مصباح الفقيه - ج ١٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: برگ طوبى
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٣

تقدّم أنّها بنفسها غير مبطلة ، ولكنّه لا اعتداد بالأفعال المأتيّ بها مع هذه النيّة ، بل عليه تداركها مع الإمكان ، كما تقدّمت الإشارة إليه آنفا.

وإن نوى به الإتيان بذلك الجزء الذي محلّها بعد الفاتحة من باب المسامحة وعدم الاعتناء بالاختلاف الناشئ من هذا النحو من التغيير ، فيندرج في موضوع مسألتنا ، ويتحقّق به عنوان التشريع ، ولا يكون فعله منافيا لبقاء عزمه على أداء الصلاة ، فلا مقتضي حينئذ لاستئناف القراءة ، فليتأمّل.

تنبيه : حكي عن الذكرى أنّه بعد أن حكم بالبطلان في صورة العمد قال : لو لم تجب السورة لم يضرّ التقديم على الأقرب ؛ لأنّه أتى بالواجب ، وما سبق قرآن لا يبطل الصلاة. نعم ، لا يحصل له ثواب قراءة السورة بعد الحمد ، ولا يكون مؤدّيا للمستحبّ (١). انتهى.

واعترض عليه بعدم الفرق بين القول بوجوب السورة أو استحبابها في حصول الزيادة العمديّة التشريعيّة لو قدّمها بنيّة الجزئيّة ، كما هو مناط البطلان لدى القائلين به.

ويمكن دفعه بمنع حصول الزيادة على تقدير الاستحباب ؛ لما أشرنا إليه من أنّ العامد العالم بمخالفة تقديم السورة على الحمد للمشروع لا يتأتّى منه قصد كون السورة التي قدّمها على الحمد جزءا من صلاته التي قصد بها التقرّب إلّا بعد بنائه مسامحة على جواز تقديمها ببعض القياسات والمناسبات التي لا يلتفت إليها شرعا وعرفا لو لا المسامحة ، فلو بنينا على استحباب السورة ، يكون حالها في الواقع كذلك ؛ فإنّ مطلوبيّتها بعد الحمد

__________________

(١) الذكرى ٣ : ٣١٠ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ٩ : ٣٤٠.

٢٠١

ليس إلّا بعنوان كونها شيئا من القرآن ، وهي بهذا العنوان مطلوبة في الصلاة مطلقا ؛ لاستفاضة النصوص على مشروعيّة مطلق القراءة والذكر والدعاء في الصلاة ، وظهور بعض أدلّتها في صيرورتها من أجزائها المستحبّة ، لا مستحبّا خارجيّا واقعا في أثنائها ، فيكون مطلوبيّة مقدار خاصّ منها ـ أي قراءة سورة كاملة بعد الحمد ـ من باب الأولويّة والفضل ، فلو قدّمها ولو بقصد الجزئيّة لا يتحقّق به زيادة ولا تشريع ، ولكن لا يحصل به ثواب قراءة السورة بعد الحمد ، ولا يكون مؤدّيا لهذا المستحبّ.

ولو سلّمنا حصول الزيادة المبطلة فإنّما هي لو أعادها أو غيرها بعد الحمد ؛ إذ لو اكتفى بما قرأه قبل الحمد ، لا يتحقّق عنوان الزيادة عرفا ، وحيث لا يتعيّن عليه القراءة بعد الحمد على القول بالاستحباب لا يلزم من تقديمه للسورة بطلان صلاته ، حيث يجوز له تركها بعد الحمد ، بل يجب بناء على حصول الزيادة المبطلة بإعادتها ، وكلام الشهيد منزّل على صورة الاكتفاء بما قرأه أوّلا ، كما يشهد له حكمه بعدم استحقاقه أجر قراءة السورة بعد الحمد.

وأمّا على القول بالوجوب حيث يدور أمره بين الإخلال بترك جزء أو الزيادة العمديّة لا يعقل بقاؤها بصفة المطلوبيّة كي يوصف بالصحّة ، فليتأمّل.

(ولا يجوز أن يقرأ في الفرائض شيئا من سور العزائم) على المشهور بين أصحابنا ، بل عن جملة من الأصحاب دعوى إجماعنا عليه (١) ، ولم ينقل الخلاف فيه من أحد من القدماء إلّا من الإسكافي ، وتبعه بعض

__________________

(١) الانتصار : ٤٣ ، الخلاف ١ : ٤٢٦ ، المسألة ١٧٤ ، الغنية : ٧٨ ، نهاية الإحكام ١ : ٤٦٦ ، وحكاه عنها البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ١٥٢.

٢٠٢

متأخّري المتأخّرين (١) ، مع أنّ عبارة الإسكافي المحكيّة عنه غير صريحة في ذلك ، فإنّه قال : لو قرأ سورة من العزائم في النافلة سجد ، وإن كان في فريضة أومأ ، فإذا فرغ قرأها وسجد (٢). فيحتمل الحمل على صورة السهو أو التقيّة الداعية لقراءتها أحيانا.

مضافا إلى ما عن الروض من احتمال أن يريد بالإيماء ترك قراءة آية السجدة بقرينة قوله : فإذا فرغ قرأها وسجد (٣) ، كما يناسب مذهب الإسكافي من جواز تبعيض السورة (٤).

هذا ، ولكن لا يخفى ما في هذا الاحتمال من البعد.

وكيف كان فيدلّ على المشهور ـ مضافا إلى الإجماعات المستفيضة المعتضدة بالشهرة ـ خبر زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «لا تقرأ في المكتوبة بشي‌ء من العزائم فإنّ السجود زيادة في المكتوبة» (٥).

