مصباح الفقيه - ج ١٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: برگ طوبى
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٣

أمير المؤمنين عليه‌السلام : «دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على رجل من الأنصار وقد شبكته الريح (١) ، فقال : يا رسول الله كيف أصلّي؟ فقال : إن استطعتم أن تجلسوه فأجلسوه ، وإلّا فوجّهوه إلى القبلة ومروه فليؤم برأسه إيماء ويجعل السجود أخفض من الركوع ، وإن كان لا يستطيع أن يقرأ فاقرءوا عنده وأسمعوه» (٢).

وخبر إبراهيم بن [أبي] (٣) زياد الكرخي قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام :رجل شيخ كبير لا يستطيع القيام إلى الخلاء لضعفه ، ولا يمكنه الركوع والسجود ، فقال : «ليؤم برأسه إيماء ، وإن كان له من يرفع الخمرة فليسجد ، فإن لم يمكنه ذلك فليؤم برأسه» (٤).

وصحيحة الحلبي أو حسنته عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن المريض إذا لم يستطع القيام والسجود ، قال : «يومئ برأسه إيماء ، وإن يضع جبهته على الأرض أحبّ إليّ» (٥).

وربما يستشعر من ذيل هذه الرواية بل وكذا من ذيل الرواية السابقة :أنّ موردهما المصلّي عن جلوس ، وعلى هذا التقدير أيضا يمكن استفادة المدّعى منهما ، بل وكذا من غيرهما من الروايات التي ورد فيها الأمر بالإيماء بدلا عن الركوع والسجود في سائر مواقع الضرورة بتنقيح المناط.

ثمّ إنّ المتبادر من إطلاق الإيماء في النصوص والفتاوى إنّما هو كونه

__________________

(١) الشبك : الخلط والتداخل. وشبكته الريح : كأنّ المعنى تداخلت فيه واختلطت في بدنه وأعضائه. مجمع البحرين ٥ : ٢٧٣ «شبك».

(٢) الفقيه ١ : ٢٣٦ / ١٠٣٨ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب القيام ، ح ١٦.

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٤) الفقيه ١ : ٢٣٨ ـ ٢٣٩ / ١٠٥٢ ، التهذيب ٣ : ٣٠٧ / ٩٥١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب القيام ، ح ١١.

(٥) الكافي ٣ : ٤١٠ / ٥ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب القيام ، ح ٢.

٦١

بالرأس ، كما وقع التصريح به في جملة من الأخبار المتقدّمة (١) ، وأمّا تغميض العينين فلا يصدق عليه اسم الإيماء ، ولا أقلّ من انصراف إطلاقه عنه ، ولكن عند تعذّر الإيماء يقوم التغميض مقامه فيجب بدلا عن الركوع والسجود لدى العجز عنهما وعن الإيماء ، كما هو المشهور على ما نسب (٢) إليهم.

ويشهد له ـ مضافا إلى إمكان دعوى كونه إيماء اضطراريّا فهو من العاجز عن الإيماء بالرأس إيماء عرفيّ يفهم وجوبه كذلك من إطلاق الأمر بالإيماء الوارد في الأخبار المتقدّمة ، أو كونه من مراتبه الميسورة لدى العرف ، التي لا يسقط بمعسوره ـ رواية محمّد بن إبراهيم ، المتقدّمة (٣) الواردة في المستلقي ، واختصاص موردها بالمستلقي غير ضائر بعد وضوح المناط وعدم مدخليّة الخصوصيّة في بدليّته عنهما ، وما فيها من إطلاق الأمر بالتغميض منزّل على الغالب من كون الإيماء بالرأس مشقّة عليه ، كما أومأ إليه في الحدائق بعد أن مال إلى العمل بإطلاقه في مورده وتنزيل الأخبار المصرّحة بالإيماء بالرأس على المضطجع ، فإنّه ـ بعد أن نقل عن المشهور القول بوجوب الإيماء بالرأس في حالتي الاضطجاع والاستلقاء إن أمكن ، وإلّا فبالعينين ، ثمّ نقل بعض الأخبار المتقدّمة الدالّة على الإيماء بالرأس ـ قال ما هذا لفظه : وأمّا أنّه مع العجز عن الإيماء بالرأس فبالعينين ، وهو عبارة عن تغميضهما حال الركوع والسجود كما تقدّم في مرسلة محمّد بن

__________________

(١) في ص ٦١.

(٢) الناسب هو البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٧٩ ، والطباطبائي في رياض المسائل ٣ :١٣٧.

(٣) في ص ٥٩.

٦٢

إبراهيم برواية المشايخ الثلاثة ، إلّا أنّ موردها الاستلقاء ، ومورد الإيماء بالرأس في الروايات المتقدّمة الاضطجاع على أحد الجنبين ، والأصحاب قد رتّبوا بينهما في كلّ من الموضعين ، والوقوف على ظاهر الأخبار أولى ، إلّا مع عدم إمكان الإيماء بالرأس من المضطجع ؛ فإنّه لا مندوحة عن الانتقال إلى الإيماء بالعينين ، ولعلّ الأخبار إنّما خرجت مخرج الغالب من أنّ النائم على أحد جنبيه لا يصعب عليه الإيماء برأسه ، والمستلقي لمزيد الضعف لا يمكنه الإيماء بالرأس (١). انتهى.

أقول : صعوبة الإيماء بالرأس من المستلقي ليس لمجرّد زيادة ضعفه ، بل لأنّ صدوره منه في حدّ ذاته أشقّ من صدوره من المضطجع ، كما لا يخفى.

