مصباح الفقيه - ج ١٢

الشيخ آقا رضا الهمداني

مصباح الفقيه - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ آقا رضا الهمداني


المحقق: المؤسّسة الجعفريّة لإحياء التراث ـ قم المقدّسة
الموضوع : الفقه
الناشر: برگ طوبى
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٩٣

(الخامس) من أفعال الصلاة : (الركوع) وهو لغة : الانحناء.

فعن القاموس : ركع الشيخ انحنى كبرا أو كبا على وجهه وافتقر بعد غنى وانحطّت حاله ، وكلّ شي‌ء يخفض رأسه فهو راكع (١).

وفي مجمع البحرين : ركع الشيخ ، أي انحنى ، وفي الشرع : انحناء مخصوص ، والراكع فاعل الركوع (٢).

أقول : استعماله في الشرع في المعنى المخصوص بحسب الظاهر من باب إطلاق الكلّي على الفرد ، بمعنى أنّ الشارع لم يستعمل الركوع إلّا في مفهومه العرفي ، وهو الانحناء ، ولكنّه اعتبر في حقّ القادر بلوغه إلى حدّ خاصّ ، وفي حقّ المرأة أقلّ من ذلك على قول (٣) ، وفي حقّ العاجز الأقرب إليه فالأقرب كما ستعرف ، لا أنّه جعله اسما لمرتبة خاصّة كي يلزمه الاشتراك على تقدير اختلافه في الأصناف.

وكيف كان فالمراد بالانحناء المأخوذ في مفهومه عرفا وشرعا هو الانحناء على النحو المتعارف ، فلو انحنى لا بهذا النحو بل بأن قوّس بطنه وصدره على ظهره أو على أحد جانبيه مثلا ، لا يسمّى ركوعا ، كما أنّ المراد به هو الانحناء الحاصل عن اعتدال قياميّ أو جلوسيّ ، كما هو

__________________

(١) القاموس المحيط ٣ : ٣١ «ركع» وحكاه عنه البحراني في الحدائق الناضرة ٨ :٢٣٤.

(٢) مجمع البحرين ٤ : ٣٤٠ «ركع».

(٣) قال به ابن إدريس في السرائر ١ : ٢٢٥ ، والشهيد في النفليّة : ١١٩.

٤٠١

منصرف لفظ الانحناء ، أو مناط صدقه ، فلو نهض الساجد أو الجالس بهيئة الركوع إلى أن بلغ حدّه ، لا يقال : إنّه ركع ؛ لأنّه اعتبر في مفهومه الانحطاط والخفض ، كما لا يخفى على من لاحظ موارد استعمالاته الحقيقيّة والمجازيّة في العرف والشرع.

ويتفرّع على هذا جملة من الأحكام التي سيأتي التعرّض لها في محلّها إن شاء الله.

(وهو واجب) بالضرورة من الدين (في كلّ ركعة) بل هو من مقوّمات صدق الركعة ، فلا تكون الركعة ركعة إلّا به أو ببدله (مرّة) واحدة (إلّا في) صلاة (الكسوف والآيات) فإنّه يجب في كلّ ركعة منها خمس ركوعات ، كما ستعرف تفصيلها إن شاء الله.

(وهو ركن في الصلاة تبطل بالإخلال به عمدا وسهوا على تفصيل سيأتي) ذكره في أحكام الخلل إن شاء الله.

(والواجب فيه) إمّا شرعا أو لتوقّف مفهومه عليه (خمسة أشياء)

(الأوّل : أن ينحني بقدر ما يمكن وضع يديه على ركبتيه).

أمّا أصل الانحناء : فهو من مقوّمات مفهوم الركوع عرفا وشرعا كما عرفت.

وأما تحديده بهذا الحدّ فهو إجمالا ممّا لا خلاف فيه على الظاهر ، بل عن جملة من الأصحاب دعوى الإجماع عليه ، إلّا أنّ كلماتهم في فتاويهم ومعاقد إجماعاتهم المحكيّة لا تخلو عن نوع اختلاف.

فعن جملة منهم التعبير بنحو ما وقع في عبارة المتن من اعتبار الانحناء بقدر ما يمكن وضع يديه على ركبتيه ، منهم : الشهيد في الذكرى مدّعيا عليه الإجماع ، والعلّامة في القواعد والتحرير والمنتهى ناسبا هذا

٤٠٢

القول إلى أهل العلم كافّة إلّا أبا حنيفة فإنّه أوجب مطلق الانحناء (١) (٢).

وحكي عن غير واحد ـ منهم : المصنّف في المعتبر (٣) ـ أنّهم قالوا : الواجب فيه الانحناء قدرا تصل معه كفّاه ركبتيه (٤).

وعن المعتبر أنّه بعد التحديد المزبور قال : أمّا التحديد المذكور فهو قول العلماء كافّة إلّا أبا حنيفة (٥).

وعن العلّامة في عدّة من كتبه أنّه قال : يجب فيه الانحناء إلى أن تبلغ راحتاه ركبتيه مدّعيا في بعضها الإجماع عليه إلّا من أبي حنيفة (٦).

واستظهر غير واحد (٧) من التحديد الذي وقع في المتن القول بكفاية مسمّى وضع اليد ولو برؤوس الأصابع.

وفيه نظر ؛ إذ لا يبعد أن يدّعى انصرافه إلى الراحة ، ولا أقلّ من إرادة مقدار معتدّ به من اليد ، لا جزء منها من رءوس الأصابع ، بل المتبادر من التحديد الثاني أيضا ليس إلّا ذلك.

__________________

(١) تحفة الفقهاء ١ : ١٣٣ ، بدائع الصنائع ١ : ١٠٥ و ١٦٢ ، المحيط البرهاني ١ :٣٣٦ ، حلية العلماء ٢ : ١١٧ ، المجموع ٣ : ٤١٠.

