تنقيح المقال

الشيخ عبد الله المامقاني

تنقيح المقال

المؤلف:

الشيخ عبد الله المامقاني


المحقق: الشيخ محمّد رضا المامقاني
الموضوع : رجال الحديث
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-381-0
ISBN الدورة:
978-964-319-380-5

الصفحات: ٥٣٤

الحلال .. فاعتذِرْ منها بأنّك محتاجها للسكنى .. فقال قدّس سرّه : إنّ عين هذه المرأة وراء هذه الدار ، وأتتني راجية لأن أردّها إليها .. فعدم إجابتها خلاف همّة الرجوليّة .. فأخذ المبلغ المسطور منها من غير زيادة وأقال البيع وردّها إليها ، واشترى به داراً صغيرة غير كافية لسكنانا ، ثمّ اندان بعد ذلك فباع الدار وأوفى ديونه ، وأغلب تلك الديون أيضاً صارت عليه من علوّ همتّه وكرمه.

ومنها : إنّه جاءته هديّة خطيرة ، فلمّا أن سلّم الواسطة الدنانير وأخذ ورقة وصولها غلب عليه الطمع فأظهر الحاجة .. فأعطاه قدّس سرّه جميع تلك الدنانير ، والحال أنّه قدّس سرّه كان يومئذ مديوناً (١) فوق الثمانين ليرة ، فسئل عن وجه عطائه ، فقال : إنّي كنت أعلم عدم فقر الواسطة ، لكنّه لكونه عزيز قوم ولم يعرف قدر ماء وجهه ، وكانت الدنانير مالي ولم تكن من الحقوق كرهت أن يذهب ماء وجهه هدراً!.

ومنها : إنّه أتى شخص من متمولي مامقان إلى زيارته قدّس سرّه ، فلمّا جلس زماناً أخرج كيسه وفرّغه في كفّه وأخذ منه شيئاً يسيراً وأتى بالباقي إليه قدّس سرّه ، وقد كان ما في يده ذهباً وفضةً ويده بهما مملوءة ، فلمّا نظر قدّس سرّه إليه رأى أنّ في يده نوع حركة واحتمل أن يكون عطاؤه حياءً فامتنع من قبوله .. وكلمّا ألحّ ذلك الرجل عليه لم يقبله ، مع كونه قدّس سرّه يومئذ في غاية الإفلاس والاضطرار.

ومنها : إنّه توفّي ذو مال من تجار الترك ولم يكن له إلاّ بـنت واحـدة ، وقـد كان أوصى بأن تزوّج البنت من حضرة الأخ وتسلّم امواله إليه ، فلمّا

__________________

(١) الظاهر : مديناً.

٦١

أخبـروا الشيخ الوالد قدّس سرّه بذلك أبى من ذلك ، وقال : إنّا فقراء والبنت ذات مال فإن زوّجت ابني بهـا فربّما تتكبّر عليه لمالها .. ولا أحب أن أذلّ ابني.

.. إلى غير ذلك من القضايا غير المتناهية الكاشفة عن علوّ همّته.

وأمّا زهده وتقواه :

فلعمري إنّ الأقلام تكلّ عن تحريرهما ، والأفكار تقصر عن تصويرهما ، وكفاك في ذلك أنّه قدّس سرّه كان من أوثق رؤساء الشيعة منذ سنين ، وكان تجلب إليه في كلّ سنة من الحقوق خمسون ألف تومان تقريباً ، بل أزيد .. ويوصلها إلى الفقراء ولم يظهر في ملبسه ومطعمه وسائر أمور داره وعياله ومتعلقيه ـ إلى أن قبضه الله تعالى ـ فرق بين أزمنته ، فكان في زمان رئاسته التامة من جميع الجهات كما كان في حال اشتغاله وفاقته.

ولقد كان من خصائصه قدّس سرّه أنّه لا يصرف شيئاً من الحقوق ـ حتّى ما أتي إليه بعنوان الإحسان والنذر على المشتغلين أو نحو ذلك ـ على نفسه ولا عياله ، وكان يعيش معيشة الفقراء ويقنع بالهدايا ، ولقد اتفق مراراً أنّه كان يقسّم ما ينطبق عليه وعلى عياله وهو خال من المال .. ومع ذلك لم نكن نصرف من ذلك على أنفسنا ، بل نستقرض ونعيش.

وقد أرسل سلطان ايران مظفّرالدين شاه ألفين وخمسمائة تومان إليه ، كانت ألف وخمسمائة منها نذراً للسادة ، وألف نذراً للطّلبة ، وكُنّا نقسّمها على السادات والطلاب وكُنّا في نهاية الاضطرار ، ومع ذلك لم نصرف من نذر الطلاب على أنفسنا ، ولا من نذر السادات على والدتي العلويّة شيئاً ، بل استقرضنا من خالي وعشنا به إلى أن جاءتنا هديّة ، مع أنّا جميعاً كُنّا [من] أظهر أفراد المشتغلين في ذلك الزمان ، وكان يقول لي ـ مراراً في مقام الموعظة ـ : إنّ من كان أمين الحقوق فليس أن يصرف منها على نفسه ; لأ نّه لا يأخذ منها

٦٢

أوّلاً إلاّ لضروريات معاشه ، ثمّ يجترئ فيأخذ منها للتوسعة على نفسه وعياله ، ثمّ يأخذ منها للتجملات والملابس الجيّدة والحلّي والحلل لعياله ، ثمّ يأخذ منها ما يشتري بها أملاكاً ليعيش بمنافعها عياله بعده ويقع لذلك في المحرّم .. فاللازم العزم على عدم الأخذ حتّى عند الضرورة حتّى لايقع في الحرام من حيث لايشعر.

وقد انتقل قدّس سرّه إلى رضوان الله تعالى ولم تكن له دار للسكن ولا عقار ، بل كان يسكن بالكروة (١) ، ولقد أرادوا مراراً شراء مسكن له فأبى وامتنع خوفاً من أن يحسب المعطي الثمن من الحقوق في بعض الموارد ومن المنّة من الواسطة في بعض آخر.

وقد ربّانا قدّس سرّه كذلك حتّى أنّه صار اعتقاد لزوم التجنب من صرف الحقوق على أنفسنا مجبول طباعنا.

وقد اتفق في سفر خراسان مراراً أنّي كنت معسراً ولم أكن أقبل الهدايا ـ لما تأتي إليه الإشارة ـ فحيث لم أكن أجد من أستقرض منه كنت آخذ من الحقوق المنطبقة علينا بعنوان القرض .. فلمّا وردنا النجف الأشرف بعت جملة من كتبي وأوفيت تلك الحقوق الّتي استقرضتها.