وكيف كان فما ذكره من أنّ الوقوف على ظاهر الأخبار أولى ، يتوجّه عليه : أنّه ليس في شي‌ء من الأخبار التي وقع فيها التصريح بالإيماء بالرأس إشعار بوروده في خصوص المضطجع ، بل قد أشرنا آنفا إلى أنّه ربما يستشعر من خبرين منها ـ وهما خبرا إبراهيم والحلبي (٢) ـ ورودهما في الجالس ، ولكنّه لا يقدح في إفادة عموم المدّعى مع إمكان إبقائهما على ظاهرهما من الإطلاق.

وأمّا مرسلة (٣) الفقيه ـ الواردة في من شبكته الريح ، التي وقع فيها أيضا التصريح به ـ فإن لم نقل بانصراف ما فيها من الأمر بتوجيهه إلى القبلة إلى النوم مستلقيا إلى القبلة فلا أقلّ في عدم ظهوره في إرادة خصوص النوم

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٨ : ٧٩ ـ ٨٠.

(٢) تقدّم خبراهما في ص ٦١.

(٣) تقدّمت المرسلة في ص ٦٠ ـ ٦١.

٦٣

على أحد جنبيه.

هذا ، مع أنّا قد أشرنا إلى أنّ المتبادر من إطلاق الإيماء الوارد في سائر الأخبار الواردة في المستلقي وغيره إنّما هو الإيماء بالرأس ، بل بعضها ـ كقوله عليه‌السلام في مرسلة الفقيه الأولى : «استلقى وأومأ إيماء ، وجعل وجهه نحو القبلة ، وجعل سجوده أخفض من ركوعه» (١) ـ كالنصّ في ذلك ؛ إذ لا معنى للأخفضيّة في تغميض العينين ، فمقتضى الجمع بينها وبين مرسلة (٢) [محمّد بن] (٣) إبراهيم : صرف هذه المرسلة إلى صورة العجز عن الإيماء بالرأس إن لم نقل بانصرافها في حدّ ذاتها إليه بواسطة المناسبات المغروسة في الأذهان ، القاضية بعدم التخطّي عن الإيماء بالرأس لدى التمكّن منه إلى التغميض.

ويحتمل قويّا ابتناء ما في هذه المرسلة من الإطلاق على التوسعة والتسهيل إرفاقا بحال المستلقي ، فيجمع بينها وبين غيرها ـ ممّا ظاهره الإيماء بالرأس مع الإمكان ـ بالحمل على التخيير ، وكفاية كلّ من الأمرين لدى التمكّن منهما توسعة على المستلقي.

ولكنّ الأوّل مع أنّه أحوط أوفق بالقواعد ؛ فإنّ صرف كلّ من الدليلين عن ظاهرهما من الوجوب العيني أبعد في مقام الجمع من ارتكاب هذا النحو من التقييد في المرسلة ، إلّا أنّه ربما يقرّب احتمال التخيير إطلاق الأمر بالإيماء وجعل سجوده أخفض من ركوعه في المرسلة (٤) الأولى ؛ فإنّ

__________________

(١) تقدّم تخريجها في ص ٥٠ ، الهامش (٥).

(٢) تقدّم تخريجها في ص ٥٩ ، الهامش (٣).

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٤) تقدّمت المرسلة في ص ٥٠.

٦٤

إطلاقه وإن كان مقيّدا عقلا بالقدرة عليه إلّا أنّه كاشف عن أنّ القدرة عليه غير عزيزة ، بل شائعة ، وإلّا لم يكن يحسن إطلاق الأمر به والسكوت عمّا هو واجب عليه غالبا في مقام تكليفه الفعلي ، فيشكل حينئذ إطلاق الأمر بالتغميض في المرسلة لو لا ابتناؤه على التوسعة والتسهيل ، والله العالم.

تنبيه : صرّح غير واحد (١) بأنّه متى أومأ للركوع والسجود فليجعل سجوده أخفض من ركوعه ، بل عن الذكرى نسبته إلى الأصحاب (٢) ، وهو مشعر بالاتّفاق.

ويدلّ عليه جملة من الأخبار المتقدّمة (٣) التي وقع فيها التصريح به.

ويشهد له أيضا بعض الروايات الواردة في سائر مواقع الضرورة التي يصلّى فيها مومئا.

كخبر يعقوب بن شعيب ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصلاة في السفر وأنا أمشي ، قال : «أوم إيماء واجعل السجود أخفض من الركوع» (٤).

وفي خبره الآخر عنه : في الرجل يصلّي على راحلته ، قال : «يومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع» (٥).

وفي خبر أبي البختري ـ المرويّ عن قرب الإسناد ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في من غرقت ثيابه يبتغي ثيابا ، فإن لم يجد صلّى عريانا جالسا يومئ إيماء يجعل سجوده أخفض من ركوعه» (٦).

__________________

(١) كما في جواهر الكلام ٨ : ٢٠١.

(٢) الذكرى ٣ : ٢٣ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٨ : ٢٠١.

(٣) في ص ٥٠ و ٦١.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٢٩ / ٥٨٨ ، الوسائل ، الباب ١٦ من أبواب القبلة ، ح ٣.

(٥) الكافي ٣ : ٤٤٠ / ٧ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب القبلة ، ح ١٥.

(٦) قرب الإسناد : ١٤٢ / ٥١١ ، الوسائل ، الباب ٥٢ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

٦٥

وفي مضمرة سماعة ، الواردة في من يتطوّع في السفر : «وإن كان راكبا فليصلّ على دابّته وهو راكب ، ولتكن صلاته إيماء ، وليكن رأسه حيث يريد السجود أخفض من ركوعه» (١).