وموثّقة سماعة قال : «من قرأ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فإذا ختمها فليسجد ، فإذا قام فليقرأ فاتحة الكتاب وليركع» وقال : «إذا ابتليت بها مع إمام لا يسجد فيجزئك الإيماء والركوع ، ولا تقرأ في الفريضة ، واقرأ في التطوّع» (٦).

__________________

(١) راجع الهامش (١) من ص ٢٠٨.

(٢) حكاه عنه المحقّق الحلّي في المعتبر ٢ : ١٧٥.

(٣) روض الجنان ٢ : ٧٠٥ ، وحكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ٣٩٥.

(٤) راجع الهامش (٦) من ص ١٧٧.

(٥) الكافي ٣ : ٣١٨ / ٦ ، التهذيب ٢ : ٩٦ / ٣٦١ ، الوسائل ، الباب ٤٠ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ١.

(٦) التهذيب ٢ : ٢٩٢ / ١١٧٤ ، الاستبصار ١ : ٣٢٠ / ١١٩١ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٢ ، والباب ٤٠ من تلك الأبواب ، ح ٢.

٢٠٣

وموثّقة عمّار بن موسى عن أبي عبد الله عليه‌السلام : عن الرجل يقرأ في المكتوبة سورة فيها سجدة من العزائم ، فقال : «إذا بلغ موضع السجدة فلا يقرأها ، فإن أحبّ أن يرجع فيقرأ سورة غيرها ويدع التي فيها السجدة فيرجع إلى غيرها» وعن الرجل يصلّي مع قوم لا يقتدى بهم فيصلّي لنفسه وربما قرأوا آية من العزيمة فلا يسجدون فيها فكيف يصنع؟ قال :«لا يسجد» (١).

وظاهرها جواز التبعيض ، ولكن يشكل الالتزام به ؛ لشذوذه ومعارضته بغيره ممّا عرفته في صدر المبحث.

وخبر عليّ بن جعفر ـ المرويّ عن كتابه وعن قرب الإسناد ـ أنّه سأل أخاه موسى عليه‌السلام : عن الرجل يقرأ في الفريضة سورة «والنجم» أيركع بها أو يسجد ثمّ يقوم فيقرأ بغيرها؟ قال : «يسجد ثمّ يقوم فيقرأ فاتحة الكتاب ويركع ، وذلك زيادة في الفريضة ، ولا يعود يقرأ في الفريضة بسجدة» (٢).

أقول : سوق السؤال في هذه الرواية يقضي بكون جواز قراءة العزائم في الصلاة لدى السائل من الأمور المسلّمة المفروغ عنها بحيث لم يكن يتوهّم المنع عن أصل القراءة في الفريضة ، فسأل عن أنّه عند قراءته (٣) سورة النجم ، التي تكون آية السجدة في آخرها وليس بعدها قراءة هل يترك سجدة العزيمة ويركع عن هذه القراءة ، أم يسجد للعزيمة ثمّ يقوم فيقرأ غيرها ويركع؟ فأجابه الإمام عليه‌السلام أوّلا عمّا كان محطّ نظره في السؤال

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٩٣ / ١١٧٧ ، الوسائل ، الباب ٤٠ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٣ ، والباب ٣٨ من تلك الأبواب ، ح ٢.

(٢) مسائل عليّ بن جعفر : ١٨٥ / ٣٦٦ ، قرب الإسناد : ٢٠٢ / ٧٧٦ ، الوسائل ، الباب ٤٠ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٤.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «قراءتها». والمثبت هو الصحيح.

٢٠٤

من بيان ما هو وظيفته عند قراءة العزيمة في الصلاة التي تجوز قراءتها فيها ، ثمّ نبّهه على أنّ خصوص المورد ليس ممّا يجوز فيه ذلك ؛ لأنّ ذلك زيادة في الفريضة ، فلا يعود يقرأ فيها بسجدة.

وربما يستدلّ بهذه الرواية للكراهة ؛ حيث يظهر من صدرها جوازه ، فيحمل ما في ذيلها من النهي عنه في الفريضة على الكراهة ، كما ربما يؤيّده النهي عن العود من غير أن يأمره بإعادة ما مضى.

وفيه : أنّه لا يبقى للصدر ظهور في الجواز بعد أن صرّح في الذيل بأنّ ذلك زيادة في الفريضة ، ونهاه عن أن يعود ، وعدم أمره بإعادة ما مضى لعلّه لكون السؤال مبنيّا على الفرض ، أو للاكتفاء بما بيّنوه على سبيل الكلّيّة وضرب القاعدة من أنّ «من زاد في صلاته فعليه الإعادة» (١) أو لكون الجاهل معذورا ، أو غير ذلك من الوجوه المقتضية للإهمال.

واستدلّوا أيضا للمدّعى : بأنّ ذلك ـ أي قراءة العزيمة في الفريضة ـ مستلزم للمحرّم ، ومستلزم المحرّم محرّم.

أمّا الصغرى : فلأنّه لا يخلو إمّا أن يسجد في أثناء الصلاة ، فيلزم زيادة السجدة في أثنائها عمدا ، أم لا بل يؤخّرها إلى أن يفرغ من الصلاة ، فيلزم الإخلال بالواجب الفوري.

وأمّا الكبرى : فظاهرة.

واعترض (٢) عليه : بابتنائه على حرمة زيادة السجدة في الصلاة مطلقا وإن لم يكن لأجل الصلاة ، وعلى كون الوجوب للسجدة فوريّا بحيث ينافيه التأخير إلى أن يفرغ من الصلاة. وهما ممنوعان.