(٢) الذكرى ٣ : ٣٦٥ ، قواعد الأحكام ١ : ٢٧٥ ، تحرير الأحكام ١ : ٢٥٠ / ٨٦٩ ، منتهى المطلب ٥ : ١١٤ ، والحاكي عنهم هو السيّد الشفتي في مطالع الأنوار ٢ :٨٩.

(٣) المعتبر ٢ : ١٩٣.

(٤) ابن حمزة في الوسيلة : ٩٥ ، وابن إدريس في السرائر ١ : ٢٢٤ ، والشهيد في البيان : ١٦٤ ، والدروس ١ : ١٧٦ ، والحاكي عنهم هو السيّد الشفتي في مطالع الأنوار ٢ : ٨٩.

(٥) المعتبر ٢ : ١٩٣ ، وعنه في مطالع الأنوار ٢ : ٨٩.

(٦) إرشاد الأذهان ١ : ٢٥٤ ، تذكرة الفقهاء ٣ : ١٦٥ ، المسألة ٢٤٧ ، نهاية الإحكام ١ : ٤٨٠ ، وعنها في مطالع الأنوار ٢ : ٨٩.

(٧) كالشهيد الثاني في مسالك الافهام ١ : ٢١٣.

٤٠٣

فالذي يغلب على الظنّ أنّ الاختلاف إنّما هو في مجرّد التعبير ، كما يفصح عن ذلك ما ادّعوه من الإجماع على كلّ منها ، وجعلوا الخلاف منحصرا في أبي حنيفة ، فإنّ من المستبعد ادّعاءه على تقدير اختلاف ما أرادوه من العبائر المختلفة ، خصوصا مع صدورها من شخص واحد ، فالظاهر أنّ مراد الجميع هو بلوغ الراحتين إلى الركبتين.

وقد تصدّى بعض متأخّري المتأخّرين (١) لإيراد جملة من الشواهد من كلماتهم لإثبات ما ذكر ، ولا يهمّنا الإطالة في إيضاحها ، فإنّ غاية ما يمكن ادّعاؤه حصول الظنّ باتّحاد المراد من معاقد الإجماعات المحكيّة ، وأنّ معقدها بلوغ الراحتين ، وهو لا يجدي في تحصيل الإجماع والتعويل عليه خصوصا بعد الالتفات إلى تصريح بعض المتأخّرين (٢) بكفاية وصول رءوس الأصابع ، بل عن المحدّث المجلسي في البحار أنّه مذهب الأكثر (٣).

ولكن لا يبعد أن يكون منشؤ هذه النسبة استظهاره من عبائر من عبّر بوضع اليدين على الركبتين ، وهو لا يخلو عن تأمّل ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

وكيف كان فقد استدلّ بعض (٤) من صرّح باعتبار بلوغ الراحتين وعدم كفاية ما دونه : بالإجماعات المنقولة المستفيضة بعد إرجاع بعضها إلى بعض بشهادة بعض القرائن التي تقدّمت الإشارة إليها.

وفيه ما عرفت.

__________________

(١) السيّد الشفتي في مطالع الأنوار ٢ : ٨٩ ـ ٩٠.

(٢) الطباطبائي في رياض المسائل ٣ : ١٩٤.

(٣) كما في رياض المسائل ٣ : ١٩٤ ، وفي بحار الأنوار ٨٤ : ١٩٠ نسبته إلى المشهور.

(٤) راجع الهامش (١).

٤٠٤

واستدلّ له أيضا ببعض الأخبار الآتية بدعوى ظهورها في ذلك.

وستعرف ما فيه.

واستدلّ القائلون بوجوب أن ينحني بقدر ما يمكن وضع يديه أو كفّيه أو بلوغ راحتيه إلى ركبتيه ـ على اختلاف تعابيرهم التي قد أشرنا إلى أنّ الغالب على الظنّ إرادة الجميع التحديد ببلوغ الراحتين ، كما جزم بذلك بعض من تقدّمت الإشارة إليه ـ بما رواه الجمهور عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا ركعت فضع كفّيك على ركبتيك» (١).

وبما روي أنّه كان يمسك راحتيه على ركبتيه كالقابض عليهما (٢).

وبقاعدة الاشتغال وتوقيفيّة العبادة ، وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يركع كذلك فيجب التأسّي به.

وبما في الصحيح الحاكي لفعل الصادق عليه‌السلام تعليما لحمّاد : ثمّ ركع وملأ كفّيه من ركبتيه ، إلى أن قال عليه‌السلام : «يا حمّاد هكذا صلّ» (٣).

وبصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال : «إذا أردت أن تركع فقل وأنت منتصب : الله أكبر ، ثمّ اركع وقل : اللهمّ لك ركعت ـ إلى أن قال ـ وتصفّ في ركوعك بين قدميك تجعل بينهما قدر شبر ، وتمكّن راحتيك من ركبتيك وتضع يدك اليمنى على ركبتك اليمنى قبل اليسرى ، وبلّغ (٤)

__________________

(١) كما في منتهى المطلب ٥ : ١١٤ ، وفي مجمع الزوائد ١ : ٢٧١ بتفاوت ، ومثله عن ابن عباس في مسند أحمد ١ : ٢٨٧.

(٢) راجع صحيح البخاري ١ : ٢٠٠.

(٣) الكافي ٣ : ٣١١ ـ ٣١٢ / ٨ ، الفقيه ١ : ١٩٦ ـ ١٩٧ / ٩١٦ ، التهذيب ٢ : ٨١ ـ ٨٢ / ٣٠١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب أفعال الصلاة ، ح ١ و ٢.