فلا ينبغي التأمّل فيه بعد وقوع التصريح به في الأخبار المستفيضة الواردة في الأبواب المتفرّقة من الفرائض والنوافل.

والمناقشة فيه ـ بأنّ إيجاب الإيماء لهما إنّما هو لعدم سقوط الميسور بالمعسور ، فيجب عليه فعل تمام ما يتمكّن منه من الإيماء لكلّ منهما ، ويجتزئ في الفرق بينهما بالنيّة ـ مدفوعة : بأنّ الأخذ بمقتضيات القواعد العامّة في مقابل الأخبار الخاصّة يشبه أن يكون اجتهادا في مقابل النصّ.

هذا ، مع أنّ الإيماء ماهيّة أخرى مباينة بالذات لماهيّة الركوع والسجود ، فلا تفي بإثباته قاعدة الميسور ؛ لأنّها لا تجري إلّا فيما إذا كان المأتيّ به من أنحاء وجودات المأمور به ببعض مراتبه الناقصة التي لم تكن مجزئة عند التمكّن من الإتيان به بشرائطه المعتبرة في صحّته ، كالركوع أو السجود بلا استقرار أو بلا وضع باقي المساجد على الأرض ممّا لا ينافي صدق مفهومه عرفا ، لا مثل الإيماء الذي هو مباين بالذات لهما ، ولا يندرج في مسمّاهما عرفا ، فوجوبه بدلا عنهما إنّما هو لأدلّته الخاصّة ، لا من باب القاعدة.

نعم ، ربما يظهر من أمر الشارع جعل الإيماء للسجود أخفض منه للركوع ومن جعله غمض العينين في المستلقي بدلا عنهما وفتحهما بدلا عن الرفع عنهما : أنّه راعى المناسبة بين الإيماء والتغميض وبين مبدلهما في

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤٣٩ (باب التطوّع في السفر) ح ١ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب القبلة ، ح ١٤.

٦٦

مقام جعل البدليّة ، لا أنّه أوجبهما لكونهما ميسور المتعذّر.

نعم ، لو كان الهويّ إلى الركوع والسجود في حدّ ذاته جزءا مستقلّا للصلاة ، كان للتوهّم المزبور ـ أي وجوب الإتيان بما تيسّر منه مطلقا ـ وجه وإن لم يسلم أيضا عن الخدشة. ولكنّه ليس كذلك ، مع أنّ الأخبار ناطقة بأنّ الشارع إنّما اعتبره عوضا عن الركوع والسجود لا من حيث كونه بعضا من الهويّ الذي كان واجبا عليه.

فالأظهر : عدم وجوب فعل تمام ما يتمكّن من الإيماء من زيادة الانحناء ، بل كفاية مسمّاه لكلّ منهما مع رعاية الأخفضيّة للسجود فيما إذا كان فرضه الإيماء لهما وهو على حالة واحدة من قيام أو قعود أو اضطجاع ونحوه ، كما هو مورد الأخبار.

وحكي عن جملة من الأصحاب (١) وجوب التفرقة بين الإيماءين في التغميض أيضا ، فأوجبوا كونه للسجود أكثر منه للركوع ، فكأنّهم زعموا أنّ المراد بالإيماء المأمور به في الروايات ما يعمّ التغميض ، وقضيّة إطلاق الأمر بكونه للسجود أخفض : وجوبه في التغميض أيضا ، وهو في التغميض عبارة عن أكثريّة الغمض ؛ إذ لا معنى له بالنسبة إليه إلّا هذا.

وفيه : أنّ هذا ليس من معنى الأخفضيّة بشي‌ء ، فاعتبار الأخفضيّة فيه قرينة لصرف إطلاق الإيماء إلى الإيماء بالرأس ـ كما هو المصرّح به في بعض أخباره (٢) ـ إن لم نقل بانصرافه في حدّ ذاته إليه ، وعلى تقدير تسليم

__________________

(١) منهم : يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع : ٧٩ ، والشهيد في البيان : ١٥٠ ، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد ٢ : ٢١٠ ، والشهيد الثاني في الروضة البهيّة ١ : ٥٨٧ ، وحكاه عنهم العاملي في مفتاح الكرامة ٢ : ٣١٣.

(٢) راجع ص ٦١.

٦٧

كون المراد بالإيماء أعمّ من التغميض فهو لا يصلح شاهدا لحمل الأخفضيّة على ما يعمّ أكثريّة الغمض ؛ فإنّ قضيّة الأصل حمل قوله : «يجعل سجوده أخفض من ركوعه» (١) حمله على حقيقته ، وتقييده بالقدرة ، كما هو الشأن في سائر التكاليف. فيختصّ اعتباره فيما أمكن فيه ذلك بأن يكون الإيماء بالرأس. فالأشبه عدم اعتبار التفرقة بين الإيماءين في التغميض إلّا بالقصد ، كما هو مقتضى ظاهر خبر [محمّد بن] إبراهيم ، المتقدّم (٢) الذي هو عمدة مستند بدليّة التغميض ، والله العالم.

ولو لم يتمكّن من الإيماء بالعينين أومأ بواحدة ؛ لقاعدة الميسور.

ولو عجز عن ذلك أيضا ، فعن كاشف الغطاء أنّه يومئ ببعض أعضائه (٣) ، كيده مثلا.

ولعلّه لمطلقات الإيماء ، واختصاص تقييدها بالرأس أو العين بحال التمكّن ، أو لقاعدة الميسور.