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٨ ، الهامش (٣).

(٢) كما في مطالع الأنوار ٢ : ٤٤.

٢٠٥

وأجيب (١) عن ذلك : بفساد المنع المزبور ؛ فإنّ تعليله عليه‌السلام المنع من القراءة بقوله عليه‌السلام : «فإنّ السجود زيادة في المكتوبة» يكفي لإثبات المقدّمتين الممنوعتين ؛ إذ لو لم تكن زيادة السجدة مطلقا محرّمة لما استقام التعليل ، وكذلك الحال بالنسبة إلى الفوريّة.

وفيه : أنّ هذا خروج عن الاستدلال بهذا الدليل ؛ إذ الاستدلال بكلّ دليل مبنيّ على الإغماض عمّا عداه من الأدلّة التي قد لا يلتزم بمفادها الخصم ، أو يلتزم به لمحض التعبّد ، أو على ضرب من التأويل ، كما هو الشأن في باب المناظرة.

ويتوجّه على الدليل المزبور أيضا : منع كون قراءة العزيمة مستلزمة للمحرّم ؛ لأنّ السجدة إمّا تجب فورا بقراءتها مطلقا حتى في أثناء الصلاة أم لا ، فعلى الأوّل لا حرمة في زيادتها ، بل تجب ، وعلى الثاني يجوز تأخيرها ، فهي غير مستلزمة للمحرّم.

نعم ، هي سبب لأمر الشارع إمّا بزيادة السجدة التي لو لا هذا السبب لكانت محرّمة ، أو بتأخير السجدة التي لو لا أنّها في الصلاة لوجبت فورا ، وليس للعقل استقلال بقبح مثل هذا السبب أو حرمته.

وما يقال من أنّ التسبيب إلى مزاحمة المضيّقين الموجب لسقوط أحدهما ولو كان بأمر الشارع بمنزلة ترك الساقط اختيارا ، لا يخلو عن تأمّل.

نعم ، قضيّة التعبّد بظواهر الأخبار الناهية عنه المعلّلة بأنّ السجود زيادة في المكتوبة : هي الالتزام بحرمته إن لم نقل بظهور مثل هذه النواهي

__________________

(١) المجيب هو السيّد الشفتي في مطالع الأنوار ٢ : ٤٤.

٢٠٦

في كونها مسوقة لبيان مجرّد الحكم الوضعي ، أعني بطلان الصلاة بزيادة السجدة التي تجب بقراءة العزائم كما لا يخلو عن وجه وإن كان الأوجه دلالتها على الحكم التكليفي أيضا.

وأوضح منها دلالة على ذلك ما لم يشتمل منها على التعليل المزبور ، كموثّقتي سماعة وعمّار ، المتقدّمتين (١) ، كما لا يخفى.

فالأظهر ما هو المشهور من حرمة قراءة العزائم في الصلاة.

خلافا لما يظهر من المدارك من الميل بل القول بالجواز ؛ فإنّه ـ بعد أن نقل استدلال المشهور بالدليل العقلي المزبور ، وناقش فيه ببعض المناقشات المزبورة ، واستدلّ لهم برواية زرارة ، المتقدّمة (٢) ، وناقش فيها بضعف السند ـ قال : وبإزائها أخبار كثيرة دالّة على الجواز. ثمّ ذكر جملة من الأخبار الآتية التي يظهر منها الجواز ، إلى أن قال : ويمكن الجمع بينها وبين رواية زرارة ، المتقدّمة بحملها على الكراهة ، كما يشهد به رواية عليّ ابن جعفر أنّه سأل أخاه موسى عليه‌السلام : عن الرجل يقرأ في الفريضة سورة «والنجم» وساق الحديث كما قدّمنا (٣) نقله ، ثمّ قال : والحقّ أنّ الرواية الواردة بالمنع ضعيفة جدّا ، فلا يمكن التعلّق بها ، فإن ثبت بطلان الصلاة بوقوع هذه السجدة في أثنائها ، وجب القول بالمنع من قراءة ما يوجبه من هذه السور ، ويلزم منه المنع من قراءة السورة كلّها إن أوجبنا قراءة سورة بعد الحمد وحرّمنا الزيادة ، أي على سورة ، وإن أجزنا أحدهما اختصّ المنع بقراءة ما يوجب السجود خاصّة ، وإن لم يثبت بطلان الصلاة بذلك

__________________

(١) في ص ٢٠٣ و ٢٠٤.

(٢) في ص ٢٠٣.

(٣) في ص ٢٠٤.

٢٠٧

ـ كما هو الظاهر ـ اتّجه القول بالجواز مطلقا ، وتخرج الأخبار الواردة بذلك شاهدة (١). انتهى.

أقول : أمّا الاستشهاد بخبر عليّ بن جعفر للجمع بين الأخبار بحمل النهي على الكراهة : ففيه ما عرفته آنفا من ظهور هذه الرواية بنفسها في الحرمة.

وأمّا المناقشة في الرواية الواردة في المنع بضعف السند : فهي وإن كانت وجيهة لديه حيث لا يجوّز العمل إلّا بالروايات الصحيحة المصطلحة ، ولكن لدينا ضعيفة جدّا ؛ لانجبار ضعفه لو كان بالإجماعات المستفيضة التي كادت تكون متواترة ، المعتضدة بالشهرة وشذوذ المخالف.

هذا ، مع استفاضة أخبار المنع واعتضاد بعضها ببعض ، مع كون بعضها بنفسها موثّقة.

