى الجزء الأوّل من هذه التعليقة المباركة ـ حسب تجزئتنا ـ

ويتلوه الجزء الثاني إن شاء الله تعالى

وأوّله : تعليقة ، اعلم أنّ الاصوليّين وضعوا امورا يرجع إليها لتشخيص

موارد ثبوت الوضع.

٤٣٨

فهرس المحتوى

نبذة من حياة المصنّف............................................... ٥ ـ ٢٦

وجه إهمال المصنّف التعرّض لبيان « اصول الفقه » لغة وعرفا................. ٣٣

المراد بالعلمية في قولهم : « اصول الفقه علم لهذا العلم » وكذلك غيره من ألفاظ سائر العلوم        ٣٣

الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس........................................ ٣٣

هل يكون ألفاظ العلوم أسام لنفس المسائل ، أو التصديق بها ، أو ملكة التصديق بها؟...... ٣٤ ـ ٣٨

كون أسامي العلوم بأسرها من المنقولات................................... ٣٨

المقام الأوّل : في ما يتعلّق بالجزء الأوّل من مركّب « اصول الفقه » وهو « الأصل »       ٣٩

في معاني « الأصل » لغة واصطلاحا................................ ٣٩ ـ ٤٣

هل يكون « الأصل » بالقياس إلى المعاني الأربع حقيقة في الجميع أو مجازا في الجميع أو حقيقة في البعض ومجازا في الاخر؟       ٤٣ ـ ٤٧

هل يكون الأصل في الوضع التعيين أو التعيّن؟........................ ٤٧ ـ ٥٠

المقام الثاني : فيما يتعلّق بالجزء الثاني من مركّب « اصول الفقه » وهو الفقه.... ٥٠

في معاني « الفقه » لغة............................................ ٥٠ ـ ٥٢

في مفردات تعريف الفقه اصطلاحا......................................... ٥٢

٤٣٩

في بيان المراد من « العلم » المأخوذ في حدّ الفقه...................... ٥٢ ـ ٦٠

في معاني الحكم................................................... ٦٠ ـ ٦٣

المراد بقيد « الشرعيّة » في تعريف الفقه............................ ٦٣ ـ ٦٦

المراد بقيد « الفرعيّة » في تعريف الفقه............................. ٦٦ ـ ٦٩

تحقيق حول أقسام الأحكام الوضعيّة وأقسامها............................... ٦٩

في بيان انتقاض حدّ الفقه طردا وعكسا بالأحكام الوضعيّة............. ٦٩ ـ ٧٠

في بيان انتقاض حدّ الفقه عكسا بالنسبة إلى بعض الأحكام التكليفيّة........... ٧٠

المراد بقيد « عن أدلّتها » في حدّ الفقه..................................... ٧٢

المراد بقيد « التفصيليّة » في حدّ الفقه...................................... ٧٣

في خروج العلم بالذوات والأفعال عن تعريف الفقه بقيد « الأحكام »......... ٧٣

في شبهة اتّحاد الدليل والمدلول..................................... ٧٥ ـ ٧٩

بحث في الكلام النفسي................................................... ٧٩

جواب صاحب القوانين عن شبهة اتّحاد الدليل والمدلول...................... ٩٥

جواب اخر عن شبهة اتّحاد الدليل والمدلول................................. ٩٦

الاحتراز بقيد « الشرعيّة » عن المسائل اللغويّة والعقليّة..................... ١٠١

هل يخرج مسائل اصول الفقه عن تعريف الفقه بقيد « الشرعيّة » أو لا؟..... ١٠٢

في ما يخرج بقيد « الفرعيّة » عن تعريف الفقه............................ ١٠٢

في ما يخرج بقيد « عن أدلّتها » عن تعريف الفقه.......................... ١١١

إخراج الضروريّات بقيد « عن أدلّتها » عن تعريف الفقه.................. ١١٥

في إخراج علم المقلّد بقيد « عن أدلّتها » عن تعريف الفقه.................. ١٢١

في ما يخرج بقيد « التفصيليّة » عن تعريف الفقه.......................... ١٢٢

الإيراد بعدم انعكاس حدّ الفقه لو اريد بالأحكام الكلّ وبالطرد لو اريد منه البعض..        ١٣١

الإيراد الثاني على تعريف الفقه بابتناء أكثره على الظنّ..................... ١٣٣

٤٤٠