وفيهما نظر ، إلّا أنّ مراعاته أحوط.

وهل يجب أن يقصد بهذه الأبدال بدليّتها عن مبدلها من الركوع والسجود والرفع عنهما ، أم لا يجب الالتفات إلى هذه الأفعال وقصدها ، بل يكفي الإتيان بالأبدال في مواضعها بقصد جزئيّتها لصلاته التي نوى بها الخروج عن عهدة ما هو تكليفه بالفعل؟ وجهان بل قولان.

استدلّ للأوّل : بأصالة الاشتغال ، ولأنّه لا يعدّ الإيماء أو التغميض ركوعا والفتح قياما إلّا بالنيّة ؛ إذ لا ينفكّ المكلّف عنهما غالبا ، فلا يتمحّضان

__________________

(١) راجع الهامش (٦) من ص ٦٥.

(٢) في ص ٥٩.

(٣) كشف الغطاء ٣ : ٢٠٤ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٩ : ٢٧٠.

٦٨

للبدليّة إلّا بالقصد ، ولأنّ هذه الأمور كما لا يخلّ زيادتها ونقصانها في الصلاة التامّة فكذا لا يخلّ في الناقصة استصحابا لحكمها ، ولا شكّ أنّ ما هو بدل عن الركوع والسجود يخلّ زيادته ونقيصته قضيّة للبدليّة ، فلا بدّ أن يكون ما هو ركن مغايرا لما ليس كذلك ، وليست المغايرة إلّا بالنيّة ، ولأنّ مفهوم الإيماء لا يتحقّق إلّا بالنيّة.

وناقش في الجميع شيخنا المرتضى رحمه‌الله ، فإنّه ـ بعد أن استدلّ لهم بالأدلّة المزبورة ـ قال : وفي الكلّ نظر ؛ لورود الإطلاقات على أصالة الاشتغال ، وعدم اشتراط القصد في البدليّة لصيرورتها أفعالا في تلك الحالة ، فيكفي فيها نيّة أصل الصلاة ، بل لو طرأ الانتقال إليها في الأثناء ، كفى معرفة بدليّتها والاستمرار على نيّة الصلاة السابقة وإن تغيّرت أفعالها ؛ لعدم اختلاف حقيقة الفردين.

والفرق بين الأبدال والأفعال الأصليّة ـ بأنّها متعيّنة متميّزة ، فلا تفتقر إلى نيّات تخصّصها ، بخلاف الأبدال ؛ فإنّها مشتركة بين العادة والعبادة ، فلا بدّ من النيّة لتعيّن العبادة ـ مردود : بأنّ صيرورة الأفعال الأصليّة عبادة إنّما هي لأجل التعبّد بها في الصلاة المنويّة عبادة ، وإلّا فهي في حدّ ذاتها أيضا حركات عاديّة ، فإذا قصد التعبّد بالأبدال في ضمن الصلاة خرجت ـ كالمبدلات ـ من العادة إلى العبادة.

وأمّا حديث إخلال نقصها مطلقا بالصلاة فلا دخل له بالمطلوب.

وأمّا زيادتها فلو سلّمنا إخلالها مطلقا على حسب إخلال مبدلاتها إغماضا عن القدح في عموم البدليّة والتفاتا إلى إطلاق الإيماء والتغميض على الركوع والسجود وبالعكس ، فلا تلازم بين اعتبار القصد في الإخلال ؛ نظرا إلى عدم صدق الزيادة ـ أي زيادة الركن ـ إلّا مع قصد البدليّة ، وبين

٦٩

عدم اعتباره في الامتثال ؛ اكتفاء بنيّة أصل الصلاة ، بل حيث عرفت سابقا أنّ الإيماء للركوع والإيماء للسجود متّحدان مصداقا فيما عدا أقلّ مراتبه المختصّ بالركوع وآخرها المختصّ بالسجود ، فلا يترتّب على المزيد حكم زيادة الركوع أو السجود إلّا بقصد أحدهما.

نعم ، لو قصد كون المزيد جزءا غير الركوع والسجود ، بطل العمل من جهة الزيادة على الأجزاء ، لا من جهة زيادتهما.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ما ذكره في شرح الروضة ـ من أنّ الخلاف في اعتبار القصد في الإخلال بالزيادة مبنيّ على الخلاف في اعتباره في تحقّق البدليّة ـ محلّ نظر.

وأمّا دعوى أخذ النيّة في مفهوم الإيماء فلو سلّم فإنّما هو في تحقيق معناه المصدري ، والقدر المطلوب في أفعال الصلاة المشتملة على معان لا توجد إلّا بالقصد والالتفات ـ كالتكبير والتشهّد والقنوت والتسليم ـ ليس إلّا أشباح تلك الأفعال ، دون إنشاء مفاهيمها (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

ولقد نقلناه بطوله لمزيد فوائده وجودة محصّله ، إلّا أنّ ما أفاده قدس‌سره كان وجيها لو كان الإيماء كالتكبير والتشهّد والتسليم أو كالقيام والقعود ممّا يمكن أن تتحقّق ماهيّته في الخارج في ضمن فعل أو قول بلا قصد ولم يكن اعتباره عوضا عن تلك الأفعال ، بل كان واجبا من حيث هو لدى العجز عنها ، كالكفّارات المرتّبة ، وإلّا فقصد العنوان شرط في وقوع الفعل بهذا الوجه ، حيث إنّ عنوان البدليّة كعنوان الوكالة عن الغير والنيابة والولاية من العناوين التي للقصد دخل في وقوع الفعل بذلك العنوان ، فقياس

__________________

(١) كتاب الصلاة ١ : ٢٥٢ ـ ٢٥٤ ، و ٥١٧ ـ ٥١٩.