وأمّا الأخبار المعارضة لها التي يستظهر منها الجواز : فمنها : حسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سئل عن الرجل يقرأ السجدة في آخر السورة ، قال : «يسجد ثمّ يقوم فيقرأ فاتحة الكتاب ثمّ يركع ويسجد» (٢).

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يقرأ السجدة فينساها حتى يركع ويسجد ، قال : «يسجد إذا ذكر إذا كانت من العزائم» (٣).

وخبر وهب بن وهب عن أبي عبد الله عن أبيه عن عليّ عليهم‌السلام قال :

__________________

(١) مدارك الأحكام ٣ : ٣٥١ ـ ٣٥٣.

(٢) الكافي ٣ : ٣١٨ / ٥ ، التهذيب ٢ : ٢٩١ / ١١٦٧ ، الاستبصار ١ : ٣١٩ / ١١٨٩ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ١.

(٣) التهذيب ٢ ٢٩٢ ـ ٢٩٣ / ١١٧٦ ، الوسائل ، الباب ٣٩ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ١.

٢٠٨

«إذا كان آخر السورة السجدة أجزأك أن تركع بها» (١).

أقول : قضيّة الجمع بين هذه الروايات وبين الأخبار المتقدّمة التي ورد فيها النهي عن قراءتها في الفريضة دون النافلة : حمل هذه الأخبار على النافلة.

هذا ، مع أنّ هذه الروايات ليست مسوقة لبيان أصل الجواز كي يفهم منها ذلك في جميع الصلوات على الإطلاق ، بل هي مسوقة لبيان حكم آخر ، فلا يصحّ التعلّق بها لإثبات الجواز في الفرائض ، إلّا أن يدّعى أنّ المتبادر إلى الذهن من الروايات الواردة فيما يتعلّق بالصلاة إرادة الفرائض ، فليتأمّل.

ومنها : خبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إن صلّيت مع قوم فقرأ الإمام (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) أو شيئا من العزائم وفرغ من قراءته ولم يسجد فأوم إيماء ، والحائض تسجد إذا سمعت السجدة» (٢).

أقول : المراد بالإمام في هذه الرواية إمام المخالف ، فلا تدلّ على جوازه كي يعارض الأخبار المتقدّمة ، بل في بعض تلك الأخبار التنبيه على الحكم المذكور في هذه الرواية.

وصحيحة عليّ بن جعفر ـ المرويّة عن التهذيب ـ عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن إمام قوم (٣) قرأ السجدة فأحدث قبل أن يسجد كيف يصنع؟ قال : «يقدّم غيره فيتشهّد ويسجد وينصرف هو وقد تمّت

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٩٢ / ١١٧٣ ، الاستبصار ١ : ٣١٩ / ١١٩٠ ، الوسائل ، الباب ٣٧ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٣.

(٢) الكافي ٣ : ٣١٨ / ٤ ، التهذيب ٢ : ٢٩١ / ١١٦٨ ، الاستبصار ١ : ٣٢٠ / ١١٩٢ ، الوسائل ، الباب ٣٨ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ١.

(٣) كلمة «قوم» لم ترد في المصدر ، وهي موجودة في الحدائق الناضرة ٨ : ١٥٣.

٢٠٩

صلاتهم» (١).

وعن قرب الإسناد نحوه ، إلّا أنّه قال : «يقدّم غيره فيسجد ويسجدون وينصرف وقد تمّت صلاتهم» (٢).

وهذه الصحيحة ظاهرة في الفريضة ، وحملها على النافلة بعيد في الغاية ؛ لعدم جواز الجماعة فيها إلّا في مواضع نادرة.

وقد يجاب عنها بالحمل على النسيان.

وفيه ما لا يخفى من البعد.

والأولى حملها على التقيّة ، كما أنّ المتّجه حمل سائر الأخبار أيضا عليها لو انحصر المحمل بها ؛ إذ الجواز مذهب جمهور أهل الخلاف على ما نقل عنهم (٣) ، فلا تصلح الأخبار الدالّة عليه معارضة للروايات الدالّة على المنع ، وتقديم الجمع على الطرح بحمل أخبار المنع على الكراهة لا يخلو عن إشكال ؛ فإنّ ما فيها من التعليل بأنّ السجود زيادة في المكتوبة قد يأبى عن هذا الحمل ، خصوصا مع مخالفته للمشهور أو المجمع عليه ، والله العالم.

ثمّ إنّا قد أشرنا آنفا إلى أنّ المتبادر من الأخبار الناهية عن قراءة العزائم كغيرها من النواهي المتعلّقة بكيفيّات العبادة : إرادة الحكم الوضعي ، أي مانعيّة ما تعلّق به النهي أو شرطيّة عدمه ، لا محض الحكم التكليفي ، ولكن مفادها بمقتضى ما فيها من التعليل بأنّ السجود زيادة في المكتوبة :

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٩٣ / ١١٧٨ ، الوسائل ، الباب ٤٢ من أبواب قراءة القرآن ، ح ٤.

(٢) قرب الإسناد : ٢٠٥ / ٧٩٥ ، الوسائل ، الباب ٤٠ من أبواب القراءة في الصلاة ، ح ٥.

(٣) نقله عنهم الشيخ الطوسي في الخلاف ١ : ٤٢٦ ، المسألة ١٧٤ ، وكذا العلّامة الحلّي في تذكرة الفقهاء ٣ : ١٤٦ ، المسألة ٢٣١.