وقد سلّم إليه شخص مبلغاً وافياً هديّة ليس فيها حقّ ليشتري به داراً لسكناه. فاستنطقه أنّي أشتري داراً لي أو لأولادي؟ فقال : بل لك ، فأخذ المال وقسّمه في طلبة العلم والفقراء .. فأتاه صاحب المال وقال : إني أعطيتك المال لتشتري داراً؟! فقال : إنّي استنطقتك فقلت : اشتر به داراً لك .. فاشتريت به داراً لي ، ولو قلت : لأولادك ، لكنت أشتري به داراً في الدنيا.

__________________

(١) الكراء من الكَري ـ بالفتح ـ فعيل بمعنى مفتعل ، ويراد به : المكتري ، قيل : هو من الأضداد يقال لهما ، ويأتي فيما اذا طال أو قصر ، وزاد أو نقص .. والكراء ـ بالكسر ـ إجرة المستأجر. لاحظ : النهاية ٤/١٦٩ ـ ١٧٠ ، ومجمع البحرين ١/٣٥٨.

٦٣

ولقد قيل له قدّس سرّه مراراً : إنّك إذا انتقلت إلى رحمة الله تعالى فبقاء ولديك ـ مع كونهما من أهل العلم والفضل ـ بلا مسكن ليس على ما ينبغي ، فيقول : إنّ لهما الله تعالى ، وإ نّه إن شاء جعلهما صاحبي مساكن وإن لم يشأ يذهب منهما ما أخلّفه لهما من المسكن ، كما ذهبت أملاكي وبلغت فقيراً ، ثمّ رقاني الله تعالى وجعلني من ترون.

ومن حسن نيته وكرامته نسكن أنا والأخ الأعظم كلّ منّا في دار مملوكة من هديّة حلال ، وقد هيّأ الله تعالى داري بعد فوته قدّس سرّه.

وقد كان قدّس سرّه في زمان فاقته يلبس الخام الأزرق ، فلمّا ترقّى لم يتغير لباسه ولا لباسنا ولا مأكله ولا مأكلنا ، ولا استعدّ بأثاث البيت على ما ينبغي ، حتّى أنّه كان مأكلنا وملابسنا وأثاث بيتنا ممّا يضرب به المثل بين أهل العلم ، وقد كُنّا نأخذ في كلّ يوم أوقية من اللحم ـ بالعيار السابق الناقص عن عيار اليوم ـ وكان عيالنا فوق العشرة ، وكنّا نخرج ماءه الأوّل قليلا يختص به الشيخ قدّس سرّه لضعفه ، ونستخرج منه ماءً ثانياً يثردون به العيال ، ونضيف إلى اللحم شيئاً نجعله مرقاً للّيل!!.

وقد كان قدّس سرّه يفرّ من الرئاسة فراره من الأسد .. ولا يسبّب أسبابها ، بل كان يُنفّر الناس عن نفسه ، ومن لاحظ بلوغه في العزّ والجلال إلى المرتبة العليا ـ مع ما به من تنفير الناس وإعراضه عنهم وتهيئة بعض معاصريه أسباب نفرة الناس عنه ـ علم أنّه آية الله العظمى ، وأنّ العزّ بيد الله تعالى ، وأ نّه هو مسبّب الأسباب ، وأنّ أسباب العبد لا أثر لها ، ولعمري إنّ بعض أصحاب معاصريه كُلّما كان يهيّئ أسباب نزوله قدّس سرّه يترقّى ، وكان السبب المنشأ لنزوله سبباً لعزّه وترقّيه.

٦٤

وأمّا مخالفته قدّس سرّه لهواه وإطاعته لأمر مولاه :

فقد بلغ إلى حد تفرّد به ، وقد كان في إيصال الحقوق يقدّم إيصال الأجنبي; خوفاً من أن يكون تقديم إيصال أصحابه وتلامذته من باب هوى النفس ، وقد شاهدنا منه قدّس سرّه قضايا كثيرة كاشفة عن ذاك لا يسع هذا المختصر نقلها ولا بأس بنقل واحدة منها ، وهي :

أنّ سيّداً من الفضلاء الأجلاّء في غاية صحّة النسب كان الشيخ قدّس سرّه يوصله في كلّ سنة مائة تومان أقلا ، وكان ذلك السيّد سبعيّ الطبع حسوداً ، مدعيّاً في نفسه ومن تلامذة بعض معاصري الوالد قدّس سرّه ، وكان لا يدخل إلى دارنا ، بل ربّما كان لا يعتني بالوالد قدّس سرّه عند المصادفة على ما ينبغي ، وكان إذا ذكر والدي قدّس سرّه ينفي عنه التحقيق والمهارة ولا يقرّ له إلاّ بأقل درجة الاجتهاد والعلم ، بل كان بعض الأحيان ينفي عنه العلم ويطلق ، وكنت أنا الواسطة في إيصال الحقّ من الوالد قدّس سرّه إليه ، وكنت مُريّضاً نفسي في عدم إخبار الوالد قدّس سرّه بذم السيّد له زعماً مني أنّه قدّس سرّه إن اطّلع على ذلك قطع صلة السيّد ، وأنّ التسبّب لقطع صلة السيّد قبيح ، فكنت أقدّم مراعاة جانب جدّه صلّى الله عليه وآله على مراعاة جانب والدي قدّس سرّه ، فأتاه أخي يوماً وقال : إنّي رأيت السيّد في بعض الطريق يطلبه القصاب الفلاني خمسين قراناً من باب اللحم الّذي مشتريه [كذا] منه نسيئةً تدريجاً ، ووجدته يطالبه ويمنعه من الحركة ، وكلّ ما يلحّ عليه السيّد بأن يخلّي سبيله حتّى يمضي ويستدين ويأتي له بالمبلغ لا يرضى القصاب بذلك ، وكان قدّس سرّه قبل كم يوم موصله مقداراً ومع ذلك أخرج من الصندوق خمسين قراناً

٦٥

وأعطى الأخ وقال : بنىّ! اسرع إيصاله إلى السيّد حتّى لا يرى غيرك مطالبة القصاب له ، ثمّ رفع يده إلى السماء وقال : إلهي أنت تعلم أنّ هذا السيّد يهتكني بلا سبب إلاّ أنك منعتني من اتّباع الهوى فأوصله مخالفة للهوى طلباً لرضاك يا ربّ ..! فلمّا رأيت ذلك علمت أنّه يدري بحركات السيّد ويخالف هواه في ذلك (١).

وأمّا حفظه لدينه وصونه لنفسه :

فلقد بلغ قدّس سرّه في ذلك إلى حد كان يضرب به المثل ، وسلّم له الكلّ بذلك حتّى أضداده.