٧٠

الإيماء على التشهّد والتسليم ونظائرهما قياس مع الفارق ؛ فإنّ عدم تصوّر معنى الشهادة ونحوها لا يخرج لفظها عن كونه تلفّظا بالشهادة ، كما هو الواجب عليه في مقام إسقاط التكليف.

وأمّا العاجز الذي فرضه الإيماء بعد فراغه من القراءة ما لم يضمر في نفسه شيئا يقصده بالإشارة امتثالا لأمره فلا يصدر منه إلّا مجرّد تحريك رأسه بقصد جزئيّته من صلاته ، وهو بهذا العنوان لم يتعلّق به التكليف ، بل بعنوان الإيماء ، فإيماء العاجز عن الركوع والسجود ليس إلّا كإيماء الأخرس وتحريك لسانه القائمين مقام قراءته وتشهّده وسائر أذكاره ، ومن الواضح أنّه لا يجديه مجرّد تحريك اللسان بقصد الجزئيّة ما لم يميّز المشار إليه في ضميره ولو على سبيل الإجمال.

نعم ، غمض العين لا يتوقّف حصوله على أمر خارج عن ذاته لو لم يعتبر فيه قصد الإشارة ، ولكنّه معتبر فيه على الظاهر ؛ إذ الظاهر أنّه لم يتعلّق الأمر به إلّا بلحاظ كونه نحوا من الإيماء ، مع أنّ عنوان البدليّة مأخوذ فيه بمقتضى ظاهر دليله ؛ إذ المتبادر من قوله عليه‌السلام في خبر (١) محمّد ابن إبراهيم : «فإذا أراد الركوع غمّض عينيه» إلى آخره ، بل وكذا من سائر أخبار الباب الواردة في الإيماء أنّ الشارع جعل الإيماء برأسه أو تغميض عينيه قائما مقام الركوع في إسقاط أمره ، بمعنى أنّ الشارع تصرّف بالنسبة إليه في متعلّق التكليف بأن جعل غمض عينيه ركوعا وفتحهما رفعا ، لا أنّه أوجب عليه عوضا عن الركوع الإيماء أو التغميض كالتيمّم بدلا عن الوضوء لفاقد الماء ، بل أوجب عليه الإيماء أو التغميض عوض ركوعه وسجوده ،

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٥٩ ، الهامش (٣).

٧١

كما أوجب في مقام شدّة الخوف تسبيحة عوض كلّ ركعة من ركعات الفرائض ، ففي مثل هذه الموارد ما لم يكن عنوان العوضيّة مقصودا بالفعل لا يقع امتثالا للأمر المتعلّق به ، حيث إنّه لم يتعلّق به من حيث هو ، بل من حيث وقوعه عوضا عمّا تعلّق به الطلب.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ القصد الإجمالي إلى وقوعه على وجهه الذي تعلّق به الطلب كاف في إطاعة أمره ووقوعه على الوجه الذي تعلّق به الطلب.

وهو لا يخلو عن إشكال ، مع أنّه لا يجدي في خصوص المقام الذي تعلّق فيه الطلب بمفهوم الإيماء الذي قد أشرنا إلى توقّفه على تعقّل الماهيّة المؤمى إليه وقصدها بالإيماء ، كما في تكبير الأخرس وقراءته وتشهّده ، وإلّا فلا يكون الإيماء ايماء ، فالقول بوجوب قصد البدليّة بل جريان الأفعال على القلب ـ كما عن العلّامة في القواعد (١) ـ أي تصوّرها وقصدها بالإيماء مع أنّه أحوط لا يخلو عن قوّة ، والله العالم.

ولو تعذّر عليه الإيماء والتغميض أيضا فلا بدل غيرهما ينتقل إليه إلّا على احتمال سنشير إليه ، بل يكتفي بجريان الأفعال على قلبه والأذكار على لسانه ، كما حكي (٢) عن ظاهر الأصحاب.

ولكن حكي عن كاشف الغطاء أنّه أوجب عليه الإيماء بسائر أعضائه (٣).

ولعلّه لإطلاق أوامر الإيماء في جملة من أخباره ، مقتصرا في تقييده

__________________

(١) قواعد الأحكام ١ : ٢٦٨ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٩ : ٢٦٩.

(٢) الحاكي هو صاحب الجواهر فيها ٩ : ٢٧٠.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٦٨ ، الهامش (٣).

٧٢

بالرأس أو العينين بحال التمكّن ، أو لقاعدة الميسور.

وفيهما تأمّل ؛ حيث إنّ الإطلاقات إن لم تكن منصرفة في حدّ ذاتها فهي مصروفة إلى الإيماء بالرأس والعينين بشهادة غيرها من الأخبار المقيّدة.

وأمّا قاعدة الميسور : فهي غير وافية بإثبات المدّعى ، كما تقدّمت الإشارة إليه آنفا ، فمقتضى الأصل براءة الذمّة عنه ، ولكنّه أحوط ، والله العالم.

وهل يجب على المومئ للسجود وضع شي‌ء ممّا يصحّ السجود عليه على جبهته حال الإيماء ، أم لا؟ أو أنّه مخيّر بين الإيماء والوضع؟ وجوه بل أقوال ، بل ربما يظهر من بعض من تصدّى لنقل الأقوال وجود القول بوجوبه فقط عينا بدلا عن السجود (١).