٢١٠

أنّ مانعيّتها عن صحّة الصلاة بلحاظ ما توجبه من فعل السجدة في أثناء الفريضة ، لا من حيث هي ، فالمنافي لفعل الصلاة هي السجدة التي تجب بقراءتها ، ولكن النهي تعلّق بقراءتها من حيث كونها موجبة للسجدة ، فالمقصود بالنهي على حسب ما يقتضيه ظاهر التعليل أوّلا وبالذات هو آية السجدة ، كما هو صريح موثّقة عمّار ، المتقدّمة (١) ، لا مجموع السورة ، ولكن بناء على وجوب قراءة سورة كاملة وحرمة القران وحصوله بقراءة سورة وبعض من أخرى حرم قراءة المجموع ، كما نبّه عليه في المدارك (٢) ، وحيث لم نقل بحرمة القران ولا بحصوله بما ذكر فالمتّجه عدم حرمة ما عدا آية السجدة ، كما يؤيّده بل يشهد له الموثّقة المزبورة (٣).

ولا ينافيه ظهورها في جواز التبعيض ؛ فإنّ رفع اليد عن ظاهر فقرة من الرواية لابتلائها بمعارض ونحوه لا يسقطها عن الاعتبار بالنسبة إلى سائر فقراتها.

فما عن بعض (٤) من القول بحرمة الجميع وبطلان الصلاة بمجرّد الشروع ضعيف.

اللهمّ إلّا أن ينزّل كلامه على صورة العزم على قراءة المجموع بعنوان الجزئيّة وامتثال الأمر بقراءة سورة كاملة ، فيحرم جميعها حينئذ من حيث التشريع ، وتبطل الصلاة بمجرّد الشروع ؛ بناء على بطلان الصلاة بمطلق الكلام المحرّم أو الزيادة التشريعيّة الحاصلة في مثل الفرض.

__________________

(١) في ص ٢٠٤.

(٢) مدارك الأحكام ٣ : ٣٥٢.

(٣) في ص ٢٠٤.

(٤) الشهيد الثاني في مسالك الافهام ١ : ٢٠٦ ، وروض الجنان ٢ : ٧٠٦ ، والحاكي عنه هو العاملي في مدارك الأحكام ٣ : ٣٥٣.

٢١١

ولكنّك عرفت مرارا ضعف كلّ من البناءين ، فالأقوى اختصاص المنع بقراءة آية السجدة لا غير.

وهل تبطل الصلاة بقراءتها من حيث هي ، أم لا تبطل إلّا بفعل السجدة ، فلو تركها عصيانا وقرأ سورة أخرى ومضى في صلاته صحّت صلاته؟ وجهان : من ظهور الرواية المعلّلة في أنّ المنافي لفعل الصلاة إنّما هي زيادة السجدة المتوقّفة على فعلها لا القراءة من حيث هي ، ومن أنّ الأمر بإيجاد السجدة المنافية لفعل الصلاة مرجعه إلى الأمر بإبطال الصلاة بفعل المنافي ، ولا يعقل معه بقاء الأمر بالمضيّ في صلاته ، كما هو لازم عدم البطلان ؛ لرجوعه إلى المناقضة ، ومن هنا حكموا ببطلان صلاة من وجب عليه إخراج ما يدافعه من الأحداث عند تضرّره بإمساكها ، فلا يتوقّف ما ذكر على ادّعاء أنّ الأمر بالسجدة يستلزم النهي عن ضدّها كي يناقش بالمنع ، ولا على أنّ الأمر بشي‌ء مانع عن طلب ضدّه كي يقال بأنّ هذا فيما إذا كان الطلب المتعلّق بكلّ منهما مطلقا ، وأمّا إذا كان أحدهما مشروطا بعدم الخروج عن عهدة التكليف بالآخر فلا ، كما تقدّم توضيحه في مبحث التيمّم (١) ؛ لما أشرنا إليه من أنّ الأمر بإيجاد المنافي في الحقيقة أمر بالإبطال ، وهو يناقض الأمر بالمضيّ.

هذا ، ولكنّ الحقّ أنّ إرجاع الأمر بالسجدة بل وكذا التكلّم والحدث وغيرها من الأفعال المنافية للصلاة إذا كان الأمر متعلّقا بها من حيث هي لا من حيث مبطليّتها للصلاة إلى الأمر بإبطالها الذي يناقضه الأمر بالمضيّ مغالطة ، ولكن ما أشرنا إليه من إمكان مطلوبيّة المضيّ في الصلاة على سبيل

__________________

(١) راجع : ج ٦ ، ص ١٦٠ ـ ١٦١.

٢١٢

الترتّب ـ أي مشروطا بكونه تاركا للسجدة الواجبة عليه منجّزا ـ لا يجدي في الحكم بصحّة صلاته على تقدير ترك السجدة والمضيّ فيها ؛ إذ المتبادر عرفا من الأمر بإيجاد المبطل ـ كما هو ظاهر أخبار الباب بحسب مدلولها الالتزامي ـ أنّ الشارع لم يرد المضيّ في هذه الصلاة ، بل أوجب نقضها بهذا الشي‌ء ، فيخصّص بهذه الأخبار عموم ما دلّ على وجوب المضيّ أو جوازه ، ولا يبقى معه طلب تقديريّ مصحّح لصلاته على تقدير المضيّ.

نعم ، ما ذكر إنّما يجدي فيما لو كان الحاكم بالتخصيص العقل من باب مزاحمته لواجب أهمّ ؛ حيث إنّ العقل لا يستقلّ بعدم مطلوبيّة غير الأهمّ إلّا على تقدير عدم القدرة عليه من حيث اشتغاله بضدّه الأهمّ لا مطلقا ، بخلاف ما لو كان التخصيص مستفادا من دليل لفظيّ ، كما في المقام ، فليتأمّل.