__________________

(١) ولعلّ منها ما أورده سيّد الأعيان فيه ٥/١٥١ أن قال : .. وكان يتفقد بعض العلويات في النجف بشيء من البر على يد بعض طلبة الترك ، فأراد الواسطة السفر لبلاده ، فذاكره أن يكون ذلك على يدي ـ وأحب أن يكون الكلام بحضوري ـ فقال : آتي أنا والسيّد إلى داركم. قال الشيخ : لا ، بل نحن نذهب إلى داره ; لأ نّ في مجيء السيّد إلى دارنا غضاضةً عليه ..

هذا ، مع أنّهما لم يكونا إلاّ في رتبة أولاده فضلاً عن تلامذته.

وكرر القصة في ما ترجمه عن نفسه في الأعيان ١٠/٣٥٣ فقال : وكان يصل بعض العلويات الفقيرات من ارحامنا بواسطة الشيخ عبدالنبيّ ـ المقدّم ذكره ـ ، فلمّا أراد الشيخ عبدالنبيّ السفر قال له : دلني على من أوصل ذلك بواسطته .. فدلّه عليّ ـ وكان لا يعرفني لأنني لا اتعرف إلى من لا استفيد منه علماً!! ـ فقال : اريد أن أراه ، فقال : آتي أنا وهو إلى داركم. فقال : هذا ما لا يكون ، لأنه فيه حزازة على السيّد ، فقال : نأتي بعد الصلاة ، قال : وهذا ـ أيضاً ـ فيه حزازة عليه ، قال : فما الحيلة في ذلك؟. قال : نذهب إليه نحن .. قال : متى يكون ذلك لأخبره فلا يخرج من الدار ، قال : هذا فيه مشقة عليه ولكن متى كنت ذاهباً إلى مكان وحاذيت داره فأخبرني لنأتي إليه بدون خبر .. فاتفق أنّه كان ذاهباً مرّة وحاذى دارنا فأخبره فمنعه ولده من المجيء إلينا لعذر خلقه!! ثمّ لما حضرنا لوداعه أخبره عني بالتركية!.

٦٦

وأمّا دقّته في الشرعيات :

فلقد بلغ في ذلك إلى حد كان مورثاً للعجب ، وله قضايا غير متناهية تكشف عن ذلك ، لا بأس بنقل واحدة منها ، وهي :

أنّ تاجراً من تجار قزوين أتاه بعد أيام من فوت (١) العلاّمة المبرور آية الله الميرزا محمّد حسن الشيرازي قدّس سرّه وجلس عنده وأدّى الرسوم ، ثمّ وضع قدّامه كيساً مملوءاً فيه ألف ليرة ، فسأله قدّس سرّه عن مصرفه ، فقال : حقّ الإمام عليه أفضل الصلاة والسلام ، فسأل عن المعطي فسمّى تاجراً آخر ، فأطرق [برأسه] قدّس سرّه مليّاً ، ثمّ رفع رأسه وقال : إنّ أهل قزوين لا يقلّدوني ، وهذا التاجر ظنّي أنّه ليس مقلّداً لي فما جهة إرساله الدنانير إليّ؟! وأخاف أنّه مرسلها إلى المرحوم الميرزا قدّس سرّه ، فأتيت ووجدته منتقلا إلى رحمة الله تعالى ورضوانه فأتيتني بالدنانير من نفسك ، فقال : نعم ، هو وكيل المرحوم حضرة الميرزا قدّس سرّه وأعطاني الدنانير لأوصلها إليه ، فلمّا توفّي ـ ونحن في الطريق ـ تفحّصت فتعيّن عندي إيصالها إليك ، فقال قدّس سرّه : اشتبهت; تكليفك إرجاع الدنانير إلى ذلك التاجر ليتفحّص عن وصيّ المرحوم الميرزا قدّس سرّه ويستفسر منه أنّه هل عيّن في الحقوق المقبوضة بإذنه قدّس سرّه مسلكاً أم لا ، فإن كان معيِّناً لزم الجري على ما عَيّن وإلاّ تفحّص ذلك التاجر وأوصلها إلى من اطمئنّ به ، فإيصالك إيّاها إليّ حينئذ لا وجه له ، فأطرق التاجر زماناً ثمّ رفع رأسه وقال : تأخذها أنت وتوصلها إلى محله وأنا أمضي وأخبر ذلك التاجر ويستفسر فإن لم يكن المرحوم قدّس سرّه معيِّناً مسلكاً وأدّى تكليفه إلى ايصالها إليك فنعم المطلوب وإلاّ فأنا أحتسبه

__________________

(١) الاظهر الاشهر : وفاة.

٦٧

من الحقوق الّتي عليّ ، فقال قدّس سرّه له : إنّ عين هذه الدنانير مقبوضة بإذن المرحوم الميرزا قدّس سرّه لا يجوز لي التصرف فيها فعلا ولا يجوز لك أن تدفعها إليّ ، فإن كنت تريد أداء الحقّ فأدِّها من مالك ..! فأخذ التاجر الدنانير ومضى (١).

وأمّا خشونته قدّس سرّه في جنب الله تعالى :

فمسلّمة بين المؤالف والمخالف ، لم يكن يتجاوز قدّس سرّه مرّ الشرع (٢) وإن كان مضراً به ، ولم يكن في إنفاذ الشرعيات يراعي أحداً من الأجلاّء .. وله قضايا لا تسع هذه الرسالة بيانها.

ومن خشيته قدّس سرّه من ربه :

إ نّه في الليلة الّتي كان يبيت عنده الحقّ لا يستقر في فراشه ولا تأخذ عينه النوم ، بل كان ينقلب يميناً وشمالا إلى أن يفرغ من تقسيمه (٣).

__________________

(١) حكى لي من أثق به عن المرحوم الآية الشيخ أحمد الأميني المراغه اي عن الشيخ عبدالله المامقاني قدّس سرّه وذاك حينما تشرف بزيارة قم في سفرته الثانية .. قال : إنّه في إحدى امراض والده طاب ثراه وصف له الاطباء أكل الرقي على أن يكون لونه أصفر ، وقد بادرت ـ والكلام للشيخ الجدّ ـ بشراء كمية منه ، وفتح بعضه كي أعرف لونه .. فلمّا علم الشيخ بذلك تأثر جداً وبدأ بالبكاء عالياً ، وقال : كيف كنت لكم أباً ..؟! لماذا تريدون أن تلقون بي في النار ..؟! ثمّ أمرني فوراً بارجاع الرقي ، فصرت متحيراً لا أعلم ما أفعل ، وعندما شاهد أحد المؤمنين من الاحبة تحيري في الأزقة تقبلها جميعاً مع كلّ ما فتح منه ودفع ثمن الجميع.