حجّة القول بوجوبه عينا : موثّقة سماعة قال : سألته عن المريض لا يستطيع الجلوس ، قال : «فليصلّ وهو مضطجع ، وليضع على جبهته شيئا إذا سجد فإنّه يجزئ عنه ، ولن يكلّف الله ما لا طاقة له به» (٢).

ومرسلة الصدوق قال : سئل عن المريض لا يستطيع الجلوس أيصلّي وهو مضطجع ويضع على جبهته شيئا؟ قال : «نعم ، لم يكلّفه الله إلّا طاقته» (٣).

واستدلّ له أيضا بخبر عليّ بن جعفر ـ المرويّ عن قرب الإسناد ـ عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن المريض الذي لا يستطيع القعود ولا

__________________

(١) راجع مفتاح الكرامة ٢ : ٣١٢ ـ ٣١٣.

(٢) التهذيب ٣ : ٣٠٦ / ٩٤٤ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب القيام ، ح ٥.

(٣) الفقيه ١ : ٢٣٥ / ١٠٣٤ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب القيام ، ح ١٤.

٧٣

الإيماء كيف يصلّي وهو مضطجع؟ قال : «يرفع مروحة إلى وجهه ويضع على جبينه ويكبّر هو» (١).

وفيه : أنّ هذه الرواية وردت في العاجز عن الإيماء ، فهي أجنبيّة عن المدّعى.

نعم ، يظهر منها بدليّة الوضع لدى العجز عن الإيماء إن كان المراد به الوضع على الجبينين في حال السجود ، وهو غير واضح ، فلعلّه أراده حال الافتتاح ، كما ربما يستشعر ذلك من قوله : «ويكبّر هو» فالإنصاف أنّ الرواية غير متّضحة المفاد.

وأمّا المرسلة فقد يتأمّل في دلالتها على وجوب الوضع ؛ حيث إنّ مفاد الجواب الواقع فيها ليس إلّا صحّة هذه الصلاة التي وقع السؤال عنها ، وعدم كونه مكلّفا بأزيد من ذلك ، فمن الجائز عدم وجوب جميع ما وقع ذكره في السؤال ، وكون بعضه ـ وهو وضع شي‌ء على جبهته ـ مستحبّا أو واجبا تخييريّا بينه وبين الإيماء ، وكونه كذلك كاف في حسن تقرير السائل وإن كان يزعم وجوبه عينا ، كما ربما يستشعر من سؤاله.

فعمدة ما يصحّ الاستناد إليه لوجوب الوضع عينا هي الموثّقة الأولى ، ولكن الالتزام بتعيّنه وقيامه مقام السجود بلا إيماء ـ كما هو ظاهر القول المنسوب إلى بعض (٢) ـ مستلزم لطرح الأخبار التي ورد فيها الأمر بالإيماء ، أو تأويلها بالحمل على صورة العجز عن وضع شي‌ء على الجبهة ، مع أنّها أصحّ سندا وأكثر عددا وأوضح دلالة على بدليّة الإيماء مطلقا من هذه

__________________

(١) قرب الإسناد : ٢١٣ / ٨٣٤ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب القيام ، ح ٢١.

(٢) العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٣٣٣ ، ونسبه إليه البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٨٢.

٧٤

الموثّقة ؛ فإنّ من المحتمل بل الظاهر ـ على ما ادّعاه بعض (١) ـ أنّ المراد بقوله : «إذا سجد» إذا أومأ للسجود ، فتكون الموثّقة حينئذ بنفسها شاهدة للقول الأوّل ، وهو وجوب الجمع بين الوضع والإيماء.

ولو سلّم ظهور الموثّقة أو المرسلة المزبورة في بدليّة الوضع عن السجود من غير حاجة إلى الإيماء ، فهو ليس إلّا من باب السكوت في مقام البيان ، وإشعار قوله : «وليضع» إلى آخره ، ببدليّته عن نفس السجود ، لا الملاصقة للأرض المعتبرة حاله ، وشي‌ء منهما لا يصلح معارضا للأخبار المستفيضة المبيّنة التي وقع فيها التصريح بأنّ العاجز يومئ برأسه للسجود أو يغمّض عينيه ، مع أنّ المناسب لتعليل كفاية الوضع في الخبرين : «بأنّ الله تعالى لن يكلّفه ما لا طاقة به» إرادته مع ما يتمكّن منه من الإيماء والانحناء.

وكيف كان فمقتضى القاعدة : إبقاء كلّ من النصوص على ظاهره من وجوب ما تضمّنه مطلقا ، ورفع اليد عمّا يستشعر أو يستظهر من كلّ منها من كفاية ما تضمّنه بدلا عن السجود من غير حاجة إلى غيره ، فالقول بوجوب الوضع بلا إيماء على تقدير تحقّقه في غاية الضعف.

وأمّا القول بوجوبه مع الإيماء فلا يخلو عن قوّة ؛ نظرا إلى ما مرّ ، ولكنّ الأقوى خلافه ؛ فإنّ الناظر في الأخبار التي ورد فيها الأمر بالإيماء للسجود على كثرتها وتظافرها وورودها في الأبواب المتفرّقة من النافلة والفريضة للقائم والقاعد والماشي والراكب والمضطجع والمستلقي والعاري من الموارد التي لا تحصى من غير إشعار في شي‌ء منها بإرادته مع وضع

__________________

(١) الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ٢٤٩ ، و ٥١٢.