(٤) في الكافي : «بلّع» بالعين المهملة ، وبدلها في التهذيب : «تلقم».

٤٠٥

بأطراف أصابعك عين الركبة» (١) الحديث.

وبصحيحته الأخرى أيضا عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا ركعت فصفّ في ركوعك بين قدميك تجعل بينهما قدر شبر ، وتمكّن راحتيك من ركبتيك ، وتضع يدك اليمنى على ركبتك اليمنى قبل اليسرى ، وبلّغ (٢) بأطراف أصابعك عين الركبة ، وفرّج أصابعك إذا وضعتها على ركبتيك ، فإن وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتيك أجزأك ذلك ، وأحبّ إليّ أن تمكّن كفّيك من ركبتيك فتجعل أصابعك في عين الركبة وتفرج بينهما» (٣).

والخبر المرويّ عن المعتبر والمنتهى عن معاوية بن عمّار ومحمّد بن مسلم والحلبي قالوا : «بلّغ بأطراف أصابعك عين الركبة ، فإن وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتيك أجزأك ذلك ، وأحبّ أن تمكّن كفّيك من ركبتيك» (٤).

وفي الجميع نظر.

أمّا النبوي فبعد الغضّ عن سنده أنّ ظاهره وجوب وضع الكفّين على الركبتين فعلا لا تقديرا ، فإن أمكن الالتزام بهذا الظاهر صحّ الاستدلال عليه ؛ لوجوب هذا المقدار من الانحناء في الركوع من حيث دلالته عليه بالالتزام.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣١٩ ـ ٣٢٠ / ١ ، التهذيب ٢ : ٧٧ ـ ٧٨ / ٢٨٩ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب الركوع ، ح ١.

(٢) في الكافي «بلّع» بالعين المهملة.

(٣) الكافي ٣ : ٣٣٤ ـ ٣٣٥ / ١ ، التهذيب ٢ : ٨٣ ـ ٨٤ / ٣٠٨ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب أفعال الصلاة ، ح ٣.

(٤) المعتبر ٢ : ١٩٣ ، منتهى المطلب ٥ : ١١٥ ، وعنهما في مطالع الأنوار ٢ : ٨٩.

٤٠٦

ولكنّك ستسمع (١) عن غير واحد دعوى الإجماع على عدم اعتبار وضع الكفّين على الركبتين في الركوع وأنّه مستحبّ ، فحينئذ ليس حمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ضع كفّيك على ركبتيك» على إرادة الانحناء بمقدار يمكنه ذلك أولى من حمله على الاستحباب ، بل هذا أولى.

ومن هنا يظهر أيضا ضعف الاستشهاد له بالمرسل الآخر وبصحيحة حمّاد ، الحاكية لفعله عليه‌السلام ، فإنّه وإن أمكن أن يقال بصحّة الاستدلال بمثل هذه الأخبار الحاكية لفعلهم عليهم‌السلام للوجوب بضميمة ما دلّ على وجوب التأسّي بهم في الصلاة ، وخصوص قوله عليه‌السلام في ذيل الصحيحة : «هكذا صلّ» وإن لا يخلو عن تأمّل ، ولكنّه بعد ثبوت استحباب هذه الكيفيّة لا يبقى للفعل دلالة على أنّ الانحناء البالغ إلى هذا الحدّ من حيث هو ، لا من حيث توقّف هذا الفعل المستحبّ عليه كان متعلّقا للغرض حتى يمكن استفادة وجوبه من حيث هو من هذا الخبر.

وهكذا الكلام في سائر الروايات ، فإنّ تمكين الراحتين الذي تعلّق به الأمر في تلك الروايات ليس إلّا على سبيل الاستحباب ، كما يشهد به سوق تلك الأخبار ، ويدلّ عليه صريحا ما في ذيل الخبرين الأخيرين (٢) ، فلا يمكن استفادة وجوب الانحناء البالغ إلى الحدّ الذي يتمكّن معه من فعل هذا المستحبّ من تلك الروايات ، كما هو واضح.

وأضعف منها الاستدلال بقاعدة الشغل وتوقيفيّة العبادة ؛ لما أشرنا إليه مرارا من أنّ المرجع في موارد الشكّ البراءة ، لا الاحتياط.

__________________

(١) في ص ٤١١ ـ ٤١٢.

(٢) راجع الهامش (٣ و ٤) من ص ٤٠٦.

٤٠٧

واستدلّ للقول بوصول أطراف الأصابع بقوله عليه‌السلام في ذيل الخبرين الأخيرين : «فإن وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتيك أجزأك ذلك» (١).

وأجيب عنه بمخالفة ظاهره للإجماع ، فلا يعوّل عليه.

وفيه ما عرفت.

وأجيب أيضا بأنّ ظاهر الخبر وصول أطراف مجموع الأصابع حتى الإبهام ، ويلزمه عادة الانحناء الذي يتمكّن معه من إيصال الجزء الأوّل من الراحتين المتّصل بأصول الأصابع إلى الركبتين وإن لم يتمكّن من وضع المجموع عليهما ، فهذا الخبر لا ينافي إلّا القول بوجوب وصوله إلى حدّ يمكنه تمكين الراحتين منهما ، وهو ضعيف محجوج بالنصّ ، دون القول ببلوغهما الصادق بوصول أوّل جزء منهما إلى أوّل جزء من الركبتين ، كما لعلّه المشهور.

وفيه : أنّ إرادة مجموع الأصابع حتى الإبهام خلاف ما ينصرف إلى الذهن من هذا التعبير.