(٢) كذا ، والظاهر : أمر الشرع.

(٣) يقول الشيخ محمّد جواد مغنية في كتابه : مع علماء النجف الأشرف : ١٠١ : .. وكان يفرّق [بمعنى : يوزّع] على الفقراء والمحتاجين كلّ ما يصل إلى يده من أموال الحقوق ـ

٦٨

وكان إذا رأى من شخص تكليفه بما لا يشرع ارتعدت فرائسه (١) ، وانتفخت أوداجه ، وغضب غضباً شديداً.

وكان يطلب من السيّد البيّنة على سيادته; فإن أقامها أكرمه وأعطاه عطاءً جميلا ، وإن أصرّ على أن يأخذ بغير بينة صاح عليه صيحة منكرة ، وقال : إنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ الّذي أتى بالخمس والزكاة والصدقة ـ أمر بالتثبت وطلب البينة.

ولقد تحمل من السادة وغيرهم ممّن لم يكن يعطيه ـ لعدم ثبوت سيادته أو فقره أو ثبوت عدمهما عنده ـ أذايا دون تحملها خرط القتاد ، وكان تحمّل الأذايا منهم أهون عليه من إيصال الحقوق إليهم ، ولم يكن يستعمل الحيل الشرعية مثل إقباض حقّ السادة من السيّد وأخذه منه وصرفه في غير السادة ، وإقباض مال الفقراء من الفقير وأخذه منه وصرفه في غير المستحق شيئاً ، ويقول : إنّ ذلك خلاف المصلحة الداعية إلى تشريع الخمس للسيّد والزكاة والصدقة للفقير.

ولم يكن يرتكب ما تداوله جمع من مصالحة من عليه شيء من الحقوق بأقلّ ممّا عليه ، وكان يقول : إنّ ذلك تفويت لمال الفقراء ، وقيل له مراراً : خذ البعض من باب الاستنقاذ ، فأجاب بأ نّه : إغراء لمشغول الذمة بالجهل ; لأ نّه يزعم أنّه برئت ذمته فلا يؤدي الباقي ، والإغراء بالجهل قبيح ، وأنا ولي الفقراء

__________________

ـ ولا يبقي لنفسه وعياله منها شيئاً ، وكان تبلغ خمسين ألف تومان في السنة أو تزيد ، وكان إذا جاء حقّ في الليل يوزعه في ساعته ولا يبقيه إلى الصباح.

(١) كذا ، والصحيح : فرائصه ، والفرص هي اللحمة الّتي بين جنب الدابة وكتفها ولا تزال ترعد ، ويراد بها عصب الرقبة وعروقها; لانّها هي الّتي تثور عند الغضب .. ويقال : ترعد فرائصه .. أي ترجف من الخوف ، لاحظ : النهاية ٣/٤٣١ ـ ٤٣٢ ، والصحاح ٣/١٠٤٨ وغيرهما.

٦٩

فيلزمني إيصال ما قبضته إليهم ولا يجوز لي العفو عن بعض حقّهم ولا ارتكاب القبيح لتحصيل بعض حقوقهم.

وكان قدّس سرّه يرسل رواية بأنّ ; من استعمل نحو تلك الحيل الشرعية وضعه الله تعالى يوم القيامة في صندوق من حديد ووضعه في جهنم ، فإذا استغـاث إلى الله تعالى من ذلك أجابه بأ نّي لم أحرقك وإنّما أحرقت الصندوق ..!

ولقد كان قدّس سرّه للفقراء والسادات والطلاب أباً رؤوفاً ، وكهفاً عطوفاً ، وكان يقسم كلّ سنة ستّ أو سبع أو ثمان مرات أو أزيد على اختلاف السنين ، كلّ مرّة سبعمائة أو ثمانمائة ليرة (١) ، وكانت عطاياه بغير عنوان التقسيم ، للمرضى والراجعين إلى أوطانهم من أهل العلم والسادة والمتزوجين منهم ، والمتوفين منهم ، والمدينين منهم ، ومنقطعي الزوار ، والمقروعين بالعسكرية

__________________

(١) ذكر السيّد النجفي القوچاني في كتابه : سياحت شرق : ٣٨٦ ـ في معرض حديثه عن مقدار مصارفه السنويّة ، وكيفية معاشه آنذاك ، بما حاصل ترجمته ـ : .. إنّ مصارفنا السنويّة في عيشة رغيدة ستّة وثلاثون توماناً .. ثمّ ذكر كيفية خرج هذه الأموال ، وقال : وما كان يصلني سنوياً من المامقاني ثماني عشرة توماناً ، ومن الآخوند ثلاثة توامين ، والسلام.

وقد جاء في مقدّمة كتاب الزكاة ـ تقرير درس السيّد الميلاني قدّس سرّه ـ ١/١١ قوله : .. نقل بعض الثقات إنّ سجل الرواتب للطلبة في عصر الشيخ المامقاني كان يحوي اثني عشر ألف اسماً [كذا] ..

أقول : روى لي سماحة السيّد محمّد عليّ الميلاني حفظه الله عن المرحوم الشيخ فضل (الله) عليّ القزويني رحمه الله ـ والد الشيخ ميرزا محمّد المهدوي القزويني المعاصر ـ الّذي كان مقسماً للمرحوم الشيخ الجدّ طاب ثراه ـ أنّ مجموع ما اُثبت في دفتره طاب ثراه اثنا عشر ألفاً من الطلبة والعلماء عدا ما هناك من الفقراء والسادات أو من كان مستغنياً من الطلاب ـ أو من كان له مخصّص خاص ـ حيث كان رحمه الله يحدس أن يكون المجموع أكثر من أربعة عشر ألف طالباً ، وهو عدد كبير جداً لو لوحظت النجف آنذاك.

٧٠

من الفقراء والسادة تعدل أو تزيد على ما يقسمه في تمام السنة ..

ولم يكن يفرّق في العطاء ـ بعد إحراز الحاجة ـ بين القريب والبعيد ، والتلميذ وغيره ، والتركي والعجمي [أي الفارسي] والعربي والهندي و .. غيرهم (١).

وكان يقول لي مراراً ـ في مقام الوعظ ـ : بنيّ! هذا الّذي نقبضه يحصّله الكاسب والتاجر والزارع بتحمل البرد والحرّ والخوف من الحرق والغرق والسرق في الأسفار والغربة ويسلّم إلينا ـ من خوف الله تعالى ـ ما هو أعزّ من نفسه ، وما بذل نفسه في تحصيله لنوصله إلى أهله ، فإيّاك ثمّ إيّاك! إنّك في حال الإيصال تترك قصد القربة ، ويكون الداعي إلى عطائك الحبّ أو الصداقة أو .. نحو ذلك ممّا كان غير القربة ، فإنّك غداً يوم القيامة تعاقَب .. ومع الغض عن العقاب فيكفي عتاب صاحب المال غداً : بأ نّي ائتمنتك على مال الله تعالى وأنت ـ أيها العالم ـ خِنتني ..!