٧٥

شي‌ء على جبهته لا يكاد يرتاب في أنّ المقصود بتلك الأخبار لم يكن إلّا خصوص الإيماء مجرّدا عن وضع شي‌ء على جبهته.

وتوهّم أنّ دلالة تلك الأخبار على عدم وجوب الوضع ليس إلّا من باب السكوت في مقام البيان ، فلا تعارض النصّ الدالّ على الوجوب ، مدفوع : بأنّ دلالة تلك الأخبار على كفاية مجرّد الإيماء لو لم تكن إلّا من باب الإشعار الضعيف الناشئ من السكوت في مقام يناسبه البيان ، لكفت في طرح الموثّقة أو تأويلها بالحمل على الاستحباب أو غيره من المحامل التي سنشير إليها ؛ إذ الإشعارات الضعيفة عند تعاضد بعضها ببعض ربما تورث القطع بأنّ المقصود بتلك الأخبار لم يكن إلّا خصوص الإيماء المجرّد عن الوضع ، كيف! مع أنّ المتبادر من كلّ منها ليس إلّا ذلك.

نعم ، ليس لتلك الأخبار قوّة دلالة على وجوبه عينا ، فمن الجائز كون الأمر بالإيماء لكونه أحد فردي الواجب المخيّر وأسهلهما المناسب لحال العاجز ، فلا ينافيه كفاية الوضع أيضا بل أفضليّته ، فيمكن الجمع حينئذ بين الأخبار بالحمل على التخيير ، كما هو أحد الأقوال في المسألة ، وقضيّة هذا الجمع رفع اليد عن ظاهر كلّ من المتعارضين في الوجوب العيني ، ولا محذور فيه ؛ فإنّه من أهون التصرّفات التي لا تحتاج إلى شاهد خارجيّ ، مع أنّه ربما يستشهد له ببعض الأخبار الآتية ، كما ستعرفه.

بل لا يبعد أن يقال : إنّ وضع شي‌ء ممّا يصحّ السجود عليه على الجبهة كخفض الرأس وغمض العين من أنحاء الإيماء للسجود عرفا ؛ إذ المراد بالإيماء في مثل هذه الموارد هو الإتيان بفعل مشعر بإرادة تلك الطبيعة المشار إليها منه ، كما في مباحث الألفاظ ، فإنّا إذا قلنا : إنّ في هذه العبارة إيماء أو إشارة إلى كذا ، معناه أنّ فيه إشعارا بإرادة كذا ، فعلى هذا لا

٧٦

منافاة بين الأخبار الدالّة على كفاية الوضع ، وبين الأخبار الآمرة بالإيماء مطلقا ، وإنّما ينحصر التنافي بينها وبين الأخبار المقيّدة له بالرأس ، فيجمع بينهما بالحمل على التخيير ، ويقيّد المطلقات بهما كذلك.

ولكن قد أشرنا آنفا إلى أنّ أخبار الوضع لا تصلح قرينة لصرف الأخبار الظاهرة في وجوب الإيماء بالرأس أو العينين عن ظاهرها من الوجوب العيني ، فالأقرب حمله على الاستحباب ، ولكن لا ينبغي ترك الاحتياط بالجمع لدى الإمكان ، والإتيان به لدى تعذّر الإيماء والتغميض ، بل لا يبعد الالتزام بوجوبه حينئذ ، كما حكي (١) قولا في المسألة ، بل ربما استظهر ذلك من رواية عليّ بن جعفر ، المتقدّمة (٢) ، كما تقدّمت الإشارة إليه ، والله العالم.

واستدلّ للتخيير أيضا مع أفضليّة الوضع : بخبر الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن المريض إذا لم يستطع القيام والسجود ، قال : «يومئ برأسه إيماء ، وإن يضع جبهته على الأرض أحبّ إليّ» (٣).

وصحيحة زرارة ـ المرويّة عن التهذيب ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال :سألته عن المريض ، فقال : «يسجد على الأرض أو على المروحة أو على سواك يرفعه إليه وهو أفضل من الإيماء ، إنّما كره السجود على المروحة من أجل الأوثان التي كانت تعبد من دون الله ، وإنّا لم نعبد غير الله قطّ ،

__________________

(١) الحاكي هو العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٣٣٣ ، وراجع : الذكرى ٣ : ٢٧٢ ، وجامع المقاصد ٢ : ٣٠٤ ، وروض الجنان ٢ : ٦٧١ ، ومسالك الافهام ١ : ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٢) في ص ٧٣ ـ ٧٤.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٦١ ، الهامش (٥).

٧٧

فاسجدوا على المروحة وعلى السواك وعلى عود» (١).

وعن الفقيه نحوها ، إلّا أنّه قال : سألته عن المريض كيف يسجد؟فقال : «على خمرة أو على مروحة أو على سواك» (٢) وذكر بقيّة الحديث نحوها.