نعم ، يمكن أن يناقش في أصل الاستدلال بإمكان أن يكون المراد بقوله : «فإن وصلت أطراف أصابعك» إلى آخره ، كون وصول أطراف الأصابع إلى الركبتين مجزئا عن تمكين الكفّين ووضعهما على الركبتين حال الركوع ، الذي وقع التصريح باستحبابه في الروايتين ، فلا دخل له بتحديد مقدار الانحناء ، ولا منافاة بينه وبين أن يكون الانحناء المعتبر في الركوع أزيد ممّا يتمكّن معه من إيصال أطراف الأصابع ، إلّا أن يدّعى أنّ المنساق

__________________

(١) راجع الهامش (٣ و ٤) من ص ٣٠٦.

٤٠٨

إلى الذهن إرادة أنّ ذلك يجزئك في ركوعك ، لا في الخروج عن عهدة التكليف بوضع اليدين حاله ، فالمتبادر منه إرادة تحديد مقدار الانحناء المعتبر في الركوع ، لا كيفيّة وضع اليدين المطلوب حاله. وهو لا يخلو عن تأمّل ، فالإنصاف أنّ استفادة حدّ الركوع من الأخبار المزبورة محلّ تأمّل.

نعم ، يمكن استفادة حدّ الركوع وأنّ العبرة بأن ينحني بقدر ما يمكن وضع يديه على ركبتيه من موثّقة عمّار ـ الواردة في ناسي القنوت ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام : عن الرجل ينسى القنوت في الوتر أو غير الوتر ، قال :«ليس عليه شي‌ء» وقال : «وإن ذكره وقد أهوى إلى الركوع قبل أن يضع يديه على الركبتين فليرجع قائما وليقنت ثمّ يركع (١) ، وإن وضع يده على الركبتين فليمض في صلاته» (٢) إذ المقصود بهذه الرواية بيان أنّه يرجع ما لم يدخل في الركوع ، ومتى دخل في الركوع يمضي ولا يرجع ، فهذه الموثّقة بمنزلة الشرح لموثّقته الأخرى أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال :«إن نسي الرجل القنوت في شي‌ء من الصلاة حتى يركع فقد جازت صلاته ، وليس عليه شي‌ء ، وليس له أن يدعه متعمّدا» (٣) والمتبادر من قوله عليه‌السلام : «قبل أن يضع يديه» إلى آخره : إرادة وضع اليدين على الركبتين على النحو المتعارف المعهود في الصلاة ، وهو لا ينفكّ غالبا عن بلوغ الراحتين ، فتدلّ الرواية بالالتزام على عدم تحقّق الركوع ما لم ينحن بهذا المقدار ، فالقول باعتباره ـ كما لعلّه المشهور ـ أقوى.

__________________

(١) في «ض ١٧» والوسائل : «ليركع».

(٢) التهذيب ٢ : ١٣١ / ٥٠٧ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب القنوت ، ح ٢.

(٣) التهذيب ٢ : ٣١٥ / ١٢٨٥ ، الوسائل ، الباب ١٥ من أبواب القنوت ، ح ٣.

٤٠٩

ثمّ إنّ مقتضى قاعدة المشاركة المعتضدة بإطلاق كلمات كثير من الأصحاب في فتاويهم ومعاقد اجماعاتهم المحكيّة بل قضيّة جعلهم الحدّ الذي ذكروه حدّا لماهيّة الركوع من حيث هي : عدم الفرق بين ركوع الرجل والمرأة في توقّفه على الانحناء بالقدر المذكور ، كما عن بعضهم (١) التصريح بذلك.

خلافا لصريح غير واحد من المتأخّرين (٢) من أنّه لا يعتبر في ركوعها هذا المقدار من الانحناء ، بل أقلّ من ذلك ؛ لصحيحة زرارة ـ المرويّة عن الكافي ـ قال : «إذا قامت المرأة في الصلاة جمعت بين قدميها ولا تفرج بينهما ، وتضمّ يديها إلى صدرها لمكان ثدييها ، فإذا ركعت وضعت يديها فوق ركبتيها على فخذيها لئلّا تطأطئ كثيرا فترتفع عجيزتها ، فإذا جلست فعلى ألييها ، ليس كما يقعد الرجل ، وإذا سقطت للسجود بدأت بالقعود بالركبتين قبل اليدين ثمّ تسجد لاطئة بالأرض ، فإذا كانت في جلوسها ضمّت فخذيها ورفعت ركبتيها من الأرض ، وإذا نهضت انسلّت انسلالا لا ترفع عجيزتها أوّلا» (٣).

والمناقشة فيها بأنّها مقطوعة فيحتمل كونها من كلام زرارة ممّا لا ينبغي الالتفات إليها ، فإنّ صدور مثل هذه الأحكام لا يكون من مثل زرارة إلّا حكاية عنهم عليهم‌السلام ، مع أنّه قد يستظهر من الكافي أنّه مرويّ عن

__________________

(١) المحقّق الكركي في جامع المقاصد ٢ : ٢٨٤ ، والحاكي عنه هو صاحب الجواهر فيها ١٠ : ٧٤.

(٢) منهم : ابن إدريس والشهيد ، راجع الهامش (٣) من ص ٤٠١ ، ومنهم : السيّد الشفتي في مطالع الأنوار ٢ : ٩٠.

(٣) الكافي ٣ : ٣٣٥ ـ ٣٣٦ / ٢ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب أفعال الصلاة ، ح ٤.

٤١٠

أبي جعفر عليه‌السلام ، فإنّه ـ على ما حكي عنه (١) ـ روى قبل ذلك حديثا مشتملا على أفعال الصلاة الواجبة والمستحبّة بأسانيد متعدّدة عن حمّاد بن عيسى عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، ثمّ قال : وبهذه الأسانيد عن حمّاد ابن عيسى عن حريز عن زرارة قال : «إذا قامت المرأة» إلى آخره ؛ فإنّ ضمير «قال» بحسب الظاهر يرجع إلى أبي جعفر عليه‌السلام ، مع أنّه رواها في الوسائل عن العلل مسندة إلى أبي جعفر (٢) عليه‌السلام ، فلا شبهة في جواز التعويل عليها.