ولقد كان يعيش جمّ غفير من المشتغلين والضعفاء بصلته ، حتّى أنّه لما فقد ظهرت حاجة أهل العلم واستيصالهم وعدم ملجأ لهم (٢) ..

__________________

(١) قال الشيخ محمّد أمين المامقاني نقلاً عن استاذه السيّد مسلم الحلّي ، عن والده رحمهما الله : إنّه كان في عصر مرجعية الشيخ المامقاني الكبير مجتهد في الحلّة يعيش في النجف بضيق حال ، وشدّة إملاق ، فجاءه مندوب الشيخ بمعونة (ليرتين من الذهب) ـ وهو قدر كبير يفي المرحوم وعائلته شهرين أو ثلاثة ـ فتعجب من هذا المدد مع انتفاء العلاقة ، واستفسر فأجابه المندوب : إنّه قد وصل المولى من الحقوق الشرعية مقدار فأمرني بتوزيعها على أهل العلم والفضيلة والاجتهاد ممّن لم يحضر درسي ولم يشهد مجلسي ولم يشارك في جماعتي ـ يعني صلاة جماعته ـ وهأنذا أمتثل أمره .. فلا عجب ..! كما جاء في مقدّمته على اخراجه لكتاب غاية الآمال الّذي هو حاشية على كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري رحمه الله ١/٦.

(٢) قال السيّد النجفي القوچاني في كتابه : سياحت شرق ـ في معرض حديثه عن سكناه في دار وقف في النجف حيث سكنها ـ

٧١

وقد أجمع كثير من طلبة الترك ـ وفيهم جمع من أصحابه قدّس سرّه ـ على أن يعيّن للتُرك من الحقوق ما يكفيهم ، فإن زاد صرف الزائد في غيرهم وإلاّ فلا ، فأتوا إليّ وأرادوا أن يرسلوني لبيان مرادهم ، فأبيت وأخذت الكاملين منهم إليه قدّس سرّه فبيّنوا له مرادهم ، وقالوا له ـ في جملة ما قالوا ـ : إنّ اغلب ما يجلب إليك أو كلّه إنّما يجلب من بلاد الترك ; فلا وجه لتسويتك بين الترك والفرس والعرب والهندي والسندي وغيرهم ، بل عليك أن تكفي الترك ، فإن زاد صرفته في غيرهم وإلاّ فلا ، فأطرق قدّس سرّه يسيراً ثمّ رفع رأسه .. وقال لهم : كلامكم متين أعمل به إن علّمتوني جواب سؤال يورد عليّ يوم القيامة ، وذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حال كونه جالساً على منبر الوسيلة يوم القيامة ـ لو أحضر سيّداً تركياً ، وسيّداً فارسياً ، وسيّداً عربياً ، ومشتغلا تركياً ، ومشتغلا فارسياً ، ومشتغلا عربياً ، وقال لي : يا محمّد حسن المامقاني! ما مقدار ما قبضت في عمرك من الحقوق؟ فقلت : يا سيدي! لا أدري ، فقال لي : أنا أدري .. وبيّن لي مقادير كلّ من الحقوق الّتي قبضتها في عمري ، ثمّ أشار إلى السيّد التركي وقال : أعطيت هذا لأ نّه كان ولدي ، وأشار إلى السيّدين الفارسي والعربي وقال : لِمَ لَمْ تعط هذين؟! ألم يكونا من أولادي؟! وأشار

__________________

ـ في دار وقف في النجف حيث سكنها مدّة أوائل تحصيله ، ما ترجمته ـ صفحة : ٣١٥ ـ ٣١٦ [الطبعة الثانية ـ أمير كبير] لم تمرّ الأيام على جلوسي في تلك الدار إلاّ ودخل مقسم الشيخ حسن الممقاني [كذا] ودفع لكلّ واحد من الطلبة مجيديين ، وأعطاني أيضاً وذهب ، وتعجبت جدّاً حيث كنت قد سمعت سابقاً أنّ تثبيت اسم طلبة فقير في سجلات دفاتر الشيخ الممقاني يحتاج إلى مساعي وإقامة شهود ، لذا سألت من معي من طلاب تلك المدرسة عن ذلك وما سمعته وأرى الآن خلافه ، فقالوا : لقد بني أساس هذه الدار عند الشيخ الممقاني على أنّ أهله يدخلون الجنة بغير حساب!! لذا يعطيهم الأموال!!. ولعلّ التثبت في قبول الأفراد في المنزل يكفي ، وعليه فلا حاجة إلى التحقيق بعد ذلك عند دفع الراتب لهم.

٧٢

إلى المشتغل التركي.

وقال : أعطيت هذا لأ نّه كان من أمتي وخدام شرعي ، وأشار إلى المشتغلين العربي والفارسي ، وقال : لِمَ لَمْ تعط هذين؟! ألم يكونا من أمتي وخدام شرعي؟! فماذا أجيب؟ علِّموني جواباً صحيحاً حتّى أفعل ما تأمروني به وأنا ممنون. فقالوا : إنّ معاصريك من علماء الفرس والعرب يخصون بما بأيديهم أهل صقعهم ولسانهم فافعل أنت مثلهم ، فقال لهم : لعلّهم فهموا لهذا السؤال جواباً وأنا لا أفهمه ، تأمروني أصير خلفهم يوم القيامة فأجيب بما يجيبون ، ولعلّي أتيت قبلهم فبماذا أجيب؟ أو لعلّ جوابهم لم يقبل فماذا أفعل؟ تأمروني أنّي ـ مع عدم صرفي للحقوق على نفسي وعيالي ـ أعذّب يوم القيامة ، إنّ هذا سفه عظيم ، ولكن لكم المهلة فمتى أتيتموني بجواب امتثلت أمركم وأتيت بمأمولكم .. فرجعوا خائبين.

ولقد كان المشتغلون والسادة مستريحين في حياته قدّس سرّه ، وكانوا إذا احتاجوا شيئاً راجعوه وأخذوا ذلك أو استقرضوا وجعلوا الوعدة (١) أيام تقسيمه قدّس سرّه ، وكان وجوده سبب اعتبار السادات والطلاب والفقراء ; بحيث كان الناس يقرضوهم (٢) بلحاظ أنّه متى طالبوه أخبر الشيخ قدّس سرّه فوفّى عنه.