وفيه : أنّ الكلام إنّما هو في الاكتفاء بوضع شي‌ء على الجبهة بدلا عن السجود من غير انحناء ولا إيماء ، وهذا أجنبيّ عن مفاد الخبرين ؛ فإنّ مفادهما أفضليّة وضع الجبهة على الأرض من الإيماء ، وهذا ممّا لا كلام فيه ، بل لا خلاف على الظاهر في وجوبه مطلقا ولو برفع ما يصحّ السجود عليه حتى بآلة ، كيده أو يد غيره ، فإنّه ميسور السجود الذي لا يسقط بمعسوره ، كما يدلّ عليه ـ مضافا إلى ذلك ـ خبر إبراهيم بن [أبي] (٣) زياد الكرخي ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل شيخ كبير لا يستطيع القيام إلى الخلاء ولا يمكنه الركوع والسجود ، فقال : «يومئ برأسه إيماء ، وإن كان له من يرفع الخمرة فليسجد ، فإن لم يمكنه ذلك فليؤم برأسه نحو القبلة إيماء» (٤) وخبر أبي بصير ، قال : سألته عن المريض هل تمسك له المرأة شيئا يسجد عليه؟ فقال : «لا ، إلّا أن يكون مضطرّا ليس عنده غيرها ، وليس شي‌ء ممّا حرّم الله إلّا وقد أحلّه لمن اضطرّ إليه» (٥) فإنّه كسابقه يدلّ على عدم سقوط السجود ما دام متمكّنا من وضع الجبهة على الشي‌ء الذي

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣١١ / ١٢٦٤ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب ما يسجد عليه ، ذيل ح ١ و ٢.

(٢) الفقيه ١ : ٢٣٦ / ١٠٣٩ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب ما يسجد عليه ، ح ١ و ٢.

(٣) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٤) تقدّم تخريجه في ص ٦١ ، الهامش (٤).

(٥) التهذيب ٣ : ١٧٧ / ٣٩٧ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب القيام ، ح ٧.

٧٨

يسجد عليه ولو برفعه بيد الغير.

وما فيه من النهي عن إمساك المرأة له مع وجود غيرها يمكن أن يكون على جهة الكراهة ، ونزّله بعض (١) على ما لو كانت المرأة أجنبيّة.

وكيف كان فما ربما يتراءى من الخبرين المتقدّمين (٢) من حيث وقوع التعبير فيهما بالأحبّيّة والأفضليّة من جواز الإيماء لدى التمكّن من أن يضع جبهته على الأرض ـ كما في الخبر الأوّل ـ أو يسجد ـ كما في الخبر الثاني ـ يجب حمله على ما لا ينافي غيره ممّا ذكر.

وربما جعله بعض (٣) من قبيل قول القائل : «السيف أمضى من العصا».

والأولى إبقاؤهما على ظاهرهما من الأفضليّة ، وتنزيلهما على المريض الذي يشقّ عليه السجود عادة ، كما لعلّه هو الذي ينسبق إلى الذهن إرادته من كلام السائل حيث سأله عن المريض الذي لا يستطيع القيام والسجود ؛ إذ المتبادر منه إرادة عدم استطاعته عادة لا عقلا ، فأريد بقوله عليه‌السلام في جوابه : «وإن يضع جبهته على الأرض أحبّ إليّ» بيان أنّه لو تحمّل المشقّة وسجد على الأرض لكان أفضل من الإيماء ، كما هو الشأن في سائر الموارد التي انتفي فيه التكليف أو تبدّل بغيره بواسطة الأدلّة النافية للحرج على ما حقّقناه في مبحث التيمّم ، والله العالم.

فتلخّص لك أنّ الأقوى عدم جواز الاجتزاء بمجرّد وضع شي‌ء على الجبهة من غير انحناء ولا إيماء ، وأمّا مع التمكّن من الانحناء بقدر ما يضع

__________________

(١) السيّد الشفتي في مطالع الأنوار ٢ : ٢٧.

(٢) في ص ٧٧.

(٣) البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٨٣.

٧٩

جبهته على شي‌ء ولو برفعه وجب عليه ذلك ، ولا يشرع له الإيماء حينئذ ، بل يجب عليه حينئذ رعاية سائر ما يعتبر في السجود من وضع باقي المساجد على الأرض مع الإمكان ، وهذا بخلاف ما لو كان تكليفه الإيماء وإن كان أحوط ؛ لإطلاق الأخبار الآمرة بالإيماء ، بل ظهورها في إرادته من حيث هو بدلا عن السجود من غير تقييده بهذه القيود ، كما لا يخفى.

وأمّا لو تمكّن من الاعتماد عليه عند رفعه من غير انحناء بحيث صدق عليه ميسور السجود وسمّي وضع الجبهة على الأرض ، ففي وجوبه وتقدّمه على الإيماء تأمّل.

ولكن ربما يظهر من بعض (١) عدم الخلاف فيه ؛ فإن تحقّق الإجماع فهو ، وإلّا فلا يخلو عن إشكال.

والأحوط : الإتيان به من غير أن يقصد البدليّة عن السجود بخصوص الوضع أو بالإيماء الذي يتحقّق به الوضع والاعتماد ، بل يقصد الخروج عمّا هو تكليفه في الواقع بمجموع هذا الفعل على سبيل الاحتياط ، والله العالم.

(ومن عجز في أثناء الصلاة عن حالة) من قيام أو جلوس أو اضطجاع (انتقل إلى ما دونها مستمرّا) على صلاته (كالقائم يعجز فيقعد ، أو القاعد يعجز فيضطجع ، أو المضطجع يعجز فيستلقي) ويمضي في صلاته ولا يستأنفها (وكذا) فيما لو كان الأمر (بالعكس) بأن وجد العاجز خفّة في الأثناء ، فينتقل إلى الحالة العليا المستطاعة من غير استئناف بلا نقل خلاف صريح في شي‌ء منهما عن أحد منّا.

نعم ، حكي عن بعض العامّة (٢) القول بأنّه يستأنف ، ولا يجتزئ

__________________

(١) راجع : مطالع الأنوار ٢ : ٢٧.

(٢) هو محمّد بن الحسن الشيباني ، راجع تحفة الفقهاء ١ : ١٩٣ ، وبدائع الصنائع ١ :

٨٠