ولكن قد يناقش في دلالتها على المدّعى : بأنّه لا منافاة بين استحباب وضع اليدين فوق الركبتين وكون الانحناء فيها مساويا لانحناء الرجل إلّا أنّها لا تطأطئ كثيرا بأن تضع يديها على ركبتيها وتردّهما إلى خلف ـ كما أنّه يستحبّ للرجل ـ لئلّا ترتفع عجيزتها.

وفيه : أنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : «وضعت يديها فوق ركبتيها على فخذيها لئلّا تطأطئ كثيرا» أنّها إنّما أمرت بوضع يديها على فخذيها دون ركبتيها لأن يكون تطأطؤها أقلّ من التطأطؤ الذي يتوقّف عليه وضع يديها على ركبتيها ، فيستفاد منها أنّ الراجح في حقّها الاقتصار في تطأطؤها على القدر الذي يتوقّف عليه هذا الفعل لا أزيد من ذلك ، فالقول بأنّ الانحناء المعتبر في حقّها أقلّ ممّا هو معتبر في حقّ الرجال أوفق بظاهر النصّ ، إلّا أنّ الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه ، والله العالم.

تنبيه : حكي عن غير واحد (٣) دعوى الإجماع على عدم وجوب

__________________

(١) الحاكي عنه هو السيّد الشفتي في مطالع الأنوار ٢ : ٩٠.

(٢) علل الشرائع : ٣٥٥ (الباب ٦٨) ح ١ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب أفعال الصلاة ، ذيل ح ٤.

(٣) كالمحقّق الحلّي في المعتبر ٢ : ٢٠١ ، والعلّامة الحلّي في منتهى المطلب ٥ : ـ

٤١١

وضع اليدين على الركبتين حال الركوع ، فإن تحقّق الإجماع عليه فهو ، وإلّا فربما يستشكل في ذلك ؛ نظرا إلى تعلّق الأمر به في جملة من الروايات المتقدّمة (١) ، وظاهره الوجوب.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ عمدة ما يظهر منه الوجوب قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في النبويّ المرسل : «ضع كفّيك على ركبتيك» (٢) وهذا ممّا لا تعويل عليه من حيث سنده.

وأمّا ما عداه من الروايات فهي قاصرة عن إفادة الوجوب.

أمّا الأخبار الحاكية لفعلهم عليهم‌السلام : فواضح.

وأمّا غيرها ممّا ورد فيه الأمر بتمكين الكفّين أو الراحتين من الركبتين : فسوقه يشهد بإرادة الاستحباب.

نعم ، ربما يستشعر من قوله عليه‌السلام في ذيل خبري زرارة (٣) : «فإن وصلت أطراف أصابعك في ركوعك» (٤) إلى آخره : أنّ وضع اليدين في الجملة ممّا لا بدّ منه ، وكون الأمر بتمكين الكفّين أو الراحتين من باب أنّه أفضل أفراد الواجب.

ولكنّك عرفت فيما سبق قوّة احتمال كون هذه الفقرة مسوقة لبيان

__________________

ـ ١٣٤ ، والشهيد في الذكرى ٣ : ٣٦٥ ، والحاكي عنهم هو السيّد الشفتي في مطالع الأنوار ٢ : ٩٠.

(١) في ص ٤٠٥ و ٤٠٦.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٤٠٥ ، الهامش (١).

(٣) كذا قوله : «خبري زرارة» في النسخ الخطّيّة والحجريّة ، والصحيح : «خبر زرارة والمرويّ عن المعتبر والمنتهى» كما تقدّم في ص ٤٠٦.

(٤) راجع الهامش (٣ و ٤) من ص ٤٠٦.

٤١٢

حدّ الركوع ، لا بيان كون وصول أطراف الأصابع أقلّ ما يجزئ من تمكين الكفّين المأمور به في صدر الحديث ، بل لا يبعد دعوى ظهورها في ذلك ، فتكون حينئذ أجنبيّة عن المدّعى ، فليتأمّل.

(فإن كانت يداه في الطول بحيث تبلغ ركبتيه من غير انحناء) أو في القصر بحيث لا تبلغهما إلّا بغاية الانحناء ، أو مقطوعتين ، أو كانت ركبتاه مرتفعتين أو منخفضتين أو نحو ذلك (انحنى كما ينحني مستوي الخلقة) على حسب النسبة ، بمعنى أنّه ينحني بمقدار لو كانت أعضاؤه متناسبة لتمكّن من وضع يديه على ركبتيه ؛ إذ التحديدات الشرعيّة الواردة في نظائر المقام منزّلة على الأفراد المتعارفة ، فيفهم حكم الأفراد الغير المتعارفة منها بتنقيح المناط ، كما في تحديد الوجه في باب الوضوء ونظائره.

(وإذا لم يتمكّن من تمام الانحناء لعارض أتى بما تمكّن منه) بلا خلاف فيه على الظاهر ، بل عن المعتبر دعوى الإجماع عليه (١) ؛ لعموم قوله عليه‌السلام : «الميسور لا يسقط بالمعسور» (٢).

وما يقال من أنّ الاستدلال بهذه القاعدة لا يتمّ إلّا على تقدير كون الركوع مجموع الانحناء ، أو كون الانحناء واجبا في الصلاة ووصوله إلى حدّ الركوع واجبا آخر ، والكلّ يمكن منعه ؛ إذ الذي يقوى في النظر أنّه مقدّمة لتحصيل الركوع كهويّ السجود ، مدفوع بما بيّنّاه مرارا من أنّ كونه كذلك شرط في جواز التمسّك بقوله عليه‌السلام : «إذا أمرتكم بشي‌ء فأتوا منه

__________________

(١) المعتبر ٢ : ١٩٣ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ١٠ : ٧٦.