وبالجملة ; فلا يسع هذا المختصر شرح حاله قدّس سرّه على ما ينبغي ، وفيـما سطرناه كفاية لمـن له أدنى دراية .. ومن لا دراية له فلا تفيه ألف حكاية.

__________________

(١) بمعنى : الموعد.

(٢) كذا ، والظاهر : يقرضونهم.

٧٣

أمّا صبره وتوكله :

فلقد بلغ إلى حد لا يوصف ، ولم أر ـ بل لم أتعقل ـ مثله لأحد ، وقد كان عند موت بعض أولاده وأقاربه أو ورود نائبة أخرى عليه يحمر لونه ويصفر ، ولم يكن مع ذلك يُظهر شيئاً ، بل كان يشكر ويتوكل ، ولقد عثرت على مشاقٍّ تحمَّلها ومصائب شكر عليها تعجز عن حملها الجبال الرواسي ، وكان كلّ ذلك ليقينه بالله تعالى وعدم اعتبار الدنيا عنده بمقدار جناح بعوضة ، وعدم ميله إليها ولا حبّه لها بقدر ذرّة ، وقد سألته قدّس سرّه عما حصل له به ذلك التوكل فقال : بنيّ! التوفيق من الله تعالى ، اتفقت لي قضايا وشملني توفيق الله تعالى فصرت متوكّلاً.

ومن ظريف ما نقل قدّس سرّه من القضايا أنّه قال : مضـت عليّ سنة في حال عيلتي بجمع من العيال عشت فيها بالدين حيث كان طريق الزوار والمترددين مسدوداً من جانب الدولة ، فلمّا انقضت السنة أتانا خبر سد الطريق في السنة الّتي بعدها أيضاً ، واتفق أنّي كتبت الصفحة ـ وهي على الكتاب ـ فلمّا فرغت منها جلست ليجف الحبر فأخذني الفكر وقلت في نفسي : إنّ الطريق قد انسدّ وعليك من الديون كذا وكذا .. ومن مصرف العيال كذا وكذا .. فأظلمّت الدنيا في عيني; فبينما أنا أفكّر وإذا بعوضة صعدت على الكتاب من عن يمين الصفحة وعنكبوتة من عن يسارها وجعل كلّ منهما تأتي نحو صاحبته إلى أن بقي بينهما مقدار عرض أربع أصابع منضمّات ، فطارت البعوضة وألقت نفسها في فم العنكبوتة! فقلت في نفسي : إنّ هذه موعظة لك من ربك ، يقول لك : إنّ الرزق بيدي وإنّي أجعل الرزق راغباً إليك هو يأتيك من دون أن تمضي وتطلبه ، فتوكلت على ربي .. وما مضت إلاّ أيام قلائل

٧٤

فأتاني شخص من غير الطريق المتعارف أرسله مولاه .. وأرسل معه مالا كثيراً شطر منه لي وشطر منه لأشخاص التمسني إيصاله إليهم ، فأوصلت مالهم وأخذت مالي وأوفيت ديوني وعشت بالبقية تلك السنة أحسن عيش .. فاعتبروا يا أولي الأبصار!.

وأمّا عفّته وعزّة نفسه :

فيكفيك في ذلك أنّه تحمّل من الفقر والجوع غايته ولم يُظهر لأحد من مشايخه ذلك ، ولقد نقل قدّس سرّه أنّه ـ مع كونه معروفاً تفصيلا عند شيخه العلاّمة الأنصاري قدّس سرّه بالفضل والعلم والتقوى ـ لم يصله منه شيء مدّة حضوره عنده ـ وهي فوق العشر سنين ـ إلاّ مرّة واحدة ، ولم يُظهر له فقره ، بل كان يظهر الكفاف ، ولقد تحمّل في زمان اشتغاله من الفقر ما يعجز عنه الأكثر .. ومع ذلك لم يُطّلع أحداً على حاله.

ولقد نقل قدّس سرّه أنّ سنة من السنين ـ قبل أن يتزوّج ـ زار شركاؤه في الدار كربلاء المشرّفة في نصف شعبان ولم يزر هو لفقده للمؤونة ، فأصبح يوماً ليس عنده شيء أبداً ، فبقي بلا قوت نهار ذلك اليوم والليلة الّتي بعده ونهار اليوم الثاني ، فلمّا أن صلّى الظهر والعصر احتمل أن يكون في بعض زوايا البيت شيء من القوت فتفحّص فوجد في مخزن البيت ـ بين القراطيس ـ كيساً فيه شيء من الأرز والماش ففرح بذلك فرحاً شديداً وطبخه وتحيّر من جهة الدهن فبنى على أن يرهن آنية صفر له عند الدهّان ، فمضى من أوّل السوق إلى آخره ثلاث مرات فمنعه عزّ النفس عن مخاطبة الدهان وعرض الإرهان عليه ، فبنى على الترك ورجع ، فلمّا أن صار قريباً من باب الصحن الشريف وجد صديقاً له يخرج من الصحن فبنى على الاستقراض منه ، فلمّا أن رفع

٧٥

الصديق رجله ليضع وراء الصخرة الّتي وراء عتبة الباب خرج حس الدراهم من جيبه ، فلمّا تسالما منعه العزّ من طلب القرض منه فتوادع معه ومضى إلى الحرم الشريف ليزور مولاه ، وقد كان يقول : إنّي من شدة الجوع لم أكن لأبصر على ما ينبغي ، فذكرت هناك أنّي وضعت عشر درهم ـ يسمّى بــ : القمري ـ تحت الحصير في وقت لأجل أنّي إن احتلمت أمضي به إلى الحمّام ، فأتيت المنزل وأخذته واشتريت به دهناً ووضعته على الطبيخ وعشت بذلك الطبيخ ثلاثة أيام على وجه القناعة إلى أن رجع شركائي في الدار فاستقرضت منهم.

وأمّا حياؤه قدّس سرّه :

فلعمري أنّه كان أحيى (١) من البكر ، ولقد كنا نقبّل يده في الأعياد ولا يقبّل وجوهنا بعد التحائنا ، فتلومه والدتي قدّس سرّها لذلك; فيعتذر بأ نّهما التحيا وصارا من الرجال ، وأستحيي من أن أقبلهما.

وأمّا أدبه :

فقد أفرط قدّس سرّه فيه .. وكان يتأدّب مع أهل العلم (١) والسادة وأولاد

__________________

(١) الاولى : أكثر حياءً ..