ولو تعذّر عليه السجدة لمرض أو تقيّة ونحوها وقلنا بأنّه يجوز له في مثل الفرض قراءة العزيمة اختيارا في غير حال الصلاة وفي النوافل هل له أن يقرأها في الفريضة؟ فيه تردّد : من إطلاق النهي عن قراءتها في النصوص والفتاوى ومعاقد الإجماعات المحكيّة على الحرمة ، ومن اقتضاء التعليل الوارد في الأخبار من أنّ السجود زيادة في المكتوبة : قصر الحكم على مورد العلّة ، وهو ما إذا كانت قراءتها موجبة للسجدة التي تتحقّق بها الزيادة في المكتوبة لا مطلقا. وهذا الوجه هو الأقوى ، إلّا أنّ المبنى ـ أعني جواز قراءتها اختيارا مع العلم بعدم التمكّن من سجدتها ـ لا يخلو عن إشكال ، فليتأمّل.

ودعوى أنّه عند تعذّر السجود يجب الإيماء بدلا عنه ، فهو بحكم مبدله في كونه زيادة في المكتوبة ، قابلة للمنع ؛ إذ لو سلّم صغراه ـ أعني

٢١٣

وجوب الإيماء بدلا عنه ، كما ربما يشهد له في الجملة بعض الأخبار الآتية ـ فلا نسلّم كبراه ، أعني كونه زيادة في المكتوبة ، وإنّما اعترفنا بذلك في مبدله من باب التعبّد والالتزام بالأخبار الدالّة عليه الكاشفة عن أنّ العبرة في زيادة السجدة في الصلاة لدى الشارع بحصول هذه الماهيّة التي جعلها الشارع جزءا منها زائدا عمّا اعتبره فيها وإن لم يكن مأتيّا بها بقصد جزئيّتها للصلاة ، فلا يقاس عليها غيرها ممّا لم يدلّ عليه دليل شرعيّ ، خصوصا في مثل الإيماء الغير المجانس لسائر أجزاء صلاته ؛ إذ مع المجانسة ـ كما في السجدة وأشباهها ـ قد لا يأبى العرف عن إطلاق اسم الزيادة ؛ نظرا إلى مجرّد الصورة ، والإغماض عن أنّ القصد من مقوّمات ماهيّتها ، وهذا بخلاف غير المجانس ، كما ربما يشهد له ـ مضافا إلى ذلك ـ بعض الأخبار الآتية التي وقع فيها الأمر بالإيماء بدلا عن السجدة في أثناء الفريضة ، والله العالم.

وكيف كان فلو جوّزنا قراءتها في الفريضة في مثل الفرض ، ففي الاجتزاء بها عن السورة الواجبة في الصلاة إشكال ؛ فإنّ ما دلّ على وجوب قراءة سورة كاملة قد تخصّص بالأخبار الناهية عن قراءة العزيمة ، واختصاص حرمتها بصورة التمكّن من السجدة غير مجد في صحّتها في غير تلك الحالة فإنّ كونها محرّمة أو غير محرّمة من أحوال الفرد المخرج ، ولا يتعدّد به أفراد العامّ ، فلا يبقى للأدلّة الدالّة على قراءة سورة كاملة بعد ورود التخصيص عليها بالأخبار الناهية عن قراءة العزيمة دلالة على إرادتها من تلك الأدلّة في غير حال حرمتها.

اللهمّ إلّا أن يدّعى استفادة الاجتزاء بها في غير الصورة التي تعلّق بها النهي من نفس الأخبار الناهية ؛ إذ المتبادر منها إرادة النهي عن قراءة

٢١٤

العزيمة في الصلاة على حسب ما يقرأ غيرها من السور القرآنيّة امتثالا للأمر بقراءة السورة ، وقضيّة قصر الحكم على مورد العلّة : جواز إيقاعها بهذا الوجه لو لم يستلزم زيادة في المكتوبة فتصحّ.

إن قلت : فالأخبار الناهية على هذا منصرفة عمّا لو قرأها لا بقصد جزئيّتها من الصلاة.

قلت : نعم ، ولكن يفهم حرمتها من العلّة المنصوصة ، كما يفهم منها حرمة استماعها ، مع أنّه خارج عن مورد النصّ.

هذا ، مع إمكان أن يقال : إنّ مفاد الأخبار الناهية بواسطة ما فيها من التعليل إنّما هو تقييد السورة التي تجب قراءتها في الفريضة بعدم كونها موجبة لزيادة السجدة ، كتقييدها بعدم كونها من حيث الطول مفوّتة للوقت ، لا إخراج ذوات هذه السور من حيث هي من عموم ما تجب قراءته في الصلاة كي يتوجّه عليه الإشكال المزبور ، فافهم.

وكيف كان فلا فرق على الظاهر بين قراءة آية السجدة واستماعها ، كما عن جماعة التصريح به (١) ؛ فإنّ استماعها أيضا كقراءتها موجب لزيادة السجدة في المكتوبة ، فلا يجوز كما لا تجوز قراءتها ؛ لعموم العلّة المنصوصة.

وهل تبطل الصلاة بمجرّد الاستماع ، أم لا تبطل إلّا بفعل ما يوجبه من السجدة؟ الوجهان المزبوران في قراءتها.

وحكي عن التذكرة أنّه قال : لو سمع في الفريضة فإن أوجبناه ـ أي السجود ـ أو استمع ، أومأ وقضى (٢). انتهى.

__________________

(١) راجع الهامش (١) من ص ٢١٦.

(٢) تذكرة الفقهاء ٣ : ١٤٧ ، الفرع «د» من المسألة ٢٣١ ، وحكاه عنها صاحب

٢١٥

وربما يستشعر من كلامه عدم حرمة الاستماع كالسماع.