(٢) غوالي اللآلئ ٤ : ٥٨ / ٢٠٥.

٤١٣

ما استطعتم» (١) بناء على كون كلمة «من» للتبعيض كما هو الظاهر ، وكذا بقوله : «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» (٢) وأمّا قاعدة الميسور فالمدار في جريانها على كون الشي‌ء ذا مراتب بنظر العرف بحيث يعدّ المأتيّ به لدى العرف نحوا من أنحاء وجودات تلك الطبيعة التي تعلّق بها الطلب ولو بنحو من المسامحة العرفيّة ، فما نحن فيه من أظهر مجاريها ، بل الظاهر كون الانحناء الغير البالغ إلى الحدّ المعتبر شرعا مصداقا حقيقيّا للركوع العرفي من غير مسامحة خصوصا بالنسبة إلى غير القادر من زيادة الانحناء ، فيمكن أن يستدلّ له أيضا بإطلاقات أدلّة الركوع مقتصرا في تقييدها بمرتبة خاصّة من زيادة الانحناء إلى أن تبلغ يداه ركبتيه بالنسبة إلى القادر لا مطلقا.

ودعوى أنّ الركوع شرعا اسم للانحناء المخصوص ، فلا يعمّ إطلاقه مثل الفرض ، محلّ نظر بل منع ، كما تقدّمت الإشارة إليه آنفا ، ولكن مقتضى هذا الدليل الاكتفاء بمسمّاه عند تعذّر المرتبة الخاصّة ، إلّا أن يتمسّك لتقييد إطلاقه بقاعدة الميسور ، فليتأمّل.

هذا ، مع أنّ دعوى كون هويّ الركوع كهويّ السجود مقدّمة لتحصيله ، عريّة عن الشاهد ، بل قضيّة تفسير الركوع بفعل الانحناء الظاهر في إرادته بمعناه الحدثي لا الهيئة الحاصلة منه القائمة بالشخص ، أو المرتبة الخاصّة من الانحناء ، التي ينتهي عندها الهويّ : كونه من حين التلبّس بفعل الانحناء آخذا في الركوع إلى أن يتحقّق الفراغ منه ، إلّا أنّ صدق عنوانه عليه مراعى عرفا بحصول مقدار معتدّ به من الانحناء ، وشرعا ببلوغه إلى حدّ

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٧ ، الهامش (٢).

(٢) غوالي اللآلئ ٤ : ٥٨ / ٢٠٧.

٤١٤

خاصّ ، فقياسه على هويّ السجود ـ الذي حقيقته وضع الجبهة على الأرض ـ قياس مع الفارق.

ودعوى أنّ المتبادر من الأمر بالركوع هو الأمر بإيجاد هذه الهيئة من حيث هي ، ممنوعة ، بل المتبادر منه الأمر بأن ينحني إلى الحدّ المعتبر شرعا ، وأمّا أنّ المقصود بالأصالة هو خصوص الانحناء الحاصل عند انتهاء الهويّ أو الهيئة الحاصلة به فلا يكاد يفهم من ذلك.

فما جزم به غير واحد (١) من كون هويّ الركوع كهويّ السجود من المقدّمات منهم : العلّامة الطباطبائي في منظومته مفرّعا على ذلك صحّة الركوع فيما لو هوى لغير الركوع ثمّ نوى الركوع حيث قال :

ولو هوى لغيره ثمّ نوى

صحّ كذا السجود بعد ما هوى

إذ الهويّ فيهما مقدّمة

خارجة لغيرها ملتزمة (٢)

كأنّه جزم في غير محلّه ، مع أنّ ما فرّعه عليه لا يخلو عن مناقشة ، ولذا اعترض عليه شيخنا المرتضى رحمه‌الله ـ مع تسليمه كون الهوىّ من المقدّمات ـ بأنّ الظاهر من الركوع هو الانحناء الخاصّ الحدوثي الذي لا يخاطب به إلّا من لم يكن كذلك ، فلا يقال للمنحني : انحن. نعم ، لو كان المراد من الركوع مجرّد الكون على تلك الهيئة بالمعنى الأعمّ من الحادث والباقي ، صحّ ، لكن الظاهر خلافه ، فالهويّ وإن كان مقدّمة إلّا أنّ إيجاد مجموعه لا بنيّة الركوع يوجب عدم تحقّق الركوع المأمور به لأجل الصلاة (٣). انتهى.

__________________

(١) كالشهيد الثاني في روض الجنان ٢ : ٩٣٢ ، وصاحب الجواهر فيها ١٠ : ٧٦ ـ ٧٧ ، والشيخ الأنصاري في كتاب الصلاة ٢ : ٢٩ و ٣٠.

(٢) الدرّة النجفيّة : ١٢٣.

(٣) كتاب الصلاة ٢ : ٢٩ ـ ٣٠.

٤١٥

(فإن عجز) عن الانحناء (أصلا اقتصر على الإيماء) بالرأس إن تمكّن ، وإلّا فبالعينين تغميضا للركوع وفتحا للرفع منه ، كما تقدّم (١) شرح ذلك مفصّلا في مبحث القيام ، فلا نطيل بالإعادة.

(ولو كان كالراكع خلقة أو لعارض) من كبر أو مرض ونحوه (وجب أن يزداد ركوعه يسير انحناء) كما عن العلّامة في جملة من كتبه والشهيدين والعليّين وجملة ممّن تأخّر عنهم (٢) (ليكون فارقا) بين قيامه وركوعه.