(٢) وممّا حكي لي ـ من أكثر من واحد ـ إنّه كان طاب ثراه معاصراً للمرحوم الشيخ محمّد طه نجف قدّس سرّه ، وهو من المراجع في وقته وأعلام عصره إلاّ أنّه أصيب ببصره في أواخر عمره ، وفي يوم ـ والشيخ خارج من درسه وقد حفّته بعض خيرة طلابه للسؤال ـ وإذا بالشيخ محمّد طه في الطريق يقوده زوج ابنته السيّد كاظم الموسوي ـ هكذا سُمي لي ـ فما كان من الشيخ المامقاني إلاّ وترك الجمع مسرعاً نحو الشيخ وأخذ يده فقبّلها ، فأخبر السيّد كاظم الشيخ النجف بأ نّه : الشيخ [وكان ينصرف الاطلاق إلى المامقاني] ، فأخذ ذاك يده بإصرار وقبّلها ..! قدّس الله تلك الأرواح الطاهرة ، والنفوس العالية ، ـ

٧٦

العلماء (١) كأ نّه من خدّامهم ، وكان لا يتقدّم عند ورود مجلس على من معه من تلامذته إلاّ بعد إصرارهم عليه وتأكيدهم ، ومع ذلك كان غالباً يقول ـ عند التقدّم ـ : أنا أخالف الأدب.

وأمّا انكسار نفسه وترابيّة مزاجه :

فايم الله تعالى أنّه من عجائب الزمان ، ولقد كان ـ مع ما كان عليه من الجلالة والعظم في العيون والرئاسة العامّة ـ غير باني في حقّ نفسه على منزلة بمقدار أقل الناس ، وكان يقول لنا دائماً : إنّكم مشتبهون ..! لست أنا بشيء.

__________________

ـ والمدارس السيّارة ..!

والأغرب من ذا أنّ أحد خيرة فضلاء طلابه قدّس سرّه اعترض عليه في فعله هذا ، فما كان من الشيخ إلاّ وغضب غضباً شديداً لأمر تلميذه إيّاه بالمنكر! وصرخ فيه بأنّ ما عملته ما كان إلاّ واجبي ، ولو لم اثمن واحترم أمثال الشيخ النجف فمن يعرف قدرهم؟! و .. قد جفا تلميذه المحبوب هذا إلى أن رحل من الدنيا ، وقيل كان ذلك حدود سبع سنوات ..!!

(١) ومن الشواهد على ذلك ما سمعته من المرحوم السيّد محمّد البهبهاني طاب ثراه في آخر سفر له إلى العراق ـ وكنت صغيراً ـ حيث جاء إلى دارنا لردّ زيارة الشيخ الوالد دام ظله وطلب أن يكون المجلس في غرفة المقبرة في دارنا ، وبعد قراءته للفاتحة قال ما حاصله : في آخر سفرة للشيخ محمّد حسن إلى إيران ذهبت بخدمة والدي السيّد عبد الله ـ أحد مؤسسي المشروطة ـ من طهران إلى شاه عبد العظيم رضوان الله عليه لزيارة الشيخ المامقاني ، حيث كان مجلسه في الحرم والصحن ، لعدم وجود محل كبير يناسب استقبال الزوار والوفود ، أو رغبته هو بذلك ، فعندما دخلنا عليه قبّلت يده وجلست جانباً ، وكان المجلس مكتظاً ، وجلس والدي ـ السيّد عبدالله ـ إلى جنبه ، فبعد أن سأله عن حاله وعدّد أولاده .. أشار لي وقال : وهذا سيّد محمّد ولدي ـ وكان عمري حدود العشر سنين ـ فانزعج الشيخ جدّاً لتقبيلي يده عند الدخول وتأثر وهمّ قائماً يريد التوجه لي لتقبيل يدي ، ممّا سبّب استغراب والدي والجمع ، وقال بانزعاج : إنّ ولدكم قبّل يدي وهو سيّد وهذا ما لا يكون أبداً ، ولابدّ من أن أقبّل يده .. فأصرّ والدي عليه وحصل التوافق على تقبيل جبهتي!!

٧٧

وكان إذا ورد مجلساً يفرّ من الصدر ويتطلّب ذيل المجلس والخالي من أمكنته (١).

وكان يكرم الوارد عليه ـ جليلا كان أو حقيراً ـ وكان يعامل الحقير والفقير ـ عند وروديهما عليه ـ أحسن من معاملة الناس مع الأجلاّء ، وكان إكرامه لأهل العلم ـ إذا كان فقيراً ـ أزيد منه إذا كان غنياً ، فإذا ورد عليه طالب علم فقير أو سيّد فقير ـ وعنده من أهل العلم من هو غني أو من هو من التجار أو أعيان الدولة ـ كان يُجلس ذلك المشتغل الفقير أو السيّد الفقير فوق يده ; والحال أنّ ذلك الغني كان جالساً تحت يده (٢).

__________________

(١) يحدّثنا السيّد الأمين في أعيان الشيعة ٥/١٥٠ بقوله : .. وكان متواضعاً ، دخل يوماً إلى دار آل الشيخ جعفر صاحب كاشف الغطاء في عشر المحرّم ـ وأنا حاضر ـ فوجد المجلس غاصاً ، فجلس في أخريات الناس ، فتبادر أهل المجلس وأتوا به إلى الصدر ..

(٢) حدّثني أكثر من واحد عن غير واحد ـ ومنهم شيخي الوالد دام ظله ـ أنّه دخل أحد أعيان تجار الترك بصحبة مضيفه من السادة خدم الروضة العلويّة ـ على صاحبها آلاف السلام والتحية ـ على المرحوم الجدّ الأكبر قدّس سرّه ، وقدّم التاجر مبلغاً كبيراً من الحقوق الشرعيّة ، فما كان من ذاك السيّد الخادم إلاّ أن خاطب الشيخ بالعربية بما حاصله : إنّه لا تنسونا ..! وحيث كان الشيخ يعرفه بعدم التقوى ، بل التجاهر بالفسق وعدم الفقر لذا اعاد المال على صاحبه ورفض أخذه .. فأصرّ عليه التاجر وطالبه بالسبب ، فقال الشيخ رحمه الله : إنّ هذا السيّد يطلب مني أن أسرق من حقّ الله ورسوله واعطيه ، وهذا ما لا يكون .. فعاد التاجر على السيّد وزجره وصاح به ، ثمّ ترجى من الشيخ قبول الحقوق فقبل المبلغ ، فما كان من السيّد إلاّ أن توعد الشيخ وهدده بالقتل بالعربية ـ كيلا يفهم التاجر ـ وكان من عادة الشيخ طاب ثراه اقامة بعض النوافل الليلية في الحرم الشريف ، لذا إكراماً له كان يفتح باب الصحن قبل اذان الصبح بمدّة ، وفي مرّة والشيخ خارج إلى الحرم والطريق خال من المارة ، وهو يتكي عن عكاز ولعلّ معه سراج ، فما كان إلاّ وحمل ذاك السيّد الشاب على الشيخ والقاه أرضاً وجلس على صدره مصلتاً سكينة ، فوجد الشيخ من تحت يتململ ويقول : (رو بقبله .. رو بقبله ..) [أي إلى طرف القبلة] ، فسقطت السكين من يده ، وجثى على يد ورجل الشيخ يقبلهما ويستميحه ويعتذر ـ