ويحتمل رجوعه إلى ما حكي عن غير واحد من الفرق بين القراءة والاستماع في المبطليّة دون الحرمة ، فحكموا بحرمة القراءة وإبطالها للصلاة ، وحرمة الاستماع ولكنّه لا يسجد لها (١) ، بل يمضي في صلاته ، فكأنّ محطّ نظرهم في الفرق المزبور ما يظهر من بعضهم (٢) من التسالم على أنّ الكلام المحرّم مبطل للصلاة قرآنا كان أم غيره ، فمتى قرأ العزيمة بطلت صلاته ، وتنجّز التكليف بسجدتها فورا من غير أن يعارضه تكليف آخر ، وهذا بخلاف ما لو استمعها ؛ فإنّه وإن ارتكب الحرام ولكن لم تبطل صلاته ؛ إذ ليس كلّ محرّم مبطلا ما لم يكن كلاما ، فيدور أمره بعد الاستماع بين محذورين : إمّا إبطال الصلاة ، أو الإخلال بالواجب الفوريّ ، أي السجدة ، ورعاية الأوّل أولى لدى الشارع ، كما ينبئ عن ذلك بعض الأخبار الآمرة بالإيماء في أثناء الصلاة في بعض الفروع الآتية.

مضافا إلى أنّ المرجع بعد تزاحم الواجبين وتعارض دليليهما إلى استصحاب حرمة القطع ووجوب المضيّ ، وعلى تقدير الخدشة فيهما فالتخيير ، فلا يتعيّن عليه إبطال الصلاة وقطعها بسجدة العزيمة.

ولا ينافيه ظاهر الخبر (٣) الذي وقع فيه تعليل الحرمة بأنّ السجود زيادة في المكتوبة ، الذي هو عمدة مستند الحكم بحرمة الاستماع ؛ إذ لا يكاد يفهم من ذلك إلّا أنّ السجود في أثناء الفريضة مبطل لها ، فلا يجوز

__________________

ـ الجواهر فيها ٩ : ٣٤٥.

(١) نهاية الإحكام ١ : ٤٦٧ ، الروضة البهيّة ١ : ٦٠٧ ، وحكاه عنهما وعن شارح الروضة (المناهج السويّة ـ مخطوط) الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ٤٠٠.

(٢) الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ٤٠١.

(٣) تقدّم الخبر في ص ٢٠٣.

٢١٦

فعل موجبه ، وأمّا أنّه عند فعل ما يوجبه يتعيّن عليه السجود فلا يفهم من الخبر ؛ لإمكان أن يكون النهي عن موجبه لاستلزامه إمّا الإخلال بما يقتضيه الموجب ، أو إبطال الصلاة بفعل السجود ، فورود المحذور فعلا وتركا هو السبب للنهي ، لا أنّ السجود الزائد المبطل لمّا كان لازما بمجرّد تحقّق الموجب كان فعل الموجب حراما ؛ لكونه سببا لإبطال الصلاة كي يكون المحذور الموجب للنهي هو خصوص وجوب فعل السجود في الصلاة ، المستلزم لبطلانها بمقتضى التعليل.

هذا ، ولكنّ الإنصاف ظهور الأخبار بل صراحة بعضها ـ كخبر عليّ ابن جعفر (١) ، الذي وقع فيه السؤال عمّن قرأ سورة «والنجم» في الفريضة ـ في وجوب الإتيان بالسجود في الأثناء ، وأنّ ذلك زيادة في الفريضة ، فلا يقرأ العزيمة فيها كي يضطرّ إلى أن يزيد في الفريضة بالتسبيب ، بل هذا هو الذي ينسبق إلى الذهن من التعليل بأنّ السجود زيادة في المكتوبة ؛ حيث إنّ ظاهره أنّ زيادة السجدة التي تجب بقراءة العزيمة هي العلّة بذاتها للحرمة ، لا بما يلزمها من محذور آخر أعمّ ، أي لزوم مخالفة أحد التكليفين ، فالأقوى وجوب السجدة فورا عند إيجاد سببها من غير فرق بين القراءة والاستماع ، فتبطل الفريضة بها إن لم نقل بحصول البطلان بمجرّد التكليف بإيجاد المبطل ، كما لا يخلو عن وجه.

ولا يقاس ذلك بما لو تحقّق سببها من غير اختيار ، كما لو قرأها غفلة عن كونها عزيمة أو سمعها بلا قصد ، حيث لم ينقل القول ببطلان الصلاة به عن أحد وإن احتمله بعض (٢) ؛ إذ غاية ما يمكن استفادته من التعليل

__________________

(١) تقدّم خبره في ص ٢٠٤.

(٢) راجع : جواهر الكلام ٩ : ٣٤٥.

٢١٧

بالتقريب المزبور إنّما هو لزوم الإتيان بالسجدة التي تتحقّق بها الزيادة في المكتوبة عند الإتيان بموجبها اختيارا ، وأمّا أنّه متى تحقّق موجبه ولو من غير اختيار وجب العمل بما يقتضيه من فعل السجدة فورا ولو في أثناء الفريضة فلا يكاد يفهم من ذلك ؛ فإنّه إنّما استفدنا كون ما دلّ على فوريّة السجود مقدّما على حرمة القطع عند اختيار سببه بدلالة تبعيّة غير مقصودة بالخطاب ناشئة من جعل زيادتها من حيث هي علّة لتحريم موجبه ، لا المحذور المترتّب عليه فعلا وتركا ، فالموارد التي لا يصلح أن تكون زيادته موجبة لتحريم سببه لكونها خارجة عن اختيار المكلّف خارجة (١) عن مورد العلّة منطوقا ومفهوما ، فلا يمكن استفادة فوريّة السجدة فيها من ذلك إلّا بتنقيح المناط ، وهو غير منقّح.