وقد أشرنا في مبحث القيام إلى أنّ قيام من كان بهيئة الراكع ليس إلّا استقامته بحسب حاله (٣) ، فيجب عليه حال القراءة وكذا قبل الركوع وقوفه بهذه الهيئة إن لم يتمكّن من الإتيان بمرتبة فوقها ، وإلّا فيأتي بما هو الأقرب إلى الاعتدال فالأقرب ممّا يسعه إمّا لكونه قياما حقيقيّا بالإضافة إليه أو ميسوره الذي لا يسقط بمعسوره ، ولا يتحقّق الركوع عرفا ممّن كان قيامه بهذه الهيئة إلّا أن يزيد انحناءه ولو يسيرا ، فإنّه ما دام بقاؤه على هذه الهيئة لا يقال عليه : إنّه ركع ، وإن نواه ، بخلاف ما لو انحنى بقصد الركوع ، كما لا يخفى على من لاحظ حال مثل هذه الأشخاص في صلاتهم ، وكذا حال العرف والأشخاص الذين جرت عادتهم بالركوع والسجود تواضعا للجبابرة

__________________

(١) في ص ٦٠ وما بعدها.

(٢) إرشاد الأذهان ١ : ٢٥٤ ، تحرير الأحكام ١ : ٢٥٠ / ٨٦٩ ، قواعد الأحكام ١ :٢٧٦ ، نهاية الإحكام ١ : ٤٨٠ ، البيان : ١٦٤ ، الدروس ١ : ١٧٦ ، روض الجنان ٢ : ٧٢٣ ، مسالك الافهام ١ : ٢١٤ ، جامع المقاصد ٢ : ٢٨٩ ، والميسيّة مخطوطة ، وحكاه عنهم السيّد الشفتي في مطالع الأنوار ٢ : ٩٢ ، وصاحب الجواهر فيها ١٠ : ٨٠ ـ ٨١.

(٣) راجع ص ١٤.

٤١٦

والملوك ، فلو أمر المولى عبيده بقيامهم عند حضوره وركوعهم له عند توجّهه إليهم بوجهه ـ كما جرت عليه سيرة أهل الفرس بالنسبة إلى أمرائهم ـ لعرف كلّ منهم ما هو تكليفه بحسب حاله.

والحاصل : أنّه لا يصدق اسم الركوع عرفا بالنسبة إلى مثل هذا الشخص ما لم يزد في انحنائه ، وتحديد الركوع شرعا أو عرفا بأن ينحني إلى أن بلغت يداه ركبتيه إنّما هو في الأفراد الشائعة دون من وصلت يداه ركبتيه بلا انحناء إمّا لطول يديه أو لانحناء ظهره ، فإنّه خارج عن مورد حكم العرف ومنصرف النصوص والفتاوى ، فيفهم حكمه إمّا بالمناسبة وتنقيح المناط كما في طويل اليدين ، أو بالرجوع إلى العرف في صدق مسمّى الركوع أخذا بإطلاق أدلّته بالنسبة إلى من لم يثبت له حدّ شرعيّ.

ومن هنا يتّجه ما حكي عن المحقّق الثاني من التردّد في حكم من كان انحناؤه على أقصى مراتب الركوع حيث قال : ففي ترجيح الفرق أو هيئة الركوع تردّد (١). انتهى ؛ فإنّ الفرق مع الخروج عن الهيئة وإن لم يكن مجديا ولكن يمكن أن يدّعى أنّ الهيئة معتبرة لدى العرف في غير مثل هذا الشخص ، وأمّا بالنسبة إليه فمناط الصدق لديهم هو الفرق بين حالتيه وإن كان الأظهر إناطة الصدق بكلا الأمرين.

فمن كان بهذه الهيئة فإن أمكنه من غير حرج ومشقّة تغيير هيئته والانتقال إلى حالة أقرب إلى القيام ولو بالاعتماد على عصا ونحوه ، وجب عليه ذلك حين قراءته وقبل ركوعه ، وإن لم تكن تلك الحالة أيضا خارجة عن هيئة الركوع ـ كما عرفته في مبحث القراءة ـ فيزيد انحناءه للركوع

__________________

(١) جامع المقاصد ٢ : ٢٨٩ ، وحكاه عنه صاحب الجواهر فيها ١٠ : ٨١.

٤١٧

بحيث لا يخرج عن هيئته ، وإن لم يتيسّر له ذلك فهو كمن لا يتمكّن من تغيير هيئته بزيادة انحنائه أو نقصه.

والمتّجه فيه أنّه يومئ لركوعه ؛ لتعذّر تنجّز التكليف بالركوع في حقّه بعد فراغه من القراءة ، لا لكونه أمرا بتحصيل الحاصل ، بل بفعل الممتنع ؛ لما أشرنا إليه في صدر المبحث من أنّ الركوع ليس اسما لمطلق هذه الهيئة ، بل لفعل الانحناء الحاصل عن اعتدال حقيقيّ أو حكميّ ، وهو متعذّر في حقّه ، فإن منعنا صدق اسم الركوع أو ميسوره عرفا على زيادة الانحناء ، وجب الالتزام بسقوط هذا التكليف وثبوت بدله ؛ لما عرفت ، إلّا أنّ المنع في غير محلّه.