٧٨

وكان قدّس سرّه يمنع تلامذته وغيرهم من المشي معه ، وكان إذا لحقه أحد يقف ويقول : ما مطلبك؟ فإن كان له مطلب أجابه بما يقتضي وتوادع معه ، وإن قال : إنّي ماش بخدمتكم ، اعتذر منه بأنّي أريد أن أمشي وحدي ، وكان يعلّل فعله هذا بأنّ للناس معي مطالب لا يحبّون اطلاع غيري عليها ، فإذا كان معي أحد امتنع العفيف من بيان حاجته فيلزمني أن أمشي وحدي حتّى يبيّن لي كلّ ذي حاجة حاجته (١).

وكان يدخل الحمّام كأحد من الناس (٢) ويدلك رجليه بالحجر بيده ، وكان

__________________

ـ إليه ، ومن يومها تاب وأصبح من الصالحين ، وكان يتحدّث بسبب هدايته وأ نّه رحمه الله لم يهمه القتل بقدر ما كان يهمه استقبال القبلة عند الاحتضار ..!!

حكى لي أيضاً الاخ الشيخ محمّد عليّ المعزي المراغه اي عن السيّد الشريعتي الأصفهاني ـ صهر السيّد عليّ الفاني ـ قال : كنت بخدمت والدي في أصفهان في حافلة (درشكه) ، وفي الطريق ركبها رجل له وضع غير منظم ولباس غير مناسب ، وهو حليق اللحية .. ثمّ قبل يد والدي .. وبعدها كرّر الوالد ارسال الرحمة للشيخ محمّد حسن المامقاني أكثر من مرّة ـ فاستغربت من ذلك .. وعندما سألته في البيت عن ذلك ، قال : هذا الرجل كان معنا في النجف الأشرف من طلاب الشيخ محمّد حسن رحمه الله ، وكان فقيراً ، فتوسطت له عند الشيخ لمساعدته ، فطلب رؤيته ، فعرّفته عليه بعد الدرس ، فدخل الدار ، وخرج ومعه كيساً فيه (اشرفية) ودفعها لي وقال : تصرّف بها كيف تشاء فهو ملكك .. وأنا لا أعطي هذا شيئاً أبداً والأمر لك في المال .. فكان مصداق : «المؤمن ينظر بنور الله».

(١) قال شيخنا الطهراني في الطبقات (الكرام البررة) ١/٤١٠ : .. وكان لا يرضى أن يحمل أمامه ضياء .. ثمّ علّق عليه في الحاشية بقوله : .. وكان من عادة النجفيين أن يحملوا سراجاً (فانوساً) أمام العلماء والعظماء والأشراف ويسمّونه (فنراً) ، وقد كان إلى ما قبل عقدين من السنين ... وكان المترجم لا يرضى بحمل هذا السراج أمامه ; وذلك كراهة منه للظهور والبروز ، جرياً على سيرة السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.

(٢) وممّا نقل لي في هذا الباب أنّه دخل الشيخ الجدّ قدّس سرّه إلى الحمّام العمومي قبل صلاة الفجر ، وكان ذلك في يوم زيارة ـ ولعلّها أيام النيروز ـ وقد ازدحمت النجف ـ

٧٩

لا يعطي الحمّامي بمقتضى شأنه ، وكان يقول : ليس إعطاء الزائد كرماً ولا الزيادة مضرة بحالي ولكن ينبغي إعطاء المتعارف خاصّة رعاية لحال الفقراء ، فإنّا إن زدنا على المتعارف لا يعتنى بالفقير الّذي لا يتمكن من إعطاء الزائد.

ومن ظريف ما نقله لي ثقة ـ في مقام بيان انكسار نفسه ، واهتمامه بعدم تضييع وقته ، وعدم تقيّده بقيود أهل الدنيا ـ أنّه قال : دخلت في أيام عيد النيروز الحمّام لأخضّب لحيتي وأدلّك جسدي ، فعطّلني الدلاّك فخرجت غضباناً (١) عازماً على أن أمضي إلى مالك الحمّام وأشكو إليه لينزع الحمّام من يد الحمّامي ـ لما بيني وبين المالك من الألفة والصداقة ـ فلمّا جلست على الدكة لألبس ثيابي رأيت أنّ شيخاً هناك جالس نصف رأسه محلوق ونصفه باق ..! فحقّقت النظر فإذا هو الشيخ قدّس سرّه ، فدنوت منه وسلّمت عليه وأظهرت الإخلاص ، ثمّ أخبرته بكيفية رأسه زاعماً غفلته عنه ، فقال قدّس سرّه : نعم ، حلق السلماني بعض رأسي ومضى لإتمام خدمة آخر ليرجع إليّ ويتمّم رأسي .. فرأيت أنّ أشغاله كثيرة ، وأنّ تعطيلي إلى أن يتمم رأسي

__________________

ـ الأشرف بالزوار ومنهم جمع من أهالي آذربايجان .. وكانت الإنارة ـ كالعادة ـ قليلة جدّاً ومن الصعوبة تشخيص الأفراد ، فوجد شيخاً كبير السن ذا لحية طويلة وهو يغتسل في الخزينة (حوض الحمّام الكبير) ويكرر الارتماس ويظهر منه حركات غريبة .. فتأثر الشيخ من عمله وحركاته ، وسأله : هل أنت مجتهد أم مقلد؟! فقال : أنا مقلد. قال : تقلّد من؟ قال : أقلّد الشيخ المامقاني. قال : هل الشيخ المامقاني قال لك افعل هكذا؟! قال : نعم! فما كان في الشيخ إلاّ أن غضب وقال : (غلط كرد شيخ ..) أي اشتبه وأخطأ لو أفتى بمثل هذا .. فما كان من الرجل ـ وكان من أهل قفقاز ظاهراً ـ إلاّ أن رفع يده وصفع الشيخ دفاعاً عن مرجعه الّذي لم يكن قد رآه إلى ذلك الوقت ، فهرع الحمّامي وجمع لحماية الشيخ .. ثمّ عرف الرجل الشيخ ووقع على يده ورجليه يقبلهما ويعتذر .. وترك عادة الوسوسة وتاب ..

(١) الظاهر : غضبان.

٨٠