ولو سلّم دلالته عليه ، فيرفع اليد عنه بالنسبة إلى ما لم يكن السبب اختياريّا بالنصوص الآتية الدالّة عليه في الجملة ، المتمّم بعدم القول بالفصل ، مضافا إلى عدم خلاف يعتدّ به فيه على الظاهر.

وكيف كان فالظاهر عدم الخلاف بين الأصحاب في أنّه لو قرأ العزيمة سهوا أو سمعها ، لم تبطل صلاته ، ولكنّهم اختلفوا بين قائل بتأخير السجود ، وقائل بأنّه يومئ في الأثناء بدلا عنه ، وقائل بأنّه يجمع بين الإيماء في الصلاة والسجود بعدها.

وعن كاشف الغطاء أنّه يسجد في الأثناء (٢) ، بناء منه على عدم بطلان الصلاة بسجدة العزيمة ؛ لمنع صدق الزيادة في الصلاة بالإتيان بفعل خارج

__________________

(١) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : «خارج». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) كشف الغطاء ٣ : ١٨١ ، وحكاه عنه الشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ١ : ٤٠٤.

٢١٨

مشابه للفعل الصلاتي من حيث الصورة ، بل مخالف له ، بناء على أنّه لا يعتبر في سجدة التلاوة تساوي موضع الجبهة والموقف وغيره ممّا اعتبر في سجدة الصلاة ، ولعموم بعض الروايات الدالّة على وجوب السجدة في أثناء الصلاة (١).

وفيه ما لا يخفى ؛ فإنّه اجتهاد في مقابلة النصّ المصرّح بأنّ السجود زيادة في المكتوبة (٢) ، وقد أشرنا في مقام توجيه الرواية إلى أنّه إذا تعذّر حملها على إرادة ظاهرها من كونه زيادة في الصلاة حقيقة بحسب ما يتفاهم عرفا من لفظ الزيادة ، وجب حملها على إرادة الزيادة الحكميّة ، أو إرادة كونه فعلا زائدا واقعا في أثناء الصلاة مخلّا بها.

وكيف كان فالتعبير الواقع في النصوص بأنّ السجود زيادة في الفريضة كالنصّ على كونه مخلّا ، خصوصا مع اعتضاده بفهم الأصحاب وفتواهم ، بل عن غير واحد (٣) دعوى الإجماع على بطلان الفريضة بسجدة العزيمة ، كما ربما يؤيّده أيضا بل يشهد له بعض الأخبار الآتية (٤) التي وقع فيها الأمر بالإيماء بدلا عن السجود إذا كان في الفريضة.

وأمّا بعض الروايات التي زعم دلالتها على وجوب السجدة في الأثناء : فالمراد بها ـ بحسب الظاهر ـ مثل صحيحة (٥) محمّد بن مسلم وغيرها ممّا عرفت في صدر المبحث من تعيّن حملها على النافلة أو التقيّة ،

__________________

(١) راجع : الهامش (٣) من ص ٢٠٨.

(٢) راجع : الهامش (٥) من ص ٢٠٣.

(٣) كالسيوري في التنقيح الرائع ١ : ١٩٩ ، والحاكي عنه هو الطباطبائي في رياض المسائل ٣ : ١٥٦.

(٤) في ص ٢٢٠.

(٥) تقدّمت الصحيحة في ص ٢٠٨.

٢١٩

فالقول بوجوب السجدة في الأثناء وعدم انتقاض الصلاة بها مع شذوذه في غاية الضعف ، مع أنّه محجوج بخبر عليّ بن جعفر الآتي (١).

نعم ، ربما يستأنس له بما في مضمرة سماعة ، المتقدّمة (٢) من قوله عليه‌السلام : «إذا ابتليت بها مع إمام لا يسجد فيجزئك الإيماء والركوع» وخبر أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إن صلّيت مع قوم فقرأ الإمام (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) أو شيئا من العزائم وفرغ من قراءته ولم يسجد فأوم إيماء ، والحائض تسجد إذا سمعت السجدة» (٣) لإشعارهما بأنّه لو سجد الإمام عليه أن يسجد ، ولا ينتقض به صلاته.

ولكنّك خبير بأنّ المراد بهما بيان الحكم عند ابتلائه بالصلاة مع من يأتمّ به تقيّة ، فلا مانع عن الالتزام بما استشعر منهما في موردهما من وجوب السجود لو سجد الإمام من باب المماشاة ، وعدم انتقاض صلاته به ؛ لأنّ التقيّة أوسع من ذلك ، فلا يفهم من ذلك جوازه اختيارا كي يستأنس بهما للقول المزبور.

نعم ، يفهم منهما عدم سقوط فوريّة السجود وبدليّة الإيماء عنه ، وعدم كون الإيماء في أثناء الفريضة منافيا لها ، فهما شاهدان للقول الثاني.

وأوضح منهما شهادة له : خبر عليّ بن جعفر ـ المرويّ عن كتابه ـ عن أخيه عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يكون في صلاة في جماعة فيقرأ إنسان السجدة كيف يصنع؟ قال : «يومئ برأسه» قال : وسألته عن الرجل يكون في صلاته فيقرأ آخر السجدة ، فقال : «يسجد إذا سمع شيئا من

__________________

(١) عن قريب.

(٢) في ص ٢٠٣.

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٢٠٩ ، الهامش (٢).

٢٢٠