وكيف كان فقد حكي عن الشيخ في المبسوط والمصنّف في المعتبر والعلّامة في بعض كتبه الأخر ، وكشف اللثام والمدارك ومنظومة العلّامة الطباطبائي أنّه لا يجب على من كان بهيئة الراكع زيادة الانحناء ، بل يكتفي بمجرّد القصد (١) ، وقوّاه في الجواهر مستدلّا عليه بالأصل ، وبأنّه قد تحقّق فيه حقيقة الركوع ، وإنّما المنتفي هيئة القيام. ثمّ قال : وما في جامع المقاصد من أنّه لا يلزم من كونه على حدّ الركوع أن يكون ركوعا ؛ لأنّ الركوع من فعل الانحناء الخاصّ ولم يتحقّق ، ولأنّ المعهود من صاحب الشرع الفرق بينهما ، ولا دليل على السقوط ، ولظاهر قوله عليه‌السلام : «فأتوا منه ما استطعتم» (٢) وما دلّ على وجوب كون الإيماء للسجود أخفض (٣) ينبّه

__________________

(١) المبسوط ١ : ١١٠ ، المعتبر ٢ : ١٩٤ ، تذكرة الفقهاء ٣ : ١٦٦ ، ذيل المسألة ٢٤٧ ، منتهى المطلب ٥ : ١١٦ ، كشف اللثام ٤ : ٧٤ ، مدارك الأحكام ٣ : ٣٨٧ ، الدرّة النجفيّة : ١٢٣ ، وحكاه عنهم صاحب الجواهر فيها ١٠ : ٨١.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٢٧ ، الهامش (٢).

(٣) الفقيه ١ : ٢٣٦ / ١٠٣٧ و ١٠٣٨ ، الوسائل ، الباب ١ من أبواب القيام ، ح ١٥ و ١٦.

٤١٨

على ذلك (١) ، يدفعه أنّ المراد بالركوع هنا هيئة الركوع لا فعله ؛ إذ هو على كلّ حال لم يتحقّق وإن زاد الانحناء اليسير ؛ ضرورة عدم كونه ركوعا ، فيتوجّه التكليف حينئذ إلى خطابه [بكونه] (٢) على هذا الحال بعد القراءة ـ مثلا ـ بمعنى لا يجلس أو ينام أو يسجد أو نحو ذلك ممّا ينافيها ، فلا تحصيل للحاصل حينئذ ، والفرق بينهما واقعيّ لا شرعيّ ، والنبويّ لا دلالة فيه على ما نحن فيه ، والقياس على إيماء السجود مع أنّه مع الفارق لا يجوز الأخذ به (٣). انتهى.

وفيه : ما عرفت من أنّ الركوع ليس اسما لمطلق هذه الهيئة كي يقال :إنّ حقيقته متحقّقة ، بل لفعل الانحناء دخل في تحقّقه شرطا أو شطرا ، وإلّا للزم أن يصدق على المخلوق منحنيا حين وقوفه على قدميه بل على كلّ من أوجد هذه الهيئة بأيّ كيفيّة تكون ولو برفع رأسه من الأرض ونهوضه بهيئة الراكع أنّه ركع ، وهو ليس كذلك بديهة ، ومتى لم يصدق فعل الركوع على إيجاد هذه الهيئة حين حدوثها كيف يقع إبقاؤها امتثالا للأمر بالركوع ، بل نقول زيادة على ما سبق : إنّه لو علم المنحني البالغ يداه ركبتيه كونه مشمولا للخطاب بـ «اركعوا» الذي معناه الأمر بالانحناء لا يفهم من ذلك بالنسبة إلى نفسه إلّا إرادة زيادة الانحناء ، لا الوقوف على قدميه حافظا لهيئته ، كما لا يخفى.

وأمّا ما في كلام جامع المقاصد من الاستدلال بالنبوي فهو في محلّه ؛ بناء على كون الركوع اسما لمجموع الانحناء الحاصل تدريجا ، لا خصوص

__________________

(١) جامع المقاصد ٢ : ٢٨٩.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر.

(٣) جواهر الكلام ١٠ : ٨١.

٤١٩

جزئه الأخير ، ولعلّه ملتزم بذلك كما يستشعر من كلامه.

وأمّا استشهاده بما دلّ على أخفضيّة إيماء السجود فهو لأجل الاستئناس والتقريب إلى الذهن ، لا الاستدلال كي يتوجّه عليه ما ذكر ، فليتأمّل.

(الثاني) ممّا يجب في الركوع : (الطمأنينة فيه بقدر ما يؤدّي واجب الذكر) بلا خلاف فيه كما في الحدائق (١) بل إجماعا كما عن الفاضلين وغيرهما (٢).

وقال في محكيّ المنتهى : تجب الطمأنينة فيه ـ أي في الركوع ـ بقدر الذكر الواجب ، والطمأنينة هي السكون حتى يرجع كلّ عضو إلى مستقرّه ، وهو قول علمائنا أجمع (٣). انتهى.

واستدلّ له بأنّه المنقول من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام.

وبما رواه في الذكرى مرسلا من أنّ رجلا دخل المسجد ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جالس في ناحية المسجد فصلّى ثمّ جاء فسلّم عليه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «وعليك السلام ارجع فصلّ فإنّك لم تصلّ» فرجع فصلّى ، فقال له مثل ذلك ، فقال الرجل في الثالثة : علّمني يا رسول الله ، فقال : «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثمّ استقبل القبلة فكبّر ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن ثمّ اركع حتى تطمئنّ راكعا ثمّ ارفع رأسك حتى تعتدل قائما ثمّ

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٨ : ٢٤٢.

(٢) المعتبر ٢ : ١٩٤ ، تذكرة الفقهاء ٣ : ١٦٦ ـ ١٦٧ ، المسألة ٢٤٨ ، الغنية : ٧٩ ، جامع المقاصد ٢ : ٢٨٤ ، وحكاه عنهم البحراني في الحدائق الناضرة ٨ : ٢٤٢.

(٣) منتهى المطلب ٥ : ١١٦ ، وحكاه عنه الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ٢ :٢٥٣.

٤٢٠